صفحات المستقبلمالك ونوس

ضحايا جدار عازل في زمن “أنا شارلي”/ مالك ونوس

 

 

في الزمن الذي يقتل فيه أبناء شعب كامل، ويهجرون من بلادهم التي يقسمها جدار عازل إلى جزر متناثرة، يغض فيه العالم النظر عن جرائم المتسببين. وفي هذا الزمن الذي يقتل فيه الأبرياء بجوار الجدار، ومنهم وزير يموت بفعل اعتداء قوة محتلة عليه، أمام عدسات كاميرات القنوات التلفزيونية، ولا يحرك مسؤول دولة ما ساكناً، يستنفر العالم إلى باريس للتضامن مع ضحايا اعتداء استجلبوه لأنفسهم، ويحمل رؤساء العالم لافتة تقول “أنا شارلي”. وقبلها في مشهد مماثل، اجتمع قادة العالم في برلين للاحتفال بذكرى سقوط جدارها قبل 25 عاماً، يستذكرون ضحاياه المائة الذين سقطوا في أربعين عاماً. في هذا الوقت، لا تجد بين أيٍّ من مسؤولي دول العالم من يقول: “أنا من ضحايا الجدار العازل”.

وكما أن ضحايا الاعتداء على الجريدة هم من استفز الفاعلين، كذلك كان جدار برلين، نتيجة حرب مجرمة شنها أبناء تلك البلاد، وتضررت منها كل شعوب الأرض. لكنه حُمِّلَ رمزية، تزيد عن تقسيمه مدينة برلين طوال فترة قيامه وحتى انهياره، في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1989، وتزيد عن حجم مآسي ضحاياه، وغيرها من المآسي التي كانت تساق يومياً، وتضخمها آلة الإعلام الغربي وملحقاتها في بقية أنحاء العالم. والتي دأبت على تصوير الجدار باعتباره رمزاً للتوليتارية السوفييتية ودلالة على “توحش” النظام الشيوعي الحاكم في الطرف الشرقي من المدينة. قسَّم الجدار المدينة، فكان عنوان تقسيم أوروبا إلى شرقية اشتراكية وغربية رأسمالية، فانعكس على العالم أجمع. وكرَّس وجود معسكرين متقابلين، متناقضين إيديولوجياً، ومتناحرين في حرب باردة، يستقطب كل منهما خلالها دولاً وأنظمة في هذه القارة أو تلك، ليخلق فرزاً فاضحاً فيها.

ولا يحمل احتفال البشرية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بالذكرى الخامسة والعشرين لانهيار جدار برلين معه أية دلالة سوى أن هذه البشرية ما زالت قاصرة عن حمل معنى التسمية التي وُسِمَت بها. فباحتفالها بذكرى جدار ساقط، تُسقط عنها كل الأوراق التي تحاول ستر عورتها التي تلحق بها عيباً، مرده تجاهلها لجدار قائم، هو الجدار العازل الذي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية. الجدار الذي بُني في غفلة عن هذه البشرية، أو أمام أعينها وبعلمها، فلا فرق. جدار يترسخ في الأرض عميقاً، ويعلو في السماء، ليحجب رؤيتها. فيفصل بين مدن فلسطين وقراها ليكرس احتلالها. ويتماوج كأفعى بين الأراضي الزراعية والمنازل. وينحدر هناك، ليضم بانحداره نبع الماء، أو البئر القديم. فيمنع الأبناء من التواصل مع أهلهم، والموظف من الوصول إلى عمله. ويمنع الفلاح من الوصول إلى أرضه، ويمنع التلميذ من الوصول إلى مدرسته. ويمنع العطشى من الوصول إلى الماء الذي كان ماءهم. ليتفوق الجدار العازل بحجم المآسي التي يحملها، وبالحاضر الذي دمره، وبالمستقبل الذي ينسفه على كل ما أدى إليه قيام جدار برلين. ويكرس هذا الجدار حجم الإنكار العالمي لوجوده، وحجم الرياء الذي ما زال حكام العالم يحملونه، على الرغم من انهيار “الوحش الشيوعي” الذي ألحقت به الشرور كلها في عالم الغرب ما قبل سقوط جدار برلين.

وعلى الرغم من كل التقدم الذي تشهده وسائل الإعلام والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، لم يتمكن العالم من الاطلاع على المأساة التي يسببها بناء الجدار العازل، والذي إن قورن به جدار برلين، لظهر الأخير قزماً يلهو به الأطفال. ففي حين كان هذا يمتد على مسافة 155 كيلومتراً، فإن الجدار العازل سيمتد، حسب الخطة الإسرائيلية، وتبعاً لمعهد الأبحاث التطبيقية الفلسطيني في القدس، على مسافة 770 كيلومتراً. ويصل ارتفاع الجدار الإسمنتي فيه إلى ثمانية أمتار. ويصل عرضه في بعض الأماكن إلى 60 متراً، وهي مسافة مكونة من الجدار والحواجز الشائكة والطرقات الأمنية. وبينما قسَّم جدار برلين مدينة واحدة إلى اثنتين، فإن الجدار العازل قسم الضفة الغربية كلها إلى ثلاث مناطق، وجعلها جزراً متباعدة، يصعب التواصل بينها، علاوة عن فصلها نهائياً عن أخواتها، بقية المدن المحتلة.

“أين الوفود من الجدار العازل في فلسطين؟ أين القصص والروايات والأشعار؟”

وعلى عكس جدار برلين الذي أقامته دولة على حدودها، يعتبر الجدار العازل غير قانوني. فباعتبار أن إسرائيل ما زالت تحتل الضفة الغربية، يعتبر الجدار مخالفة صريحة للقانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة التي تنص المادة 46 منها على: “عدم جواز نقل السكان الذين احتلت أراضيهم، أو تهيأت ظروف تشجع على انتقالهم”. علاوة على ذلك، يكرس الجدار التفرقة العنصرية، لأنه يخلق مجمعات آمنة للمستوطنين الإسرائيليين، ويمنعهم من الاختلاط مع التجمعات العربية التي سيعمل على عزلها وتطويقها وفصلها عن بعضها. علاوة على ما تمارسه القوات الإسرائيلية من إهانات وتعذيب وإذلال بحق من يريد عبور بواباته.

ما زال الناس يتوافدون إلى جدار برلين، يحجون إليه. يتلمسون سراب الذين قتلوا وهم يحاولون العبور إلى الغرب، يضعون الزهور مكان دمهم، منعاً لنسيان شرخ في ضمير البشرية. يريدون الوقوف على أطلال “الوحشية السوفييتية”. كيف فرَّق جدارٌ بين أحياء مدينةٍ حتى باتت مدينتين؟ كيف منع التواصل بين الأخوة وفرَّق الأحبة والأهل؟ يا لهذا الجدار المتوحش! كل شرور العالم انصبت فيه. كُتبت حوله الروايات والأشعار، والدراسات الأكاديمية. وفي ظله أقامت فرقاً موسيقية حفلاتها، علَّ صوتها يهدمه. ولكن، أين الوفود من الجدار العازل في فلسطين؟ أين القصص والروايات والأشعار؟ بل أين الورود التي تحملها أيادٍ لتكفكف دمعَ عجوزٍ منعه الجدار العازل من احتضان شجر زيتونه؟ وإن احتفل العالم بذكرى انهيار جدار برلين، وإن هبَّ قادته للتضامن مع ضحايا جريدة “شارلي إيبدو”، فليعترف، على الأقل، بأن للجدار العازل ضحايا في فلسطين.

العربي الجديد

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى