بيسان الشيخصفحات المستقبل

من تحرير فلسطين إلى الحرب على داعش … أنظمة القمع باقية وتتمدد/ بيسان الشيخ

 

 

تشكل «داعش» اليوم للمنطقة العربية، ما شكلته سابقاً «القضية الفلسطينية» لعقود طويلة من شماعة تعلق عليها الأخطاء، وتمرر عبرها التجاوزات، وتتذرع بها الأنظمة لإطباق قبضتها على الشعوب والمجتمعات، بموازاة تقديم الأخيرة نفسها كبديل وشريك وحيد في أي تحالف دولي ناشئ لهذا الغرض. وفيما تغذت «الشماعة الفلسطينية» من مشاعر التعاطف الشعبي حيالها وأحقية القضية وعدالتها، تتغذى الشماعة «الداعشية» اليوم من الخوف الذي تخلفه ممارساتها، ومن قدرتها الهائلة على منافسة الأنظمة نفسها في بسط النفوذ والعنف واستعراضهما، من دون أن يلوح لها أي سقف أو رادع.

وإن كانت الأولى تحرص على تقديم صورة براقة لذاتها فتخفي التعذيب والقتل والحرق في الأقبية المظلمة، وقد تخضع أحياناً لضغط خارجي أو دولي، فإن الثانية تبـني ســمعتها وتعزز جبروتها بنشر هذه الصورة الدموية وتعميمها.

وكما عاشت مجتمعات كاملة تحت قوانين طوارئ غير مبررة، وكمت أفواه المعارضين أو حتى المطالبين بالحدود الدنيا من الحقوق الاقتصادية والسياسية وامتلأت السجون بهم بذريعة أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، التي لم يتم خوضها أصلاً، يعاد السيناريو نفسه اليوم في بلداننا ولكن بصيغة محدثة تتناسب و»البعبع» الجديد.

وكما أوهمت الأنظمة السابقة آباءنا بأنها تقاتل إسرائيل شر قتال، وأن صلاتهم المقبلة ستقام في القدس لا محالة، فتراهم بعد أربعة عقود أو أكثر من الانتظار والمهانة والفشل، جيلاً مكسوراً «ممانعاً» لا لشيء سوى لحفظ ماء وجه السنين، يأتي ورثة تلك الأنظمة ليقنعوا الأبناء بأن الحرب الشعواء على «داعش» انطلقت بلا هوادة وأنه يكفي تحمل بعض «المشقة» للقضاء عليها. مشقة تعني التغاضي عن حقوق كثيرة، ومطالب خرج بل مات لأجلها آلاف البشر.

هكذا صدر في مصر أخيراً حكم بالمؤبد على 300 ناشط سلمي مدني «علماني» في مقتبل العمر ممن شاركوا في ثورة يناير، وكانوا أول من عارض حكم الإخوان بعد انتخاب محمد مرسي رئيساً. وصدرت أيضاً أحكام بالإعدام على مئات المعارضين الآخرين بتهمة الانتماء إلى مجموعات متطرفة تمتد مروحتها من الإسلام السياسي المعتدل لتصل إلى تشكيل خلايا «داعشية». يضاف إلى هذا السجل «الإنساني» حجز طلاب وتوقيف صحافيين، وإطلاق يد آخرين للتشهير وتشويه السمعة ونشر الإشاعات، وإفلات أجهزة الأمن و»بلطجيتهم» من العقاب. وجاءت الأحداث الأخيرة في سيناء وغيرها لتدعم هذا المسلك وتمنحه شرعية شعبية وتفويضاَ كاملاً، علماً أنها كانت النتيجة الطبيعية والمعروفة مسبقاً من إقصاء قطاع كامل من الشعب المصري وتحويله إلى العمل السري، وبالتالي العنفي.

وبدرجة أقل ربما، لكن على القدر نفسه من قابلية الاشتعال، يعيش لبنان حالة طوارئ غير معلنة، متخبطاً بين جبهة مفتوحة مع إسرائيل في الجنوب لا يعلم غير «حزب الله» متى تندلع، وجبهة نازفة مع سورية في الشمال الشرقي يقتل فيها جنود وتحمل أكفانهم إلى ذويهم من دون أن يكون في البلاد رئيس أو سلطة أقله لتعلن الحداد الرسمي على أرواحم. وتزامناً، وبذريعة محاربة «داعش» و»النصرة» تجرى مداهمات أمنية عنيفة لأحياء فقيرة وتهدم منازل وتقع اعتقالات عشوائية، ويطرد اللاجئون السوريون بتهمة أنهم بيئة حاضنة للتطرف. ويبقى الأهم في هذا السياق تجديد الضوء الأخضر الممنوح لـ «حزب الله» في اتخاذ قرار السلم والحرب عن اللبنانيين أجمعين، بحجة أنه كان حكيماً ومبصراً حين اعتمد مبدأ «الضربة الاستباقية» في قتال الإرهابيين في سورية قبل أن يصلوا إلينا.

هذا، وفي سورية نفسها نجح بشار الأسد نجاحاً مبهراً في فرض نفسه بديلاً وحيداً عن «داعش» لدى شرائح واسعة من السوريين بالإضافة إلى المجتمع الدولي الذي رأى فيه حليفاً مقبولاً للقضاء على سرطان بدأ يتفشى في بلدانه أيضاً. وكما تمكن والده حافظ قبله من جعل سورية ورقة تفاوض أساسية في المنطقة، ممسكاً بخيوط السياسة والأمن في البلدان المجاورة، ها هو الابن اليوم يسحب اعترافاً أميركياً بأنه وإيران في خندق الحرب على الإرهاب، وأن «المسائل الداخلية» يمكن حلها بالتفاوض لدى «الشريك الروسي». لم لا وكل نزاع ينتهي عملياً إلى طاولة مفاوضات؟ وللأسف يبدو أن الأسد اليوم قد يفلت كما أفلت سلفه من العدالة وتذهب المجازر والأرواح وخرق القوانين الدولية أدراج الرياح أمام أولوية قصوى، هي القضاء على «داعش». وعلم الأسد مبكراً أن الإدارة الأميركية الحالية ليست إدارة حرب، وأن كل دقيقة لا تقصفه فيها طائرات حلف الأطلسي، هي وقت مكتسب ليسمن الوحش ويطلقه ثم يساعد في القضاء عليه.

وغني عن القول إن «داعش» صيغة مشابهة للأنظمة بعباءة دينية. فهي أيضاً وفي سياق قطعها الأيدي والأرجل والرؤوس، تقنع مناصريها بأنها تحارب الطواغيت ولا بديل عنها في ذلك.

ففي فلسطين، القضية المحورية الأولى، تجرأ نائب من حركة «حماس» التي يعاني فلسطينيو غزة من ظلمها وفسادها، تجرأ على التصريح أخيراً أن «داعش مسلمون ولا يجوز أن نقف مع أعداء الله ضد أهل الله». وبعد أقل من 24 ساعة، دعا عضو المكتب السـياسي للحركة محمود الزهار إلى التعاون مع «حزب الله» وسورية (التي طردت منها الحركة) «لتشكيل مجموعات عسكرية في مخيمات اللاجئين الفلـسطينيين… لمقاومة العدو وتحرير فلسطين». حلل وناقش.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى