صفحات الثقافة

تحليل جماعي أكثر موضوعية؟

 

محمود الحاج

يقع الحدث. دقائق، وتنهال عشرات التعليقات عليه في “فايسبوك”. تعليقات تختلف غالبيتها في وجهة النظر إلى هذا الحدث، تبعاً لاختلاف الإيديولوجيا، بطبيعة الحال. فعل الكتابة هذا، على الموقع الاجتماعي، يضعنا أمام نوع من عملية إنتاج مادة جماعية، كلّ يشارك فيها من موقعه. وإذا ما جمعنا العميق والرصين من هذه التعليقات، ونسّقناه على نحو منطقي، فإننا، ربما نحصل على تحليل موضوعي، أو فلنقل: مقالة أكثر موضوعية من المقالات التحليلية التي ينشرها معلقون في الصحف، كلّ على حدة.

لا يعني كلام مثل هذا أن معلّقي الصحف ليسوا موضوعيين بالضرورة. لكنهم، ككل الناس، يكتبون ما يفكرون به. والعقل، الذي يستندون إليه حين يكتبون، يعمل على تجنب ورفض الأفكار التي لا تتفق مع معتقداتهم. يشتغل العقل على إرضاء صاحبه، من خلال استعراضه أفكاراً تتلاءم مع ميول الشخص وإيديولوجيته، وفي المقابل، كبته تلك الأفكار التي لا يحبذها الشخص في اللاشعور. وكتابة التعليق السياسي حالة شعورية، لارتكازها على وقائع، على عكس الشعر، مثلاً.

يمكن تشبيه حالة كتابة المقال، بالبحث في محرك “غوغل”. فعندما تكتب في شريط البحث كلمة ما، يقترح لك المحرّك كلمات مشابهة، أو مكمّلة وداعمة، لما تريده. وعلى هذا النحو تماماً يعمل العقل (أصلاً، أنشئ “غوغل” بناء على هذا الأساس). إذ عندما تتحضر لكتابة مقالة عن الثورة السورية، التي تناصرها أو تناهضها كشخص، فإن عقلك سيستدعي أفكاراً “ترضيك”، وتتناغم مع ما تكتبه، في الوقت نفسه.

وفي سياق التطور الطبيعي لهذه الحالة، فإن المعلق، غالباً، سيتجه إلى نشر مقاله في الصحيفة التي تتفق مع معتقداته. وهنا يتجلى اختلاف آخر، في مقارنة “الكتابة الجماعية” على “فايسبوك” بتلك الفردية في الصحف. إذ يتيح الموقع الاجتماعي لمستخدميه/ كتّابه، على اختلافاتهم، أن يفعلوا ما يريدون، من دون النظر إلى إيديولوجياتهم أو مناصبهم في الحياة، في حين تشتغل الصحف على نحو معاكس تماماً. وبناء على ذلك، تتفوق “الكتابة الجماعية” على تلك الفردية، لما فيها من مناقشة وتحليل لمختلف وجهات النظر، ولاستيعابها العدد الأكبر من المعلقين، وإن كان “فايسبوك” لا يفعل ذلك “لسواد عيون” مستخدميه، بل بهدف الربح والبحث عن أكبر عدد منهم.

كما أن “البيئة الاجتماعية” التي يقترحها الموقع لمستخدميه، تجعل التطرّف الفردي صعباً، أو “خاسراً”، في ميزان “الحياة الفايسبوكية”، التي يمكن القول إن فردوسها يُختصر بكثرة الأصدقاء واللايكات، وتالياً، “الاحترام” المتبادل مع الآخرين. وهذا ما يفرض توجه المستخدم إلى الظهور في صورة مثالية أمام الآخرين. أي أن المستخدم/ الكاتب، يفكر بعمق، ويعيد مناقشة حساباته، قبل أن يكتب تعليقاً يزعج أصدقاءه الذين ينظرون إلى الحدث الذي يكتب عنه من وجهة نظر معاكسة.

هكذا، ستتصف غالبية تعليقات الفايسبوكيين، النخبويين خصوصاً، باتزان ومراعاة للآخر، أكثر من الاتزان والمراعاة اللذين قد يتمتع بهما الشخص في حياته العادية، والمعلق الصحافي في مقاله. ربما يفترض ذلك، في حالات معينة، ديموقراطية إلكترونية، وهمية، لا أساس لها في الواقع؛ إلا أن وصول “فايسبوك” وغيره من المواقع الاجتماعية، إلى الحياة الواقعية، و”نجاحه”، مثلاً، عقده صداقات واقعية بين كثيرين، قد ينقض هذا الافتراض.

أما على المقلب الآخر، فيتعامل المعلق الصحافي مع قراء مجهولين لا يؤثرون على طرحه رأيه، وقراء معروفين هم غالباً أصدقاؤه ومتابعوه الذين يتفقون معه أساساً، وتالياً، لا يؤثرون أيضاً على آرائه التي كانت سبباً للمتابعة. يُضاف إلى ذلك، أن المعلق الصحافي، غالباً ما يكون شخصاً له مكانته، ولن تفرد له صحيفة معروفة مساحة ليكتب بها لو لم يكن كذلك. وهو، بناء على ذلك، غير باحث عن عدد كبير من الأصدقاء، ولا اللايكات والمحبين، كما يفعل المولودون حديثاً في “المجتمع الفايسبوكي”.

وعلى هذا، يكتب المعلق رأيه، بعد سنوات طويلة شكل فيها “مملكته” الخاصة، بما فيها من جمهور خاص، وحاشية من المتابعين الخاصين. أما المعلق الفايسبوكي، فيكتب بوصفه واحداً من كلّ، أو صورة واحدة في ألبوم واسع من الصور المتشابهة افتراضياً، حتى ولو كانت متنافرة أو مختلفة واقعياً.

يمكن العودة إلى المقالات الفردية والتعليقات الفايسبوكية حول اقتحام تكوينات من المعارضة السورية المسلحة مدينة رأس العين شمال شرق سوريا، بوصفها مثالاً لما تريد هذه المقالة إيصاله.

ويبدو نافلاً القول، في هذا السياق، إن المقالات التي علقت على الموضوع، في الصحافة، بدت متطرفة أكثر من التعليقات التي كبتها عرب وكرد في الموقع الاجتماعي، حول القضية نفسها. المجتمع الفايسبوكي فرض معاييره إذاً. كان ثمة لغة حوارية، لدى الأكراد، في شرح حساسية المنطقة. حتى أنهم راعوا ذلك لغوياً، عندما سمى بعضهم رأس العين باسمها (العربي) نفسه، على الرغم من أن “العقل الجماعي الكردي” يرفض ذلك، وينحو إلى تسميتها “سيري كانييه”. بعض الأكراد كتب، “سيري كانييه” أيضاً، ووضع “رأس العين” بين قوسين، لإيضاح التسمية لمن لا يعرف من العرب، وهو بذلك، أيضاً، لا يتطرف، بل يعترف بالآخر.

في المقابل، استبسل معلقون عرب، من النخبويين خصوصاً، في نقد خطوة المسلحين بقصف ومهاجمة المكونات الكردية في رأس العين. وقد أتاح الحدث، أن نعرف عن بعض المعلقين ما لم نكن نعرفه، كأن يخبرنا أحدهم أنه مكوّن من “نصف عربي ونصف كردي”، وأن ذلك يدفعه إلى الحيرة، لكن لا يمنعه من نقد المعارك، التي يُفترض أن تكون في مكان آخر: مع النظام، في دمشق أو حلب.

أما في الصحف، فقد وقعنا على كتابة إيديولوجية من الجانبين اللذين نشر كل منهما آراءه في الصحيفة أو الموقع الالكتروني الذي يتفق معه. وغالباً، إذا ما تخيلنا ذلك، لم يفكر المعلق الصحافي بعمق في الأفكار المعارضة لطرحه أو الأقل تطرفاً منه. وهو، في هذه الحالة، لم يناقش موضوعه من شتى جوانبه، ولم يقلبه يميناً ويساراً، قبل إرساله إلى الصحيفة أو الموقع الالكتروني. المواد الصحافية القليلة التي تناولت الحدث العربي/ الكردي بعمق وشمولية، لم تكن مقالات، بل أخباراً، تتناول الحدث من مختلف الزوايا، مرفقةً بتصريحات من وجهات نظر مختلفة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى