صفحات الثقافة

زنزانة بلا جدران/ هنادي زرقه

ثمة مشهد لا يبرح ذاكرتي، حين كنت في ملتقى شعري في أمستردام، برفقة شعراء عرب وأجانب. بدأنا الحديث عن الشعر والحياة، وكان أن سألت شاعرةٌ عربيةٌ شاعرةً هولندية: وأنت ماذا تعملين؟ وكيف تعيشين؟ بدا أن الشاعرة الهولندية استهجنت السؤال، وأجابت بنبرة لا ينقصها الاستعلاء: وماذا عليّ أن أعمل؟ أنا شاعرة وأعيش بفضل قصائدي.

قلما تجد شاعراً في الوطن العربي يعتاش من شعره. لطالما كان الشعر فقيراً، والشاعر مستنزفاً، يعمل عملاً آخر كي يستطيع طباعة مجموعته الشعرية. يكتب الشعر كي يتنفس في بلاد مخنوقة. يرزح تحت وطأة الشعراء المكرسين الذين اعتلوا سدّة الشعر ولم يبرحوها منذ زمن بعيد، ولم يزل الشعراء الصاعدون يمنون بالإخفاق، منتظرين موت الآباء، رغم أن كثيراً من الشعراء الجدد يكتبون بآليات مختلفة وتقنيات جديدة، ويلقون تشجيعاً من مؤسسات غربية، وازداد التشجيع في السنوات الثلاث الأخيرة، إلا أنهم لا ينالون الاعتراف نفسه من المؤسسات الثقافية العربية، ولم يتبوأوا المكانة التي يستحقونها، فضلاً عن دور النشر التي لا تلقي بالاً للشعر ونشره. أليست هذه محنة إضافية غير محنة الشعر التي ابتلي بها الشاعر؟

في كلِّ ملتقى شعري أوروبي، كنت أغبط الشعراء على عدد الحضور وطقوس إلقاء الشعر، وتحول الشعر من المنابر إلى الساحات العامة والكنائس والمقاهي. كل مكان يصلح لإلقاء قصيدة. ثمة احتفاء بالشعر لا نشهده في البلدان العربية. الشعر بمتناول الجميع.

ثمة جامعات لتدريب الشعراء وورش عمل لتأهيل الموهوبين، كل هذا يجعلك تشعر بالحسرة، وفي الوقت نفسه يشعرك بالتفرّد كشاعر عربي شقّ طريقه بمعزل عن هذه الورش والجامعات، متّكئاً على موهبته وثقافته.

لا أعرف كيف بدأتُ كتابة الشعر؟ كثيراً ما وجدتُ بوناً بيني وبين الشاعرة، ثمة رهاب أعيشه كلما كتبتُ نصاً جديداً، ورهاب آخر حين يظهر النص للعلن، وأسوأ من ذلك كله اعتلاء المنبر وقراءة هذه النصوص، أغدو مكشوفة! فكلُّ ما أفكر به أعرضه للعلن، أسئلتي عن الوجود والجسد والحب والسياسة والوطن، موقفي من كل شيء. ما الذي يجعل الشاعر العربي مسكوناً بالخوف وهو يكتب قصيدة؟ خوفٌ من فكرة تشق طريقها في البياض.

وفي عصر الثورة الرقمية، سمح التقدّم التقني، وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي بنشر الشعر وجعله بمتناول القراء دون تكاليف، والحقّ، أن كثيراً من الشعراء الشباب يدينون بالفضل في شهرتهم لشبكات التواصل هذه.

لا أنسى الفرح الغامر الذي تولاني حين بدأ ما يُسمّى بـ«الربيع العربي». لم يكن ذلك حلماً على المستوى السياسي فحسب، بل كان حلماً على الصعيد الشخصي والفكري. حلمت بقصيدة تولد غير آبهة بالقيود والزنازين، حلمت بنصٍّ لا يخاف الجلادين. جلادون من الأطياف السياسية والدينية كافة. وكنت آمل أن ما يحدث يمكن أن يخلخل البنية الثقافية للمجتمعات العربية، فقد يفسح التغيير الديموقراطي المجال أمام حركة ثقافية واعدة، وتختلف أغراض الشعر عما هي عليه الآن، من عزلة ووحشة وحديث عن الخراب النفسي والحرب والأزمات التي شوهتنا، هل يغدو سؤالنا هو الكون برمّته؟

لا أعرف حقّاً ما هو طموحي في الشعر؟ الحرية في الكتابة والاحتفاء بالشعر. أن يغدو الشعر رافعاً لكاتبه لا عبئاً يحمله على ظهره. ألا يبقى النصّ الشعري حبيس الزنازين، بل يمشي بين التفاصيل اليومية للبشر، ألا تكون القصيدة منفى بل وطن الشاعر، وأن يبقى للشعر رسالة الأمل والثورة كما قال بروتون.

هنادي زرقه / (شاعرة سورية)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى