صفحات الرأي

معضلة الإسلام/ محمود الزيباوي

 

 

شهد العراق في القرن الماضي بزوغ طائفة من المفكرين الحديثين اللامعين، منهم علي الوردي الذي رحل في العام 1995 تاركاً مجموعة كبيرة من المؤلفات القيّمة. درس الوردي في الجامعة الأميركية في بيروت، وواصل تحصيله العلمي في جامعة تكساس لنيل الماجستير، وكان موضوع بحثه المتقدم “دراسة في سوسيولوجيا الإسلام” في العام 1948. بعد مرور أكثر من ستة قرون، يخرج هذا البحث المميز بالعربية في ترجمة من توقيع رافد الأسدي عن “دار الوراق للنشر”.

في مقالة بالفرنسية تعود إلى العام 1934، تكلم طه حسين عن الإمام محمد عبده بإجلال، غير أن هذا التقدير لم يمنعه من الإشارة إلى “ضعف” المنهجية التي اعتمدها المصلح الكبير في مطلع القرن الماضي. اعتبر عميد الأدب العربي أن محمد عبده لم يعد مواكباً للعصر، وأن لباقته في إحداث التجديد باتت مستخذية تعوزها الجسارة، وأضاف: “صارت كل أفكار محمد عبده في شأن العلم والدين بالية. فهي ليست بالأفكار التي مضى عليها زمن طويل”. رأى طه حسين أن الإمام الأزهري سعى إلى التوفيق بين الدين والعلم “بطريقة تبسيطية” لا تخدم العلم، “فهو على رغم صدق نياته ونقائها قد أقام أدلته، من دون أن يدري، على حساب النصوص الدينية”. عاد الكاتب لإثارة هذه الإشكالية في دراسة نُشرت في العام 1946، وفيها تطرّق إلى “الاتجاهات الدينية” التي ظهرت في الأدبيات المصرية، وتناول بالنقد الكتب ذات الطابع الديني التي ظهرت في مصر بين 1933 و1946.

كان أول هذه الكتب “حياة محمد”، لمحمد حسين هيكل، وفيه طبّق المؤلف “منهج جمال الدين ومحمد عبده”، وحاول بأي ثمن التوفيق “بين العقيدة الإسلامية والعلم والحضارة المعاصرة”، فجاء هذا التوفيق على حساب العلم. نجح كتاب هيكل نجاحاً جماهيرياً كبيراً، مما دفع الكاتب إلى تأليف “الصديق أبو بكر”، ثم “الفاروق عمر”، متبعاً “الأسلوب نفسه في الدفاع عن الإسلام”، مواجهاً “تحفظات لا تخلو من الشدة من جانب العلماء والمؤرخين المحترفين”. في مطلع الأربعينات، حذا عباس محمود العقاد حذو هيكل، وبدأ بنشر سلسلة من الدراسات عنوانها “العبقريات”، “وفي إطار هذه السلسلة، ظهرت عبقرية محمد، وعبقرية خليفتيه أبي بكر وعمر، وعبقرية قائده العظيم خالد بن الوليد، وعبقرية مؤذّنه بلال، وعبقرية ابن عمه وزوج بنته وخليفته الرابع علي”. “بعد العقاد، جاء دور توفيق الحكيم الذي “لم ينتج عملاً من أعمال الخيال لأنه لم يخترع شيئاً، ولا كتاباً من كتب التاريخ لأنه لم يدرس شيئاً، ولكنه صاغ ما في حياة النبي من حوادث بلغة الحوار وفقاً لطريقة في التعبير محببة إلى نفسه”. ختم طه حسين مداخلته بالإشارة إلى سبب رواج هذه الأدبيات، وهو في رأيه تعبير عن الموقف الشديد التناقض الذي انتهى إليه العالم العربي المعاصر منذ نهاية القرن التاسع عشر، “فقد دفعته ظروف الحياة الحديثة إلى الأخذ بالحضارة الغربية، ولكنه بقي مع ذلك متمسكاً بالتراث، متعلقاً بالمثل العليا الدينية”.

في تلك الحقبة، كتب علي الوردي بحثه بالإنكليزية حول “سوسيولوجيا الإسلام”. في مقدمة بحثه، رأى الكاتب أن الغرض من علم اجتماع الدين هو “دراسة العلاقات المتبادلة بـيـن الـديـن والـمـجـتـمـع وأشكال التفاعل التي تحدث بينهما”، وقال بأن العديد من الكتّاب درسوا المسيحية واليهودية على هذا المنوال “بينما يوجد نقص كبير في الدراسات الاجتماعية للإسلام”. في مقاربة تماثل قول طه حسين، أشار الباحث العراقي إلى سلسلة الكتب التي وضعها الدكتور أحمد أمين حول التاريخ الاجتماعي للإسلام، وقال إن الأوساط الثقافية العربية استقبلت هذه المؤلفات “بحماسة وتقدير كبيرين”، “غير أنها ليست بالعمل السوسيولوجي على الإطلاق”. وأضاف معلّقاً: “يبدو أن أحمد أمين ينتمي للمدرسة القديمة التي تميِّز تمييزاً واضحاً بين الخطأ والصواب. فهو لا يزال يفكر ضمن منظومة قيمية ثابتة وحقائق مطلقة حول القضايا الاجتماعية، حيث خصص جزءاً كبيراً من عمله لشجب صنف من الأفكار وتمجيد صنف آخر من غير أن يسأل نفسه، حينما تبنّى هذه الفكرة أو تلك، فيما إذا كان الناس أحراراً في اختياراتهم أو مجبرين تحت وطأة ظروفهم الاجتماعية. إنه يحكم على أي فعل اجتماعي من منطلق يخلو من النظرة الواقعية”. بعد هذه التوطئة، حدّد الكاتب مشروع بحثه، وهو: “معضلة الإسلام أو، بكلمة أخرى، الصراع بين المثالية والواقعية في تاريخ الإسلام”. وأضاف: “إن الصراع بين المثالية والواقعية موجود في كل طور من أطوار المجتمع الإنساني، ولكنه ليس من المبالغة القول إن ذلك الصراع أبرز نفسه بصورة شديدة جداً في تاريخ الإسلام”. لعبت هذه المعضلة “دوراً أكبر في تاريخ الإسلام منه في تاريخ المسيحية”. تحوّل الإسلام سريعاً إلى ظاهرة سياسية دينية، ومثّل تجسيداً “لنظام كامل للحياة”. في المقابل، جاء هذا التطور بشكل تدريجي بطيء في المسيحية، وتحقق بعد أربعة قرون من الزمن. ظهر محمد بمثله العليا في مجتمع بدوي، لا في أمبراطورية يحكمها قيصر، “وتبعه في بادئ الأمر الأشخاص الأقل تأثراً بثقافة المتع الحسية لدى البدو”. بعدها “دخل البدو العرب الإسلام أخيراً عندما أصبح الإسلام نظاماً سياسياً ظافراً”. في النتيجة، نشأ بين قيم الإسلام ونزعات البداوة صراع شديد وطويل الأمد.

الواقعية والمثالية

في الفصل الأول من كتابه، توقف علي الوردي أمام “الخلاف السنِّـي الشيعي”، وهذا الخلاف ليس عقائدياً في الدرجة الأولى، إذ “لا يوجد أي اختلاف بين السنّة والشيعة في ما يتعلق بقضايا الدين الجوهرية”. رأى علي الوردي أن ثنائية السنّة والشيعة تشابه ثنائية الكنيسة والمذهب، “أي الصراع بين الواقعية والمثالية”. “ذهب السنّة بعيداً في استحسان التطور الفعلي للإسلام حتى أنهم أضفوا الشرعية على الكثير من الأمور التي تتناقض مع ما جاء به النبي”. “من جانب آخر كانت حياة الشيعة حياة ثورية والخلفاء بالنسبة لهم ليسوا سوى طغاة غاصبين. وقد أمعن الشيعة إلى حدّ التطرف في التفسيرات المنطقية والغيبية للدين الإسلامي، ولذا فإنهم أتوا بالعديد من العقائد الفكرية غير العملية في ما يتعلق بقضية الخلافة. يرى السنّة أن الشيعة أهل بدعة على أساس أنهم شقّوا عصا الإسلام ونقضوا عهدهم بالولاء للحكومة. الشيعة في المقابل يرون أن السنّة ظالمون لأنهم أطاعوا وصدّقوا هؤلاء الخلفاء الذين اغتصبوا الخلافة بالقوة وحرفوها عن المبادئ والمثل النبوية”. بحسب الباحث العراقي، تقع الحقيقة “في الوسط بين الفريقين، و”يمكن مقارنة الاختلاف بين الطرفين بما يجري من حراك سياسي في يومنا هذا”. تبنى علي الوردي هذه القراءة “بدون تردد”، وقارن “السنّة والشيعة بالأحزاب السياسية، وذلك لأن مسألة الخلافة كانت القضية الأساسية التي نشأت حولها هاتان الفرقتان في بادئ الأمر”. عاد الباحث إلى نظرية ابن خلدون المتعلقة بالعصبية أو روح القبيلة، مؤكداً أن مصطلح العصبية يعني القوة في عينها، وعلّق: “إن الدين من غير عصبية هو أمر مستحيل حسب رأي ابن خلدون، والأشخاص المتدينون الذين يعظون الناس بالقيم المجردة من غير أن يمتلكوا العصبية التي تدعمهم هم مجانين بالنسبة لابن خلدون”. من خلال هذا المنطلق، “تمّ تلفيق العديد من النبؤات التي تقول إن “التعدي على حدود الله سيزيد يوماً بعد يوم ، وإن الخلافة ستتحول إلى ملك عضوض بُعيد وفاته”. وشكلت هذه النبؤات الملفقة أساساً للنزعة الدنيوية للسلطة الحاكمة.

انتقل الباحث في الفصل الثاني إلى قضية الخلافة التي أثيرت عند وفاة النبي. بالنسبة إلى أهل السنّة، “يتحدد اختيار الخليفة عن طريق الانتخاب الشعبي (الإجماع)، بينما يعتقد الشيعة أن الخليفة يتحدد بالوحي كما هو الحال مع النبي”. من هنا، نستنتج “أن الاختلاف بين الفريقين هو مشابه للاختلاف بين الديموقراطية وعقيدة الحق الإلهي، وهذا ما خلص إليه العديد من المستشرقين”. رفض علي الوردي هذه المقاربة، ورأى أن “الاختلاف بين السُّنة والشيعة هو ليس اختلافاً بين الديموقراطية وعقيدة الحق الإلهي كما يبدو عليه الأمر ظاهراً، بل إنه اختلاف بين الواقعية والمثالية. لقد استخدم السنّة مبدأ الديموقراطية كغطاء لموقفهم الواقعي إزاء قضية الحكم. إنهم في الواقع لم يمارسوا الاقتراع الحر في اختيار الخليفة باستثناء مرة أو مرتين خلال تاريخ الخلافة الطويل، فجميع خلفائهم تقريباً جاؤوا من طريق التعيين من قبل أسلافهم أو أنهم وصلوا إلى السلطة من طريق القوة”. تابع الباحث هذه القراءة في الفصل الثالث، وعنوانه “طبيعة الإسلام”. على عكس ما يقال عادة، لم ينشأ الإسلام كنظام سياسي ديني، بل “بدأ الإسلام ديناً محضاً واستمر كذلك طوال الفترة التي كان يدعو فيها النبي بالطرق السلمية في مكة. حدث التغير في طبيعة الإسلام بعد أن هاجر الرسول مع أتباعه إلى المدينة حيث أسّس أول دولة إسلامية على وجه الأرض”. في تلك المرحلة، تجلّى الشبه الكبير بين المسيحية وإسلام مكة، “فقد اشتملت كلتا الديانتين على الاعتقاد بالمقاومة السلبية، ويمكن اعتبارهما رد فعل يتميز بالمثالية للطبقات المسحوقة ضد مضطهديهم”.

تحوّل الإسلام مع هجرة المسلمين الأول إلى المدينة، و”يميل أكثر المستشرقين إلى إلقاء اللوم على محمد حول هذا التحوّل في الدين إلى معترك الحياة الاجتماعية”. اعتبر علي الوردي أن الذين تبنّوا هذه الرؤية كانوا متأثرين “في لومهم لمحمد بنظرتهم لعيسى الذي رفض تاج الملك الذي قدّمه إليه الناس. إن موقفهم على كل حال إزاء النبي لا يمكن تبريره من وجهة نظر اجتماعية. تحتاج أي حركة اجتماعية، سواء أكانت دينية أم غير دينية، بالضرورة، إلى أن تمرّ بمرحلة من التنظيم الشكلي يتحتم فيه عليها أن تدخل المعترك الاجتماعي”. انطلاقاً من هنا، “يمكن إذاً أن نقول إن الاختلاف بين الإسلام والمسيحية يكمن بصورة رئيسية في حقيقة أن الحركات الإسلامية مرّت بمرحلة التنظيم الرسمي خلال حياة النبي وكانت تحت إشرافه، بينما ترك عيسى حركته لينظمها أتباعه بعد موته. تمكّن محمد في واقع الأمر من توحيد المثالي والواقعي بيديه في نظام واحد وسلّمه إلى خلفائه جاهزاً للاستخدام، بينما لفت عيسى انتباه الناس إلى مثله العليا، حتى أنه ضحّى بنفسه من أجلها من غير أن يرينا كيفية توحيد تلك المثل مع الواقع”. يستشهد الباحث العراقي بالمستشرق آرنولد توينبي، وينقل عنه قوله: “كانت دائماً سمة الدنيوية هذه مثاراً للشجب بين الأوساط المعادية للإسلام ونبيّه، حيث نرى بجلاء الكثير الذي يمكن أن يقال عن وجهة النظر إن الإسلام، كمؤسسة، عانى طوال تاريخه من المسحة الدنيوية التي تميّزه. وبقدر ما كانت هذه المسحة الدنيوية عيباً في تاريخ الإسلام لا بدّ أيضاً أن تُعتبر سوء حظ في مسيرة محمد. إلا أن النقّاد المعادين للإسلام ونبيّه يذهبون أبعد من ذلك، فهم يشجبون التحول المؤسف لمحمد من نبي إلى فاتح بعد هجرته، ويرون أن ذلك التحول مؤشر إلى التحول الأخلاقي. هل كان محمد مدعياً للنبوة قد وضع عينه على الملك منذ البداية؟ إن هذا الافتراء يدحضه بشكل قاطع سجل حياة محمد خلال الثلاث عشرة سنة أو ما يقاربها التي تخلّلت أول إعلان لرسالته النبوية في مكة حوالى 609 ميلادية وخروجه عام 614م من مكة إلى المدينة. لقد كانت دعوة محمد فشلاً ذريعاً واضحاً من وجهة النظر الدنيوية حتى السنة الثالثة عشرة من رسالته عندما انسحب بالنهاية من مكة إلى المدينة، وانصرف من الحياة النبوية المحضة إلى الحياة السياسية الدينية. لم تكن حصيلة الثلاث عشرة الأولى من الدعوة سوى حفنة من المؤمنين، اضطر أكثرهم إلى الهروب من البلاد، وجرّ على نفسه العداء العنيد، وربما المنيع، للقوى المسيطرة في مجتمعه الأم. إن النبي الذي استمر في خضم تلك الظروف طيلة هذه السنين على رسالته لا بدّ أن ما يحركه كان إيماناً دينياً عميقاً وأصيلاً فقط، ولا بدّ أنه كان مسلِّماً بأنه سيضحّي بآفاقه الدنيوية. إنه لم يتوهم أبداً أنه كان على الطريق ليصنع ملكه الدنيوي. لا بدّ إذاً أن نبرئ محمداً من تهمة أنه أضمر مخططات سياسية خفية خلال الفترة المكية من رسالته النبوية، ولكن لا يزال علينا أن نبيّن كيفية تحوله في النهاية إلى الحياة السياسية التي نجح فيها بعد ذلك وانتصر انتصاراً كبيراً”.

كان يسوع تحت رحمة الحكومة الرومانية لذلك دعا لإعطاء ما لقيصر لقيصر. أما محمد، فقد “كان خارج التبعية لأي دولة، وقد كان بيته واقعاً في الأرض الحرام خارج حدود الأمبراطورية الرومانية وبعيداً عن متناول قيصر. إن الاختلاف الشديد بين البيئتين يفسّر، على الأقل جزئياً، الاختلاف الشديد بين المتع الدنيوية لهذين النبيين اللذين قدّم كلٌّ منهما نفسه إلى أبناء مجتمعهم على أنه رسول الله، وجاءا برسالة غريبة تنسف جميع معتقداتهم وممارساتهم الأولى. إنهما ادّعيا للناس ببساطة أنهما الحاكمان المطلقان لهم، غير أنهما لا يفرضان أحكامهما الخاصة بل أحكام الله”. في الخلاصة، عرف الإسلام ما عرفته المسيحية “ولكن في القرن الأول من تاريخه وليس في القرن الرابع”.

الصراع المتواصل

في الجزء الأخير من بحثه، يطرح المؤلف مسألة “الصراع داخل الإسلام وأصوله”. أنشأ الخلفاء أمبراطورية عظيمة، ولجأ عدد كبير من الموالي إلى التشيّع كردّ فعل ضدّ مضطهديهم. تحقّق حلم أفلاطون المثالي في حكم الفيلسوف “عندما اختير علي لخلافة الأمبراطورية الإسلامية، غير أن علياً أثبت إخفاقه الكامل كما فشل أفلاطون من قبل بزمن بعيد عندما طلب منه طاغية سيراكيوس أن يقيم دولته حسب مبادئه المثالية”. بحسب علي الوردي، أخفق علي في الحكم بسب مثاليته المفرطة، وهو القائل: “الدنيا جيفة وطلابها كلاب فمن أراد الجيفة فليصبرنّ على مخالطة الكلاب”. كان الصراع بين علي ومعاوية صراعاً بين المثالية والواقعية في الإسلام، والتعبير عن هذا الصراع يختزله قول متفرج محايد لهذه الحرب: “الصلاة خلف علي أتمّ، والأكل مع معاوية أدسم، والوقوف على التل أسلم”. رأى ابن خلدون أن هذا الصراع كان “منازلة وقتية بين اثنين من المسلمين الصالحين نجم عن خطأ بسيط من جانب معاوية ضد خليفته علي”، واتبع الكثيرون هذا الرأي. دحض علي الوردي هذه المقولة، وشدّد على ثنائية المثالية والواقعية. “كل دين يبدأ مسيرته كحركة ثورية ويصبح تدريجياً مؤسسة رسمية تميل إلى التماشي مع المصالح الدنيوية بدلاً من الانتفاض عليها”، و”الدين الإسلامي ليس استثناء في هذا الخصوص”. مثّل الإنقسام السنّي الشيعي ثنائية الواقعية والمثالية، لكن “لا يعني هذا بالطبع أن السنّة هم واقعيون بكل معنى الكلمة أو أن الشيعة مثاليون على نحو مجرد. يصحّ أن نقول بأنه لا يوجد ظاهرة خالصة بشكل مطلق في المجال الاجتماعي، بل يوجد ميول معينة في اتجاه هذا الشيء أو ذاك”.

في قراءة لافتة تستبق الحوادث المقبلة، رأى علي الوردي أن المرء يجد “تشابهاً بين السنّة والشيعة أكثر من الاختلافات، بمعنى أننا يمكن أن نلاحظ نمطاً من المواقف المادية تتخلل العقائد الشيعية، وفي المقابل نرى أنماطاً من المواقف المثالية تتسلل إلى العقائد السنية”. تنبأ الباحث في منتصف القرن العشرين بالتحوّل الشيعي الكبير، وقال: “أعتقد أنه من الطبيعي أن نتوقّع أن يكون الشيعة أقل مثالية شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن مع تسنّمهم السلطة هنا وهناك، وبذا أصبحوا عالقين في الشؤون الاجتماعية والمصالح الدنيوية. إن الدينامية الاجتماعية لا تسمح للأشياء بالبقاء على حالها لوقت طويل. لاحظت أن باقر المجلسي، الفقيه الكبير الذي لعب دوراً كبيراً في انتشار التشيع في بلاد فارس إبان العهد الصفوي، كان يبدي بعض الميول نحو التفكير الواقعي الذي بالكاد نراه لدى العهود المتقدمة. يبدو أنه ليس مقتنعاً بالتفكير المثالي المحض الذي كان يميّز التشيع في الماضي. إن التشيع في عصره لم يعد يمثل ثورة المستضعفين، بل إنه يمثّل مؤسسة دينية منتصرة تتمتع بنوع من التجربة العملية”.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى