صفحات الرأي

المفاعلات الإيديولوجية والقنابل الطائفية/ علي حرب

هل قُدِّر للمجتمعات العربية وقواها المدنية التي حاولت تغيير شروط حياتها البائسة بصورة سلمية، أن تغرق في هذه الجولات من العنف الوحشي الذي لا يتوقف؟ هذا ما يريده لها ملاّك القضايا والأوطان والشعوب من أصحاب الأنظمة الشمولية والعقائد الاصطفائية، ولكن لا شيء مقدّراً أو محتوماً. فنحن ضحايا أفكارنا وعقلياتنا، ولا سبيل إلى الخروج من النفق المعتم إذا لم نغيّر طريقة تعاملنا مع مفردات وجودنا، وخصوصاً أننا ندخل في عصر جديد، ولكل عصر لغته ومفاتيحه وقواه.

باتت القوة الناعمة مصدر الغنى والقوة، والوسيلة الى ممارسة الفاعلية والحضور على مسرح الأمم، كما يتجلى ذلك في إنتاج المعلومة والمعرفة والخدمة أو في تنمية الموارد والثروات أو خلقها إن لم توجد. تشهد على ذلك تجارب الدول الناشئة والصاعدة كالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا… والعكس صحيح.

لم يعد ينفع الاشتغال بإنتاج القوة العارية والأسلحة الفتاكة التي تعود على أصحابها بالضرر الفادح والدمار المتبادل. تشهد على ذلك تجربة الولايات المتحدة التي كانت الدولة الأغنى والأقوى. لكنها أخذت تتراجع بسبب استراتيجيتها الامبريالية في التدخل والهيمنة والتشبيح. هذه حال روسيا التي تراجعت وانكفأت، في عهدها السوفياتي، بعد خمود حراكها وركود اقتصادها، مع إنها كانت دولة نووية إمبريالية. وبعدما نما اقتصادها وتحسّن إنتاجها صارت اليوم دولة ناشئة وفاعلة.

الشاهد الأوضح تقدمه إيران التي اشتغلت بإنتاج الصاروخ والطاقة النووية، أو انشغلت بممارسة التشبيح الاستراتيجي بحثاً عن موقع على هذه المساحة أو تلك، فوصلت الى أزمتها الاقتصادية الخانقة، بعدما أهدرت أموالها وبذرت ثرواتها من غير طائل بنوعٍ من العمل، هو عبثٌ إلهي أكثر مما هو عمل شيطاني، لأن الشيطان كشخص مفهومي يمثّل على مسرح الوعي استخدام الحجّة والدليل العقلي في مواجهة سلطة الأمر والنص، فيما يحرّك إيران في سياستها جنون التأله والعظمة. أليس من الجنون أن يحمل المرء أموال بلده لكي يصرفها في الخارج دعماً لهذه المنظمة، أو استمالةً لتلك الدولة، فيما تصدّر الصين الخبرات والسلع الى الخارج لكي تعود عليها بالأموال والفوائد. فيا لحسن التدبير!

من هنا اضطر المرشد الحالي القابض على الأمر تسهيل انتخاب الشيخ حسن روحاني رئيساً للجمهورية خلفاً لأحمدي نجاد. أول ما فعله الرئيس الجديد، الذي وبّخ الرئيس السابق على فشله، هو الخروج على الثوابت وكسر المحرّمات، بطيّ صفحة العداء لأميركا وفتح صفحة جديدة، الأمر الذي عرّضه للهجوم من جانب صقور النظام وحرّاسه الذي تربّوا وحكموا وسيطروا تحت شعار العداء لأميركا. فيا للخديعة والفضيحة. لا شكّ في أن هذا التغير يعدّ خرقاً في الجدار الحديدي الذي سيّج به المرشد نظامه منذ عقود، وهو أول تصدّع في محور المقاومة والممانعة.

مع ذلك نجد أن الذين ارتبطوا بهذا المحور، في لبنان، يتصرفون كأن شيئاً لم يحدث، بل إن ما حدث لدى الأصيل قد أفزعهم، وحملهم على إبداء المزيد من التصلّب والتشدّد. هذا ما برز في الكلام الذي أطلقه بعض قادة “المقاومة” بأنه سوف “تقطع يد” من يعارض فريقهم ولا يخضع لشروطه.الأطرف من ذلك قولهم بأنهم سيغيّرون وجه لبنان “الملهى الليلي ونظام الخدمات”، لإعادة بنائه على أساس ثقافة المقاومة الأحادية والمغلقة، أي ثقافة المرشد والأمر والفتوى والعضلة والإرهاب، ضد لغة العقل والسلم أو المعرفة والعلم، وبالتأكيد ضد ثقافة المواطنة وقواعد الديموقراطية.

المتشنج مهزوماً

غير أن ما قاله ممثل “المقاومة”، بعقلية التشنج والاستفزاز أو الحقد والعداء، إنما يدلّ على هزيمة قائله، وعلى جهله ببلده وبنفسه، بقدر ما ينسف هوية لبنان كمجتمع مفتوح، وسطي، مدني، تبادلي، منسوج من تعدد الطوائف والمذاهب أو الأنماط والمشارب الدينية والسياسية، أو الثفافية والخلقية، وهي مزايا حوّلت لبنان منبراً للحرية ومختبراً للتعايش بثرائه وجماله.

هذه المزايا بالذات هي التي جعلت من لبنان البلد الوحيد الذي أتاح للمقاومة أن تنشأ وتعمل. ولولاها لما كان لأيّ مثقف مشبّح أو داعية مشعوذ، عربي أو إسلامي، أو حتى أممي، أن يأتي إلى لبنان لكي ينعم بأجواء الحرية التي يفتقدها في بلده. هكذا فقد حوّلوا فائض الحرية في لبنان إلى مساحة سائبة لكل صاحب مشروع مخرّب أو حلم مدمر.

أما الملهى، فإنه أحد وجوه الحريات الشخصية في لبنان. وهو حاجة ومتنفس، في أي مجتمع. لذا فقد ازدهرت الملاهي والحانات في الحضارة الإسلامية. والسعي الى إغلاقها مآله فتحها في البيوت. أما نظام الخدمات فهو أساس ازدهار لبنان، بقدر ما شكّل أحد تجليات الحرية في فضائه، ولا عجب أن يكون هذا النظام الاقتصادي الحر محلّ هجوم من جانب أناس تربّوا على الولاء لأنظمة تقمع الحريات ولا تحسن خدمة شعوبها.

الأهم أن هذه الدعوة إلى تغيير وجه لبنان الحضاري، أقل ما يقال فيها، إنها تفتقر إلى الصدقية، لأن ما يجري على الأرض هو انتهاك كل ما يدعون إليه، بدليل أن سلطة المقاومة تحولت إلى غطاء للمتاجرة بالدين، كما يشهد بعض رجال الدين، أو لتغطية ضروب الفساد، كما تصدم الرأي العام الصامت الانتهاكات الفاضحة في غير قضية مالية أو صحية أو قانونية أو خلقية. فقليل من تقوى الفكر والعقل، إن لم يكن تقوى الله. فلا يعقل أن نتهم الغير بما نحن غارقون فيه.

في كل حال، إن لغة التهديد والوعيد تدل على أن الهدف لم يكن، يوماً، الحقيقة والعدالة أو المقاومة والممانعة أو الإسلام والشريعة، بل الهيمنة والسيطرة، على ما هو شأن الإسلاميين جميعاً على اختلاف مذاهبهم وأحزابهم ومنظماتهم. الكل يحرّكهم جوع فتّاك الى تسلّم السلطة والمحافظة عليها بأيّ ثمن، الكل يدافعون عن قضاياهم بصورة تكفيرية إرهابية، الكل يمارسون خصوصيتهم الطائفية حتى البربرية، لا فضل لفريق على الآخر إلا بإحداث المزيد من الفساد والخراب.

وإلا كيف نفسّر الهجوم البربري لجماعة “الأخوان” على جامعة الأزهر؟! بل كيف نفسر أن الحرب بين المسيحيين والمسلمين عامي 1975 – 1976، في لبنان، كانت مجرّد “نزهة” قياساً على الحرب الدائرة بين المسلمين أنفسهم، أو حتى على الحرب بين العرب وإسرائيل. هكذا لم تعد اسرائيل هي العدوّ في نظر الأنظمة والمقاومة، بل الشعوب أو الشركاء في الوطن والمصير.

فيا للمهزلة والفضيحة والكارثة! ويا له من نصر خادع به يتباهون! فالذي يريد تحرير فلسطين لا يشتغل بتدمير العراق وسوريا، أو بتلغيم اليمن ولبنان.

هل الوضع مسدود؟

هل الوضع مسدود؟ قطعاً لا. عند من يحسن قراءة المجريات وتفكيك الأزمات أو استثمار المعطيات. فاللبنانيون (خصوصاً في منطقة الجنوب)، يملكون القوة الناعمة (الثروة والثقافة)، أي ما به تنمو المجتمعات. ولا يحتاجون إلا الى العمل في إطار الدولة والوطن، لصنع الحياة وبناء المجتمع مع شركائهم في المصير.

نعم لقد تغيّرت قواعد اللعبة وتغيّر الزمن. العاقل هو الذي يدرّب فكره لكي يحسن أن يتغيّر في مواجهة المتغيرات. التغيير هو بعكس ما يفكر الذين التحقوا بالمحور الإيراني، إذ هو يحررهم من مشروع حشرهم بين فكّي الكماشة: الفكّ الأول هو زرع كابوس التخويف من شركائهم في الوطن، والفكّ الثاني هو الوعد المستحيل بقيام الدولة الشيعية، التي هي الوجه الآخر للدعوة “الأخوانية” لإقامة الخلافة الإسلامية. كلاهما مشروع مفخخ بقدر ما هو مدمر، إذ لا عودة إلى الوراء من دون تحويل خلاّق أو تركيب بنّاء إلا على سبيل الفقر والتخلف والاستبداد والإرهاب.

بذلك يشكل المشروع القومي الإيراني الوجه الآخر للمشروع “الأخواني” الإسلامي من حيث إرادة الهيمنة والسيطرة. كلاهما يشهد على سقوط السلطة الدينية على اختلاف نسخها وأشكالها. فهي حيث جرِّبت، أثبتت عجزها وفشلها، بقدر ما أنتجت المساوئ والكوارث. ولا عجب. فما يحسنه أصحاب المشروع الديني السياسي، ليس البناء والإنماء، بل الهدم والثأر والانتقام، وإتقان لغة التهمة والإدانة، على سبيل التكفير والتخوين، ليس فقط للمخالف في العقيدة والمذهب، بل أيضاً للمختلف في الرأي والسياسة. تلك هي حصيلة المحولات الإيديولوجية، الاصطفائية والشمولية، الدينية والسياسية، العنصرية والفاشية. إنها تعمل على الأسماء والرموز كما على الأحداث والأشخاص، فبركةً واختلاقاً أو شعوذةً وتشويهاً، بإنتاج هوامات وأطياف وصور للسلف والتراث، تستثمر شحناً واستنفاراً للكتل أو تهييجاً للحشود أو تأجيجاً للمشاعر العدائية تجاه الآخر، الأمر الذي يترجم مفاعلات طائفية أو عرقية أو سياسية تنفجر حروباً أهلية، كما تشهد ضحاياها وشظاياها، دماء ودماراً لم يسبق لهما مثيل في العالم العربي.

لذا، فالرهان، لبنانياً، ليس أن نتهم الغير بأنه يراهن على الخارج فيما نحن صنيعة الخارج أصلاً، وإنما الرهان، عند من يتفكر ويتدبر، أن يفكّ ارتهانه للخارج لامتلاك قراره والتحرّر من علاقة التبعية والولاء الأعمى لنظام انفضح أمره وخسر رهانه. لذا فإن مرشده، وكي لا يتجرع الكأس المرة التي تجرّعها سلفه المؤسّس، أخذ يتراجع ويتنازل ويتغيّر، ليخرج من المأزق الذي صنعته سياسة الغطرسة والعداء أو الاستكبار والتشبيح، فيما لغة العصر، حيث التشابك في المصالح والمصائر، هي: الانفتاح، التواصل، المعرفة، التنمية، التبادل، اتقان لغة الخلق والابتكار لما ينفع النفس وينفع الناس جميعا.

استثمار الفرصة

فعسى أن يستخلص الدرس اللبنانيون الذين يميلون مع النظام الإيراني حيث يميل، لكي يتحرروا من أوهامهم واستبدادهم وعجزهم.

أنهي بالكلام على الأحداث الجارية على المساحات العربية، وما ينجم عنها من المباحثات والمفاوضات أو الاتفاقات والصفقات، كما هو شأن الحرب الدائرة في سوريا وعليها. الحدث إنما هو فتوحاته وإمكاناته عند من يحسن استثمار الفرص واستخلاص العبر.

هذا ما فعلته السعودية التي تتهم من جانب من هم وكلاء لدى الغير، بأنها أداة لأميركا. فهي، إذ قرأت الحدث السوري، تصرفت كصاحبة قرار مستقل عن أميركا تدافع عن مصالحها كدولة عربية وعن مصالح المجموعة العربية. وهذا ما تفعله مصر بعد ثورة يونيو التي أنهت حكم المرشد المدعوم من أميركا. فقد تحررت من ارتهانها للولايات المتحدة، لا لكي ترتهن لروسيا، بل لتقيم علاقة توازن وتبادل مع هذه أو تلك.

لا شك في أن التعاون، على أسس الشراكة والتبادل، إذا أُحسن بناء أطره وأدواته بين مصر والسعودية، كدولتين فاعلتين، تمتلك كل واحدة منهما موارد هائلة، مالية وبشرية، سوف يشكل نموذجاً ناجحاً لعمل عربي مشترك، بقدر ما يسدّ الفراغ الذي ملأته، منذ عقود، دول (أميركا وإيران، ثم روسيا) تلعب على ساحات العالم العربي وتتدخل في شؤونه أو تحاول التحكم في مصائر مجتمعاته، بقدر ما تتردد بين دعم الديكتاتوريات والأصوليات ضد مصالح شعوبه.

يعود الفضل في ما فتح من إمكانات للتحرر من علاقات التبعية والإلتحاق، الى الحدث الأول الذي خربط الحسابات وغيّر قواعد اللعبة وعلاقات القوة، أي الى الثورات العربية التي اندلعت منذ ثلاث سنوات، لكي تفتح، أمام المجتمعات العربية، أبواباً لن تغلق للتغيير الإيجابي والبناء، بالرغم من الصعوبات والارتدادات والتحديات، وبالرغم من القوى المضادة التي لا تريد أن تقوم في العالم العربي دول مستقرة، منتجة، غنية، فعّالة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى