صفحات الثقافة

راؤول سوريتا: لِمَ يعانقونني في الأمسيات؟/ غدير أبو سنينة

 

 

في الحفل الذي أقامته له جامعة أليكانتي في إسبانيا، لمنحه دكتوراه فخرية يوم 5 مارس/ آذار 2015، كان من الطبيعي أن يجيء خطاب الشاعر التشيلي راؤول سوريتا خجلاً؛ وأن تكون كلماته متقطِّعة، ليس فقط بسبب إصابته بمرض الباركنسون، بل لأن سوريتا نفسه مرَّ بلحظات صعبة في حياته جعلته يفكِّرُ في معاقبة نفسه، وكأنَّه المسؤول عمّا يحدث في العالم من جرائم، وخصوصاً في بلده تشيلي الذي ارتكب فيه العسكر بقيادة بينوتشيه جرائم يعجز البشر عن تخيُّلها.

رغم ذلك، لم تفقد كلماته الخجلة والمتأرجحة وزنها، إذ قال: “ما زال الفكر نافعاً كي لا ننسى أمراً أساسيّاً هو أنَّنا بشرٌ ولدوا متساوين. وليذكِّرنا أننا كائناتٌ تستطيع أن تحسّن من ظروفها”.

الشاعر الذي عانى من رطوبة مخازن مصانع النبيذ المستخدمة كسجون في زمن حكم بينوتشيه الديكتاتوري، يعلم جيداً الاختلافات بين أميركا اللاتينية اليوم والأمس.

ورغم الشهرة التي حظي بها بفضل أشعاره، والتكريمات الكثيرة التي حصل عليها، كجائزة “بابلو نيرودا” للشعر وجائزة “بيريسلي دي أورو دي كالابريا” الإيطالية، و”الجائزة القومية للأدب التشيلي”، إضافةً لاعتبار النقاد له كأقوى صوتٍ موجودٍ الآن في القارة اللاتينية. إلّا أنَّه لا يُديرُ ظهره للأحداث التي تجري في القارة، ولا يتحدَّثُ عنها كَمُنَظِّرٍ، أو كمن يراقب من بعيد، بل كمشتركٍ ومتأثِّرٍ بها بشكل مباشر.

لقد وصف ما يجري في القارة بالـ “كارثيّ”، وتابع: “في تلك الفترة، عانت كل بلدان أميركا اللاتينية من الديكتاتورية، واليوم هي أفضل دون شك. لكن يكفي ما يجري في المكسيك من حوادث وحشية، كي نقول إن الأمور تجري بشكلٍ سيئ”.

ينتقد سوريتا الليبرالية الحديثة بوصفها “متوحشة”، ويشير لعدم التكافؤ الموجود في تشيلي بسببها، ويبدي قلقه إزاء عدم الاستقرار المتصاعد في فنزويلا، دونما تعصّبٍ لأفكاره اليسارية التي ما زال يؤمن بها.

كما كشفَ سوريتا في الخطاب ذاته بأنه قارئٌ سيئء لنفسه، وأنّهُ فضولي لمعرفة الآراء الحقيقية لأولئك الذين يثنون عليه ويعانقونه في الأمسيات الشعرية.

وُلد راؤول سوريتا في سانتياغو تشيلي عام 1950. تخرّج من ثانوية لاستاريا، وبدأ دراسة الرياضيات في الجامعة، لكنه سرعان ما ترك دراسته ليكرّس نفسه للأدب ثم يدرس الهندسة المدنية في جامعة فرانسيسكو دي سانتا ماريّا في فالباراييسو ما بين الأعوام 1967 و1973، العام الذي تعرَّض فيه للقمع والاعتقال إثر الانقلاب العسكري في تشيلي على يد أوغستو بينوتشيه.

سنة 1982، كتب ديوان “تطهير ما قبل الجنة”، وبه جرعة زائدة من الألم المنبثق من العذاب الذي عايشه في السجن. بعد فترة، غادر تشيلي لتدريس الأدب في جامعة كاليفورنيا.

بدأ سوريتا كتابة الشعر خلال فترة دراسته في الجامعة من خلال مجموعة مثقفي “فينيا دل مار”. ولأن حياته لم تنفصل أبداً عن وجع الإنسان، وحضور المشهد التشيلي من المحيط الهادئ وجبال الإنديز حتى صحراء أتاكاما، فقد وضع حياته المهنية على الهامش.

ترك سوريتا نفسه تعيش على وقع جنون وإحساس بالذنب. ورغبةً منه بالتمرَّد على واقعٍ مؤلم، حاول أن يحرق وجهه، وأن يُعميَ عينيه من خلال إلقاء أمونيا عليهما. عام 1984، نشر “نشيدُ حبِّه المفقود”، التي تعتبر ملحمةً تشيليَّة معاصرة.

بفضل منحة حصل عليها من “مؤسسة الإنديز” أقام لمدة عامين بين تيموكو وكويهايكي؛ حيث كتب هناك عملاً جديداً كان أبطاله أنهار تشيلي؛ وهناك تعرّف إلى العديد من الشعراء المابوتشيين، السكان الأصليين في تلك المناطق، واطَّلع على ثقافتهم.

كتبَ قصائد في سماء نيويورك بدخان صادر عن طائرات؛ وفي صحراء تشيلي سجَّل بيت الشعر “بلا خوف أو وجل” يُمكن أن يقرأ من السماء.

خلال أكثر من ثلاثين عاماً من الإبداع الشعري، تمكنت أعمال سوريتا من أن تكون مرآة لتاريخ وجغرافيا تشيلي. من بين أعماله: “عظةُ الجبل” (1971)، “المناطق الخضراء” (1974)، “ما قبل الجنة” (1982)، “نشيد حبه المفقود” (1985) وآخر أعماله بعنوان “INRI”.

هذه الجبال الضائعة في تشيلي/ راؤول سوريتا

 

نشيدُ الأنهار الأوَّل

 

إنّهُ الحبًّ.. هذا هو الحبُّ

بل هذا هو الحبُّ..

 

إيه.. هذا هو الحبُّ الذي بكيْناهُ كثيراً

تتباعدُ الأنهارُ المُتحابَّةُ… وهي تُغادر

 

المجرى في الأسفل.. يلقي بنفسه على المروج التي كانت تبكي وهي تُشاهد نفسها..

تقول الأنهارُ التي كانت تنادي الجبال وتجرِفُها:

نحنُ الجبالُ التي بكت حين رَأَتْ نَفسَها.

 

عاصفة.. خلف المروج الطويلة التي كانت ترفعها الريح.. الذين حملوا لنا ألم هذه الجبال سيرحلون وهم يتحدَّثون عن مروج السماء الشاسعة.. نحن جميعاً رعاةُ هذا العالم تردُّ الأنهار المُتحابَّةُ.. منفتحة.. ملقاة.. مُنكسرة

 

 

حِوار تشيلي

 

سترى بحراً من الأحجار

سترى أُقحواناً في البحر

سترى إلهاً من الجوع

سترى الجوع

سترى أشكالاً تُشبه الزهور

سترى صحراء

سترى البحرَ في الصحراء

سترى بُغْضَكَ

سترى بلداً من العَطَش

سترى منحدراتٍ من المياه

سترى أسماءً متسرِّبةً

سترى العَطَش

سترى قليلاً من الحُبِّ

سترى زهوراً تشبه الأحجارَ

سترى عيونهم منسلَّةً

سترى قِمَماً

سترى أقحواناً على القِمَمِ

سترى يوماً أبيضَ

سترى أنّه سينتهي

سترى اللارؤية

وستبكي

 

 

صحراءُ أتاكاما 3

 

1 – صحاري أتاكاما زرقاء

2 – صحاري أتاكاما ليست زرقاء

 

والآن قل لي

ماذا تريد؟

 

3 – صحاري أتاكاما ليست زرقاء لأنَّ روح يسوع المسيح الذي كان ضائعاً، حلَّقت هناك.

4 – ولو أنَّ صحاري أتاكاما ما زالت زرقاء فمن الممكن أن تكون الواحة التشيلية كي ترى أركان تشيلي بفرحٍ من الهواء، سهوبَ صحاري أتاكاما الزرقاء وهي مشتعلة

 

 

صحراء أتاكاما 4

 

1 – صحراء أتاكاما مُروجٌ نقيَّة

2 – انظروا لتلك الخراف وهي تركض في مروج الصحراء

3 – انظروا لنفس الأحلام، ثُغاءٌ فوق هذه السهول الشاسعة

4 – وفيما لو لم يُسمع ثغاء الخراف في صحراء أتاكاما، نكوّن نحن إذاً مروج تشيلي ليسمع ثغاء أرواحنا في هذه الصحاري المقفرة البائسة في كل الفضاء، في كل العالم، في كل الوطن.

 

 

صُعودُ المحيط الهادئ

 

المحيط شامخٌ

وحدقاتنا كانت تشاهد الأعجوبة

دون أن تصدِّقَها

سمعنا من جديد الصخور، والجزر اللانهائيَّة تصعد مثلما النجوم إلى السماء

هناك الباسيفيك الرجل، هناك، فوق رؤوسنا

وأنت لا تصدِّقين

وعيناكِ تبكيان

ولا تستطيعين فهم لماذا

وعيناكِ تبكيان كلَّ ما نحبَّ من البحر

 

كلُّ ما نحبُّ هو البحر

أميركا هي بحرٌ باسمٍ آخر

 

 

اخضرارُ الفجر

 

تبكي أرضُ تشيلي كلُّها المروجَ الصفراءَ التي تضيعُ في وسط الليل دون نورٍ مع كل هذه السهوب تنادي المروج الجديدة فجراً

 

1 – وماذا لو افتدينا أنفسنا وكنّا مروج الفجر

2 – ماذا لو استيقظنا ووجدنا أنفُسَنا في وادٍ.

3 – ماذا لو أحْيا الفجرُ الأودية الميتة في تشيلي، بالنور.

 

لأنَّ مروج تشيلي تُخلق مُفعمةً بالنور، والأموات إذاً سيبدؤون يومهم بالضحك عبر سهوب الفجر وهم يلمعون ويغنون أغنية “المولودة من جديد”

 

4 – الكلُّ سيعلم بهذه الطريقة لماذا يضحك الفجر

5 – وهكذا ستصحو تشيلي كلها كي تُبعث مع أمواتها

6 – الكلُّ سيعرف إذاً إن كان سيطلع نهارٌ جديدٌ على تشيلي

 

لأننا حين نستيقظُ سنتمكن من أن نكون النهوض الذي يَضحكُ في تشيلي والمروج، المبعوثة الأخيرة من هؤلاء الأموات في فجر مُنيرٍ خلف الأنديز، تُبَرْعمُ كاخضرار الفجر.

 

 

تسجيل 178

 

تحدِّثكَ الآن صخور حياتك المُحطَّمة

تحدِّثكَ عن مُدنِ إيثاكا الزائفة

عن حطام السفن في الشواطئ البعيدة

عن تعبكَ الذي يطويك على الأمواج

يقولون لك إن نهاية الأرض هناك

والبحر ينهار هناك، وإن السفن ما عادت أبداً

تحدّثكَ في ليلك المقرّب، المخاوف

 

لتبدو إذاً كشيءٍ يوقظ هذه القصائد كشيءٍ بك، كشيءٍ يجتازُ البحر وينهض.

 

 

سوريتا

 

كما في حلم، حينما كان كلُّ شيءٍ ضائعاً

قال لي سوريتا إنه كاد أن يُنزِل الشراع لأنَّهُ شاهد نجمة في عمق الليل.

ولذا، متكوِّراً مقابل قعر ألواح القارب

بدا لي أن النورَ أشعل من جديدٍ عيوني المطفأة.

كان ذلك كافياً.

وشعرت بالنعاس يجتاحني

 

 

سلسلة جبال دوتشي

 

مقابل سلسلة الأنديز

من الجهة الغربيَّة كالليل

تتقدم سلاسل جبال دوتشي

 

1 – ليست بيضاء سلاسل جبال دوتشي

2 – لا يستطيع الثلج أن يغطّيَ جبال الغرب.

 

موقوفون أمام سلسلة جبال الأنديز ينتظرون كَحَبْلٍ أسوَد صعودها الأخير في الغرب، وحيدة، مُتجمِّعةً خلف الليل

 

3 – لأنهم كادوا يتجمَّعون مقابل الأنديز كليلِ الغرب

4 – لهذا فالثلجُ لا يغطِّي سلاسل جبال دوتشي

 

قممها هي ليلُ الجبال

محاطة بالسواد أمام ثلج تشيلي كما لو أن الثلوج لم تكن شيئاً آخر سوى أشواك تجرح الليل

وهكذا وضعوا تاجاً ينزف دماً من الأنديز

 

5 – لهذا، من الدم كان الثلج الذي توَّجَ القمم الإنديزيّة

6 – لأن الموت فقط كان تاجاً أحاط الأفق بالدم

 

7 – وهكذا والجميعُ مُتوَّجٌ، رأوا سلاسل دوتشي الجبلية مطوِّقةً تشيلي نازفةُ كعلم أسوَد ملتفٍّ من الجهة الغربيَّة

حتى لو لم يكن سوى كيميرا*

 

1 – ومن سيقول إن كانت ستخضرَّ السهوب من جديد

2 – ماذا لو غنَّت المروج خُضرتها من جديد

لأنَّ من سيقول إن كانت المحروقةُ منها ستزدهر في الوديان، والوديان ستزدهر في تشيلي فسيغني الجميعُ إذا مجداً سيُبهر مشاهد الطبيعة: كيميرا هذه المروج

 

3 – ستزدهر تشيلي هكذا والكيميرا تحلِّقُ فوق المروج.

4 – سيُرى الجميع وهم يستمعون للمجد الذي غنُّوه عبر السهول. لأنَّهم سيُشاهدون وهم يموتون مغطين الأودية مثل كيميرا تغطِّي هذه المشاهد: نشيدُ السهول.

5 – ستُسمع تشيلي إذا نشيدَ مروج السهول

6 – حتى الحجارة سوف تتعانق هناك وتُفتنُ ببعضها في المروج

7 – ومن سيقول إذاً إنَّ مروج حياتنا لن تزدهر من جديد حتى لو لم تكن سوى كيميرا تغني مجد سلاسل الجبال.

 

* الكيميرا: كائن خرافي مرعب

 

 

سلاسل جبليَّة

 

كان المساء قد حلَّ حينما أَمسَكَني من كتفي

أمرني:

“اذهب واذبح لي ابنك”

هيَّا – أجبتُه مُبتسماً – هل تشدُّني من شعري؟

“حسناً، إن لم تُرِدْ ذلك فهذا شأنك، لكن تذكَّر من أنا، كي لا تشتكي فيما بعد:

ولهذا – سمعتُني أُجيبُهُ – وأين تريد أن أرتكبَ هذه الجريمة؟

وبهذا، كأنَّما كان عواء ريح تُحدِّثُ نفسها، قال:

“بعيداً في هذه السلاسل الجبليَّة الضائعةِ في تشيلي”.

ترجمة عن الإسبانية: غدير أبو سنينة

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى