صفحات سوريةعبدالله تركماني

أي تغيير مطلوب في سوريا؟


عبدالله تركماني

بعد أن تجاوز الشعب السوري حاجز الخوف وانتفض في وجه الاستبداد متحدياً قبضته الحديدية التي أمسكت بالمجتمع طيلة العقود الأربعة الماضية، يستحيل أن يقبل حكم سورية بالطريقة القديمة، واحتكار السلطة من قبل أية جهة سياسية أو فئة اجتماعية تحت أية ذريعة أو شعارات. فقد رأينا، خلال الأشهر الخمسة للانتفاضة، سوريا أخرى فيها طلاب حرية وكرامة ومواطنة بمئات الألوف، وفيها أناس يستشهدون ويُعتقلون ويتعرضون للتعذيب من أجل مجتمع أكثر اتساعاً وتركيباً من الأطر السياسية الجامدة الضيقة المفروضة عليه بالقوة منذ عقود.

لقد تجمعت لدى أغلبية الشعب السوري مؤشرات تظهر أنّ سلطة بلاده باتت محنطة وعصية على الإصلاح، لأسباب عديدة منها الخلل العميق في تركيبتها الداخلية نفسها، وطريقة فهمها لدورها وموقعها من الدولة السورية، ولطبيعة الهياكل التي أنشأتها انسجاماً مع تلك التركيبة وهذا الفهم. فقد انتفض السوريون في وجه الدولة الأمنية التي استبدت في كل مجالات عيشهم، وقرروا أنه لا بد من التغيير على كل المستويات الوطنية.

وفي سياق الثورة السورية من أجل التغيير فإنّ القوى الحقيقية، التي تنزل إلى الشارع، أصحاب الانتفاضة الذين قدموا ويقدمون حتى الآن الشهداء من أجل الحرية وإعادة الكرامة للشعب، بلغت بسقف مطالبها ضمان الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، مع المطالبة بمحاكمة رؤوس الأجهزة الأمنية وقادة الشبيحة. وهي تتبنى، بشكل واضح، تصوراً مستقبلياً لسورية: ديمقراطية، دولة كل مواطنيها، ودولة قانون وحريات عامة وفردية تنبذ العنف والطائفية. وهكذا، لابد من تغيير سياسي جذري، يبدأ من صياغة دستور جديد بعد إطلاق سراح جميع معتقلي الرأي والضمير، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة، تضمن الحقوق الكاملة لكل مكونات الشعب السوري والمشاركة السياسية لها.

والسؤال الرئيسي هو: كيف يمكن أن يتحقق الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية في سورية ؟ أي كيف يتم تفكيك النظام الشمولي والدولة الأمنية ؟ وكيف يعاد إنتاج النظام السياسي على نحو يؤسس لديمقراطية تشكل أساساً للتغيير بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة ؟

إنّ التحولات العميقة التي تشهدها المجتمعات الإنسانية جعلت من الديمقراطية وحقوق الإنسان أحد علامات العصر، وأحد المعايير الأساسية للسير في الطريق الذي ترسمه التحولات الكبرى التي نشهدها الآن. إذ صارت الديمقراطية ضرورة لا غنى عنها، واختياراً لا مفر منه، فهي معيار صلاحية الاختيارات الأخرى على صعيد السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، إنها ما يمنح هذه الاختيارات جميعها بعدها الإنساني. ولا يمكن تمثّل هذه التحولات بعمق إلا في إطار الدولة الحديثة التي تقوم على أسس ثلاثة: فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ورقابة المجتمع على سلطة الدولة، وخضوع سلطة الدولة نفسها للقوانين التي تسنها. بحيث يُنظَر إلى الدولة باعتبارها حقلاً يعكس تناقضات البنية الاجتماعية وتوازنات القوى فيها.

إنّ ما يحدث في سوريا منذ خمسة أشهر يمثل، في أحد أبعاده، محاولة استرداد السياسة وممارستها عبر تجاوز مرحلة عقد من اللعثمة التي كانت تصيب لغة بشار الأسد منذ وراثته السلطة، كلما تحدث عن حزمة إصلاحات ستقوم بها السلطة، التي تعلم جيداً أنّ الإصلاح السياسي الجدي سينهي النظام الشمولي الذي تنتمي إليه وتدافع عنه، وسيضع حداً لرموز الفساد وأصحاب الامتيازات، وأنّ الشعب لن يقبل بعد اليوم إلا باستعادة حقوقه ومحاسبة من نهبوا ثروات البلاد وأوغلوا في قتل المواطنين واعتقالهم وتعذيبهم.

إنّ مضمون التغيير في سوريا هو الخروج من هذا النظام المتلعثم إلى أوضاع تكفل لعموم السوريين حريات وحقوقاً وأمناً، وفرصاً أوسع للترقي الاجتماعي والسياسي. خلاصة الأمر اليوم أنّ السوريين متفقون على مبدأ تغيير النظام، بما يعنيه من تغيير أنماط حياتهم في التفكير والتدبير، غير أنّ ثمة تمايزاً في المستويات التي ينبغي أن يذهب إليها هذا التغيير. فأهل النظام يرونه لا ينبغي أن يتعدى إصلاحات محكومة في حدوده، وتحت قيادته. فيما يطالب شباب الانتفاضة وقوى المعارضة السياسية والمدنية بالانتقال نحو نظام مغاير يقوم على الديمقراطية والتعددية والمواطنة والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون. وفي ظل واقع الاختلاف هذا يظهر كلام تركي، أخذ يتردد كثيراً في الآونة الأخيرة، عن نظام انتقالي يكون حلقة وسيطة بين النظام الحالي والنظام المقبل، بما يمكن وصفه بأنه اجترار لخطاب يمهل القمع مزيداً من الوقت، وهذا ما حصل فعلاً خلال الأسبوع الماضي في حمص ودير الزور ومعرة النعمان واللاذقية …

ولعل ما طرحه ائتلاف إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في مشروع بيانه الختامي، الذي سيقدم إلى مجلسه الوطني الثاني الذي سيعقد قريباً داخل سوريا، يساعد على بلورة سبل الدخول في مرحلة انتقالية يجري التوافق على أسسها من خلال مؤتمر وطني جامع, تحت عنوان التغيير الديمقراطي وتحديد مستقبل البلاد وطبيعة نظامها السياسي، يضم ممثلي الشباب الثائر وممثلي منظمات المجتمع المدني السوري والمعارضة السياسية، ومن كانت أيديهم نظيفة من دماء الشعب أو ثروة الوطن من أهل النظام، بهدف الكشف عن الممكنات في الواقع السوري، وبناء أولوياتها وتوازناتها عبر منهج عقلاني هادئ.

إنّ سوريا تواجه فرصة تاريخية تمكّن من إعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة، بالاعتماد على تضافر جهود جميع النخب الفكرية والسياسية من دون استثناء، فلا يجوز تفويت هذه الفرصة التي خلقتها الانتفاضة السورية، بل الحرص على الانتقال الديمقراطي الهادئ والممأسس، الذي يفتح الآفاق أمام إعادة صياغة الحياة السياسية السورية على أسس جديدة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى