أحمد عمرصفحات الناس

الساموراي السوري/ أحمد عمر

 

 

سمعتُ جرس الباب، فأسرعت إليه، وجدت نوري بزي البشمركة على الباب؛ الشروال الواسع الفيدرالي، والنطاق العريض الكونفدرالي، الذي يشدُّ به الخصر شدّاً محكماً، فيجعل الجسم طابقين؛ راجل من تحت، وخيّال من فوق، فيخفُّ وزنه، وتسقط عنه جنابة الجاذبية. وقبل أن أبدي دهشتي من زي مواجهة الموت، قال لي: خال أنت في البيت والناس كلها تحتفل.

قلّبت عقلي بين المناسبات والأَهِلَّة: أي احتفال؟

قال: عيد “الفاشن”، الأزياء، رأيت الناس متنكّرين في الشوارع في هيئات بطاريق، ومخلوقات فضائية، وفرقة هياكل عظمية، وفرقة بشعور خضراء، وأخرى زرقاء.. أفتار خال، ابتسم أنت في كوكب نافي.

قلت: أنا لا أحتفل، أظن أني بلغت سنَّ اليأس في الثانوية العامة، وحزنتُ بعدها بقية عمري.

قال آمراً: خال، شدَّ حيلك، سآخذك معي إلى الاستعراض غصباً.

قلت: ما عندي مزاج، يا سبعي.

قال: قرّة عيني، أنت متنكر وجاهز، تعال بالجلابية.

تلفتَ حوله، فعثر على منشفةٍ بيضاء، فوضعها على رأسي، ثم عصّبها بوشاح. نظرت إلى نفسي في المرآة، وقلت: صرت مثل لورانس العرب في الفيلم الشهير. قوّض لورانس الخلافةَ الإسلامية العثمانية، باسم القومية العربية، ويحاول أحفاد لورانس تقويض القومية العربية، بالطوائف الفيروسية، والأقليات الصغيرة.. إنهم لا يبلغون سنَّ اليأس أبداً.

نوري: صرت جاهزاً، خال، هات معك كيس.

قلت: على هذه الحال، أستطيع أن أقول إنني عشتُ متنكّراً عمري كله.

الاستعراض غير بعيد. هيئات وشركات، ونوادٍ ألمانية تؤدي فقراتها الموسيقية، راجلةً أو على عرباتٍ مكشوفة، أزياؤهم ملوّنة ومزركشة، وكلما مرّتْ حافلةٌ نثر أحد أفرادها السكاكر، وقطع الشوكولا على الناس في جانبي الطريق. بدأ نوري يلّم ما يشاء من قطع الحلوى، والتقطتُ ما تيسّر لي، كان بجانبنا باكستانيان جمعا كيساً كاملاً من الهدايا والسكاكر، وكان بعض الألمان يوزّعون هدايا من ميداليات المفاتيح. بقينا ساعة، فامتلأ الكيسان بالسكاكر والشوكولا والميداليات. مرَّ بجانبنا شرطيان، نظرا إلينا بريبةٍ، تجاوزانا، ثم عادا، وطلبا منا إبراز الهويات، ففعلنا ممتعضين. طلب مني أحدهما أن أسمح له بفحصي، وقبل أن أسمح له، مدَّ يده إلى خصري، وتفحّصه باحثاً عن متفجرات. ابتسم الشرطيان ومضيا، اعتكرتُ وتلبدتْ روحي، ظهرتْ متفجراتٌ من الغمّ في صدري، الشرطيان معذوران. مرّتْ حافلةٌ من الصبايا الشقراوات الراقصات، لكني بقيت ممتعضاً. حوريات الدنيا لن تستطيع تحريري من أغلال غمّي وسلاسل همّي. ذاق نوري الشكولاتة، فلم يجدها لذيذةً، فرماها، ذاق قطعةً أخرى، فلم يستسغها أيضا، اقترب من الباكستانيين ومنحهما الكيس الذي تعب في جمع ثماره، وقال: خال، لا يؤكل.. طعمه غريب..

دقّقت أقرأ في مكونات الشكولاتة، وقلت: وفي بعضها دهن الخنزير أيضاً.

بصق نوري.

قوافل العروض لا تنتهي، وهي منظّمة ومرّتبة، لابد أنّ هيئةً عملاقةً تشرف على ترتيب كل هذه الوفود، وفرق الزينة تتدفق من غير نهاية، وهي تؤدي عروضها التي لا بد أنها تكلفت مبالغ خيالية. هذه جنتهم، وهم يستمتعون بكل لحظةٍ فيها. رميت بقطع شكولاته سقطت في حضني إلى سيدةٍ عجوز تطلّ من نافذتها، فابتسمت، ولوحت لي.

قال البشمركة نوري: صار الكيس ثقيلاً، خال، ماذا سنفعل بكل هذه الميداليات؟

قلت: حتى أنه لا بيوت لنا لنعلق فيها مفاتيح أبوابها، لسنا سوى لاجئين، يا سبعي.

مللتُ، واقعة الشرطيين قد قلبتْ مزاجي كله، واسيت نفسي بأنّ أحد الشرطيين كان تركياً. أسرابُ الشقراوات الألمانيات الراقصات كانت تتدفق، اعتذرت، وتركت نوري وحده، وعدتُ. في الطريق، وجدت ألمانياً وألمانية بأزياء عربية. كان الألماني يرتدي زياً بدوياً، والمرأة كانت ترتدي زي شهرزاد في ألف ليلة وليلة، سلّمتُ عليهما وصافحتهما، وابتسمنا، وكأننا أهل، وتمنيت لو سألتهما ما إذا كانا قد تعرَّضا للقصف مثلي، كنت متألماً وأنزف. وقفت على النهر العملاق، ورميتُ الميداليات فيه، الميدالية الوحيدة التي احتفظتُ بها كانت ميدالية سيف ساموراي، يصلح للانتحار على طريقة الشرف الياباني الرفيع: الهاراكيري.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى