صفحات الرأي

النزاع على المشروعيّة السياسيّة في حلّة مذهبيّة/ دافيد كفاش وبريجيت كُرمي

 

 

يغلب على تعليل الحوادث الكبيرة الجارية في الشرق الأوسط، منظور القسمة المذهبية بين السنّة والشيعة. ويتقدم هذا المنظور على التعليل بنازع الشعوب الى التحرر أو بعوامل اجتماعية مثل انقلاب البنى السكانية والاجتماعية رأساً على عقب، وذلك على خلاف التحجر أو التكلّس الذي يصيب معظم الأنظمة السياسية.(…) وغداة سقوط صدام حسين في 2003، حذر العاهل الأردني عبدالله الثاني من تبلور «هلال شيعي» يجمع لبنان والعراق وسورية تحت لواء إيران التي تخفّفت من خصمها الإقليمي الأول. وفي نيسان (أبريل) 2006، اتهم حسني مبارك شيعة البلدان العربية بتقديم ولائهم الديني على ولائهم الوطني، وتغليب ولائهم لإيران. ويؤيد اليوم هذا المنظور تورّط إيران الظاهر والبارز، ومعها «حزب الله» في سورية والعراق، وتثبته تصريحات علي زاكاني، عضو مجلس الشورى، عن سيطرة طهران على 4 عواصم عربية.

ويميل المراقبون، خارج الشرق الأوسط، الى إدراج النزاعات الحالية بين أهل المذهبين في صراع تاريخي ألفي (يدوم مــنذ ألف سنة). ومثل هذا التعليل يجيز ترك المـــنطقة الى مآسيها، ويرفع المسؤولية عن عاتق المجتمع الدولي وسياســته السلبية النســـبية. ومن وجه آخر، «يدوِّر» التعليل عداءً متجدداً للولايات المتحدة، ويحملها التبعة عن النفخ في هذه الصراعات وتأجيجها.

فهي حركت وكر الدبابير حين بادرت الى مغامرتها التاعسة وغزت العراق في 2003 (مع بوش)، ولم تقاوم سيطرة إيران على عموم المنطقة (مع أوباما). ويستجيب التعليل الألفي، رغبةَ دعاة التدخل الغربيين في التكفير عن دعوتهم السابقة، وتنديد المنددين بالنظام العالمي، وحنين «الواقعيين» الى الحكومات المتسلّطة، ومزاعم المشتبهين بالمؤامرات وخيوطها العنكبوتية، معاً وجميعاً.

ومنظور القراءة هذا ينبّه الى مقاصد دعاته ومروّجيه فوق تنبيهه الى حقيقة ما يصف. فغالبية دول الشرق الأوسط لا تعنيها هذه القسمة، وليس بين رعاياها أو سكانها شطر شيعي. وهي بعيدة، جغرافياً وسياسياً، من إيران. وفي ضوء هذا، تخرج «عمليات» الانتقال التونسية والليبية والمصرية من التعليل الألفي وقسمته المذهبية. وهذه البلدان غير ثانوية التأثير في الأحوال الاستراتيجية المشهودة والجارية، ولا يسري عليها التعليل الجزئي. وهو، أي التعليل، يبطن على الدوام تنديداً مباشراً أو موارباً بدور إيران وأطماعها الإمبراطورية. فهو يستدعي ميزاناً غير ديني أو مذهبي يقوم على علاقات القوة ما بين الدول، ويحتسب التوازنات الإقليمية وأطوارها ومسايرتها أو رفضها. وعلى هذا، فالقسمة الدينية المذهبية قسمة دينية في الوقت نفسه.

وتتنازع الشرق الأوسط خلافات وصراعات لا تمت بصلة الى المسألة المذهبية. ففي قلب العالم السنّي، خلاف على دور الدين في الحياة السياسية والاجتماعية، ورؤى تبين من رؤى الأنظمة، وكثيرة المصادر (سلفية وإسلاموية وإخوانية وجهادية…). ومثل هذا الخلاف ليس أقل حدة ولا تنوعاً في صفوف الشيعة، على رغم غموضه واستتاره. فالشيعة منقسمون بين أصحاب نازع فقهي واعتقادي خالص يمسك عن الخوض في الشؤون السياسية، وبين مناصري النظرة الإيرانية الداعية الى «ولاية الفقيه» في صيغتها الخمينية. وهذا الانقسام جليّ في العراق بين أنصار السيد علي السيستاني وبين «التشيع السياسي» الذي تؤيده إيران. وفي إيران نفسها، لم يلقَ حصاد ولاية الفقيه قبول الإيرانيين كلهم.

وثمة خلاف آخر بين من حملوا النزاع الإسرائيلي – العربي على القضية (الإسلامية) المركزية، وبالغوا في الحمل، وبين من يرون أن هذا النزاع ثانوي، ويبالغون في الرأي أو الحكم، على رغم أن غلبته الرمزية فريدة ولا ينافسه على مكانته نزاع آخر.

وهناك، أخيراً، شاغل الصدوع الاجتماعية، العميقة في معظم الأحيان، بين النخب التقليدية التي اصطفتها الأنظمة، وبين الطبقات الوسطى المفتقرة التي لا تقر لهذه النخب بالمشروعية، ومعها مهمشو توزيع العوائد، المتمردون على السلطات. فإذا كان للقسمة المذهبية شأن في ميزان تعليل النزاعات الشرق أوسطية، وهذا لا ينكر، وجب من ناحية أخرى شبكها مع عوامل أخرى، وتناول النزاعات من منظور المتشابك هذا.

لا يقرّ المؤرخون والباحثون المختصون في سياسات الإسلام بحقيقة حرب دينية ألفية بين المذهبين أو الجناحين الإسلاميين. والخلاف على الخلافة، وعلى بعض المسائل الاعتقادية والفقهية، لا يســـوغ التـــوسل بالعنف، ولا يحول دون المساكنة أو الموادعة.

ولم تحل الخلافات، طوال الـ14 قرناً الماضية من الموادعة السالمة، ولم تؤدِّ غالباً الى الاقتتال. والخلاف العميق، في القرنين الثــاني والثالث للهجرة (القرن التاســـع م)، ذرَّ قرنه بين أهل الحديث وبين المعتزلة، والفريقان سنّيان.

وفي أثناء القرون الأربعة التالية، من العاشر الى الثالث عشر (م)، كانت عاصمة الخلافة العباسية مسرح مطارحات بين المدرستين السنّيتين الكبيرتين، الحنابلة والأشـــعرية، بينما بدت خلافات الجماعات مع الشيعة ثانوية. واختلط أهل المذهبين في شــبه جزيرة العرب («الخليج») وجواره العراقي اختلاطاً قوياً. ومعظم الشيعة، اليوم، تحدروا من اعتـــناق أجدادهم التشيّع في القرن الثامن عشر. ومذذاك انتشرت الزيجات المختلطة في الجماعتين، ولا تزال على رغم انكماشها بعد العام 2000، قرينة على قربهما وأواصرهما.

واضطلعت الطرق، وكثرتها سنّية، بنسج روابط قوية بين أهل المذهبين، وجَسْر مبادلاتهما، وترديد أصداء مشتركة داخلهما. ففي مصر، على سبيل المثل، استعادت الطرق جزءاً من التراث الفاطمي ودمجته في معتقدات وشعائر مصرية وإسلامية. والاحتفال بمولد السيدة زينب في القاهرة هو أحد أكثر الموالد شعبية في إحدى عواصم المسلمين. والسلطنة العثمانية «أغفلت» تمييز رعاياها الشيعة، وأقرت لهم جزءاً من رعية السلطان من غير تخصيصهم بتشريع معلن.

ولم يتحرك الفرق بين أهل المذهبين إلا في العصر الحديث، مع نشأة الدول وتحررها، وانفصالها. فعمد الصفويون، وهم سلالة تركية، الى تشييع إيران في القرن السادس عشر، وتوسلوا بالتشيع الى مقاومة السيطرة العثمانية على فارس. وحين قام بعض العرب السنّة على تشيع العراقيين، في القرن التاسع عشر، قاموا في الوقت نفسه على التدين الشعبي أو العامي السنّي وقمعوه. وشيوع النزعات القومية في العالم العربي، غداة انهيار السلطنة العثمانية واندثار إطارها السياسي، حمل الشــيعة العرب على الترجح طوال قرن من الزمن بين إرادة الإقرار بخصوصيتهم وبين السعي الى تخطّي هذه الخصوصية من طريق الانخراط في مثالات سياسية و(أو) دينية عمومية وكونية. وفي الشطر الثاني من القرن التاسع عشر، كان الشيعة جزءاً من حركة الإصلاح الإسلامية، ومن سعيها الى مجاراة الحداثة والتكيّف معها. وسقوط نظام الملل، لم يؤدِّ الى اعتراف الدول التي نشأت على أنقاض السلطنة بالأقلية المذهبية المسلمة، إذا استــثنيت دولة لبنان. ولم تثمر محاولة شــيخ الأزهر الأكبر محمود شلتوت، إدخال الفقه الجعفري في عداد مذاهب الفقه الإسلامي.

وفي 1979، جمعت الثورة الإيرانية شيعة لبنان والسنّة الفلسطينيين تحت لواء خطابة مناهضة للأمبريالية وإسلامية جامعة. وبرهنت على جواز الاستيلاء على السلطة، ومساهمة أيديولوجيات غير إسلامية في عملية الاستيلاء. ودعت الى النضال تحت شعار «عرفات – الخميني، ثورتان في واحدة». لكن إعلان آية الله الخميني انفراده بالقيادة الإسلامية، وتصميمه على تصدير الثورة، وتهديده السلطات السنية بالانقلاب عليها في أثناء الحرب العراقية – الإيرانية والاقتصاص من هذه السلطات المؤيدة للعراق – انعطفت بأحوال الشرق الأوسط الى اتجاه آخر. فأحيا الطرفان النقائض الرمزية الكبيرة: فلوح الشيعة بالمشاهد الحسينية، وذكر العرب السنّة بفتح إيران. لكن شيعة العراق لم يثوروا على الحاكم، شأن عرب خورستان الإيرانيين على حاكمهم.

واستدرجت «الفورة» الشيعية سلفية رعتها أنظمة، وتضافرت النزعة السلفية، والإحباطات السياسية الناجمة عن انهزامية القومية العربية تجاه إســـرائيل وولاء الأنظمة المتسلطة للغرب، على التمكين لولادة النزعة الجهادية الحديثة، في التــربة الأفـــغانية أولاً وفي سياق مقاومتها الاحتلال السوفياتي. واضطلعت الحركة الجهادية بالرد المذهبي على إرادة التــسلط الشيعية المولودة من الثورة الإيرانية. فالقسمة المذهبية، في ضوء هذه الوقائع والنزاعات، ليست المنطلق، بل هي التعبير المتبلور عن نزاع مشروعيتين سياسيتين.

* تباعاً، المدير السابق لمركز التحليل والاستباق والاستراتيجية في وزارة الخارجية الفرنسية، **القائمة على شؤون الشرقين الأدنى والأوسط في المركز، عن «إسبري» الفرنسية، 10/2015، إعداد منال نحاس

الحياة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى