صفحات الرأي

مخطوطة بيرمنغهام تاريخية لا دينية/ حسام عيتاني

 

هلّل عدد من المسلمين لاكتشاف مخطوطة قديمة لأجزاء من المصحف باعتبارها تأكيداً لأصالة النص القرآني ونسفاً لادعاءات مستشرقين عن «وضع» القرآن في العصر العباسي والتشكيك بالتالي بالإسلام ككل.

لا بأس من الإشارة إلى أن المخطوطة التي عثر عليها في مكتبة جامعة بيرمنغهام البريطانية مازالت في حاجة إلى الكثير من الدرس والتدقيق قبل الجزم بصحة ما قاله المشرفون على المكتبة من أنها تعود إلى فترة شديدة القرب من أيام الدعوة المحمدية وأن كاتب المخطوطة ربما التقى النبي العربي. فما جرى فحصه بتقنية «الكاربون 14» هو الرق الذي كتب عليه النص وليس الحبر.

ومعروف أن الكتبة في ذلك العصر كانوا يغسلون الجلود التي يكتبون عليها ويعيدون التدوين مرات ومرات ويحتفظون بالجلود لعقود مديدة. إضافة إلى أن مسألة التنقيط الظاهر على الكلمات أثارت كثيراً من الأسئلة وهي تتحدى الرواية المعروفة عن وضع النقاط على الحروف العربية. كما أن شكل الخط الموجود على الرقعة يحتاج إلى دراسة من علماء تاريخ الخط العربي الذي مرّ بمراحل كثيرة من فترة أواخر الجاهلية إلى اليوم.

بكلمات ثانية، تفتح مخطوطة بيرمنغهام باباً جديداً في الدراسات القرآنية ولا تحسم أي نقاش سابق. تماماً مثلما فعل «مصحف صنعاء» الذي عثر عليه أثناء ترميم المسجد الكبير في العاصمة اليمنية بداية السبعينات من القرن الماضي (والذي يستحق اهتماماً لحمايته من الأعمال الحربية الدائرة في اليمن حالياً). وحتى إنهاء الدراسات اللازمة على مخطوطة بيرمنغهام، يظل مصحف صنعاء الذي أظهرت الفحوص التقنية أنه يعود إلى القرن الأول الهجري، هو الأقرب من الناحية التاريخية المثبتة إلى الصيغة الأولى للقرآن التي تشغل بال الكثير من الباحثين والمستشرقين.

ولا قيمة حقيقية لمشاعر الانتصار التي أبداها مسلمون من غير المتخصصين بتطابق المخطوطة المكتشفة بالنص القرآني السائد وليس في ذلك إثبات على شيء. بل ان احتواء مصحف بيرمنغهام على اختلافات طفيفة عن النص المتداول اليوم لا يعني الشيء الكثير. ذلك أن عموم المفسرين يعرفون الاختلافات بين القراءات وبين المخطوطات القديمة. وقد كان للحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه «الإتقان في علوم القرآن» اقتراحات كثيرة في تغيير حرف من هنا وكلمة من هناك على نسخ كانت متدوالة في العصر المملوكي الذي عاش فيه.

الأهم أن أي اختلاف يظهر في أي مخطوطة أو مبنى أثري اسلامي لا يعول عليه في تبديل أسس الايمان وأركانه الكبرى. فهذه المسائل لم تعد مرتبطة باستبدال حرف من هنا وحذف ضمة أو كسرة من هناك.

والإسلام لا تهدده الاكتشافات الأثرية والتاريخية بأي حال من الأحوال. ولا ظهور مخطوطة هنا ولا تفسير باحث في معهد أكاديمي هناك، بغض النظر عن نواياه وخلفيته الفكرية أو السياسية. بل ان الخطر الحقيقي على الإسلام يظهر من إساءة استخدامه كايديولوجيا سياسية ترفعها جماعات تسعى أولاً وآخراً إلى السلطة وهي على استعداد لاستغلال النصوص الدينية لبلوغ مآربها.

مواجهة هذا الخطر لا تكون بحماس مبالغ فيه أو إنكار غير واع لأي كشوف تاريخية، فهذه ستتواصل مع استمرار التقدم في التقنيات والمناهج. بل تكون المواجهة في نقل المعركة إلى ساحتها الحقيقية، ساحة التفكك الاجتماعي والدولتي في العالمين العربي والإسلامي ومنع استخدام النص الديني لتعميق أزمة المجتمعات والدول.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى