صفحات العالم

الصين والمسألة السورية/ عبد الجليل زيد المرهون

 

 

ما هو موقع سوريا في المدرك الإستراتيجي الصيني؟ كيف بدت مقاربة الصين للمسألة السورية؟ وعلى أي نحو تُمكن قراءة التحوّل التاريخي للسياسة الخارجية الصينية الذي حدث على جناح الأزمة السورية؟

في صيف عام 2000، قمت بزيارة للصين -بدعوة كريمة من وزارة الخارجية الصينية- التقيت خلالها كوكبة من الباحثين وقادة الرأي، وناقشت معهم -على مدى عشرة أيام- اتجاهات السياسة الصينية، وخياراتها في الشرق الأوسط.

كان الباحثون الصينيون -وكذلك بعض الساسة والدبلوماسيين الذين التقيتهم- مشدودين إلى ما يجري في الشرق الأوسط، وما يُمكن للصين أن تقوم به، وكيف يُمكن لهذه المنطقة أن تواكب مشروع الانفتاح الصيني، وتترجم بعضاً من مضامينه اقتصادياً ودبلوماسياً. وقد كان النقاش سياسياً بالكامل، ولم يتجه نحو أبعاد أخرى إلا نادراً.

ورغم ذلك، فقد لفت انتباهي أن الصينيين عندما يتناولون بعض ملفات المنطقة فإن نقاشاتهم غالبا ما تنتهي إلى مسار أيديولوجي صرف، إلى درجة أنني كنت في بعض الحالات أشعر بإجهاد فكري كبير، وأعتقد أن مسار النقاش قد لا ينتهي حتى منتصف الليل.

وفي أحد الأيام، فتح بعض الباحثين الصينيين نقاشاً حول سوريا، وتحديداً حول مستقبل علاقات سوريا الإقليمية. وكان ذلك بُعيد وفاة الرئيس حافظ الأسد ببضعة أسابيع فقط.

فوجئت بقوة إلمام هؤلاء الباحثين بالسياسة السورية وتاريخ سوريا السياسي. وقد أخبرتهم منذ البدء بأنني على مواكبة للتطوّرات منذ سنوات، لكن نقاشي هنا هو نقاش علمي صرف لا صلة له بخياراتي الأيديولوجية.

قال لي الصينيون: نحن نخشى على سوريا. قلت لهم: لماذا؟ قالوا: لأن التحديات المحيطة بها كبيرة، وإن سقوط الاتحاد السوفياتي أفقدها حليفاً إستراتيجياً، والعراق المجرد من سلاحه لم يعد جناحاً للجبهة الشرقية على النحو الذي كانت تنشده سوريا، ونحن هنا في الصين ما زلنا في مرحلة ترتيب بيتنا الداخلي، رغم كوننا حلفاء طبيعيين لدمشق.

وأضاف الصينيون أن خلاف الصين الطويل الأمد مع الاتحاد السوفياتي قد حال دون تطوّر علاقاتها التاريخية مع سوريا، وإن مسارها الفعلي نحو دمشق ما زال قصيراً في حسابات الزمن، رغم وجود علاقات دبلوماسية رسمية منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين.

وبالنسبة لنا في بكين -والكلام لهؤلاء الباحثين- فإن سوريا تُمثل “استثناءً أيديولوجياً” على صعيد الشرق الأوسط. وهذا الاستثناء يعزز فرص الدور الصيني فيها، إلا أن المشوار ما زال في بداياته الأولى.

و”الاستثناء الأيديولوجي” هذا قُصد به نمط الخيارات الفكرية والأيديولوجية المؤطرة للدولة والسياسة السورية، إضافة إلى التنوع الحضاري للمجتمع السوري، وتعدديته الثقافية والاجتماعية.

ورأى الصينيون أنه نظرا لبيئة العلاقات الدولية للشرق الأوسط -أو ما سموه هم “خريطة القوة الدولية” في المنطقة- فإن سوريا تُمثل الخيار المثالي للدور الصيني المنشود في الإقليم، أو لنقل في غرب آسيا. وهذا هو المصطلح المتداول غالباً في نقاشات الباحثين الصينيين.

ويعتقد هؤلاء أن سوريا تُعد رصيداً إستراتيجياً للصين، لا باعتبار ثروتها الطبيعية، بل من زاوية ثقلها الجيوسياسي على صعيد الموقع الجغرافي والمكانة الحضارية، والدور الذي تلعبه في معادلات السياسة الشرق أوسطية.

وقال الصينيون إنه متى قُدر للصين أن تنهض بدور جوهري في الشرق الأوسط، فإن سوريا لا بد أن تكون في قلب هذا الدور. ورأوا أن العلاقات الصينية السورية يُمكن أن تأخذ مضامين أمنية وعسكرية، بموازاة مضمونها الاقتصادي والثقافي. وهذا أمر غير متاح على صعيد مقاربة الصين لروابطها بمعظم دول المنطقة.

وبالنسبة للصينيين ولأن تسليحهم شرقي سوفياتي في الغالب ومحلي بدرجة ثانية، فإن هذا يُمثل فرصة للتعاون التسليحي.

ويذكّر الصينيون محدثيهم بأن المؤسسات الصينية قد تمكنت من صناعة نماذج محلية لكثير من الأسلحة السوفياتية، من الدبابات إلى الطائرات مروراً بأنظمة الدفاع الجوي، بما في ذلك منظومة (S-300PMU1) المتوسطة المدى، والتي يجري تصنيعها محلياً باسم (HQ 10/15).

وفي إطار خصوصية المكان أيضاً، يرى الصينيون أن موقع سوريا على البحر المتوسط يُمكن أن يجعل منها مركز انطلاق للسلع الصينية المتجهة نحو أوروبا، متى جرى تصنيع هذه السلع كلياً أو جزئياً داخل الأراضي السورية، حيث تنقل بعد ذلك عبر موانئ اللاذقية وطرطوس.

وقد علمت لاحقاً من بعض المعنيين أن المدة التي تستغرقها البواخر لنقل السلع من سوريا إلى أوروبا لا تزيد على عشرة أيام، بينما تحتاج إلى أربعين يوماً عندما تنطلق من الصين.

وفي المجمل، فإن غالبية الباحثين الصينيين يتفقون على فكرة أن سوريا تمثل رصيداً إستراتيجياً لبلادهم، وذلك بموازاة كونها “استثناءً أيديولوجياً” في هذا الشرق، يشددون على التذكير به والتأكيد عليه.

وكان ممن التقيتهم -خارج فضاء الباحثين- جي بي دين مساعد وزير الخارجية حينها، الذي قال لي إن تطلّع الصين إلى الشرق الأوسط ينبع من حرصها على بناء نظام دولي تعددي.

وكذلك كان لي شرف لقاء مسؤولة العلاقات الخارجية في بلدية شنغهاي التي حدثتني عن بدايات الانفتاح الصيني، والفلسفة التي أطلقها الرئيس الأسبق دينغ شياو بينغ، والتي أسست لنهضة الصين الاقتصادية الراهنة.

وقالت لي المسؤولة إن الناس في الشرق الأوسط لا يواجهون تحديات مماثلة، وإن المعضلة القائمة هناك هي في الأصل معضلة جيوسياسية. وإن الصين يُمكنها التعاون مع دول المنطقة على كافة الصعد، حتى وإن بدت مشغولة بتجربتها الاقتصادية الفتية.

والذي فهمته من نقاشات الأيام العشرة مع الصينيين هو أن الشرق الأوسط يُمثل بالنسبة لهم رهان المستقبل، أكثر من كونه ضرورة الحاضر. وأن هذا الرهان هو رهان جيوسياسي، لا تُمثل الثروة والتجارة سوى أحد أبعاده. وأنه سوف يرتكز على دور صيني سياسي وأمني مباشر في يوم ما.

وعلى صعيد المسار الثنائي للعلاقات الصينية السورية، تُمكن ملاحظة أن هذه العلاقات قد شهدت تطوراً هيكلياً ملحوظاً بعد زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى بكين في يونيو/حزيران عام 2004، حيث جرى توقيع سلسلة من الاتفاقيات التي أسست لدور صيني نشط في سوريا.

ووفقاً للبيانات الرسمية السورية، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 2.5 مليار دولار عام 2010، بينما وصلت قيمة عقود المقاولات الهندسية للشركات الصينية في سوريا حتى نهاية ذلك العام 1.82 مليار دولار. كما أعلن في العام ذاته تأسيس مجلس رجال الأعمال السوري الصيني.

وربما يكون التطور الأهم على صعيد الدور الاقتصادي هو ذلك الذي تجسد في بناء المدينة الصناعية الحرة في عدرا، التي منحت الصين فرصة كبيرة للوصول إلى أسواق الشرق الأوسط وأوروبا.

وهذه المدينة عبارة عن مجمع استثماري يضم نحو 600 معمل ومصنع لحوالي مائتي شركة صينية، تنتج العديد من السلع الصناعية وتصدرها من الموانئ والمنافذ السورية إلى 17 دولة، هي العراق والسعودية ولبنان ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وتركيا وجورجيا وأوكرانيا ومولدافيا ورومانيا وبلغاريا واليونان وقبرص.

وبهذا المعنى، فإن المدينة الصناعية في عدرا لم تُمثل فرصة تجارية وحسب بالنسبة للصينيين، بل حققت لهم تطلعاً جيوسياسياً كانوا يأملونه ويراهنون عليه. وهي قد جسدت بعض رؤيتهم القائلة بأن سوريا تُمثل رصيداً إستراتيجياً، وإنها حتل موقع القلب في أية مقاربة جيوسياسية على مستوى الشرق الأوسط.

هذا المسار الفكري والعملي يُمكن النظر إليه اليوم باعتباره الأرضية التي شكلت الموقف الصيني من الأزمة السورية.

لقد تخلت الصين عن سياسة النأي عن التدخل في الأزمات الواقعة خارج نطاق مصالحها المباشرة أو فضائها الجيوسياسي المباشر، وذلك للمرة الأولى في تاريخها الحديث.

هذا المتغيّر الكبير في السياسة الخارجية الصينية سوف يدرسه طلاب العلاقات الدولية من الآن فصاعداً. وسيكتب المؤرخون غداً أنه إذا كانت برلين قد شهدت ميلاد الحرب الباردة بين الشرق والغرب، فإن دمشق شهدت ولادة التحوّل التاريخي في السياسة الخارجية الصينية.

وبالطبع، فإن هذا المتغيّر لا تـُعنى به سوريا فقط وإنما بيئة النظام الدولي عامة، إلا أن سوريا ستبقى صانعته في حسابات التاريخ.

لننظر كيف سارت التطوّرات: لقد استخدمت الصين حق الفيتو ضد مشاريع قرارات دولية ذات صلة بالأزمة السورية، ولم تكتفِ بالامتناع عن التصويت كما كانت تفعل سابقاً حيال أزمات المنطقة.

وفي خطوة أسست للتحوّل الفعلي في السياسة الخارجية الصينية، أصدرت بكين ما عُرف ببيان النقاط الست، الذي دعت فيه إلى وقف إطلاق النار، وتسوية الأزمة عبر الحوار الداخلي، وعدم المساس بالسيادة الوطنية السورية.

وفي خطوة لاحقة، أرسلت الصين مبعوثها لي هواكينغ (السفير الصيني السابق في سوريا) إلى دمشق لتشجيع إطلاق حوار وطني سوري. وبعد ذلك، أرسلت مبعوثاً آخر إلى المنطقة لبحث سبل مقاربة الأزمة السورية، هو زهانغ مينغ مساعد وزير الخارجية، الذي زار مصر والسعودية إضافة إلى فرنسا.

هذا السلوك الاستثنائي والجديد يشير إلى أمرين أساسيين: الأول، مكانة سوريا الخاصة في المدرك الإستراتيجي الصيني. والثاني قناعة الصين بأن البيئة الدولية الراهنة قد أضحت مؤاتية لتسييل القوة الاقتصادية والتجارية الصينية في صورة نفوذ جيوسياسي، يتجاوز النطاق الإقليمي الذي ظل محصوراً فيه عقوداً مديدة من الزمن. وهذه باختصار قصة السياسة الصينية تجاه سوريا.

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى