صفحات العالم

أبعد من يوسف زعيّن/ معن البياري

 

 

كانت النكتة، قبيْل هزيمة 1967 وبعيْدها، تقول إن سورية مريضة جداً، ولذلك يتولاها ثلاثة أطباء، رئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي، ورئيس الحكومة يوسف زعيّن ووزير الخارجية إبراهيم ماخوس. وثمّة بعض الوجاهة في ذلك الكلام البعيد، ليس فقط لأن نكسةً نكراء أفقدت سورية الجولان، بل أيضاً لأن النظام الحاكم في تلك الغضون كان مغلقاً وشديد البعثيّة، وبدا أكثر سوفييتيةً من أصدقائه في موسكو الذين طالما حسبوه ماويّاً في شموليته. ولهذا، قد يجوز الزعم إن ترحيب السوريين بانقلاب حافظ الأسد في 1970 كان مبرّراً ربما، وإنْ لم يكن من باب الولع بوزير الدفاع المهزوم في تلك النكسة، ولا إعجاباً بغدره بأصحابه، وقد استبق فيه غدرَهم به، وإنما كسْر جرّةٍ بعد أولئك الناس، وانتظاراً لجديدٍ مغاير، سرعان ما انكشف عوارُه، وهذا حصاد ما جدّ مع الأسد بادٍ قدّامنا، في محدلة التمويت الراهنة، وفي سلطة داعش الشاسعة، وفي تبعثر السوريين لاجئين في غير شتات. والشخص الذي يحوز منصب رئيس الجمهورية (يسميه محبون له لبنانيون دكتوراً) تعمى أبصاره عن الخراب الحادث، وكان حادث سيرٍ قتل أخاه الأكبر جاء له بالحكم.

مناسبة المرور، هنا، على هذه النتف من الراهن والماضي السورييّن، أن آخر أولئك الأطباء الثلاثة في تلك الستينيات، يوسف زعيّن، توفي، أخيراً، في السويد عن 85 عاماً، وفي سيرته، وفي الذي لحق به من جوْر على يد حافظ الأسد، ما يفيد في تعيين علائمَ كاشفة، تُسعف الناظر في المحنة السورية، الموصولة بداهةً بالقهر المميت الذي دشنه المذكور، وانتهجه في حكمه الذي أورثه لنجله، والموصولة أيضاً بذهنيةٍ حاكمةٍ هناك منذ أزيد من خمسين عاماً، لا ترى أي حساسية في قتل الناس وخنقهم، ولا تتوسل السلطة بغير الدسائس والانقلابات ورمي الرفاق إلى السجون، ونثر الكلام الكبير عن فلسطين والوحدة العربية. وفي الذاكرة أنّ البعثي العتيق، الرئيس الأسبق، أمين الحافظ، عيّر حافظ الأسد بأنه لم يُحارب في حزيران 1967، بدليل أن السوريين الذين قضوا في تلك الهزيمة نحو ستمائة فقط، وهو عدد يمكن أن يُقتل في مظاهرة (هكذا قال!). ولم يكن الذين انقلبوا على الحافظ أكثر احتراماً للأنفس والأرواح، وإنْ غلب عليهم فائضٌ من نزوعٍ عروبي طاغ، ما جعل جمال عبد الناصر لا يُضمر لهم مقادير الارتياح التي يريدون. أما العهد الأسدي الذي جاء في انقلابٍ بالغ القسوة عليهم، وعديم الإنسانية والأخلاقية، فحدّث ولا حرج عن وحدويته العروبية التي من مظاهرها الماثلة الآن البغضاء الغزيرة بين أحياء متجاورة، علوية وسنية، في المدينة الواحدة.

في مطارح في هذه الدوامة السورية، يطلّ يوسف زعيّن، واحداً من الخبراء التكنوقراط الذين شكلوا في ستينيات “البعث” والناصرية في المشرق العربي شريحة واسعة، نشطة ودؤوبة ومخلصة لأوطانها. وبعيداً عن كل كلام، يحسن الإعجاب بما أنجز هؤلاء، وبما تم بناؤه وتشييده وترسيمه في التعليم والزراعة والصناعة وغيرها، في عهود ما بعد الاستقلالات، في مصر والعراق وسورية أمثلة، لاسيما وأن نظافة اليد وقلة الفساد كانتا من شمائل أهل الحكم وصنّاع القرار. وزعيّن كان وزير الزراعة في زمن الإصلاح الزراعي في بلاده، ولمّا صار رئيس وزراء، أقنع رئيس الوزراء السوفييتي، ألكسندر كوسيغين، بتمويل بناء سد الفرات، ويحكي أنه جهد في ذلك في أثناء حفل باليه في موسكو دعاه إليه مضيفه، لم يكترث به. من أقدار سورية المريضة أن التخطيط والإعداد للسد بدأ في زمن الأتاسي وزعيّن وماخوس، وافتتحه لاحقاً حافظ الأسد، ويسيطر عليه الآن “داعش”.

وحده حقد حافظ الأسد وخوفه المقيم في جوانحه، جعله يحتجز الأتاسي أزيد من عقدين في السجن، وعشر سنواتٍ يوسف زعيّن الذي لم يطلقه إلا لمرضه الشديد. وفي أثناء الذي يحدث في سورية من تهديمٍ وفتكٍ وتمزيق، يغادر الرجل مودعاً أزمنة أحلامٍ مضت، وزمن خرابٍ ثقيل.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى