صفحات العالم

في أننا نعيش عصر الإنحطاط/ مصطفى زين

 

 

من مقدمة إبن خلدون هذا النص: «في أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الخراب، والسبب في ذلك، والله أعلم، ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرُها عليها وصارت بالإستعباد آلة لسواها وعالة عليهم فيقصر الأمل ويضعف التناسل. والإعتمار إنما هو عن جِدّ ِالأمل وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية. فإذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبية ذاهبة بالغَلْبِ الحاصل عليهم تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم بما خَضَدَ (كسر) الغَلْبُ من شوكتهم فأصبحوا مُغلَبينَ لكل مُتَغَلِب وطَعمة لكل آكل سواء كانوا حصلوا على غايتهم من الملك أم لم يحصلوا».

لننظر إلى بلدان المشرق العربي والعراق. على ضوء هذا المفهوم الخلدوني للتبعية نلاحظ أن هذه البلدان بعيدة كل البعد عن مفهوم الأمة. وقد فشلت الدولة الوطنية الحديثة في تكوين هويتها أو شخصيتها المستقلة. في ظل هذه الدولة نمت شخصيات متعددة، بعضها طائفي، وبعضها إثني (الأكراد والتركمان مثالاً). وما زالت هذه التجمعات، على رغم اشتراكها في متحد واحد، قيد التشكل والإنتظام في مؤسسات مدنية تهتم بشؤونها الجمعية، بدلاً من الإهتمام بشؤون الحاكم، أي التحول إلى المواطنة، وليس البقاء مجرد رعية تطيع الحاكم أو زعيم الطائفة الخاضع لإرادة الخارج، مثلما عليه هو طاعة من في يده بقاؤه في الحكم، بعدما غُلب على أمره، وأصبح خاضعاً «لكل مُتغَلِبٍ».

في لبنان، على سبيل المثال، لا يرى أي من متزعمي الطبقة السياسية، أي حرج في أن يرد سبب الفراغ الرئاسي، مثلاً، إلى عدم توافق الدول الإقليمية، والدولية، على شخص الرئيس لينتخبه نواب «الأمة». ويفاخر بعضهم في أن «شطارته» (إقرأ تبعيته) أمنت هذا «التوافق الدولي» الذي يمنع انفجار الحرب الأهلية. ونادراً ما تجد أحداً منهم يتكلم على إرادة دولة أو «أمة» أو شعب. حتى الطوائف تنتظر أوامر الخارج كي تنفذها، أي أن الدولة أصبحت «بالإستعباد آلة لسواها وعالة عليهم».

في سورية، وقد كشفت الحرب كل مستور، لم يبق طرف إقليمي أو دولي إلا تدخل، ليس في شؤون النظام فحسب، بل في شؤون المواطنين، بالسياسة حيناً وبالحروب معظم الأحيان. فأصبحت البلاد بلداناً، لكل طائفة أو إثنية كانتونها التابع لهذه الجهة أو تلك، وجيشها وإرهابيوها المتناحرون. وأصبح حل الأزمة سياسياً أو عسكرياً في عهدة دول تسعى إلى تحقيق مصالحها بدماء السوريين التي ترسم حدود نفوذ هذه الدولة أوتلك.

عن العراق، حدث ولا حرج. منذ عام 2003، أي منذ الإحتلال خضعت بلاد ما بين النهرين للأميركيين الذين بدأوا في اليوم الأول لدخولهم بغداد نهب التراث وتدمير البنى التحتية والمؤسسات، بما فيها مؤسسة الجيش. ساعدهم في ذلك عراقيون ابتاعتهم جهات خارجية فتفرقوا، مرة باسم الطائفة وأخرى باسم الوطنية، ومعظم المرات تحت شعارات الحرية والديموقراطية. وتبين بعد اثني عشر عاماً أن الحرية حرية الإرهابيين والفاسدين واللصوص الذين بديموقراطيتهم شكّلوا طبقة سياسية متناحرة، لا همَ لها غير الإثراء «المشروع» والمحافظة على دستور بريمر، والعودة إلى زمن «صحوات» العشائر التي أصبح وضع كردستان المحمية أميركياً مثالها الأعلى، والدولة المركزية عدوها الذي تهادنه بين الحين والآخر.

ولنعد إلى الحديث عن بلاد الشام. فلسطين التي نسيها العرب، وأخذها اليهود بـ «الغلبة» سلطتها خاضعة لقوانين إسرائيل وأرضها نهبة للمستوطنين القادمين من أصقاع الأرض، و»أقصاها» يتعرض لكل أنواع الإنتهاكات، وشعبها ممنوع من مقاومة الإحتلال بأوامر دولية وأخوية. وقد أصحبت نقطة انطلاق لتعميم «الغلبة» اليهودية.

أما البلدان التي لم تخضع للإحتلال المباشر فأكرهت على توقيع معاهدة سلام مع عدوها وهي الآن حليف له تنفذ ما يشاء، وتسعى إلى حمايته بكل الوسائل.

عاش إبن خلدون في عصر الإنحطاط. وما زلنا، بعد أكثر من ثمانمئة سنة، نعيش العصر ذاته.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى