صفحات الثقافة

أقوى من الحاكم

    عمر شاكر

أتعرف معنى أن تفقد أخاً، أمّاً، أو إبناً! هل جرّبتَ أن تغمض عينيكَ مرةً متخيّلاً فقدان شخص عزيز؟! قبل أن تكمل القراءة جرِّب ذلك. قلْ لنفسكَ إنكَ لن تراه مجددا ولن تسمع اسمكَ بصوته!

في الخامس عشر من نيسان الماضي كانت روح أخي قد أكملت شهرها الأول في العالم الآخر، لتلتقي أرواح أكثر من سبعين ألف سوري غادروا عالمنا خلال العامين الماضيين مكرهين. تعيدني آلامي سنتين إلى الوراء، إلى حاجز الخوف الذي كان يخالجني كما كل السوريين. نظام مجرم لن يتوانى عن قتلي وقتل أسرتي لا بل قتل الشعب كله، بطوائفه وأطيافه، ولو انتهى به المطاف لأن ينصّب نفسه حاكماً على أكوام من الجثث.

أذكر كيف توالت أمامي سلسلة من الصور والروايات عما جرى في ثمانينات القرن الماضي في سوريا عموماً وحماة خصوصاً، قبل أن يمضي بي القدر إلى كسر حاجز الرعب من النظام الأمني في الثاني والعشرين من نيسان العام 2011 (الجمعة العظيمة) لأرى بعينيَّ كيف قابل النظام 10 آلاف متظاهر سلمي في منطقتنا بابا عمرو في مدينة حمص بوابل من الرصاص وسقط مباشرةً خمسة شهداء بعدما نادوا بإسقاط النظام.

كانت المرة الأولى أبكي فيها شهيداً من وطني، لكنها لم تكن الأخيرة. مع كل مرة ينجح الموت فيها باختطاف صديق أو قريب للعائلة، كان أهله وأصحابه يعمدون الى تغيير صورهم الشخصية على صفحات التواصل الاجتماعي ليضعوا بدلاً منها صورة شهيدهم، كنوعٍ من العزاء والوفاء لدمائه وذكراه. لكن مع توسع رقعة الاحتجاجات وازدياد المنخرطين في الثورة، كان النظام يردّ بمزيد من العنف متسبباً بمزيد من الضحايا والأضرار.

 أصبح من النادر أن تقابل عائلة لم يترك فيها النظام ندبة. فإن لم تكن الندبة شهيداً، فجريحاً أو معتقلاً أو مطلوباً أو لاجئاً. كنتُ قد قررتُ حين استشهد الطفلان حمزة الخطيب وصديقه ثامر الشرعي في أقبية المخابرات تحت التعذيب، ألاّ أبدل صورتي بصورة أحدهما دون الآخر حتى لا أميّز شهيداً عن شهيد، كما ميّز العالم حمزة، جاعلينه وحده أيقونة للثورة، دون ثامر. كل الشهداء يستحقون أن تُنشر صورهم، لا في العالم الافتراضي فقط بل في قلوبنا وفي أشهر الساحات.

باتت صفحات الأصدقاء على شبكات التواصل الاجتماعي مأتماً كبيراً، تتبدل فيه الصور خلال اليوم الواحد مرّات ومرات. في عائلة الشهيد أبو أكرم، ترى واحدةً من بناته الثلاث بدّلت صورتها الشخصية بصورة أخيها المختفي منذ عام. الثانية وضعت صورة أخيها الذي استشهد منذ أيام. الثالثة بدلت صورتها بصورة ابن اختها الذي استشهد منذ ستة أشهر، فيما بدلت إحداهن بشكل دائم الصورة بين أخيها وأبيها، الحديثَي الشهادة معاً. الأقارب حلّوا مشكلة تكاثر الشهداء بجمع صور هؤلاء في إطار واحد، لتوضع مكان الصورة الشخصية. يستمر النظام في رفع وتيرة العنف منزِلاً بالشعب جروحاً ثخينة، متفنناً في استخدام ما يملك من البنادق والمدافع والصواريخ البالستية، مبيداً عائلات بأكملها فلا يبقى منها حتى من يذكر أفرادها بصورة على الـ”فايسبوك”.

الموت في سوريا في كل مكان، لكن إرادة الحياة أقوى من إرادة الحاكم المستبد. فبينما هو يقتل قرابة مئة سوري بمعدل يومي، يمهّد هؤلاء بدمائهم طريقاً لمئة وخمسة وعشرين طفلاً يولدون يومياً بحسب الأمم المتحدة فقط ضمن الذين يقيمون في مخيمات اللجوء، ليعيشوا في سوريا خالية من حكم العائلة – المافيا.

كل ليمونة ستنجب طفلاً. ومحال أن ينتهي الليمون.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى