بكر صدقيصفحات سورية

استخدام الإسلام في الثورة السورية وحولها

 

بكر صدقي

بلغ استخدام الإسلام في الثورة السورية وبمناسبتها، وليس فيها وحدها طبعاً، درجة من الابتذال بات ضرورياً معها أن يرتفع صوت إسلامي عاقل ليطالب بالكف عن هذه المهزلة وتنزيه الدين عن صراعات الدنيا ومباذلها.

نظام بشار الأسد الذي تقصف قواته مآذن الجوامع “يتصدى” إعلامياً لمعارضيه الإسلاميين “دفاعاً” عن “إسلامٍ صحيح” يعني عنده استمراره المستحيل في حكم السوريين، وخضوع هؤلاء لاستبداده الفاشي كما في عصر “إلى الأبد” السعيد الذي مضى بلا رجعة. ولم يرف لمفتي هذا النظام “العلماني وحامي الأقليات” جفنٌ وهو يدعو إلى الجهاد دفاعاً عن ولي نعمته، واصفاً هذا الجهاد بفرض العين. الأمر الذي لم يخدش، بالمقابل، حياء “مفتيه العلماني” الذي يتوجس من الجوامع وهتافات التكبير. وما زال حزب الله يستقبل جثامين مقاتليه الذين يقضون في “مهمات جهادية” داخل الأراضي السورية.

و”الجماعة” صامدة صمود الجبال أمام كل نقد سياسي يوجه إليها، كما جاء في بيانها التوضيحي قبل أيام، معتبرةً “ثورتها” في مطلع الثمانينات “ثورة كل السوريين” غاضةً الطرف عن توريط طليعتها المقاتلة لها، كما كانت تحاجج المعارضة غير الإسلامية منذ أيام “ميثاق الشرف” مطلع الألفية الجديدة، هاربةً دائماً من واجبها في نقد تلك التجربة الدموية التي كلفت سوريا، فوق دماء ضحايا النظام، تغوّل أجهزة مخابراته التي حولت سوريا إلى مقبرة صامتة طوال العقود التالية، مما مهد الطريق أمام مؤسس النظام لتوريث حكمه لابنه “بسلاسة”.

أما جبهة النصرة التي لا تتوقف عن تعميق الحفرة السوداء التي تواصل الغرق فيها، فقد هربت من “دولة العراق والشام الإسلامية” التي أعلنها أبو بكر البغدادي من طرف واحد، فوقعت “بسلاسة” في شرك أيمن الظواهري، ممهدةً الطريق أمام انتعاش رهاب الإسلام وربما إعادة تفعيل الحرب الأميركية على الإرهاب. وفي طريقها إلى هذه الهوة العمياء، تلوثت مهماتها المقدسة بمواضعات الدنيا، فانخرطت بهمة عالية في محاولة تدجين سكان مناطق سيطرتها في قوالب، قامت الثورة السورية أصلاً لتحطيمها وعلى تحطيمها. لن تفهم “النصرة” وأمثالها أنها، مهما فعلت أو ادعت، لن تعدو كونها طائفةً إضافية صغيرة بين الأقليات الطائفية المتمحورة حول هوياتها الذاتية الضيقة.

ما يسمى بالـ”هيئات الشرعية” تفتقد أكثر ما تفتقد للشرعية. فقد فرضتها قوى الأمر الواقع المسلحة، فكانت “شرعيتها” مستمدة من السلاح، كحال حزب الله اللبناني، أكثر مما من السماء أو الشعب. واقتدت في الممارسة بأجهزة المخابرات الأسدية، إذ تكفي وشاية كيدية من كائد لإعدام أي شخص سيء الحظ.

يبقى أن الجهة الأكثر استخداماً للإسلام، هي “المجتمع الدولي”: الولايات المتحدة والدول الأوروبية بصورة خاصة. فهي تحذو حذو نظام دمشق في التطيُّر (المتعمَّد) من الأشباح فتساهم في خلقها، ثم تعود فتتذرع بها بعدما تحولت كوابيسها الوهمية إلى حقائق على الأرض. لا شيء يتصدر إعلام هذا المجتمع الدولي (والعربي في أعقابه) اليوم أكثر من أخبار البغدادي والجولاني والطرطوسي، ولا شيء تتناوله “عواصف الفكر” الغربية اليوم أكثر من التكهنات بحجم جبهة النصرة أو نسبة الأجانب أو عدد البريطانيين في صفوفها، أو كيف يمكن احتواء السلفيين الجهاديين بدعم المسلحين “العلمانيين”.

وفرة من المؤتمرات وورشات العمل والخطب والتحليلات حول الإسلام والتطرف والجهاد، يعرف أصحابها أنها لن تمنع إطلاق صواريخ السكود على المناطق الآهلة بالسكان، ولن توفر الطعام والمأوى لملايين اللاجئين والنازحين، ولن تكافح انتشار الأوبئة في المدن السورية المنكوبة، ولن توقف الشبيحة عن ذبح الأطفال واغتصاب النساء، ولن تردع أجهزة المخابرات عن تعذيبها السادي للمعتقلين قبل قتلهم مكبلي الأيدي وإلقاء جثثهم في الشوارع والحدائق والأنهار.

الإسلام، قبل كل هذا وبعده، فضاء ثقافي وحضاري عام، ليس من حق حزب أو جماعة أو أشخاص مصادرته أو ادعاء النطق باسمه، يملك العلماني فيه حصةً لا تقل أو تزيد عن حصة الإخواني أو السلفي. لا تمنح المزاعم الإيديولوجية الإسلاميَّ حقاً للحكم على الآخرين. بل العكس هو الصحيح: تفرض عليه تلك المزاعم، بأكثر مما تفرض على غيره، أن يحترم الإسلام فينزهه عن مصالحه الدنيوية ومطامعه السلطوية ومعاركه الصغيرة.

وعلى القوى الدولية الفاعلة أن تنظر في المرآة كل يوم قبل الحديث عن التطرف كما لو أنه صفة جوهرية ملازمة للإسلام كدين وللمسلمين كعرق.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى