صفحات مميزة

الاستفتاء الكردي في العراق والمسألة الكردية في سورية –37 مقالا-

 

على ماذا يراهن المطالبون بالتأجيل؟/ عمر قدور

مع أن نتيجة استفتاء إقليم كردستان لا تعني إعلان الاستقلال تلقائياً، كثرت المطالبات بتأجيله، بعضها ينطوي على رفض انفصال الإقليم نهائياً، وبعضها يتذرع بعامل الوقت والظروف. وبينما جبهة الرفض واضحة ومتماسكة، وهي تضم تقليدياً الدول الأربع المعنية بالقضية الكردية، لا تبدو جبهة المطالبين بالتأجيل واضحة تماماً، بخاصة مع ما تسرب عن عرض رئاسة الإقليم صفقة محددة للتأجيل، تتضمن إجراء الاستفتاء في حال فشل المحادثات مع حكومة بغداد بإشراف دولي.

يتوزع المطالبون بالتأجيل بين قوى دولية، تشمل كل القوى الوازنة، وبعض القوى الإقليمية غير المعنية مباشرة بالشأن الكردي، مع أصوات فردية غالبيتها في دول الوجود الكردي. هذا الاتفاق على التسويف فيه مراهنة صريحة على ترحيل قضية الإقليم إلى أجل غير مسمى، لكن المفاجئ فيه هو انسجام الآتين من نوازع متضاربة، ومن مواقع لا تخفي تبادل العداء الصريح. فالغرب الذي يطالب بالتأجيل متهم طوال عقود بدعم الأكراد، ولا نجد بين مُتّهِميه من يتساءل اليوم عن سر الاتفاق الحالي معه.

بتجاوز الموجبات الأخلاقية في المسألة الكردية، قد يكون ضرورياً فتح النقاش حول فوائد التسويف ومضاره من جانب المطالبين به في المنطقة. وسيكون مفيداً بالتأكيد تحري الأسباب الكامنة وراء المواقف الدولية الحالية، ما دام أصحابها يعملون وفق مصالحهم الخاصة ولو على حساب مصالح شعوب المنطقة، وفق المنطق البراغماتي ووفق النظرة السائدة في المنطقة. أي أن المطلوب، وفق هذا المنطق، عدم الارتياح إلى المواقف الدولية، وإنما وضعها تحت التفكر والمساءلة.

تفيد النظرة العامة السائدة بأن القوى الدولية ترسخ عوامل عدم الاستقرار في المنطقة، وتستخدم الأكراد كورقة لزعزعة الاستقرار. على ذلك، ينبغي التشكيك بقوة في مآرب التحفظات الدولية على الاستفتاء، فهي في مطلق الأحوال لا تتوخى الخير للأكراد أو خصومهم، بل تتوخى استمرار حالة الصراع التي يستفيد منها الخارج. القول أن القوى الدولية غير جاهزة الآن للتضحية بمصالحها مع أنظمة طهران وأنقرة وبغداد فيه مراهنة قصيرة النظر، إذ من المحتمل تغير خريطة المصالح هذه في أي وقت، وحينئذ سيُعاد استخدام القضية الكردية ضد أصدقاء الأمس.

تبدو مناقشة هذه النظرة أساسية، لا لصوابيتها الدائمة وإنما لأن ضمان استقرار المنطقة لم يكن دائماً في سلم الأولويات الدولية، وفي التاريخ القريب إدارة أميركية اعتنقت جهراً مبدأ الفوضى الخلاقة. وإذا كان من الصواب أيضاً استعداد الأكراد للتعاون مع قوى خارجية، وهذه ليست تهمة من وجهة نظرهم كما يروّج لها خصومهم، فالأمر يستحق وقفة أكثر تبصّراً إزاء مصالح شعوب المنطقة.

مما يُفترض ألا يقبله المنطق ذلك الإصرار العجيب على الاحتفاظ بالسيطرة على الأكراد، بينما سيستغلون أول فرصة للانفصال، أو سيكونون دائماً بمثابة قنبلة موقوتة تهدد الاستقرار الداخلي. هذا إذا نجح في الأمد القريب فليس مضموناً نجاحه على نحو مستدام، ما يعني تحديداً شراء مكاسب آنية بفائدة باهظة قد تترتب مستقبلاً، إذا كان من مكسب حقاً يتعدى أوهام السيطرة لدى العموم وأرباح الفساد لدى الطبقات الحاكمة في أكثر من بلد معني.

ويعلم الجميع أن استقلال الإقليم حاصل في الواقع، ومنذ فرض الحظر الجوي قبل نحو ربع قرن نشأت أجيال على ذلك الانفصال. الخوف من ترسيم هذا الواقع ربما يشبه حال المجتمع الذي يقبل العشيقة في السر ويخاف من ظهورها العلني، وهو يفيض إلى دول الجوار حيث تنتشر المخاوف من عدوى تصيب الأكراد فيها. تلك المخاوف تقول ما لا لبس فيه عن وجود مشكلة كردية لا تجد طريقها إلى الحل، ولا نية لحلها أيضاً، وقد لا يتوقف الأمر عند الأكراد فقط بوجود انقسامات مجتمعية أخرى. المُراد، بدل مواجهة تلك القضايا، كتمها كأن لا وجود لها، مع أن خيار الهروب هذا «الذي عززته أنظمة وأيديولوجيات» أثبت في السنوات الأخيرة فشله الفاضح، بل أودى بالعديد من دول المنطقة لتصبح دولاً فاشلة، فيما لا تتعلم من التجربة دول أخرى تقتفي أثرها.

ليست المسألة أخلاقية كما يصوّرها بعضهم مطالباً جيران الأكراد بالاعتراف بهم أو بحقوق لهم، فالمعيار الأخلاقي لا يُعتد به عموماً في دول شهدت مجازر جماعية أو أعمال إبادة مصحوبة بتأييد جماعي من أبناء البلد الواحد. النقاش في هذه القضية ينبغي أن يخرج من إطار التعاطف مع الأكراد، والأولى به التوجه إلى مصالح الشعوب الأخرى المعنية، وما إذا كان لها التحقق على نحو مستدام وهي تحمل عبء عدم قدرتها على الاعتراف بالاختلاف في داخلها، ومن ثم البحث عن حلول لا تولد مظلوميات جديدة أو تكرس القديمة منها.

مواجهة الواقع لن تكون سهلة بالتأكيد، والتعويل على العقلانية قد لا تزيد فرص نجاحه عن التعويل على العوامل الأخلاقية، ولعل أهم مظهر لغياب العقلانية هو منطق الحصول على كل شيء بما يخرج عن معنى السياسة. هذا المنطق هو الذي يهدد باشتعال دورة من العنف في المنطقة فيما لو قرر إقليم كردستان الانفصال، وهو الذي يمنع التفاوض حول قضايا خلافية ومنها قضية رسم الحدود.

وفي القضية الأخيرة لا تقع الملامة فقط على خصوم الانفصال، إذ يتوجب على قيادة الإقليم، وعلى الأكراد في مختلف بلدان وجودهم التحلي بالواقعية، وعدم المغالاة في الأحلام أو الأوهام، أو عدم تغليب مطامع الأرض أو الثروة على القضية الأساسية المتعلقة بحقوق عادلة لهم ولجيرانهم. تقدّم قيادة الإقليم مثلاً جيداً إذا طالبت بالاحتكام إلى القانون الدولي، أو إلى استفتاء خاص برعاية دولية، في المناطق المتنازع عليها، وهناك سابقة في المنطقة عندما احتكم المصريون والإسرائيليون إلى التحكيم الدولي في قضية طابا، والأهم أن القبول بالتحكيم ينفي منطق الغلبة وما يتبعه من مظلومية سابقة أو لاحقة.

في تنازع بين الإسبان والفرنسيين على إحدى الجزر المختلطة، اتفق الطرفان على أن يجري إسباني وفرنسي كلّ منهما من أقصاها، وأن تكون الحدود في نقطة وصولهما، ونالت فرنســـا حصة أكبر لأن عدّاءها كان أسرع. قد تُقرأ الحادثة كنــكتة، لكن هذا هو الحال عندما يتحول مفهوم السيادة نفسه إلى مزحة قياساً بمصالح السكان واستمرار عيشهم المشترك.

الحياة

 

 

دليلك إلى إنكار حقوق الأكراد/ عمر قدور

اكتمل الطوق حول نوايا إقليم كردستان إجراء استفتاء على الانفصال، فتهديدات استخدام العنف تجاه الإقليم في حال اُقرّ الانفصال أتت من طهران وبغداد وأنقرة، والتحذيرات المبطّنة جاءت من العديد من الجهات الدولية. حتى القيادي العراقي نوري المالكي علا صوته بعد غياب، إثر لقائه السفير الأمريكي في بغداد، وقال: لن نسمح بقيام إسرائيل ثانية في شمال العراق. ولا تصعب رؤية اتفاق تلك القوى التي خاضت إلى وقت قريب صراعاً في سوريا وهي تتحالف في هذا الشأن، فطهران التي استخدمت علاقاتها الطيبة مع حزب العمال الكردستاني في تركيا وفرعه السوري تلوّح اليوم بخطر الإرهاب القادم من إقليم كردستان، أما الحكومة التركية الحالية فلم تشذ عن نهج جميع الحكومات السابقة في التشدد إلى أقصى حد إزاء المسألة الكردية داخل وخارج تركيا.

وإذا لم تأتِ الأنظمة الإقليمية بجديد، بخاصة وهي تطمح الآن إلى التخلص التام من آثار الثورات و”تأديب” شعوب المنطقة ثانية، فقد يكون من المفيد الخوض في الجدل العام المثار حالياً حول استقلال الإقليم، والذي للمفارقة تتوافق فيه أيضاً آراء مختلفين في العديد من الشؤون الأساسية الأخرى، كما هو الحال “على سبيل المثال” بين نسبة من موالي تنظيم الأسد ومعارضيه السوريين، أو بين موالي حكومة بغداد ومعارضيها العراقيين. وإذا شئنا التعميم يمكن القول بأن مجمل الحجج في خندق معارضي استقلال الإقليم هي ذاتها على امتداد المنطقة، ما يجعل منها دليلاً عاماً إلى إنكار حقوق الأكراد.

يبدأ هذا الدليل غير المكتوب بإنكار وجود شعب كردي، والحجة عدم وجود انسجام تام بين أكراد المنطقة على غرار الانسجام الداخلي المزعوم بين العرب أو الفرس أو الأتراك، مع التلميح إلى أن الأكراد ليسوا سوى عشائر متمايزة عن أصل فارسي بحكم وجود قرابة لغوية. استئنافاً لهذه “الحجة” سيُشار إلى اختلاف كبير في اللهجات الكردية، بين الكرمانجية والسورانية مثلاً، مع الإشارة إلى الطبيعة الشفاهية للإرث الكردي وعدم وجود ثقافة قديمة مكتوبة على غرار شعوب المنطقة الأخرى.

وإذا كان هذا الاستهلال غير مناسب غالباً إلا لمتطرفين يرون قوميتهم أعلى وأنقى من الأكراد، فهناك فصل في الدليل يرضي أخلاق من لا يحملون التشدد نفسه، وينص على الاعتراف بخصوصية ثقافية للأكراد. إلا أن هذه الخصوصية ليست أساسية ما دامت خلال التاريخ قد تعايشت مع تعاقب دول الأقوام الأخرى على حكمهم، وهي تالياً لا تصلح كأرضية لمطالبات سياسية أساسية خارج ذلك السياق التاريخي. الخصوصية الثقافية، من وجهة النظر هذه، ترتب نوعاً من الالتزامات الإدارية إزاء الأكراد، لكن حاشا وكلا أن ترتّب التزامات دستورية تأخذ صفة الإلزام، لئلا تصبح الأخيرة أرضية لمطالبات ومطامع في المستقبل.

الفصل السابق يقودنا بعد تعرجات إلى منطق الدولة الوطنية، فدولة المواطنة “وفق رافضي حقوق الأكراد” سوف تحل تلقائياً القضية الكردية. هي دولة قائمة أصلاً على المساواة بين حقوق المواطنين، ولا مكان فيها إذاً للتمايز على أسس عرقية أو دينية، ثم ماذا يريد الأكراد أكثر من مساواتهم بغيرهم من أكثريات الدول المتواجدين فيها؟! وكي لا يثير مفهوم الدولة الوطنية اختلافاً، فمن المستحسن النصّ فوراً على أنها دولة مركزية، لأن اللامركزية تحيل إلى وساوس غياب التماسك والانسجام في المجتمع المنشود. وإذا وجد من يقبل باللامركزية فهو يتوقف غالباً عند اللامركزية الإدارية مع تساوي جميع التقسيمات الإدارية في نيلها، وضمن حساسية عالية جداً من فهمها بوصفها لامركزية سياسية، أو قيامها على أسس قومية، أو على أية خصوصية جماعية أخرى.

ثمة حجة ذهبية يحوزها ديموقراطيون، فأصل القضية الكردية هو وجود الاستبداد، وهذه مشكلة عامة لا تمس الأكراد تحديداً، بل يمكن اعتبار كافة الخاضعين لحكمه متضررين، وإن بدرجات مختلفة. بناء عليه ستجد القضية الكردية حلها تلقائياً بانتهاء الاستبداد، وهذا الحل سيكون بانتفائها لانتفاء مسببها. لا يقلل من أهمية هذا المنطق وجود ديموقراطية تركية لم تجد حلاً ديموقراطياً للقضية الكردية ولم تُلغها، باستثناء محاولات القضاء عليها عسكرياً، ولا وجود نماذج لديموقراطيات انتقائية أو عنصرية مثل نظام الأبارتيد أو إسرائيل، إذ يمكن المحاججة بأن تلك ليست أنظمة ديموقراطية في الأساس، أو أنها لا تتمثل الديموقراطية كما يجب.

لا يغيب الواقعيون عن هذا الدليل، فبحسبهم خضعت جميع شعوب المنطقة لإرادة دولية في تقسيمها هكذا، والإرادة الدولية لم تظلم الأكراد وحدهم، لذا فمشكلة الأكراد ليست مع الدول الموجودين فيها وإنما مع النظام الدولي. والمشكلة مع الأخير تبقى قائمة فيما لو قرر إيجاد حل للقضية الكردية، لأن الحل المطلوب هو حل شامل لكافة تداعيات التقسيم السابق، وإلا أصبح الأكراد في موقع المعتدي، وبالطبع في موقع العمالة. وقد تطرأ غيرةٌ على الأكراد مفادها استخدامهم من قبل قوى دولية، ثم التضحية بهم بعد انتهاء مهمتهم، من دون التساؤل عن الجهات التي ستتولى مهمة جعلهم ضحايا. ولا تغيب التحذيرات من أن تفتح المطالبات الكردية دورة عنف، فيكثر أولئك السلميّون أو أولئك الذين يذكّرون بمذابح سابقة تعرّض لها الأكراد من دون أن يجدوا تعاطفاً يليق بضحاياهم.

في باب الواقعية أيضاً ما يمكن اختصاره بـ”هذا ليس وقتها”، أصحاب هذه المقولة لديهم حساسية عالية في موضوع العدالة، فهم مع حقوق الأكراد جملة وتفصيلاً، بما في ذلك حق تقرير المصير. التحفظ الوحيد لديهم أن الوقت غير مناسب حالياً للمطالبة بهذه الحقوق، بالأحرى لم يكن أيضاً مناسباً من قبل لأقران لهم، لأن الظروف أيضاً لم تكن ملائمة. المشكلة هنا أن الظروف لا تتهيأ لتكون مناسبة للأكراد، ما دامت غير مناسبة لتقبّل مطالبهم على نحو كافٍ إقليمياً ودولياً، وما دام الأكراد قد صبروا تاريخاً كاملاً من دون دولة فلا بأس في أن ينتظروا قليلاً حتى تتهيأ الظروف المناسبة. للإنصاف، هذا النوع من الواقعية لا يقتصر على بعض الموجودين في المنطقة، فآخر تصريح للأمين العام للأمم المتحدة طالب الأكراد بتأجيل الاستفتاء لأن إجراءه سيؤثر سلباً على محاربة داعش، وهي مطالبة أتت قبله من الإدارة الأمريكية.

أما أنت عزيزي القارئ، إذا حدث ووجدت تفكيرك خارج هذا الدليل فهو قابل للمزيد بمساهمتك، وحاذر أن يراودك خاطر من نوع آخر.

المدن

 

 

 

تقرير مصير كردستان حق ولكن/ بشير البكر

لم ترفض الحكومة العراقية، من حيث المبدأ، حق تقرير مصير الإقليم الكردي. ويتركز اعتراضها على مشروع الاستفتاء، حتى الآن، حول نقطة جوهرية، وهي الطلاق بالتراضي، وهذا يعني أن تتم العملية بالتفاهم على التوقيت، وحل بقية القضايا التي تحتاج إلى عشرات اللجان من أجل التفاوض حولها، مثل الحدود والثروات والعلاقات الثنائية والتوزع السكاني والمصالح المتداخلة.. إلخ.

قضية تقرير المصير الكردي في العراق حق، ولكن تحقيق هذا الهدف ليس عملية ميكانيكية، ويشهد على ذلك تاريخ المسألة الكردية في العراق التي تعود تداعياتها إلى القرن الماضي، وهناك محطاتٌ باتت معروفة، بعضها حلو وبعضها مر، وشكّل المسار الذي أخذته منذ الستينيات التعبير الفعلي عن الحالة الكردية التي عاشت بين مدٍّ وجز، فمرة تقترب بغداد من أكرادها وتأخذهم بالأحضان، وأخرى تحاربهم إلى حد وصلت إلى ضربهم بالأسلحة الكيميائية عام 1988 في حلبجة.

كان عام 1991 فاصلا في علاقات الأكراد ببغداد، فمن نتائج “عاصفة الصحراء” خرج قرار الحماية الدولية للأكراد، وهو الذي صار أرضيةً بنَت عليها القيادة الكردية، بصبر ونفَس طويل، حتى وصلت أحوال الأكراد إلى ما هم عليه، حيث بات اقليم كردستان دولةً ناجزة، لا ينقصها سوى الإعلان الرسمي.

تكمن العقدة اليوم في قرار الإعلان الرسمي من طرف واحد، الأمر الذي لا ترفضه الحكومة العراقية فقط، بل العالم أجمع. وما يهم هنا هو موقف تركيا وإيران والولايات المتحدة، فهذه الدول الثلاث هي التي تستطيع جعل الاستقلال الكردي أمرا واقعا لو أرادت.

تعارض الدول الثلاث من منطلقات مختلفة، فالولايات المتحدة تعطي الأولوية، في هذه الفترة، للحرب على الإرهاب، وهذه المهمة، على الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزته ضد “داعش”، غير مرشحة أن تشهد نهاياتها في القريب العاجل، وستركز المرحلة الثانية منها على جيوب تنظيم القاعدة في سورية والعراق.

لتركيا وإيران حساباتهما المشتركة حيال المسألة الكردية، فلدى كل منهما مشكلة على هذا الصعيد، على الرغم من اختلاف الأعراض والمواصفات. وبالتالي هما تلتقيان عند هدف الحيلولة دون قيام دولة كردية في العراق، يمكنها أن تتحوّل إلى بؤرة لبقية أكراد المنطقة، واللافت أن موقف تركيا تغير كثيرا في السنة الأخيرة، وانتقل من المرونة إلى التشدّد تجاه مشروع الاستقلال الكردي في العراق، وذلك بعد أن تمكّن حزب العمال الكردستاني من إقامة قواعد له في المناطق التي تقع تحت سلطة إقليم كردستان، وخصوصا في جبل سنجار.

من خلال ردود الفعل الإقليمية والدولية، تبين أن قرار انفصال كردستان عن العراق لا يحظى بتأييد الحد الأدنى من المواقف. ومن المواقف التي جرى احتسابها ضد المشروع الكردي الموقف الإسرائيلي الذي أعلن تأييد الاستفتاء، وهذا أمر جرى تقديمه على نحو استفزازي للمشاعر العربية من طرف نخب كردية متصهينة، لا تمثل الشعب الكردي.

ليس الاستفتاء الطريق الوحيد إلى تقرير المصير الكردي. قد يصبح هذا المخرج المناسب أمام القيادة الكردية التي وجدت نفسها وحيدة من دون أي تغطيةٍ دولية لقرارها، وهذا يعني أنها ستتراجع عن الاستفتاء في مقابل ضمانات دولية أميركية بأن تتبنّى الأمم المتحدة بعد ثلاثة أعوام حق تقرير مصير إقليم كردستان، ليصبح مشروعا من الناحية الدولية. وتقوم هذه الأطروحة على أن هذه الصيغة هي بمثابة حل وسط، يحفظ ماء وجه بغداد وأربيل معا، ويحول دون الذهاب إلى مواجهة.

كلما يقترب موعد الاستفتاء، يزداد أنصار هذا المخرج الذي سيعلّق المسألة، ويترك أبواب الخلافات مفتوحةً، في وقت تأزمت فيه العلاقات بين الطرفين، بسبب توجه الأكراد للسيطرة على كركوك وأجزاء واسعة من الموصل، وهذا أمر من شأنه أن يشعل أكثر من حرب ضد الأكراد.

العربي الجديد

 

 

 

إيران وتركيا في مواجهة الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان/ بكر صدقي

لا شك أن في قرار الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان مجازفة كبيرة من كرد الإقليم وقيادته السياسية. فجميع الأفراد والقوى السياسية والدول، المعنيين بالموضوع وغير المعنيين على السواء، قد تركوا جانباً كل ما يغوصون فيه من مشكلات معقدة وركزوا على الاستفتاء الذي اقترب موعده بوصفه «يوم القيامة». يستثنى من ذلك فقط إسرائيل التي أعلنت ترحيبها بقيام دولة كردية مستقلة، لأسباب تخصها.

نعم، إنه يوم القيامة حقاً بالنظر إلى أن كل شيء سيتغير في الإقليم الذي تنتمي إليه الدولة الكردية إذا تسنى لها أن تولد بعد مخاض عسير. العلاقات بين الدول، والتحالفات، والمزاج العام في مجتمعات هذه الدول، والأفكار المسبقة الثابتة منذ قرن إلى اليوم، وآفاق تطور هذه الدول والمجتمعات.. أي، باختصار، كل شيء.

لهذا السبب نرى مقاومة كبيرة جداً للاستفتاء الذي من شأنه أن يسند حق تقرير المصير إلى أرضية صلبة من الشرعية الشعبية. وتنقسم الاعتراضات، النظرية إلى الآن، إلى رزمتين: أساسية وفرعية. أما الاعتراض الأساسي فهو ينطلق من مزيج من الإيديولوجيا والمصالح القومية، ليرفض فكرة استقلال الإقليم (أو حق الكرد في تقرير مصيرهم) رفضاً مبدئياً قاطعاً. هذا هو موقف حكومات الدول الإقليمية الأربع، إيران والعراق وتركيا والنظام الكيماوي في سوريا، يدعمه رأي عام مجتمعي متفاوت التشدد والشمول.

أما الاعتراضات القائمة على ما سيثيره استقلال الإقليم من مشكلات فرعية، فهي اعتراضات محقة تتعلق بحياة قطاعات كبيرة من السكان، ولا بد من معالجتها بطريقة عقلانية تشاركية، إلا حين يتم استخدامها لتمويه رفض أيديولوجي غير معلن لفكرة حق الكرد في تقرير مصيرهم. أي أن واقعية وأحقية مشكلات تتعلق بترسيم الحدود وعودة المهجرين وحقوق المكونات الاجتماعية غير الكردية.. شيء، واستخدامها كذرائع لرفض فكرة كردستان المستقلة جملة وتفصيلاً شيء آخر تماماً.

لنركز الآن على حظوظ قيام كردستان مستقلة، في أعقاب تسلح قيادة الإقليم المتوقع بنتائج الاستفتاء التي تبدو محسومة لمصلحة الاستقلال، في محيط معاد من الدول التي أعلنت حكوماتها مواقف رافضة، مرفقة بجرعات متفاوتة من التهديد والوعيد. يمكن القول، على ضوء التصريحات المتطايرة لساسة هذه الدول، إن إيران هي الأكثر تشدداً في عدائها لقيام دولة كردية مستقلة على حدودها الغربية، وخاصة ضد القيادة بارزانية التي تربطها علاقات تاريخية مع كرد إيران، وقد قاتل المولا مصطفى بارزاني شخصياً مع كرد إيران ضد قوات طهران الشاهنشاهية في أربعينات القرن الماضي. وتبدو طهران الإسلامية اليوم جادة في وعيدها بإغلاق الحدود لخنق الكيان الوليد، إذا قيض له أن يولد.

أما تركيا الأردوغانية فموقفها أكثر التباساً من إيران، بالنظر إلى العلاقات المميزة التي ربطت بين أنقرة وأربيل في السنوات الماضية. في التصريحات العلنية تبدو القيادة التركية متشددة ضد استقلال الإقليم، مثلها مثل الإيرانيين. وقد توعد أردوغان، في آخر تصريحاته بشأن الاستفتاء، بعقد اجتماع لمجلس الأمن القومي، وآخر للحكومة، لإعلان الموقف الرسمي النهائي من الاستفتاء وما يمكن اتخاذه من إجراءات عملية. هذا الوعيد يوحي بقرارات متشددة، يشتط خيال بعض غلاة القوميين الأتراك بشأنها وصولاً إلى احتمال إعلان الحرب. وهو ما قام رئيس الوزراء بنعلي يلدرم باستبعاده حين قال إن الحروب تقوم بين دولتين، في حين أن إقليم كردستان هو جزء من دولة العراق. ويمكن أن نفهم من التصريح أيضاً أن الحرب مستبعدة ما دام الأمر يتعلق باستفتاء، لكنها قد تكون احتمالاً واقعياً إذا تحول الإقليم إلى دولة مستقلة.

بعيداً عن هذه التصريحات التي تطلق عادةً لحسابات سياسية داخلية، فإن مدى الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الإقليم وتركيا هو مما لا يمكن تجاهله حين يتعلق الأمر بوضع استراتيجيات طويلة الأمد. ومن شأن التشدد الإيراني ضد الإقليم، واستتباعاً موقف الحكومة المركزية في بغداد، أن يجعل من تركيا الصديق الوحيد للإقليم بعد أن ينال استقلاله، ومنفذه البري الوحيد إلى العالم. وهذا مما يمنح تركيا، بالمقابل، وضعاً ممتازاً في تنافسها الإقليمي مع إيران، وحتى في علاقاتها مع بقية العالم، بالنظر إلى العزلة السياسية الشديدة التي ترزح أنقرة تحت وطأتها منذ بضع سنوات، بما في ذلك، خاصةً، علاقاتها المتدهورة مع الأمريكيين والأوروبيين. وليس لتركيا أصدقاء في محيطها الجغرافي باستثناء إقليم كردستان، بعدما انتهت سياسة داوود أوغلو الشهيرة «صفر مشاكل مع دول الجوار» إلى الفشل التام، وباتت تركيا ملحقة بالقطب الروسي في إطار مسار آستانة الخاص بالمسألة السورية. وتعرف تركيا، بخبرة تاريخية تمتد لقرون، أن علاقة الصداقة مع روسيا هي كصداقة الشاة مع الذئب، لا يمكن أن تأمن جانبها على المدى الطويل. في حين أن العلاقة مع إيران هي علاقة تنافس ندية، قد تتخللها مصالح مشتركة، لكنها لا يمكن أن ترتقي إلى تحالف دائم متين.

من المحتمل أن التحالف السياسي بين أردوغان وزعيم التيار القومي المتشدد دولت بهتشلي، الذي أثمر تحويل النظام البرلماني إلى نظام رئاسي، سيستمر وصولاً إلى انتخابات العام 2019 الرئاسية والبرلمانية التي يعتمد أردوغان عليها لإدامة حكمه المديد. هذا التحالف القلق يتطلب من أردوغان إظهار موقف متشدد من احتمال استقلال الإقليم، مع استمرار حربه الداخلية ضد حزب العمال الكردستاني. لكن هذه الحرب تبدو بلا أفق سياسي، أي لا يمكن ترجمة الانتصار المستحيل فيها إلى نتائج سياسية، ما لم تتم العودة إلى مسار الحل السلمي. وهو ما يحتاج أروغان لتحقيقه إلى مساعدة سياسية من مسعود بارزاني.

يمكن القول، على ضوء هذه اللوحة المعقدة، إن تركيا ستسعى جهدها لإقناع بارزاني بتأجيل الاستفتاء إلى زمن غير محدد، وهو ما يمنحها فسحة زمنية لترتيب بيتها السياسي الداخلي من منظور ديمومة حكم العدالة والتنمية ورئاسة أردوغان. في حين أن إصرار بارزاني على إجراء الاستفتاء سيضع أردوغان في الزاوية الصعبة ويربك كل حساباته السياسية. ولكن إذا تم الاستفتاء في موعده، برغم كل شيء، فالمرجح أن تتغلب حسابات المصلحة القومية لتركيا فتتعامل مع نتائج الاستفتاء كأمر واقع، وتتطور العلاقة الكردستانية ـ التركية إلى صداقة مديدة قائمة على المصالح المشتركة، وهو ما من شأنه أن ينعكس إيجاباً على علاقة الدولة التركية مع كردها في الداخل أيضاً.

لا يتسع المجال هنا للنظر في مواقف الدول العظمى من الاستفتاء والاستقلال، ولا شك أن مواقف الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا ستلعب دوراً حاسماً في حظوظ الإقليم في نيل استقلاله.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

عن رفض تركيا وإيران الاستفتاء الكردي/ خورشيد دلي

لم تكن علاقة تركيا وإيران سيئة مع إقليم كردستان العراق طوال السنوات الماضية، فتركيا تعد الشريك التجاري الأول للإقليم، وكانت أكثر الدول انفتاحاً عليه. وكانت علاقات إيران الاقتصادية والتجارية مع الإقليم جيدة، بل إنها تفتخر بأنها أول دولة سارعت إلى نجدته، حتى قبل الحليف الأميركي عندما اقترب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من حدود أربيل، بعد سيطرته على الموصل قبل أكثر من عامين. لكن اليوم ومع إعلان أنقرة وطهران رفضهما الاستفتاء المقرر في الإقليم في 25 من سبتمبر/ أيلول الجاري على الاستقلال أو البقاء ضمن الدولة العراقية تبدو هذه العلاقة على المحك والمصير، ولاسيما في ظل رفض قيادة الإقليم نداءات الدولتين بعدم إجراء الاستفتاء.

ثمة سؤال جوهري هنا: لماذا ترفض تركيا وإيران الاستفتاء؟ في محاولة للإجابة لا بد من التوقف عند المعطيات التالية.

أولاً: في كل من تركيا وإيران مناطق كردية متصلة جغرافياً بإقليم كردستان العراق، وفيهما أعداد كبيرة من الكرد نسبياً (في تركيا قرابة 16 مليون نسمة وفي إيران نحو 8 ملايين). ولعل الخوف التركي والإيراني يتعلق بالخشية من تداعيات الاستفتاء على القضايا الكردية بداخلهما، على شكل رفع سقف المطالب والحقوق القومية، وفي العمق التفكير بدولةٍ كرديةٍ مستقلة في عموم المنطقة، طالما أن ذلك شكل ويشكل حلماً تاريخياً لقوى وأحزاب وحركات كردستانية عديدة في المنطقة.

ثانياً: ثمة مخاوف تركية وإيرانية من أن تؤدي ولادة دولة كردية مستقلة إلى انبثاق واقع جديد في العلاقات الإقليمية والدولية في المنطقة، ولاسيما في ظل الغزل الإسرائيلي لإقامة هذه الدولة، بل ربما ترى الدولتان أن ولادتها ستجعل إسرائيل على حدودهما سياسياً وأمنياً، وهو ما يشكل تهديداً لأمنهما القومي، ومشاريعهما الإقليمية.

ثالثاً: ثمة خوف عميق لدى تركيا وإيران من أن تكون ولادة الدولة الكردية في إقليم كردستان العراق بداية مخطط أميركي، وغربي بشكل عام، لتفتيت الدولتين الإقليميتين الكبيرتين نسبياً، كونهما متعددتين قومياً ودينياً وطائفياً وسياسياً.

تشكل هذه المحددات عوامل الرفض التركي الإيراني للاستفتاء الكردي، وهي تشير إلى الوضع الجغرافي الصعب للإقليم، إذ إن الأخير محاط بهما. ولعل ما يزيد من منسوب المخاوف لدى الكرد هو التلويح التركي – الإيراني المشترك (خلال زيارة رئيس هيئة الأركان العامة الإيرانية كريم باقري إلى تركيا، وكانت الأولى من نوعها منذ عام 1979) بالقيام بإجراءات مشتركة في حال مضى الإقليم في خيار الاستقلال. لكن من الواضح أن قيادة إقليم كردستان العراق غير مقتنعة بهذه التهديدات، خصوصاً وأنها ترى في الاستفتاء حقاً طبيعياً للكرد لتقرير مصيرهم. ومن ثم في ظل تأكيدها بأن دولة كردية مستقلة يمكن أن تكون حليفة ومتآخية مع الدولتين، وباقي الجوار الجغرافي، وليست في عداء معهما، بل ربما ترى أنها ستساهم في حل بعض المشكلات الحدودية في ظل الخلاف مع حزب العمال الكردستاني.

من دون شك، سيوفر الاستفتاء مرجعاً للإقليم في المضي نحو الاستقلال، ولو في مرحلة أخرى بعد الاستفتاء، لكن الحقيقة المرّة ستبقى قائمة، وهي صعوبة أن تكون الدولة الوليدة ناجحة، أو قابلة للحياة في ظل الرفض التركي والإيراني لها، إذ تظل الجغرافيا تشكل شريان الحياة الاقتصادي للدول، ولا سيما الحديثة منها.

العربي الجديد

 

 

 

 

الاستفتاء الكردي وبيئته العامة/ فايز سارة

يكاد يكون من المسلّم به، أن الاستفتاء حول إعلان استقلال إقليم كردستان العراق سيتم، وسيقول الأكراد كلمتهم في تأييده حسب المؤشرات المعلنة في المستويات الشعبية والسياسية والرسمية، التي تشير إلى أن الأكراد راغبون في أن يكون لهم كيان سياسي خاص في المنطقة لطالما فكروا وحلموا به. وهو حق لا يمكن لأي كان أن يعارضهم فيه تحت أي حجة، ذلك أن كل دول المنطقة لها هويات «قومية»، بما فيها الدول المكوَّنة من طيف إثني وثقافي وديني وطائفي تعددي، على نحو ما هي عليه الدول المحيطة بإقليم كردستان في إيران وسوريا وتركيا والعراق ذاته.

لقد فجع الأكراد بنتائج اتفاقية «سايكس – بيكو»، التي رسمت خريطة شرق المتوسط في بدايات القرن الماضي، لأنها غيبت حضورهم المستقل في تلك الخريطة، ثم عانوا الكثير بسبب سياسات عنصرية واستئثارية؛ إرهابية وبوليسية، مورست ضدهم، وكان الأكراد في تعبيراتهم السياسية هدفاً لحروب امتدت على مستوى أغلب دول الإقليم على مدار عقود متتالية، من أجل منع تبلور كيان كردي، بل لمنع استمرار الشخصية الكردية بالحضور الثقافي والاجتماعي في تلك الدول… وهذا كله، كان محرضاً لسعي الأكراد نحو كيان مستقل، وهو حق لا منازعة فيه.

إن المشكلة لا تكمن في حق الأكراد في الاستفتاء وإقامة كيان كردي، إنما تكمن في البيئة العامة، التي يجري فيها الاستفتاء، والتي تخلق مزيداً من المخاوف عليه وضده من جهة أخرى، مما يعزز نزعة معارضته من جانب شعوب المنطقة وجماعاتها السياسية ودولها لاعتبارات راهنة وأخرى مستقبلية، لأن البيئة تؤشر لولادة كيان لا يتوافق مع مصلحة الجميع؛ بما فيها مصلحة الأكراد أنفسهم.

والأهم في ملامح بيئة الاستفتاء، أنه سيتم في وقت تتعرض فيه المنطقة ودولها لحروب مصيرية، تعصف بكياناتها وبشعوبها، بحيث تضع الكيانات بمواجهة التفتيت، وتضع الشعوب بمواجهة القتل والتهجير وتدمير قدراتها، وتدفعها إلى مستقبل غامض، مما يرفع وتيرة التوجس والخوف من أي مشروع، خصوصاً إذا كان مشروع ولادة كيان جديد.

كما يأتي الاستفتاء في ظل موجة غير مسبوقة من التطرف والإرهاب التي يتشارك فيها تطرف وإرهاب جماعات مثل «داعش» و«النصرة» وأخواتهما، مع إرهاب الدولة على نحو ما يظهر في سياسات وممارسات نظام الأسد في سوريا ونظام الملالي في إيران، وتدعمه منظومة إقليمية ودولية، تحت شعار «محاربة الإرهاب» الفارغ من المضمون عملياً؛ إن لم نقل إنه يساعد على استمرار الإرهاب وتصاعده.

وبين الملامح الأساسية للبيئة العامة المحيطة بالاستفتاء، تصاعد موجة التعصب والعنصرية، في دول المنطقة، ونشر العداء المتبادل بسبب ومن دون سبب، خصوصاً لدى بعض الأكراد ممن يعتقدون أن مشروع إقامة كيان كردي، يمر من بوابة العداء لمحيطهم، فلا يوفرون فرصة في استعداء شعوبهم الشقيقة من عرب وأتراك وإيرانيين، وذلك خلافاً لحقيقة أن المشكلة لا تحل بالعداء المتبادل، وليست بحاجة له، لأنها بالأصل حق الأكراد في إقامة كيان لهم.

وثمة ملمح آخر في البيئة المحيطة بالاستفتاء، تتصل بنشاطات حزب العمال الكردستاني (PKK) وتنظيماته التابعة، لا سيما في سوريا؛ حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي يعكس سياسة متطرفة (بما فيها معارضة الاستفتاء والاعتداء على مؤيديه)، تجري متابعتها بالقوة من خلال علاقات مع نظامي الأسد في سوريا وملالي إيران، ودعم مباشر من الولايات المتحدة وتأييد روسي لتلك السياسة.

والنتيجة في هذه البيئة، ازدياد مخاوف شعوب المنطقة وجماعاتها السياسية ودولها، بل تزيد المخاوف على الاستفتاء ونتيجته المرتقبة في تأييد إقامة الكيان الكردي الذي يطمح له الأكراد.

إن التوجه نحو الاستفتاء وإقرار قيام كيان كردي، يتطلب التوجه نحو تغيير البيئة المحيطة، أو ما يمكن تغييره منها على الأقل، وفي هذا ينبغي أن تتكاتف جهود الأكراد وأشقائهم من شعوب المنطقة، وإقامة توافقات مشتركة تتضمن السعي إلى وقف الحروب القائمة، وتخفيف التوترات والاتهامات المتبادلة، والاتحاد في مواجهة التطرف والإرهاب؛ سواء إرهاب الجماعات أو إرهاب الدول، ونشر قيم التسامح والتعاون المشترك من أجل المستقبل.

إن الأكراد والعرب والإيرانيين والأتراك، لهم مصلحة مشتركة في منطقة سلام وعدالة ومساواة، يعيشون فيها، وقيام كيان كردي في المنطقة، ينبغي ألا يخل بهذه المعادلة، إنما عليه أن يعززها ويقويها. إن فهماً لكيان كردي يمكن أن يولد وفق هذه المعادلة، من شأنه أن يطمئن الجميع على المستقبل، وواجب الجميع السير جدياً وعملياً على هذه الطريق.

الشرق الأوسط

 

 

 

 

القضية الكردية على جدول أعمال الحرب الإقليمية/ برهان غليون

أنا ممن يعتقدون أنه من دون تعاون إقليمي واسع يتجاوز الحدود القومية والسياسية، ويؤسس لفضاء تنمية اقتصادية، وأمن جماعي يطمئن الجميع ويشرك الجميع ويخدم مصالحهم، لن يكون للشرق الأوسط الذي يعيش أكبر أزمة ثقافية وسياسية واقتصادية في تاريخه، تختلط فيها ثورات الشعوب من أجل الحرية وفرض احترام الحقوق الإنسانية الأساسية بالمطالب القومية المحبطة منذ عقود والكوارث الاجتماعية النابعة من إخفاق سياسات التنمية الاقتصادية، إن لم نقل انهيارها وعودة الاحتلالات الأجنبية، أي مستقبل، وسوف يغرق أكثر فأكثر في الحروب والصراعات الداخلية والخارجية، ويتحول، لا محالة، لمفرخة لكل أشكال التطرف، بل لتعميم أساليب العنف والإرهاب، كما لم يحصل في أي وقت، على جميع العلاقات الداخلية والخارجية.

(1)

وقد كتبت عن ضرورة الإسراع في فتح مفاوضات بين دول المشرق التي تضم الشعوب الأربعة الكبرى التي صاغت تاريخ المنطقة، بصراعاتها وتفاهماتها معا، العرب والكرد والأتراك والفرس، منذ أكثر من عقدين، وقلت إن بديل العمل من أجل إقامة منطقةٍ للأمن والتعاون بين هذه الشعوب هو ترك المجال مفتوحا لكل أنواع الصدام والصراع والنزاع، وتخليد الحروب الداخلية والإقليمية. فالحرب هي النتجية الحتمية للتناقضات المتفاقمة من دون أفق للحل، والمخرج الطبيعي للنخب الفاشلة من مواجهة المسؤولية ومحاولة تحميل عبء فشلها على الشعب، أو على الدول والشعوب المجاورة.

هذا ما حصل ويحصل عندنا الآن بالضبط، فأصبح تحقيق الأمن لهذه الدولة أو تلك يقوم على زعزعة أمن جارتها، وتحقيق الاستقرار في هذا البلد أو ذاك، أو زيادة موارده، وتعظيم مصالح نخبه الحاكمة، يتوقف على سحق أي روح نقد أو احتجاج أو معارضة، وفرض الصمت المطلق على جميع الطبقات والطوائف والأحزاب، وحرمان الشعوب من أي حياةٍ سياسيةٍ، بل حتى ثقافية. والمشرق اليوم منطقة حروب ونزاعات داخلية وخارجية لا تنتهي، أي لا حل لها، ولا أحد داخل المنطقة أو خارجها يجرؤ على التفكير بالطريقة التي يمكن له أن يساعدها على الخروج منها.

والأغلب أن الدول الكبيرة في الغرب والشرق وآسيا وأميركا الشمالية، بل حتى في أفريقيا التي تكاد لا تلعب أي دور في السياسة الدولية، تشعر أكثر فأكثر بأنها تعبت من مشكلات الشرق

“الدول والحكومات في المنطقة تجد نفسها اليوم في طريقٍ مسدود، وأمام رهانات مصيرية ومخاطر لا أمل لها بمواجهتها” الأوسط، ولا تملك القدرة على تقديم ما يمكن أن يساعده على الخروج من أزمته، وأن أقصى ما يمكن أن تفعله أن تسعى إلى الحفاظ على مصالحها بأي ثمن، حتى لو اضطرها ذلك إلى تقسيم البلدان وتفتيتها، وضرب ما يشبه الحصار الصحّي على شعوبه، واقتطاع مناطق خاصة بها، تسيطر عليها مباشرة عن طريق تصدير “الخبراء” والمستشارين وإرسال المليشيات، وبناء القواعد العسكرية حول آبار النفط والمضائق والمصالح الأخرى، وترك الشرق أوسطيين يذبحون بعضهم بعضا إلى قيام الساعة. وهذا أفضل وسيلةٍ لتجنب خطرهم، ومنعهم من نقل شرورهم وعنفهم ومشكلاتهم إلى بقية بقاع العالم الأخرى. وأول من يجول بذهنه هذا التفكير هو حكومات الدول الكبرى التي كانت المسؤولة الأولى عن الخراب السياسي والاقتصادي والثقافي والديني الذي يعم المنطقة، وعن تدمير التوازنات التاريخية الكبرى التي كانت تحفظ لها استقرارها وسلام مجتمعاتها وتعاونها.

لكن ضحالة الثقافة السياسية التي تميز نخب هذه المنطقة، وغطرسة القوة التي كانت تسكن أذهان (ونفوس) حكامها الصغار والفارغين مثل الطبول، أو أغلبيتهم الساحقة، قد دفعت هذه النخب إلى الاعتقاد بأنها عنترة، وحالت دون رؤية مخاطر الانخراط في صراعات مفتوحة ولغايات مستحيلة، مع الاعتقاد الراسخ عند أطرافها المختلفة بأنها ستكون الرابح الأول، أو المستفيد الرئيسي منها. وأول هذه الحكومات التي افتتحت حقبة الرهان على القوة، ولا شيء غير القوة والقهر، هي الحكومة الإسرائيلية التي صممت على حرمان الفلسطينيين من أي أمل في استعادة أي جزء من فلسطين، يضمن لسكانها الحد الأدنى من الشعور بالاستقلال والسيادة وممارسة حقهم في تقرير مصيرهم، واستمرأت، تحت تأثير غطرسة القوة، الحرب المستمرة مع العرب بأكملهم، وجعلت من هزيمتهم وتمريغ حكوماتهم ونخبهم بالوحل عربونا لتفوقها الساحق على جميع دول الإقليم، ولتطمين شعبها على أمنه وازدهاره ومستقبله.

وهذا هو الزلزال الذي فتح الباب أمام الارتدادات المستمرة التي ستهز البلدان والمجتمعات

“لم تقدم حكومة بغداد سوى الحروب الداخلية والخارجية والتلاعب بالمليشيات الطائفية والبؤس والفقر والفاقة والاقتتال” العربية وتزعزعها، وتدفعها إلى الدخول في أزمة قيادةٍ لا حل لها، وتفجّر نزاعاتها الداخلية، قبل أن تصل إلى إيران ما بعد الثورة التي رأت في الزجّ بنفسها في أتون الحرب العربية الإسرائيلية أفضل وسيلة لتجنب تحديات تنميتها الداخلية، ومزاحمة الدول العربية على الهيمنة الإقليمية، ولتأمين مصادر الشرعية للحروب التي ستطلقها في العراق وسورية وغيرهما. وها هي حكومة حزب العدالة والتنمية التركية تواجه خطر الدخول في حربٍ مصيريةٍ لحماية الجغرافيا التركية من خطر الانفصال الكردي، بدءا من شمال سورية الذي تخشى أن يتحوّل، بدعمٍ غير مسبوق من الولايات المتحدة الأميركية، لحركة كردية استقلالية تشكل امتدادا للحركة الكردية الاستقلالية التركية، في وقتٍ لم تجد فيه بلدان الخليج العربي وسيلةً للتغطية على خسارتها الحرب في سورية، غير تفجير تناقضاتها الذاتية، وإشعال فتيل النزاع والحرب النفسية والإعلامية والسياسية فيما بينها.

والنتيجة أن جميع الدول والحكومات في هذه المنطقة تجد نفسها اليوم في طريقٍ مسدود، وأمام رهانات مصيرية ومخاطر لا أمل لها بمواجهتها أو بالحد من عواقبها المأساوية. وإذا استمرت الأحوال على ما هي عليه، ولم نجد الفرصة لمراجعة حساباتنا، ولا أقصد الحكومات وحدها، وإنما النخب السياسية والثقافية والاجتماعية عموما التي تملك مفاتيح النفوذ المتعدد المصادر، والتي تؤثر على الرأي العام، وتحدّد مسار الأحداث، وتبني خططا وأساليب أخرى للعمل داخل بلداننا، وفي محيطنا بين الدول والشعوب القريبة والمشاركة لنا في تحديد مصائر منطقتنا، فسوف نجد أنفسنا، بعد سنوات قليلة، في محرقة إقليمية لا سابق لها في تاريخ الدول، يزيد من استعار لهيب النيران المشتعلة فيها اختلاط القضايا والمسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقومية والأمنية والإنسانية، من دون أي قدرة على فصلها عن بعضها أو تفكيكها.

(2)

ما يدفعني إلى التذكير بمسألة العلاقات بين دول الإقليم وافتقارها لأي أسس وقواعد متفاوض عليها، وترك المنطقة نهبا للصراعات والنزاعات المتقاطعة والمتداخلة، حسب ما كانت تريده الدول الاستعمارية السابقة للاحتفاظ بنفوذها وهيمنتها. وبالتالي تفجر حروب التنافس والصراع على الهيمنة والنفوذ الإقليميين، كما نشهده اليوم، هو ما أثاره الاستفتاء الذي قرّرت حكومة كردستان العراق تنظيمه للانفصال عن العراق، وإقامة دولة مستقلة من تخبط وردود أفعال عنيفة في بلدان المنطقة ومحيطها، فهو يقدم نموذجا لنوعية الاختيارات العدائية التي وسمت علاقات حكومات الإقليم وشعوبه في ما بينها منذ عقود.

يكمن وراء هذا التوتر الشديد الذي أثاره قرار الاستفتاء الكردي مسألتان، جاء الجواب عليهما في الحالتين، في العراق وكثير من قطاعات الرأي العام العربي، وفي حضن الحركة الكردستانية، بطريقةٍ سلبيةٍ تعكس المخاوف والشكوك التي غذّتها سياسات الحكومات العربية والحركات السياسية، بما فيها الكردية في الماضي، وتعمل على إعادة إنتاجها. وفي جميع الحالات، وهذا هو المهم، دلت على أن كل الأطراف تنطلق من وجهة نظر مصالحها الخاصة، أو ما تعتبره مصالحها، من دون أن تأخذ بالاعتبار مصالح الأطراف الأخرى، بل مع محاولة الاستحواذ على جزء منها، أو حتى مع خطر تقويضها، بصرف النظر عن العواقب. والمحصلة بالطبع إشعال فتيل النزاع وفتح جبهة جديدة في الحرب الشاملة التي تلف الإقليم الشرق أوسطي منذ نشوئه.

هكذا افتتحت حكومة الإقليم معركتها بالإعلان عن شمول كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها بالاستفتاء، أي بفرض الأمر الواقع على مجموع العراقيين، وشرعنة ضمها مستقبلا، من دون أي مشاوراتٍ مع حكومة بغداد، أو سكان المناطق الملحقة بالاستفتاء، في وقتٍ ردّت فيه حكومة بغداد المركزية برفضها قرار الاستفتاء، ورفض البرلمان العراقي له من دون أي جواب واضح على اعتراضات حكومة الإقليم ومطالبها، أو اقتراحات مقابلة للخروج من الأزمة. وما من شك في أن ضم كركوك في الاستفتاء، من دون اتفاق مسبق مع بقية ممثلي الشعب العراقي والحكومة المركزية يشعل فتيل النزاع بين الطرفين، قبل أن يحصل الاستفتاء الذي ستكون نتيجته محسومةً لصالح الاستقلال.

وراء النزاع المتجدّد في العراق يتجلى انهيار المبدأ الذي قامت عليه العلاقات السياسية الداخلية والجيوسياسية داخل المنطقة، خلال العقود الطويلة الماضية، بل منذ تأسيسها على يد القوى الاستعمارية، والتي قوّضت استقرارها وتدفع بها اليوم إلى الانتحار، وهو مبدأ الإكراه. وعكسه مبدأ الحرية الذي يقوم على الاعتراف بحق الأفراد والجماعات والشعوب في الاختيار. وبالتالي الذي يقدم التفاهم على الإذعان، ويفترض الحوار والمفاوضات، وأبعد من ذلك الاعتراف

“القضية الكردية مركبة لا تقتصر على تفصيل سياسي داخل دولة واحدة، وإنما ترتبط بإعادة ترتيب الجغرافيا السياسية لمنطقة كاملة” بالآخر وبحقه في الدفاع عن مصالحه بالمثل. وتقدّم القضية الكردية التي طرحت نفسها بقوة على ضوء قرار الاستفتاء على الانفصال، تجسيدا مثاليا لهذا النظام/ السلام، القائم على الإكراه، وانهياره في الوقت نفسه. والطريقة التي ستعالج بها حكومات المنطقة هذه القضية سوف تحدّد أيضا مستقبلها القريب، أي مقدرتها على الخروج من أزمتها التاريخية، بتبني مبادئ جديدة تفتح باب التسويات والحلول الوسط واللقاءات على المصالح المتبادلة، أو الاستمرار في نظام الإكراه وسياسة فرض الأمر الواقع واستخدام القوة لحل النزاعات. وهذا يعني تبنّي خيار الحرب المستمرة، كما حصل في أوروبا في حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية، بدل خيار الحوار والتعاون والتفاوض الذي لا مهرب منه في سبيل إيجاد بيئة آمنة، صالحة للاستثمار والتنمية التي نحن أحوج ما نكون لها اليوم، لتأمين فرص العمل والحياة الكريمة لملايين الناس المحرومين من أي حق، والمرميين على قارعات الطرق، في عواصم دولنا ومدنها وأريافها.

(3)

بصرف النظر عن نوايا حكومة الإقليم والمناورات السياسية التي ينطوي عليها قرار الاستفتاء، والانقسامات القائمة في صف الكرد أنفسهم، يطرح نزوع الكرد إلى الاستقلال في العراق مسألتين وليس مسألة واحدة. الأولى خاصة بالعراق، تعبر عن التدهور الكبير لعلاقات الكرد مع الدولة المركزية التي شكلوا جزءا منها منذ إنشائها. وهي نفسها جزء من مشكلة النظام العراقي الذي قام بعد الغزو الأميركي في بداية هذا القرن. وليس هناك شك في المسؤولية الرئيسية في دفع الكرد إلى الانفصال. بالنسبة للمسألة الأولى، تقع على كاهل الحكم المركزي العراقي، فقد استسلمت حكومة العراق للضغوط الخارجية، وبشكل خاص الإيرانية، وللنزعات الطائفية، وأقامت إمارة شيعية تابعة لايران، ولصالح تعزيز هيمنة إيران وسطوتها الإقليميتين، بدل أن تبني دولة ديمقراطية تفتح آفاق العدالة والحرية والمساواة والتآخي بين جميع سكانها ومواطنيها، بصرف النظر عن أصلهم ودينهم وقوميتهم وجنسهم. ولعلها خدعت نفسها، بتخفيض فهمها الديمقراطية إلى مجرد انتخابات. وبدل أن تطمئن جميع سكانها على حقوقهم، عمّقت الشروخ بينهم، وشرعنت للتمييز بحق أغلبيتهم، واستخدمت الشحن الطائفي والتحشيد المذهبي، للتغطية على فشلها في إقامة دولة حق لجميع مواطنيها. وبدل أن تقدم لهم فرصا أكبر في التقدّم، وتحسين شروط حياتهم الفردية والجماعية، أدخلتهم في حروب الامبرطورية الإيرانية التي وضعت نفسها في خدمتها، وجعلت منهم ضحايا بالمجان لهيمنة محتليها.

والمقصود أن المبرّر الوحيد للدولة، وخصوصا عندما تكون متعدّدة القوميات، هو ما تقدمه من فرص إضافية لتحسين شروط حياة مواطنيها وسعادتهم. والحال لم تقدم حكومة بغداد، منذ ولادتها على إثر الغزو الأميركي وتدمير الدولة الذي تبعه سوى الحروب الداخلية والخارجية والتلاعب بالمليشيات الطائفية والبؤس والفقر والفاقة والاقتتال. هذا النمط من الدولة الإمارة، لا يمكن أن يجمع القوميات ويؤلف بين الجماعات، لا في القانون ولا في الإدارة ولا في النظام، لأنه بدل أن يضمن حقوقهم، ويؤمن سعادتهم، يفاقم من مشكلاتهم، ويقتل آمالهم، ولا يمكن إلا أن يدفع الكرد والعرب إلى التحرّر منه، وتركه لحشوده ومليشياته الطائفية، فهو المسؤول أولا وأخيرا عن تمزّق العراق وانقساماته القومية والطائفية.

أما المسألة الثانية فهي المسألة القومية الكردية التي حاولت جميع الدول والشعوب التي يشكل الأكراد شركاء فيها تجاهلها، أو السكوت عنها، أو محوها إذا أمكن من الذاكرة السياسية، خلال العقود الطويلة الماضية، وهي تعني حق الكرد بوصفهم شعبا في تقرير مصيره، وإذا أراد ذلك، إقامة دولة كردية مستقلة، تعبر عن هويته، وتقود كفاحه من أجل الاندماج في التاريخ الحديث للبشرية، بوسائله وقيمه وقدراته الذاتية. وتضافر المسألتين اللتين تشكلان وجهين لقضية واحدة، هو ما يجعل من القضية الكردية قضيةً مركبة لا تقتصر على تفاصل سياسي داخل دولة واحدة، أي مجرد انفصال لجزء من الشعب الواحد، لتكوين دولة خاصة به، وإنما ترتبط بإعادة ترتيب الجغرافيا السياسية لمنطقة كاملة، فهي مسألة سياسية، ومسألة جيوسياسية، وعقدة حقيقية في طريق السعي إلى تخليص المنطقة من الأفخاخ والمطبات والمظالم ومصادر النزاع التي تحول دون استقرارها.

ردت حكومة بغداد، على المسألة الأولى، بالرفض واستدعاء الدول القريبة والبعيدة للتدخل

“لم تقدم حكومة بغداد أي رد واضح على مصدر قلق الأكراد، ولا أي اقتراح بديل تمكن مناقشته” والضغط على حكومة الإقليم، متذرعةً بمخالفة قرار الاستفتاء للدستور العراقي. وعلى المسألة الثانية، ردت الدول المعنية بالقضية الكردية، أي طهران وأنقرة والنظام الفاقد للشرعية في سورية، بالتهديد بالحرب. لم تقدم حكومة بغداد أي رد واضح على مصدر قلق الأكراد، ولا أي اقتراح بديل تمكن مناقشته. وهذا كان أيضا مضمون التهديدات التي أطلقتها الدول المهدّدة بإحياء الحركات الانفصالية الكردية فيها.

لا أحد يجهل أن استقلال الإقليم يطرح قضية حق تقرير المصير للكرد عموما. وقد حان الوقت كي تفكر الدول المعنية بالمسألة الكردية في تقديم اقتراحاتٍ بناءة، للمساهمة في حل القضية الكردية القومية بدل الاستمرار في استخدام سلاح القمع والإكراه. ولا يمكن للاستمرار في دفن الرأس في الرمال أن يقود إلى شيء آخر غير مزيد من الشحن العاطفي المتبادل والاحتقان والحقد والكراهية الحاضنة للنزاعات والحروب، وجعل المسألة الكردية الثغرة التي يمكن أن ينفذ منها كل المناهضين أو الخائفين من استقرار المنطقة وتعاونها ونهضتها. وإذا كان صعبا على الكرد في شروط وجودهم القومي الراهنة انتزاع الانفصال بالحرب، وهي مستمرة منذ عقود، من دون جدوى كبيرة، فإن من الصعب أيضا، بالمقدار نفسه، أن تقود الحرب إلى قتل إرادة الاستقلال بالحرب، وكبح ثورة الكرد المستمرة منذ عقود، وسيكون ثمن ذلك استمرار حالة التنازع، وانعدام الثقة والتفكّك وتقويض بناء المجتمعات ذاتها، وبالتالي تضحية الدول المعنية بمصير تنميتها، ومستقبل تقدمها في طريق المدنية، وتأمين شروط الحياة الكريمة والحرة والسلام لأبنائها جميعا.

وليس هناك حل في نظري من دون الاعتراف بحق الكرد في تقرير مصيرهم، وبالتالي من دون فتح مفاوضاتٍ لتطبيق هذا الحق، على مدى زمني، وفي شروطٍ تراعي مصالح الدول المعنية، وتحول دون تهديد مصالحها القومية الأساسية. ومن دون ذلك، سوف تتحول القضية الكردية، لا محالة، إلى بؤرة التهاب دائم يزعزع استقرار الجميع، ويهدّد أمن دول كثيرة واستقرارها، ويقف عقبة أمام تفاهمها وتعاونها، وبالتالي بناء مستقبلها الفردي والجماعي. ولا أعتقد أن هذا الحل يمكن أن يحصل، من دون المبادرة بفتح نقاش جدي بين دولها الرئيسية على مستقبل المنطقة ومصيرها، ومن دون التوصل إلى اتفاقٍ ناجز لإقامة فضاء للأمن الجماعي والتعاون الإقليمي المشترك، يضم الجميع، ولا شيء يمنع من ذلك سوى التردّد والخوف وغياب الشجاعة، واستمرار بعض الحكومات في المراهنة على النزاع للتغطية على مشكلاتها الداخلية، أو لمواجهة خصومها على حساب الشعوب والدول الأضعف منها. لكن مآل الاستمرار في هذا الخيار، كما ذكرت، الانهيار الشامل وخروج المنطقة من التاريخ الراهن، والعودة بشعوبها إلى عهود الإقطاع والقرون الوسطى والخراب المعمم والدمار.

لا يتعلق الأمر، إذن، بقضية خاصة تعني الكرد أنفسهم، كما لم تكن قضية فلسطين قضيةً تعني الفلسطينيين فحسب، لكنها تطرح مسألة عامة وكبيرة، لا تزال تعاني منهما معظم شعوب العالم الذي خسر ثورته الصناعية والسياسية أو فشل فيها، بشقيها الوطني والدولي، فهي تظهر أولا فشل المجتمعات العربية، وأكثر المجتمعات النامية في إقامة العلاقات داخل الدول والمجتمعات على أسس سليمة واضحة ومقبولة، أي إقامة النظم السياسية الشرعية والفاعلة، المستندة إلى احترام إرادة الشعوب وحقها في انتخاب ممثليها بحرية، وتقرير سياساتها بنفسها، بعيدا عن الضغوط والتهديدات والعقوبات. وهي تبرز ثانيا فشل دول المنطقة في إقامة العلاقات التي تربط بينها على قواعد ومعايير معروفة وثابتة، أهمها الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وحقها في الاستقلال، وفي الاتحاد والتعاون أيضا، واحترام سيادة الدول، واحترام القانون والمواثيق الدولية وتطبيق قانون العدالة وإزالة الظلم وتصفية بقايا الاستعمار والعلاقات المجحفة والتبعية والمساواة في التعامل بين الجميع.

في منطقةٍ من أكثر المناطق تدويلا في العالم، ليس هناك فاعل مستقل بمصالحه وقراره، ولا فعل يمكن أن يتحقق من دون أن تكون له آثار على محيطه، وربما هدّد بتغيير التوازنات، والدفع إلى ردود غير منظورة، إقليمية ودولية. وما حصل ويحصل في سورية منذ ست سنوات، وما تشهد عليه تعقيدات أزمة الانفصال الكردية يبين حدود الرهان على القوة وحدها، ومخاطر الاستمرار في المراهنة على تخليد مبدأ الإكراه. من دون إعادة النظر في المبادئ التي تنظم أو بالأحرى تقوض علاقتنا داخل الدول، وبينها في هذه المنطقة لن يكون أمامنا سوى الجحيم، أي الاستثمار في السلاح والاستقواء بالأجنبي، والإعداد للتضحية بالملاييين من المدنيين والعسكريين، من دون أمل بتحقيق أي كسب، وللجميع، باستثناء إدامة الحرب، وتأجيل السلام إلى ما لا نهاية.

وأنا أكتب هذه المقالة، لا أدري في ما إذا كان الإقليم سيتمسك بقراره أم لا. لكن مهما كان الحال، لن يستقر العراق، ولن تدخل المنطقة في عصر التنمية والتقدم الأخلاقي والقانوني والسياسي، ولن تنجح في اللحاق بركب عالم التقدم التقني والعلمي وتندمج في الحضارة، ولن تخرج من الهمجية التي تعيشها اليوم، داخل كل دولة وفي ما بين الدول، ما لم تعترف بحقوق مواطنيها التي لا تناقش في الحرية والعدالة والكرامة والمساواة، وحقوق شعوبها في السيادة ودولها في الأمن والسلام والتعاون والاستقرار.

العربي الجديد

 

 

 

تقرير المصير بين كردستان وكتالونيا/ سلام الكواكبي

في موعدين متقاربين، يزمع إقليم كردستان العراق، كما إقليم كتالونيا إسبانيا، إجراء استفتاء على الاستقلال. الأول في 25 من شهر سبتمبر/ أيلول المقبل، والثاني في الأول من شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. ومع اختلاف الواقعتين، كما المنطقتين، كما العوامل السياسية المرتبطة، كما الظرفين التاريخيين، هناك من يُقارن الحدثين، معتبراً أنهما يُشيران إلى حقوق مشروعة، وجب احترامها في المطلق.

يقع الحدث الكردستاني ـ العراقي في منطقة نزاعات وحروب وعنصرية متفاقمة، وقوميات متصارعة وأديان متواجهة ومذاهب متنافرة. كما أنه يحلُّ في منطقةٍ كانت من الأسوأ في إدارة التنوع، وفي احترام المكونات المختلفة للساكنين على أراضيها، وفي طريقة قيام الدولة المهيمنة في توزيع الدخل على الطبقات، كما المكونات، بطرائق شديدة التمييز. كما أنه يجري في ظل دولةٍ عراقية وصلت إلى حكم البلاد، بعد احتلال أميركي وهيمنة إيرانية، وتميّزت بفساد ساهم في إفقار إحدى أغنى الدول، بعد أن كانت حروب ومآرب ومؤامرات طاغيها السابق، صدام حسين، مع فساد منظم، قد أسّست لهذا الإفقار.

كردستان العراق مستقلة عملياً منذ قيام الحماية الأميركية على أجوائها في بداية تسعينات القرن الماضي. وقد تعزّز هذا الاستقلال، عملياً أيضاً، بعد سقوط الطاغية صدام حسين، وانحلال

“حق تقرير المصير يصير أقوى مشروعية في دولة مستبدة أو فاشلة” الحكومة المهيمنة في بغداد، ودخولها في منطق الانتقام المذهبي المختلط بالفساد العابر للمذاهب وللقوميات. كما تطورت العملية السياسية والاقتصادية والعسكرية المرتبطة بهذا الإقليم بمعزل شبه تام عما آلت إليه الأمور في باقي أصقاع العراق. لحنكةٍ سياسيةٍ أو إرادة شعبية أو توافق إقليمي أو دعم دولي؟ أو لتضافر كل هذه العوامل مجتمعة؟ لربما ستُتركُ الإجابة عن هذا للمختصين في المسألة، كما للمستقبل القريب، والذي علمتنا متابعته بأنه يُفشي “أسرار” ما كنا نمضي أوقاتاً حميمة في المضاربة على مُخرجاته.

وبمعزلٍ عن رواياتٍ تُشير إلى موضوعة الاستفتاء الكردي، قابلة للمساومة السياسية والاقتصادية والسيادية من القائمين السياسيين عليه، إلا أنه لا يمكن لمن تابع بتجرّد ـ وبعيداً عن التعصب ـ التطورات القائمة في هذه المنطقة، منذ عشرينات القرن الماضي، أن ينفي حق الكرد، كما جميع الشعوب الأخرى، في تقرير مصيرهم، وليس بالتأكيد على حساب مصائر الآخرين. وحتى لو كان هؤلاء الآخرون، أو بعضهم، قد صمتوا طويلاً عما آلت إليه الإدارة الكارثية لملف التنوع في بلدانهم.

في شبه الجزيرة الإيبيرية، وعلى الرغم من أن الحق في تقرير المصير لا يجب أن يكون انتقائيا، فمن الممكن القول إن الملف شديد الاختلاف. وأول هذه التمايزات ابتعاد العامل الإقليمي والدولي عن التدخل فيه، فلا جيران الشمال الفرنسيون، على الرغم من القلق الباطن، يهدّدون باتخاذ ما يلزم من إجراءات، إن قام الاستفتاء، والذي يعنيهم حتماً لوجود جزء من المقاطعة الكاتالونية على أراضيهم. ولا الأميركيون معنيون بإزعاج إحدى الجارات الفاعلات لإسبانيا، أي فرنسا، ما سيدفعهم إلى اتخاذ موقف تشابكي، يدعمون فيه الاستقلاليين في ملفات عدة، على الرغم من رفضهم استقلالهم من جهة أخرى. كما أن هذه البلاد تعيش وضعاً سياسياً وأمنياً مستقراً منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وهي تطبق اللامركزية الإدارية والسياسية المتطورة في منظومتها التي تضم 17 مقاطعة. وأحد العناصر الأساسية التي تميز نظامها اللامركزي عن الفيدرالية، كما الأميركية مثلا، هي وحدة المنظومة القضائية. ومنذ العام 2009، تتمتع المقاطعات باستقلاليةٍ مالية عن المركز، وبالتالي، صارت تشارك بنسبة كبيرة في الحصول على جعالة الضرائب التي كانت تمنح لها من المركز بنسبة عدد السكان. والأهم من هذا كله، لم يتعرّض المكون الكاتالوني للاضطهاد والتمييز والإقصاء.

إلى هذا وذاك كليهما، فإن السعي الأوروبي هو تجاه الوحدة بين الدول، ضمن منظومة سياسية

“حق تقرير المصير يصير أضعف حجةً في دول تنعم بالديمقراطية، وبإدارة ناجحة للتنوع والاختلاف” واقتصادية مشتركة قائمة وتتطور. وبالتالي، يمكن أن تكون النزعة الاستقلالية عامل استغراب، على الرغم من الميول القومية المتصاعدة في الآونة الأخيرة. وفي دلالةٍ ملفتةٍ على التمسك بالوحدة الأوروبية، يصارع دعاة الاستقلال عن الدولة الإسبانية بإبراز انتمائهم غير المشروط لهذا المشروع الإقليمي. كما أنهم، وفي مفارقةٍ طريفة، يُطالبون بالاحتفاظ بالجنسية الإسبانية على الرغم من “انفصاليتهم”، لأنها تؤهلهم للبقاء أوروبيين، ريثما تتم عمليات التفاوض الطويلة والمعقدة للانتماء الأحادي إلى الاتحاد.

في المقابل، يمكن ملاحظة تشابه محدود في الإدارة الفاشلة سياسياً للملفين الكردي والكاتالوني من الحكومتين المركزيتين في بغداد ومدريد. وعلى الرغم من عدم وجود أية إمكانية للمقارنة بينهما من الناحيتين الشرعية والتمثيلية، إلا أنه تجوز بعض المقارنة في التخبط الذي تعيشه العاصمتان إزاء هذا التحدث الأساسي. وكما أن مدريد تتعامل وفقاً للقانون، وتتخذ الإجراءات الأمنية، كما المالية التي تراها مناسبةً لمنع وقوع الاستفتاء المزمع، فإن بغداد لا تستطيع، ولن تتمكن، من اتخاذ أي إجراء في هذا الاتجاه، إلا إن حصلت على تدخل خارجي داعم. فهي لا تسيطر، ولا حتى في أدنى النسب، لا أمنياً ولا مالياً على كردستان العراق.

إن جرى الاستفتاءان، ويبدو أنه تجري محاولات اللحظة الأخيرة لثني الكرد من جهة، من خلال تقديم التنازلات المطلوبة، أو لمنع الكاتالونيين من خلال الإجراءات العملية، فإن حق تقرير المصير، على الرغم من أنه مطلق، إلا أنه يصير أقوى مشروعية في دولة مستبدة أو فاشلة، تنتهك مصائر جميع مكوناتها. في المقابل، له أن يصير أضعف حجةً في دول تنعم بالديمقراطية، وبإدارة ناجحة للتنوع والاختلاف.

العربي الجديد

 

 

 

جوهر الموضوع: نهاية الأمر الواقع/ كامران قره داغي

حتى كتـــابة هذه السطور قبـــــل ثلاثة أيام عـــلى المــــوعــد المحــــدد للاستفتاء، يبدو محسوماً أمر إجراء استفتاء الاستقلال في إقليم كردستان غداً الإثنين. لكن هذا المقال ليس في وارد التكهنات في ما إذا كان الاستفتاء سيجرى في موعده المقرر أم أنه سيُلغى جملة وتفصيلاً، كما طالبت بغداد قبل أيام على لسان رئيس الوزراء حيدر العبادي، أم سيؤجل الى موعد آخر إذا قُدم بديل منه يلبي شروطاً محددة طالب بها الإقليم بحلول موعد يكون قد انتهى الآن في أي حال.

يُشار الى أن الطرف الكردي رفض التراجع عن إجراء الاستفتاء على رغم المناشدات والطلبات والتهديدات والعروض بما فيها «البدائل» التي كان آخرها وأبرزها ذلك الذي قدمه وفد أممي برئاسة المبعوث الأميركي المنسق لعمليات المواجهة ضد تنظيم «داعش» بريت ماكغورك، وضم إضافة الى السفير الأميركي في بغداد نظيره البريطاني وممثلاً عن الأمم المتحدة. المسعى الأميركي سبقته وتبعته مساع أخرى من دول المنطقة شملت السعودية وإيران وتركيا وكلها لم تجد أذناً صاغية من الطرف الكردي الذي تمسك بموقفه مطالباً، في مقابل التأجيل الى موعد محدد وليس الإلغاء، ببديل تسنده ضمانات دولية مكتوبة تعترف بحق الإقليم في إجراء الاستفتاء وفي دولته الوطنية.

تلك المساعي أجمعت على رفض الاستفتاء تأييداً لوحدة العراق، معتبرة أن إجراءه ليس في وقته، لأن المعركة ضد «داعش» لم تنته، الأمر الذي يستدعي تركيز كل الجهود على هذه المعركة. ومن نافل القول أن المساعي المذكورة خيبت الطرف الكردي واعتبر أنها، خصوصاً الموقف الأميركي، شجعت بغداد، حكومة وأحزاباً وبرلماناً وقضاءً، على تصعيد موقفها العدائي حيال الإقليم وإطلاق التهديدات التي وصلت الى حد التلويح باستخدام القوة ضده وحتى تحريض تركيا وإيران على ذلك. المحادثات مع ماكغورك لم تنجح لأن «البديل» الذي قدمه لم يكن عملياً جديداً، بل هو تكرار بصيغة مختلفة لاقتراحات أبلغها الى الطرف الكردي قبل أشهر ومفادها أن تؤجل أربيل الاستفتاء في مقابل أن تسهل واشنطن والأمم المتحدة إجراء مفاوضات مع بغداد من دون أي جدول أعمال وضمانات تتعهد بها الولايات المتحدة، الأمر الذي اعتبرته أربيل تسويفاً وعديم الجدوى.

على رغم أن الطرف الكردي لم يكن يتوقع أن تعلن واشنطن تأييدها علناً الاستفتاء لكنه لم يتوقع الموقف المتشدد جداً الذي اتخذه المبعوث الأميركي خلال المحادثات مع القيادات الكردية وفي تصريحاته لوسائل الإعلام، وهو ما «شجع» بغداد على التصعيد مع أربيل، وفق سياسي كردي بارز قريب من عملية التفاوض، كالنظام الإيراني المعادي لأميركا». موقف ماكغورك هذا حمل مفاوضين كرداً على الشك بإمكان نجاح مفاوضات يديرها أو يسهلها مبعوث يفتقد الى مرونة مطلوبة في مثل هذه المهمات الحساسة، وذلك وفقاً للسياسي الكردي في حديث مع كاتب هذه السطور طلب فيه عدم الكشف عن هويته، معتبراً أن ماكغورك منحاز الى بغداد «ترضية للإسلاميين الشيعة المرتبطين بمواجهة «داعش» وكل ما عدا ذلك مجرد عراقيل تتعين إزاحتها عن الطريق».

لعل الإصرار الكردي على عرض مكتوب وضمانات دولية حمل الأمم المتحدة على مبادرة لاحقة تمثلت في ورقة قدمها ممثلها في العراق يان كوبيتش قيل إنها حظيت بقبول الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ما حدا بالرئيس فؤاد معصوم الى تبنيها في إطار مبادرة أزمع على القيام بها، معتبراً أنها تستحق أن تكون بديلاً من الاستفتاء. تتضمن الورقة جدولاً زمنياً لمفاوضات تبدأ الآن «لــــحل المشاكـــل العالقة وفق مبدأ الشراكة» على أن تنتهي المفاوضات خلال مدة أقصاها ثلاث سنوات وفي حال فشلها يعود الإقليم الى خيار الاستفتاء. ومن أجل تنفيذ ذلك تُشكل لجنة عليا مشرفة يرأسها رئيس الدولة ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان ورئيس اقليم كردستان ويكون ممثل الأمم المتحدة عضواً فيها. بعبارة أخرى هناك نوع من التدويل للقضية.

المشكلة في هذه المبادرة أن الطرف الكردي لا يعول على الأمم المتحدة ويعتقد أنها غير قادرة على أن تلعب دور الضامن: ذاك أن أي اعتراف منها بحق الإقليم بإجراء استفتاء على أساس الحق في تقرير المصير سيواجه اعتراضات من دول لديها حساسية إزاء هذا المبدأ بسبب مطالب مماثلة من أقلياتها. على سبيل المثل، الصين التي تعاني مشكلة التيبت أو إسبانيا التي ترفض قرار البرلمان المحلي لكاتالونيا إجراء استفتاء على الاستقلال. الى ذلك، المبادرة تقتصر على حلول في إطار الأمر الواقع لتركيبة العراق بينما الطرف الكردي يسعى الى علاقة مختلفة تماماً بين الإقليم والعراق.

من جهة أخرى، المبادرة لا ترضي بغداد أيضاً لأنها ترفض أي شكل من أشكال التدويل، مشيرة الى أن ورقة الامم المتحدة تعترف عملياً بالاستفتاء وهو ما ترفضه بغداد. العبادي رفضها لأنها تضمنت الاستفتاء فيما زعيم حزبه «الدعوة الإسلامية»، نوري المالكي، رفضها بصفته رئيس ائتلاف الأحزاب الشيعية معتبراً أنها تخالف الدستور العراقي، فيما الطرف الكردي رفضها ضمناً لأنها تعني من وجهة النظر الكردية العودة الى المربع الأول في العلاقة مع بغداد. بعبارة أخرى مبادرة معصوم كان مصيرها أشبه بوليد ميت.

قصارى الكلام: بدا أن الطريق مسدود أمام مساعي الوصول الى تقريب المواقف باتجاه تأجيل الاستفتاء. لكن السؤال الأهم هو: ماذا بعد الاستفتاء؟ السؤال ذاته يطرح نفسه ماذا بعد تأجيل الاستفتاء وهو احتمال ظل الأضعف حتى أيام تُعد على أصابع اليد الواحدة قبل الموعد المقرر لإجرائه؟

التكهن بما سيحدث يدخل في باب التنجيم. لكن الأكيد أن الاستفتاء، إن أُجل أم أُجري، يشكل نهاية عراق الأمر الواقع.

الحياة

 

 

الكرد في 95 عاماً/ إياد الجعفري

ما بين عشية استفتاء محتمل للاستقلال في إقليم “كردستان العراق”، الاثنين، وما بين تطورات تاريخية كبرى طالت القضية الكردية بين عامي 1918 و1923، نقاط تشابه لا يمكن أن تخطئها عين المدقق بالتاريخ. وكذلك، نقاط اختلاف لا يمكن إنكارها في الميدان الراهن، اليوم.

أما نقاط التشابه، فهي كثيرة. أبرزها، ذاك الإجماع الإقليمي المؤثر، الرافض لاستقلال الأكراد في المنطقة. فكما اتفق الإيرانيون والأتراك في مطلع عشرينات القرن الماضي، على رفض مساعي بريطانيا لتأسيس كيان مستقلٍ للأكراد. يتفق الطرفان اليوم على رفض ذلك، أيضاً. ويتعاونان في ذلك الاتجاه.

وكما أن معاهدة سيفر عام 1920، التي منحت الأكراد حق الحكم الذاتي، والتوطئة للاستقلال الكامل، دفعت الأتراك حينها إلى الارتماء في أحضان الروس “السوفيت”.. يدفع الدعم الأمريكي للأكراد، تركيا، إلى الذهاب بعيداً أكثر في تحالفها مع الروس.

وكما أن بريطانيا، التي رعت المساعي النظرية لتأسيس الكيان الكردي مطلع عشرينات القرن الماضي، لم تبذل جهداً كافياً لدعم هذا الكيان، على الأرض، واستخدمت القضية الكردية، أداةً لابتزاز الأتراك، ومن ثم تخلت عنهم بهدف جذب الأتراك من قبضة التحالف مع الروس.. يُبدي الأمريكيون اليوم، في لحظة الحقيقة المتعلقة بمستقبل القضية الكردية، تخاذلاً ملحوظاً حيال دعم الخيار النهائي للكيان الكردي في شمال العراق، الذي حظي بدعم الأمريكيين طيلة عقد ونصف العقد..

يبدو الأمريكيون اليوم، كأسلافهم البريطانيين في المنطقة قبل 95 عاماً، غير مستعدين لخسارة تركيا، كحليف إقليمي، لصالح روسيا، كما أنهم غير مستعدين لمواجهة رد الفعل الإيراني، الذي قد يتبدى بالمزيد من النفوذ داخل العراق، على حساب الرصيد الأمريكي هناك..

وكما كان الأكراد، مطلع عشرينات القرن الماضي، منقسمين بين حلفاء لبريطانيا، متحمسين لها، وبين متهيبين منها، وميالين للتفاهم مع الأتراك.. كذلك هم أكراد المنطقة.. بينهم من هو متحمسٌ لاغتنام ما يعتبرها الفرصة التاريخية، لتحقيق حلم الاستقلال.. وبينهم من يخشى تبعات ذلك، خاصة منهم، أكراد جنوب تركيا، الذين صوت الكثير منهم لصالح حزب العدالة والتنمية، أكثر من مرة، في الانتخابات المتتالية منذ مطلع القرن الحالي..

وكما كان الأكراد قبل 95 عاماً، منقسمين، كقوى وتيارات، هم اليوم كذلك، منقسمين، في عموم المنطقة التي يتركزون فيها، في ثلاثة تيارات رئيسية، قومي تقليدي تمثله قيادة إقليم كردستان العراق، ويساري، يمثله حزب العمال الكردستاني وجناحه السوري، وتيار ثالث محافظ يصوت لحزب العدالة بتركيا..

بعد 95 عاماً، لا يختلف الكثير في مشهد القضية الكردية على صعيد المواقف.. فمواقف القوى الإقليمية هي ذاتها.. وربما، مواقف القوى الدولية أيضاً هي ذاتها، فتلك الأخيرة، تتعامل مع القضية الكردية بوصفها أداة لغايات أخرى.. ولا تُبدي جديّة في دعم خيارات الحلفاء الأكراد حتى النهاية.

لكن، هناك نقاط اختلاف دون شك، بين اليوم، وبين الوضع التاريخي قبل 95 عاماً.. فهناك اليوم كيانان كرديان قائمان على أرض الواقع، ويحظيان بوجود ميداني ومؤسساتي، جعلهما أمراً واقعاً، لا يمكن إغفاله.. لكن، هل يعني ذلك أن حلم الاستقلال بات قريباً؟ الجواب جاء من واشنطن التي وصف مسؤولوها الاستفتاء المزمع في كردستان العراق بأنه “مخاطرة، وتوقيته غير صحيح”..

إذاً، حلم الاستقلال ما يزال بعيداً.. وفي أحسن الأحوال، سيحصل قادة كردستان العراق على تنازلات من بغداد في قضايا متعلقة بالميزانية وتصدير النفط، سواء لتأجيل الاستفتاء، أو بعد تنفيذه، حيث سيُستخدم كورقة تفاوضية من جانب أربيل، لكنه لن يأخذ طريقه للتنفيذ في الأفق المنظور.

أمريكا اليوم، ليست أقوى من بريطانيا مطلع عشرينات القرن الماضي. وتركيا اليوم، وكذلك إيران، ليستا أضعف مما كانتا عليه قبل 95 عاماً، بل هما في وضع أقوى. لذا، فحكم التاريخ لم يتغير. لأن حقائق التوازنات الإقليمية والدولية، لم تتغير. فنحن فعلياً نعيش في حقبة توازن قوى، تشابه تلك التي عاشها العالم بين الحربين العالميتين.

لكن، هل يعني ما سبق أن الكرد سيتلقون صفعة قاسية، كتلك التي تلقوها من حلفائهم الغربيين، قبل 95 عاماً؟ الجواب يتعلق بمدى ما يستطيع تحقيقه الكرد. ففي الميدان، باتوا أمراً واقعاً لا يمكن تجاهله في أي تركيبة مستقبلية مرتقبة لسوريا، وكذلك للعراق. لكن طموح الاستقلال الناجز، لا يبدو أنه متاحٌ بعد.

في الحالة السورية، سيكونون جزءاً فاعلاً في تركيبة الدولة المرتقبة، لكنهم لن يستطيعوا الاستقلال عنها. ويبدو أن تصريحات مسؤوليهم تدرك هذا السقف، لذا يتحدثون عن الفيدرالية ضمن سوريا موحدة. وهو بالفعل، سقف ما يمكن أن يحصلوا عليه. فها هم أقرانهم في شمال العراق، بعد أكثر من 14 عاماً من الفيدرالية، لم يستطيعوا تجاوز هذا السقف. ولم يحظوا، حتى اللحظة، بضوء أخضر دولي، يسمح لهم بخرق هذا السقف. لأن ذلك الخرق يعني تداعيات إقليمية، لا تملك أي قوة دولية الإمكانيات الكافية لضبطها.

المدن

 

 

الفيدرالية نظاماً سياسياً/ رضوان زيادة

يسود في الأوساط السياسية العربية اليوم، وخصوصاً في العراق وسورية، نقاشٌ كبيرٌ بشأن ماهية النظام الفيدرالي وتطبيقاته. ويزداد الأمر سخونة الآن مع إعلان كردستان العراق نيتها إجراء استفتاء على استقلال الإقليم.

الفيدرالية نظام للحكم اخترعه المؤسسون الأميركيون، وسيلة للتسوية بين الصراعات التاريخية بين الولايات المختلفة ورغبتها في الانضمام إلى اتحادٍ يمثل الجميع، وكان مفتاح هذا الصراع هو فكرة السيادة المقسمة، فقد برز مفهوم السيادة نظريةً تُستخدم لتحديد اختصاص الدولة القومية التي فرضت سلطتها العلمانية والقسرية على جميع المنافسين الآخرين، من أجل السلطة على الشعب، فالاختراع الأميركي لفكرة الفيدرالية كان يقوم على أساسٍ غير قابل للطعن على المستوى الاتحادي الفيدرالي، وعلى مستوى الولايات.

وهكذا ولدت فكرة الفيدرالية على يد ماديسون وهاملتون، بهدف إقناع الولايات المختلفة الانضمام إلى الاتحاد، مع الاحتفاظ بسيادتها التاريخية وتقاسم المسؤولية، بناءً على الأولويات، والتي ما زالت قيد النقاش، لكن تبقى مسائل مثل الدفاع والخارجية مسائل تتعلق بالنظام الفيدرالي فقط، في حين تعود قضايا من مثل الشرطة المحلية ونظام التعليم، وغير ذلك من اختصاص الولايات.

ولا يختلف الوضع في كندا أو ألمانيا عبر تطوير النظام الانتخابي تاريخياً، واحدةً من مراحل

“يمكن للسوريين تطوير نظام سياسي تعدّدي، يحترم حقوق الكرد ومطالبهم” دفع الولايات المختلفة إلى الانضمام إلى الاتحاد الفيدرالي. لكن مع إبقاء صلاحياتٍ معتبرة بيد هذه الولايات. وقد اعتمدت أكثر من 30 دولة ديمقراطية النظام الفيدرالي نظاماً للحكم. وبالتالي يمكن القول إنه ليست هناك نسخة موحدة للنظام الفيدرالي، يمكن استنساخها، كما أنه ليست هناك نسخة موحدة من هيكلية النظام الديمقراطي أيضاً يمكن تكرارها أينما كان. لكن، يبدو الوضع في سورية عكس ذلك تماماً، فليس هناك تاريخ لأيٍّ من المحافظات المختلفة في الإدارة المستقلة، وبالتالي تصبح الفكرة الفيدرالية كأنها أصبحت تقسيماً إدارياً محضاً، وليس سياسياً.

وبالتالي، يقوم مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي على العكس، عبر فرض نظام فيدرالي من الأعلى إلى الأسفل، وليس كما تطوّرت فكرة الفيدرالية في كل البلدان التي تطبقها باعتبارها تسوية بين رغبة الولايات في الاستقلال ورغبتها في الانضمام إلى اتحاد أقوى وأكبر لتعزّز مصالحها، وتتضمن حماية أكبر لمواردها.

كما أنه ليس هناك نظام فيدرالي يقوم على أساس التقسيم الإثني، كما يسعى حزب الاتحاد الديمقراطي فرض ذلك في سورية، وربما كانت إثيوبيا البلد الوحيد الذي يقوم النظام الفيدرالي فيه على الأساس الديني والإثني، وهو ما مكّن قادتها من تعزيز فكرة الانقسام بين الأثيوبيين، بدل توحيدهم على مشروع سياسي واحد.

خيار الفيدرالية في سورية مستحيل واقعياً وسياسياً، فضلاً عن أنه غير ممكن تاريخياً كما شرحنا بالنسبة لتاريخ نشوء الأنظمة الفيدرالية في العالم، فضلاً عن أنه إذا أخذنا الاعتبارات التالية، فإن هذا الخيار يصبح مستبعداً أكثر فأكثر:

أولاً: حجم الكرد السوريين ليس كبيراً بالمقارنة مع أكراد العراق وتركيا وإيران، إذ يقدر عددهم بحوالى 1.6 مليون كردي سوري من أصل 23 مليون سوري، ومن غير المنطقي أن يشكلوا قوة تفاوضية، تستطيع مواجهة الرفض العربي المطلق لهذه الفكرة. كما أن كلاً من النظام السوري والمعارضة يرفض رفضاً مطلقاً وقاطعاً أي طرح يتضمن موضوع إنشاء إقليم أو دولة أو حتى إدارة ذاتية، حيث يرى السوريون أن لا أساس شرعياً لمثل هذه المطالب.

ثانياً: يتركز معظم الوجود الكردي في سورية في محافظة الحسكة التي يشكل الكرد فيها نسبة تقارب 30% من عدد سكان المحافظة ذات الأغلبية العربية، إذ يبلغ عدد القرى الكردية

“خيارات إقامة نظام فيدرالي في سورية أقرب إلى الصفر” 445 قرية من أصل 1717 قرية، هي مجموع قرى محافظة الحسكة، كما يتركز الكرد السوريون، وبنسبة أقل في أقصى شمال محافظة حلب في مدينة عين العرب (كوباني)، والقرى المحيطة بها، وبعمق لا يزيد على 15 كم جنوب المدينة وغربها، مختلطاً مع قرى عربية، وفي منطقة عفرين في أقصى الشمال الغربي من محافظة حلب. فلا يشكل الكرد أغلبية سكانية في أي من المناطق التي يسكنونها بالمقارنة مع العرب الذين يجاورونهم في المنطقة نفسها، فباقي الكرد السوريين يسكنون في دمشق وحلب.

ثالثاً: عدم الترابط الجغرافي بين مناطق انتشار الكرد في سورية: يتوزع الكرد جغرافياً في مناطق منفصلة عن بعضها، إذ تبلغ المسافة بين القامشلي وعين العرب (كوباني) حوالى 300 كم، أكثر من 150 كم منها خالية من أي وجود كردي، كما أن المسافة بين عين العرب كوباني وعفرين، يتخللها أكثر من 100 كم يسكنه العرب والتركمان.

رابعاً: محاذاة المناطق الثلاث لتركيا، وحيث أن الحالة الكردية في سورية ترتبط بشكل وثيق بالقضية الكردية في تركيا، فإن من الصعب جداً تقبل فكرة قيام كيان كردي محاذٍ لتركيا، خصوصاً وأن أكراد تركيا قد دخلوا مرحلة جديدة بعلاقتهم مع الدولة التركية بعد انهيار عملية السلام.

يمكن القول إن خيارات إقامة نظام فيدرالي في سورية أقرب إلى الصفر، لكن هذا لا يعني أبداً أنه لا يمكن للسوريين تطوير نظام سياسي تعدّدي، يحترم حقوق الكرد ومطالبهم، عبر إعادة هيكلة النظام السياسي، لكي يكون نظاماً برلمانياً واختيار النظام الانتخابي وإعادة رسم الدوائر الانتخابية.

العربي الجديد

 

 

 

استفتاء إقليم كردستان العراق بين الإصرار الكردي والمعارضة الإقليمية

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

بعد ثلاث سنوات من إعلان رئيس حكومة إقليم كردستان العراق؛ مسعود البرزاني، نيته إجراء استفتاء في تقرير المصير، فإنه يتجه إلى إجراء هذا الاستفتاء في موعده المقرّر في 25 أيلول/ سبتمبر 2017. وكانت المحكمة الاتحادية العليا في العراق، والتي تعد أعلى سلطة قضائية في البلاد، أصدرت قرارًا بوقف إجراءات الاستفتاء إلى حين حسم الدعاوى المقامة بعدم دستوريته. ومع إصرار حكومة البرزاني على إجرائه في موعده، تتصاعد المواقف الدولية الرافضة إجراء الاستفتاء، خشية حدوث أزمة كبرى داخل العراق، تمتد إلى الإقليم كله، بعد أن هدّد رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، بإمكان اللجوء إلى القوة، إذا أدّى الاستفتاء إلى انتشار العنف والفوضى، عادًّا ذلك انتهاكًا لسيادة العراق. ومن بين كل المواقف الدولية حيال توجه إقليم كردستان العراق نحو الاستفتاء على “تقرير المصير”، يستأثر الموقفان؛ التركي والإيراني، باهتمام خاص، من حيث إن الدولتين تريان نفسيهما الأشدّ تأثرًا بما يجري في شمال العراق؛ بسبب وجود أقلياتٍ كرديةٍ كبيرة في أراضيهما، وفي مناطق متاخمة للمناطق التي يقطنها الأكراد شمال العراق. فضلًا عمّا يمكن أن يطلقه قيام دولة كردية من نزعاتٍ انفصاليةٍ في سائر المنطقة، ستقود إلى تغيراتٍ كبيرة في المنظومة الإقليمية، لا يمكن السيطرة عليها.

دوافع إقليم كردستان

يتمتع إقليم كردستان العراق بحكم ذاتي كامل منذ عام 1992، وقد أعطاه الدستور العراقي الذي جرى إقراره في ظل الاحتلال الأميركي للعراق عام 2005، صلاحياتٍ واسعة، بما فيها تشكيل حكومة خاصة به، وإنشاء أجهزتها الأمنية والعسكرية، وإقامة قنصليات، واستقبال مسؤولين أجانب، وإجراء تعاملات خارجية من دون العودة إلى الحكومة المركزية في بغداد. وللإقليم أيضًا علَمُه ونشيده الوطني. وقد سمحت الشراكات الاقتصادية والأمنية، مع تركيا والولايات المتحدة خصوصًا، بمراكمة ما يمكن عدّها “سيادة محدودة” للإقليم.

ومع أن حلم الاستقلال الكردي قديم، فإن مظاهر السيادة المحدودة هذه ساهمت في تغذية

“مظاهر السيادة المحدودة ساهمت في تغذية التطلعات الانفصالية للإقليم عن حكومة بغداد” التطلعات الانفصالية للإقليم عن حكومة بغداد، وكانت هذه التطلعات تخبو وترتفع، بحسب موازين القوى مع الحكومة المركزية، وكذلك وفق الظروف الدولية والإقليمية السائدة. لكن بعض العوامل، مثل صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وسيطرته على مساحاتٍ واسعة من شمال العراق وغربه صيف عام 2014، وتوجّه الولايات المتحدة إلى الاعتماد على الإقليم، وخصوصًا قوات “البشمركة” الكردية، في التصدّي له، وكذلك في مواجهة النفوذ الإيراني في العراق، مثلت فرصة سانحة لرئيس إقليم كردستان للإعلان عن نيته إجراء استفتاء في الاستقلال، لكنه لم يضع تاريخًا محددًا له إلا في حزيران/ يونيو 2017.

ومع بلوغ الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية نهايتها، أخذت قيادة الإقليم، ممثلة بالرئيس مسعود البرزاني، تنظر إلى الاستفتاء بوصفه مخرجًا لها من أزماتٍ وملفاتٍ شائكة كثيرة، تتصدّرها مسألة “المناطق المتنازع عليها” بين أربيل وبغداد، وخصوصا ما يتعلق بمحافظة كركوك الغنية بالنفط، والمناطق التي دخلتها قوات البشمركة إبّان معركة الموصل الأخيرة. كما أن الإقليم الذي وضع يده على أسلحة ثلاث فرق عسكريّة في الجيش العراقي فرّت أمام تنظيم الدولة الإسلامية في حزيران/ يونيو 2014، لا يرغب في إعادتها إلى الحكومة العراقيّة، ويعدها تعويضًا عن “الأعباء المادية والعسكرية” التي تحمّلها الإقليم في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في محافظة نينوى. فضلًا عن ذلك، يمثل الاستفتاء مخرجًا للرئيس البرازني في مواجهة جملة تحديات سياسية واقتصادية حرجة، وكذلك لشرعية وجوده في السلطة، بعد انتهاء فترة ولايته والتمديد له (وهو عامل شخصي ذاتي لا يجوز التقليل من أهميته في توقيت هذه القرارات المصيرية)؛ الأمر الذي دفعه إلى تعطيل البرلمان عام 2015، واحتقان علاقته، بسبب ذلك، مع القوى والتيارات السياسية الكردية الأخرى، وفي مقدمتها الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير.

وتبرز الانتخابات البرلمانية العراقية المزمع إجراؤها في ربيع 2018، بوصفها دافعًا مهمًّا آخر لقيادة الإقليم لرفض تأجيل الاستفتاء؛ إذ ترى أربيل أن الانتخابات العامة المقبلة سوف

“قيادة الإقليم تنظر إلى الاستفتاء بوصفه مخرجًا لها من أزماتٍ وملفاتٍ شائكة كثيرة” تفضي إلى تغييراتٍ جوهرية في المشهد السياسي العراقي، تسمح للحشد الشعبي المدعوم إيرانيًا بتعزيز مواقعه في السلطة، بعد تنامي شعبيته بين العراقيين الشيعة، في مقابل تراجع مكانة الأحزاب والقوى التقليدية الأخرى. وما يعمّق مخاوف أربيل أن قادة الحشد لا يخفون استياءهم مما يعدّونه استغلالًا كرديًا لأوضاع العراق وصراعاته الداخليّة منذ عام 2003، لتحصيل مكاسب إضافية لا يتضمنها الدستور، وتوظيفها للمضي في خيار الانفصال، وقد أعلن قادة الحشد، غير مرة، عن رغبتهم في إعادة سلطة “الحكومة المركزية” إلى مختلف أرجاء العراق، بما فيها إقليم كردستان العراق.

يبرز خلاف المعارضة الداخلية الكبيرة التي تبديها الحكومة المركزية، وقوى سياسية أخرى، لإجراء الاستفتاء، موقف إسرائيل المؤيد من دون تحفظ للانفصال، بوصفه يصب في مصلحة الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل، بحسب رئيس حكومة الأخيرة، بنيامين نتنياهو، الذي بادر إلى الإعلان عن هذا الموقف، من دون أن يسأله أحد، كما تبرز إقليميًا مواقف كل من تركيا وإيران من حيث أنهما الأشد معارضةً لاستقلال إقليم كردستان العراق.

محدّدات الموقف التركي

جاء الموقف التركيّ متوقعًا في رفضه خطوة الاستفتاء؛ إذ وصفتها الخارجية التركية في 9 حزيران/ يونيو 2017 “خطأ مميتا”، وعدّها رئيس الوزراء بن علي يلدرم قرارًا “غير مسؤول”. وقد تصاعدت نبرة الخطاب التركي تدريجيًا مع اقتراب موعد الاستفتاء وتنامي الرفض الدولي له، لتتضمن تهديداتٍ مبطنةً باستخدام القوة، كما جاء في تصريحات وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، في 14 أيلول/ سبتمبر 2014. لكن التصريحات السابقة، وإن كانت تتماشى مع المقاربة التركية التقليدية تجاه المسألة الكردية، لا تفسّر بمفردها توجهات صانع القرار التركي تجاه الإقليم، قبل الاستفتاء أو بعده. فالعلاقات بين تركيا والبرزاني تعود إلى عام 1987، بعد تبني الأخير استراتيجية تقوم على التوافق مع أنقرة، لإضعاف منافسه في الساحة الكردية حزب العمال الكردستاني، الخصم الأبرز لتركيا.

وعلى الرغم من تعرّضها لهزات واختلالات عدة، حافظت علاقات الجانبين على مسار تطوّرها خلال العقد الماضي؛ إذ كان الإقليم بوابة أنقرة تجاه العراق، لموازنة النفوذ الإيراني، وتعويض خسائرها الاقتصادية الناجمة عن موقفها الرافض للغزو الأميركي للعراق عام 2003.

وفي ضوء الاعتمادية الاقتصادية، والتنسيق العسكري المشترك، إذ يحتفظ الجيش التركي بمعسكر له داخل أراضي إقليم كردستان في بعشيقة، قد يفهم الموقف الحالي للحكومة التركية من الاستفتاء بأهدافه الآنية، ولا يمثل بالضرورة توجهًا إستراتيجيًا يحكم العلاقات المستقبلية مع الإقليم. فداخليًا، وبينما يدعو بعض نواب حزب العدالة والتنمية إلى احترام خيار “شعب كردستان العراق”، يرفض حزب الحركة القومية اليميني الاستفتاء، ويدعو إلى مواجهته. وأمام هذا الواقع، تبدو الحكومة مضطرةً إلى تصعيد نبرتها الخطابية ضد الإقليم وقيادته، تجنبًا لأي تداعيات محتملة على تفاهماتها الحزبيّة، ضمن المشهد السياسي داخل تركيا، قبيل خطوة

“تصاعدت نبرة الخطاب التركي تدريجيًا مع اقتراب موعد الاستفتاء وتنامي الرفض الدولي له”  الانتقال إلى النظام الرئاسي عام 2019. وإقليميًا، تتشارك أنقرة وأربيل المخاوف بشأن تنامي قوة الحشد الشعبي، وتعاظم النفوذ الإيراني في العراق من خلاله. لكنها، من جهةٍ أخرى، تسعى إلى الوصول مع طهران إلى تفاهماتٍ تخص المسألة الكردية، بحيث تتعاون تركيا مع إيران لمواجهة تداعيات نتائج الاستفتاء في العراق، في مقابل تعاون إيران مع تركيا لمحاربة قوات الحماية الكردية في سوريّة.

الرؤية الإيرانية

يبدو الموقف الإيراني أشدّ حزمًا في معارضة الاستفتاء من تركيا، بل كان استفتاء الإقليم أحد العوامل الرئيسة في التقارب السياسي والعسكري بين البلدين خلال الأشهر الماضيّة. ويعود موقف إيران إلى مجموعة عوامل داخليّة وخارجيّة، فالمسألة الكردية في إيران، وإن كانت تداعياتها أقل وطأةً من مثيلاتها في تركيا والعراق، تمثل مصدر قلق دائم لدولةٍ متعدّدة الإثنيات والقوميات، مثل إيران خصوصا. ويفاقم من هذه المخاوف عودة مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدكا) إلى نشاطهم العسكري في إيران، إثر توقف دام زهاء 15 عامًا من جهة، وتصاعد هجمات مقاتلي حزب الحياة الكردستاني (جناح حزب العمال الكردستاني في إيران)، في المناطق الحدوديّة، من جهة ثانية.

وتخشى طهران أن ينعكس انفصال إقليم كردستان سلبيًا على دورها الإقليمي، بعد أن ضمنت موقعًا متقدمًا في العراق وسورية خلال السنوات الماضية، وترى أن الخطوة الكردية تتناغم مع التوجه الأميركي الرامي إلى تقليص نفوذها عبر تقطيع جغرافي لأوصال الدول التي تنشط ضمنها. وفي سياقٍ مواز، يثير الحماس الإسرائيليّ الرسمي لاستقلال كردستان العراق، هواجس جدّية في إيران، عن إمكان تنامي النشاط الإسرائيلي في مناطق قريبة إليها جغرافيًا.

انطلاقًا مما سبق، يمكن أن نفهم تهديدات الحكومة العراقيّة والحشد الشعبي بالتدخل العسكريّ في كردستان العراق، بوصفها رسائل إيرانيّة أيضًا عن الخيارات المحتملة لطهران، لو استمرت حكومة الإقليم في نهجها الحاليّ. وفي هذا السياق أيضًا، يمكن وضع تهديدات رئيس هيئة الأركان العامة الإيرانية، كريم باقري، خلال زيارته تركيا، وهي الأولى من نوعها لرئيس أركان إيراني منذ عام 1979، بخصوص القيام بإجراءاتٍ مشتركةٍ تركيةٍ – إيرانيةٍ لمواجهة التداعيات المترتبة عن احتمال مضي الإقليم في خيار الاستقلال.

خاتمة

من غير الواضح أن حكومة إقليم كردستان سترضخ للضغوط العراقية والإقليمية والدولية الداعية إلى تأجيل الاستفتاء، أو ستتحداها وتمضي في إجرائه، ولا سيما أن المستقبل السياسي لرئيس الإقليم، مسعود البرزاني، بات معلقًا به أكثر من أي وقت مضى. أما إذا قرّر البرزاني التراجع عن قراره، أو عدم تنفيذ نتائج الاستفتاء بعد إجرائه، فالأرجح أنه سيستخدم ذلك ورقةً تفاوضيةً للحصول على أثمانٍ كبيرة من الحكومة المركزية في بغداد، سياسيةً كانت، متصلة بتسوية وضع المناطق المتنازع عليها، أم اقتصادية، ليبرّر تراجعه عن موقفه أمام الناخب الكردي الذي دخل أجواء وعود الاستقلال بحماسة كبيرة، علما أن إقليم كردستان يئن تحت وطأة ديْنٍ كبير يقدر بما يراوح بين 10-12 مليار دولار، أي ما يعادل الناتج الإجمالي المحلي، في وقتٍ عجزت فيه حكومة الإقليم عن دفع رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين منذ شهور عديدة.

ولو تراجع البرزاني عن إجراء الاستفتاء، فسيقدّم ذلك بوصفه استجابة لـ “العرض الدولي”، الذي قدّمته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، فضلًا عن الأمم المتحدة، ويتضمن، في ما سُرِّب منه، تأجيلًا للاستفتاء، توازيه مفاوضات بين حكومة بغداد وإقليم كردستان لحسم النقاط العالقة.

جميع حقوق النشر محفوظة 2017

 

 

 

 

 

إيران و”الدولة الكردية”: مخاوف أمنية وتحديات استراتيجية/ د. فاطمة الصمادي

تناقش هذه الورقة أبعاد الموقف الإيراني من “استفتاء الأكراد”، وما يحمله من تهديدات لإيران على الصعيد الداخلي والخارجي، وكيف ستتعامل إيران مع تبعاته المحتملة إذا ما تم.

مقدمة

تقف إيران معارِضة بشدة للاستفتاء المزمع إجراؤه في كردستان العراق في الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول 2017. وتأتي المعارضة بشكل جوهري من منطلقات أمنها القومي، فضلًا عمَّا سيفرضه استقلال الإقليم من تحديات ومصاعب في وجه النفوذ والدور الإيراني في المنطقة؛ إذ إن هذه التطورات قد تؤدي إلى تقسيم العراق وهو ما يُدخل هذا النفوذ في مأزق صعب.

حاولت طهران، وعلى أكثر من صعيد ومن خلال قنوات عدة، أن تحول دون إجراء الاستفتاء، ووظفت علاقاتها ونفوذها للحيلولة دونه، وسعى قائد فيلق القدس، الجنرال قاسم سليماني، إلى استثمار نفوذه في كردستان لثني الأكراد عما أعلنوا عنه، لكن الخطوات الإيرانية جاءت سابقة ولاحقة لإعلان مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان عن قرار عقد الاستفتاء في فبراير/شباط 2016.

وبينما تواصل بغداد وأنقرة التحذير من تداعيات الاستفتاء داخليًّا وإقليميًّا، قادت المعارضة الإقليمية والدولية، رئيس وزراء إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، إلى الحديث عن إمكان العدول عن إجراء استفتاء في الإقليم، معلنًا أنه تسلَّم من المجتمع الدولي مقترحات جديدة بديلة “أفضل مما كان سابقًا”.

ومن الواضح أن طهران تعوِّل على القوى العراقية المتحالفة معها لمواجهة الخطوة الكردية، وهو ما ألمح إليه وزير الخارجية الإيراني الأسبق، ورئيس مركز الأبحاث التابع لمجمع تشخيص مصلحة النظام د. علي أكبر ولايتي، فـ”إيران حليف استراتيجي للعراق وتدعم أي قرار تتخذه الحكومة المركزية تجاه الاستفتاء”، معتبرًا أن”إنشاء دولة كردية يصب ضمن الأهداف الصهيونية لإيجاد إسرائيل ثانية وثالثة في المنطقة”.

تناقش هذه الورقة أبعاد الموقف الإيراني من “استفتاء الأكراد”، وما يحمله من تهديدات لإيران على الصعيد الداخلي والخارجي، وكيف ستتعامل إيران مع تبعاته المحتملة إذا ما تم.

طهران: الاستفتاء خطأ استراتيجي

إن كانت تركيا تقيم علاقات مع إسرائيل وتدرك حجم ومساحة الحضور الإسرائيلي في كردستان، فإن إيران لديها مخاوف أكبر على هذا الصعيد. وهو ما بدا واضحًا في الخطبة التي ألقاها خطيب جمعة طهران، آية الله أحمد خاتمي، فالاستفتاء في حقيقته “مؤامرة إسرائيلية”..، “هو الحلم القديم لقوى الاستكبار العالمي الذي يسعى من خلال دعم استفتاء كردستان إلى إقامة إسرائيل جديدة في المنطقة” (1).

والحديث عن الدور الإسرائيلي تكرَّر على لسان المستشار الخاص لرئيس البرلمان الإيراني للشؤون الدولية، حسين أمير عبد اللهيان، فإسرائيل هي “أكبر داعم لقيام دولة کردية، ولن ترضى إيران بأي دور إسرائيلي على حدودها”.

وفي موضع آخر يصف عبد اللهيان خطوة الاستفتاء بـ”الخطأ الاستراتيجي الجديد الذي يرتكبه مسعود البارزاني؛ إذ يستعجل الدخول في عملية تؤدي إلى التلاعب بأمن ومستقبل العراق، وما يقوم به لن يخدم مستقبل الأكراد فحسب بل سوف يؤدي أيضًا إلى زعزعة الأمن في إقليم كردستان العراق”.

وصف الاستفتاء بـ”الخطأ الاستراتيجي” ورد أيضًا على لسان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية “بهرام قاسمي”، الذي لخص الموقف الإيراني بأنه يرى في الاستفتاء تهديدًا لأمن واستقرار العراق، ويجرُّ المنطقة للفوضى والتقسيم. ولا تُخفي إيران مخاوفها من أن انفصال كردستان العراق سيكون أشبه بكارثة تتعرض لها المنطقة، فـ”ذلك يدفع باتجاه تقسيم وتجزئة دول في الشرق الأوسط، مما يضع مصير أكراد العراق وبقية شعوب المنطقة في قلب أزمة ستضر بالجميع”، فضلًا عن أنه لن يكون بمقدور أحد في المنطقة الإفلات من “التداعيات الكارثية” للاستفتاء المرتقب.

أما البديل الإيراني لما يزمع الأكراد تحقيقه، فهو: “تحقيق طموحاتهم والحصول على حقوقهم كاملة في ظل عراق واحد وديمقراطي، وعبر دستور وطني” (2).

خيارات طهران

في الخامس عشر من أغسطس/آب 2017، وبناء على دعوة سابقة من نظيره التركي، خلوصي أكار، قَدِمَ رئيس الأركان الإيراني، محمد حسين باقري، إلى أنقرة على رأس وفد عسكري وسياسي رفيع المستوى؛ وذلك في زيارة هي الأولى من نوعها منذ الثورة الإيرانية، واستمرَّت على مدى ثلاثة أيام. وكان من أهم أهداف الزيارة بلورة موقف موحَّد من استفتاء إقليم شمال (كردستان) العراق؛ وذلك باعتباره محطة على طريق استقلال الإقليم، وما له من انعكاسات سلبية على الملف الكردي في كلا البلدين؛ وقد حذَّر وزير الخارجية التركي من أن يؤدي الاستفتاء إلى حرب أهلية عراقية، كما أكد باقري رفض طهران وأنقرة له، واعتباره بداية توتر جديد في المنطقة. وكان من الأهداف أيضًا مواجهة المشروع السياسي الكردي في سوريا (3).

تقول مؤشرات عدَّة: إن التصعيد سيكون سيد اللهجة الإيرانية تجاه كردستان العراق في المرحلة المقبلة. ونجد الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي، علي شمخاني، قد نقل الموقف الإيراني من الاستفتاء إلى مستويات أخرى ذات طبيعة أمنية وسياسية، وبناء على وجهة النظر التي يطرحها شمخاني فـ”إيران تعترف رسميًّا بدولة العراق الموحدة والفيدرالية فقط وإجراء استفتاء الإقليم يعني إنهاء جميع الاتفاقات مع إيران”.

تنظر إيران إلى الاستفتاء على أنه مساس بمبدأ استراتيجي لديها (وحدة العراق)، وهي الوحدة التي تضمن استمرار نفوذها، وهذا المساس سوف يؤدي إلى مراجعة وتغيير لمسار التعاون القائم بين إيران وإقليم كردستان العراق. ومن ذلك المعابر والمناطق الحدودية بين إيران وإقليم كردستان العراق، فهذه المعابر وفق ما يشير إليه شمخاني “تستمد شرعيتها من وجود الإقليم ضمن العراق الموحد، والاتفاقيات الحدودية مع الإقليم تعتبر نافذة في إطار حكومة العراق المركزية فقط وانفصال الإقليم عن الدولة العراقية يعني غلق المعابر والمخافر الحدودية المشتركة”.

تكمن الإشكالية في أن العلاقات بين إيران والإقليم تشتمل على اتفاقيات عسكرية وأمنية، وقد يعني الانفصال أن تصبح هذه الاتفاقيات باطلة، وسيدفع ذلك طهران إلى مراجعة سياستها لمواجهة ما يمكن أن يكون نشاطًا مناوئًا لها من جماعات قد توجد في الإقليم.

تتعامل إيران بحساسية عالية مع “القضية الكردية”، ويشير كثير من الدراسات الإيرانية، إلى السعي لتحقيق الهوية والثقافة الكردية، وارتفاع سقف المطالب السياسية والثقافية والاقتصادية للأكراد لديها، على أنها “تهديدات ناعمة (4) للأمن القومي الإيراني” (5).

قاد الاعتراف بحكومة إقليم كردستان وبالتالي إنشاء نظام ديمقراطي في شمال العراق ووجود النخبة الكردية المؤثرة في الحكومة المركزية العراقية إلى إحياء القومية الكردية في معظم الدول التي تشهد وجودًا كرديًّا، وحمل ذلك في طياته تهديدًا ناعمًا، وصلبًا لحكومات تلك المناطق. بشكل أو بآخر “أصبحت كردستان العراق مهوى الأفئدة لـ25 مليون كردي ينتشرون في المناطق الجبلية الغنية بالنفط في سوريا وتركيا وإيران والعراق” (6)، وهو ما يشير إلى قدرة إقليم كردستان العراق الناعمة والفعالة على تحويل نفسه إلى كيان جاذب للأكراد في أكثر من دولة (7).

يُعزِّز من قدرة كردستان أنها تمتد في أربع دول في الشرق الأوسط، هي: إيران وتركيا وسوريا والعراق، إضافة إلى غرب القوقاز، وعلى أرض كانت مهدًا لأربع من الحضارات القديمة، وأربع من الهضبات: إيران والمملكة العربية السعودية والأناضول والقوقاز، وتُشكِّل ممر عبور بين القارات بين آسيا وأوروبا وإفريقيا (8).

وجغرافيًّا يمتد “موطن الأكراد” على أجزاء من غرب وشمال غرب إيران وشرق وجنوب شرق تركيا وشمال وشمال شرق العراق وسوريا، وغرب القوقاز. في فضاء يمتد بين جبل أرارات في الجنوب وصولًا إلى أورميه، وسنندج وكرمنشاه في إيران ومن ثم إلى الغرب حتى مندلي ثم الموصل في العراق وصولًا إلى غرب القامشلي في سوريا وشرق الإسكندرون في تركيا، ثم شرقًا إلى أرارات (9).

وتبلغ مساحته حوالي 409650 كيلومترًا مربعًا، موزعة كالتالي:

194400 كم² في تركيا.

124950 كم² في إيران.

72000 كم² في العراق.

و 18300 كم² في سوريا (10).

واقع الأكراد في إيران

وبالنسبة للأكراد في إيران نعيد القارىء إلى دراسة قيمة أنجزها الباحث كامران شهسوراي لمركز الجزيرة للدراسات وحملت عنوان: القوميات في إيران والحقوق السياسية(1)، ونلخص أهم ما جاء فيها على هذا الصعيد بالتالي:

يبلغ عدد السكان الأكراد في تلك الدول حوالي 30 مليون نسمة.

بعد الفتوحات الإسلامية اعتنق الأكراد الدين الإسلامي، مع وجود أقلية من الطوائف الأخرى التي تقطن ضواحي كرمانشاه، من أمثال الكيهلير والسنجاب وأقلية كردية تعتنق المذهب الشيعي، إلا أن السواد الأعظم من القومية الكردية يعتنق المذهب السني الشافعي.

بالرغم من الثروات الطبيعية والأراضي الواسعة التي تتمتع بها منطقة كردستان، إلا أن الشعب الكردي من أفقر الشعوب بالنظر إلى دخل الفرد المنخفض.

ومن الأمور التي تركت تأثيرًا سلبيًّا على الأكراد: الفقر والقضايا البيئية، وهو ما يشمل سوء التغذية والملبس والمسكن والصحة والتعليم. ويبلغ متوسط عدد أفراد الأسرة الكردية ما بين ستة إلى سبعة أشخاص. وقد انتشر، وبشكل متزايد وملحوظ، معدل البطالة المقنعة وعمليات تهريب المخدرات وبخاصة في المناطق الكردية المجاورة للحدود مع الدول الأخرى.

إلا أن الأكراد يقدِّرون للحكومة الإيرانية إنشاء المصانع وورش العمل ضمن الإطار المهني؛ حيث تم توظيف أبناء المنطقة في هذه المنشآت.

بشكل عام، فإن الأكراد يعتزون كثيرًا بقوميتهم وانتماءاتهم الكردية، وتتمركز الطبقة الوسطى من القومية الكردية في الحضر، ولا يتمتع سكان الريف والفلاحون بقوة اقتصادية ومادية كبيرة كما يجب أن يكون عليه الحال (11).

في إيران، تتم المعاملات بين الحكومة المركزية والأفراد بصورة مغايرة جدًّا وجوهرية عن الدول الأخرى التي تسكنها القوميات الكردية؛ ففي إيران تشترك القومية الكردية مع سائر البلاد في المجالات الثقافية والتاريخية والعرقية واللغوية، وكذلك المؤسسات، كما أنها تشترك أيضًا في أساطير الماضي، وفي التاريخ المشترك؛ لذا، لا الحكومة الإيرانية ولا حتى الإيرانيين أنفسهم ينظرون إلى القومية الكردية على أنها أقلية قومية (12).

في العصر الحديث، وبعد قيام الدولة الإيرانية وزوال حكومات المحافظات شبه الإقطاعية، قام الأكراد بطرق مختلفة بزيادة مستوى حرياتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولاسيما في أوقات ضعف الحكومة المركزية؛ حيث قامت بعض الجماعات الكردية المسلحة بمواجهة الحكومة، وبرزت هذه الظاهرة خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وكذلك في السنوات التي تلت الثورة الإسلامية في إيران. ولكن في كل الحالات عجزت تلك الجماعات عن زعزعة وتغيير الحكومة الإيرانية، كما أوضح ذلك كل من أحمد رضائي ومهناز ظهيري نجاد في دراساتهم عن الأكراد الإيرانيين (13).

تشير الأدلة إلى محاولات حكومية إيرانية لتوفير ظروف اجتماعية وسياسية لمشاركة الأكراد على الصعيد الوطني، حتى يثبتوا تجانس هذه القومية مع بقية الشعب الإيراني.

في فترة حكم الرئيس الإيراني السابق، محمد خاتمي، والتي دامت ثماني سنوات؛ كان من شعارات خاتمي شعارات انصبت على تعزيز التنمية السياسية والتي كانت وسيلة عملية لمشاركة أكبر من شرائح الشعب الإيراني بمن فيهم الأكراد، وشهدت هذه الفترة انخفاضًا كبيرًا في أعمال الشغب والاضطرابات والتي كانت تؤدي إلى المواجهات العسكرية، حتى إن الميول الكردية المطالِبة بالانفصال والحكم الذاتي والاستقلالية من قبل بعض الجماعات الكردية أظهرت انخفاضًا ملحوظًا. ويرجع الفضل في ذلك إلى تحقيق وتلبية بعض المطالب الكردية، فقد قامت الحكومة الإيرانية بتعيين مجموعة من الأكراد في مناصب حكومية في الدولة.

رافق ذلك ارتفاع نسبة الحريات في كتابة المقالات والصحف الناطقة باللغة الكردية، بالإضافة إلى رفع حرية الصحافة في المطبوعات الكردية، والسماح لهم بتأسيس جماعات أدبية ومهنية واجتماعية من قبل الدولة الإيرانية، جاء ذلك أيضًا مع زيادة الأحزاب والمراكز الثقافية الكردية.

يسجِّل الكاتب ملاحظة مفادها أن ارتقاء المشاركة السياسية والاجتماعية للقومية الكردية في رسم السياسات، كان له الفضل الكبير في تقوية الإحساس بالوطنية بين الأكراد وتعزيز العلاقة بينهم وبين الدولة؛ مما أدى أيضًا إلى زيادة الولاء الكردي وعدم مطالبتهم بالانفصال عن الدولة الإيرانية.

ولكن هذه السياسة لم تستمر في عهد الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد؛ مما أدى إلى تقلص مشاركة الأكراد في عمليات الانتخابات وشجع بدوره مطالبتهم بالاستقلال والانفصال عن الدولة. وفي هذه الفترة أيضًا زادت عمليات الاعتقال في الأوساط الكردية وشملت أئمة المساجد ورجال الدين، ولكن التجارب أثبتت أن مثل هذه السياسات لا يمكن أن تكون مناسبة لأي حوار من أجل حل المشکلات.

عادت مشاركة الأكراد مع مجيء روحاني حيث وصلت نسبة من صوَّتوا له عام 2013 في كردستان 72%، وفي عام 2017 صوَّت 73% لصالح روحاني، وكانت نسبة المشاركة في كردستان 59%.

وإذا نظرنا إلى قضية المشاركة السياسية؛ وذلك من خلال المشاركات في عمليات الانتخابات، نلحظ أن المناطق الكردية والتي تسكنها القومية الكردية والتي تُشكِّل الطائفة السنية النسبة الغالبة فيها تسجل مشاركة قليلة جدًّا. ويُعزى السبب في زيادة المشاركة الكردية الشيعية في الانتخابات والتي تشمل انتخابات الرئاسة وانتخابات مجلس الشورى، وكذلك الانتخابات المحلية في المحافظات والأرياف، إلى الدافع المذهبي؛ حيث إن القومية الكردية من الطائفة الشيعية لا تشعر بإحساس الإبعاد والتأزم بينها وبين الحكومة كالذي يسود في المناطق السنية (14).

تنامي التهديد الناعم

رصدت دراسات إيرانية تنامي ما اعتبرته تهديدات ناعمة على أساس العِرق والقومية العرقية في بعض أجزاء إيران جاءت مواكِبة ولاحقة للتطورات التي شهدها إقليم كردستان عقب احتلال العراق عام 2003، وبات يُنظر إلى تهديد الهوية والعرق الكرديين، نظرًا للاستقلالية الحالية لكردستان العراق الجديد، كتهديد كبير للأمن القومي الإيراني (15).

ومما لا شك فيه أن التهديدات الناعمة لإقليم كردستان ستزيد تدريجيًّا بالتزامن مع الرغبة في تحقيق كردستان الكبرى، وقد جعلت وسائل الإعلام الكردية تركيزها واضحًا على الأهداف المشتركة الكردية، مما يقود إلى التنبؤ بشكل المطالب التي ستشهدها المناطق الكردية في إيران في المستقبل.

وتحسبًا لذلك، قدمت دراسات إيرانية عددًا من المقترحات لصانع القرار، كان من أبرزها:

تعزيز روح الأمل في المستقبل ومواجهة الإحباط الذي يُروِّج له الإعلام الخارجي عند الحديث عن المناطق الكردية. – محاولة الحفاظ على الوحدة بين المجموعات الإثنية الإيرانية، مع التركيز على العادات والتقاليد والثقافات المشتركة بين الشعوب التي تعيش على الهضبة الإيرانية.

التصدي للمعارضين الانفصاليين.

الاعتراف بأضرار وقصور السلوك الداخلي في التعامل مع الحركات المعارضة.

توظيف الأمن الذكي في مراقبة وحجب وسائل الإعلام؛ والمواقع الداعية للانفصال.

التواصل مع زعماء المجموعات العرقية الكردية لدراسة التحديات والفرص المتاحة، لتعزيز مشاركة وحضور الأكراد في إيران.

الاستفادة من القدرات الفكرية والتنفيذية للأفراد والجماعات من مختلف المجموعات الإثنية في إيران.

تعزيز وتطوير العلاقات مع الناس والسلطات المحلية في المناطق الكردية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

الاستخدام الأمثل للتنوع العرقي والثقافي في إيران والتعامل معه كفرصة.

التوجه لاختيار المديرين المحليين من المناطق والمحافظات.

إقامة قنوات مختلفة للتواصل مع السلطات في كردستان ومناقشة القضايا المثيرة للجدل والخلافية معها (16).

خاتمة

قد تفكر الحكومة الإيرانية في المقترحات السابقة للتعامل مع هذه التطورات استجابة لتحدي ساحتها الداخلية، خاصة وأن العلاقة بين أكراد إيران وحكومتها شهدت شدًّا وجذبًا ومواجهات في مراحل مختلفة من تاريخها قبل الثورة وبعدها. ومن المؤكد أن خطوة الإقليم سترتب تحديات أكثر خطورة على صعيد العلاقة بين إيران ومواطنيها من الأكراد.

وعلى الصعيد الأمني والسياسي، فإن إيران لن تتوانى عن تقديم الدعم للحكومة المركزية في العراق إذا ما قادت هذه الخطوة إلى فوضى أو مواجهات مسلحة، ويمكن هنا استحضار ما نشرته المونيتور حول الاجتماعات التي عقدها قائد فيلق القدس، اللواء قاسم سليماني، مع قادة أربيل، وينقل الكاتب عن مسؤول في الحزب الوطني الكردستاني، أن سليماني حذَّرهم: “لقد منعنا حتى اللحظة هجوم الحشد الشعبي عليكم لكنني لن أقوم بذلك مستقبلًا”، وواصل تحذيره، قائلًا: “انظروا ماذا وقع في مندلي (17) وتلك فقط البداية (18)”.

يُمثِّل هذا التحدي أيضًا دفعة لتعزيز العلاقات الإيرانية-التركية، وقد يقود إلى تعاون غير مسبوق في المجالات الأمنية والعسكرية، مما قد ينعكس بصورة كبيرة على مستوى ومستقبل علاقات البلدين، وقد يدفع إيران إلى انتهاج ترتيبات جديدة في الموصل بما يخفف من حدة التجاذب مع تركيا على هذا الصعيد.

___________________________________

د. فاطمة الصمادي- باحث أول بمركز الجزيرة للدراسات، متخصصة في الشأن الإيراني

مراجع

1-  آيت الله خاتمي در خطبه‌هاي نمازجمعه تهران:همه پرسي کردستان توطئه اسرائيلي است (آية الله خاتمي في خطبة جمعة طهران: استفتاء كردستان مؤامرة إسرائيلية)، تسنيم نيوز، ۲۴ شهريور ۱۳۹۶، (تاريخ الدخول: 20 سبتمبر/أيلول 2017): goo.gl/sdqJGD

2- “إيران: استفتاء كردستان العراق “يجر المنطقة للفوضى والتقسيم”، الجزيرة مباشر، 17 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 17 سبتمبر/أيلول 2017): goo.gl/9SAKMq

3- الحاج، سعيد، “إيران وتركيا: الانتقال إلى مساحة التعاون وتنسيق المواقف”، مركز الجزيرة للدراسات، 23 أغسطس/آب 2017، (تاريخ الدخول: 20 سبتمبر/أيلول 2017):

http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2017/08/170823104919223.html

4-  التهديد الناعم: هو مجموعة من التدابير التي تقود إلى تغيير في الهوية الثقافية والأنماط المقبولة للنظام السياسي. والتهديد الناعم هو نوع من الهيمنة بأبعاد ثلاثة: الحكومة والاقتصاد والثقافة، بغرض تبديل الأنماط السلوكية في هذه المجالات، والاستعاضة عن تلك الرموز والأنماط بأخرى يطلبها عامل التهديد؛ مع هذا الرأي، فإن جميع الإجراءات التي تستهدف قيم النظام السياسي، أو تسعى لإحداث تغيير جوهري في العوامل التي تحدد الهوية القومية والدينية لبلد ما، تعتبر “تهديدات ناعمة”. انظر:

بليک، ژانت و محمود رضا گلشن پژوه (1389). “قدرت نرم، تهديد نرم، پيشنهادي درراستاي سياست­سازي”. فصلنامه راهبرد، سال نوزدهم، شماره55، تابستان:

http://www.ensani.ir/storage/Files/20120329103221-2075-19.pdf

5- حسن بوژمهراني؛ مهدي پور‌اسلامي، تهديدهاي نرم خودمختاري اقليم کردستان عراق و تأثير آن بر کردهاي ايران، فصلنامه جامعه شناسي سياسي جهان اسلام،  دوره 2، شماره 4، بهار و تابستان 1393، صفحه 87-110:

http://iws.shahed.ac.ir/article_73.html

6-Duin, Julia, “Losing The Kurds”, Ripon Forum Fall 2004, (2005).

7- من الملاحظات التي سجلتها الباحثة من خلال تجولها في المناطق الكردية في إيران ومعايشتها للأكراد خلال السنوات 2006 و2007 و2008، ما يلى: يعتقد كثير من الأكراد الذين تحدَّثَت معهم الباحثة أن نواة دولتهم الكبرى قد قامت في كردستان العراق، ولاحظت أيضًا أن كثيرًا منهم يضع علم كردستان في منزله، ويشاهد قنوات تليفزيونية كردية وليس التليفزيون الإيراني.

8- برويين سن و مارتين وان (1387). جامعه­شناسي مردم کرد: ساختارهاي اجتماعي و سياسي کردستان، ترجمة: إبراهيم يونسي، تهران: نشر پانيذ، چ 1، ص 24.

9- برويين سن و مارتين وان، مرجع سبق ذكره.

10- Koohi-Kamali, Farideh, The Political Development of the Kurds in Iran Nationalism, (Macmillan, New York, 2003), p. 26

11- کامران شهسواري، “القوميات في إيران والحقوق السياسية(1)”، مركز الجزيرة للدراسات، 9 يونيو/حزيران 2013، (تاريخ الدخول: 20 سبتمبر/أيلول 2017):

http://studies.aljazeera.net/ar/reports/2013/06/201369162845674533.html

12- کامران شهسواري، المرجع السابق.

13- کامران شهسواري، المرجع السابق.

14- شهسوراي، المرجع السابق.

15- حسن بوژمهراني ومهدي پور‌اسلامي، مرجع سابق ذكره.

16- حسن بوژمهراني؛ مهدي پور‌اسلامي، تهديدهاي نرم خودمختاري اقليم کردستان عراق و تأثير آن بر کردهاي ايران، فصلنامه جامعه شناسي سياسي جهان اسلام،  دوره 2، شماره 4، بهار و تابستان 1393، صفحه 87-110:

http://iws.shahed.ac.ir/article_73.html

17- تقع مدينة مندلي بمحافظة ديالى، وقد هاجمتها القوات العراقية مدعومة بالحشد الشعبي في 11 سبتمبر/أيلول 2017 وأنزلوا العلم الكردي عن مقر مجلس المدينة وأجبروا رئيس المجلس على الاستقالة وأعلنوا أن المدينة لن تشارك في الاستفتاء.

18- Hawramy, Fazel, Iran, “US align against Iraqi Kurdistan referendum”, 14 September 2017, (Visited on 20 September 2017):

http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2017/09/iran-us-kurdistan-referendum-soleimani-mcgurk-barzani.html

 

 

 

 

الخيارات العسكرية الإيرانية ضد الاستقلال الكردي/ فرزين نديمي

في 25 أيلول/سبتمبر يقوم «إقليم كردستان العراق» بإجراء الاستفتاء على الاستقلال الكردي في العراق، وهناك دلائل متزايدة على أن إيران تنظر في اتخاذ إجراءات صارمة لوقف هذه العملية. وفي الوقت الذي تزيد فيه طهران من الضغط الدبلوماسي على «إقليم كردستان العراق»، فقد تكون التدابير العسكرية قيد البحث أيضاً، سواء على المدى القصير الأمد أو الطويل الأمد.

تاريخ من الانتفاضات

أدى انعدام التماسك السياسي بين الملايين من الأكراد المنتشرين في جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى منعهم من تحقيق حلمهم بالاستقلال وإقامة الدولة. وقد دفع هذا الحلم بدوره الكثير منهم إلى خوض صراعات مسلحة ضد الحكومات التي يعيشون في ظلها. وكانت الدولة الكردية الحديثة، جمهورية مهاباد التي تأسست عام 1946، هي الوحيدة التي قامت في أجزاء من كردستان الإيرانية بدعم مباشر من الاتحاد السوفياتي. وكانت تلك الجمهورية التي أُعلنت من جانب واحد مسقط رأس حركة البشمركة، لكنها سرعان ما انهارت بعد انسحاب القوات السوفياتية من إيران في العام الذي أعقب الإعلان عن إقامة الجمهورية.

وفي ستينيات القرن الماضي بدأ التمرد الكردي المسلح ضد الحكومة المركزية في طهران، حيث وقفت عشيرة البارزاني الكردية في العراق في البداية إلى جانب المتمردين الأكراد الإيرانيين. وتم قمع ذلك التمرد في النهاية بمساعدة المستشارين العسكريين الأمريكيين. وبعد سنوات، جاء عسكريون إيرانيون وأمريكيون لمساعدة الأكراد العراقيين الذين كانوا يقاتلون من أجل الحصول على الحكم الذاتي من حكومة البعث في بغداد. واستمر ذلك الدعم السري إلى أن تم توقيع اتفاق الجزائر بين إيران والعراق في آذار/مارس 1975، مما أدى إلى توقف حركة التمرد بصورة مؤقتة.

وقد تسببت الثورة الإيرانية عام 1979 واشتباكات البلاد على الحدود مع العراق عام 1980 في وقوع سلسلة من المناوشات المسلحة والقتال الدموي مع المتمردين الأكراد الإيرانيين في المدن، الا ان التمرد الأخير فشل مرة أخرى فى الحصول على الحكم الذاتي. وأُعيد إحياء التمرد المسلح الكردي بسبب الحرب الإيرانية – العراقية، إلّا أن تقييمات المخابرات الأمريكية من أوائل الثمانينات قد قدّرت بأن الإنشقاقات الداخلية العميقة حالت دون قيام الأكراد بتهديد الحكومات الإيرانية والعراقية والتركية بصورة خطيرة. وعلى الرغم من ذلك، واصلت عدة جماعات – من بينها «حزب الحياة الحرة الكردستاني» («بيجاك»)، وهو فرع من «حزب العمال الكردستاني» الذي مقره في تركيا – خوض تمرد منخفض الشدة ضد الحكومة الإيرانية منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي.

وفي الوقت نفسه، حقّق «إقليم كردستان العراق» قدراً كبيراً من الحكم الذاتي بعد حرب الخليج عام 1991، وغالباً ما تمتع بعلاقات حسن الجوار مع إيران حتى في ظل النزاعات المسلحة بين الأحزاب الكردية العراقية. وكان أحد هذه الأحزاب، «الاتحاد الوطني الكردستاني»، قد أقام علاقات وثيقة مع طهران خلال الحرب الإيرانية – العراقية، عندما شارك مع عناصر من «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني لمحاربة صدام حسين. ومع ذلك، وضع «الاتحاد الوطني الكردستاني» هذه العلاقة في خطر من خلال دعمه للحملة الحالیة لاستقلال «إقليم كردستان العراق».

مكافحة التمرد المحلي

يُظهر تاريخ إيران الدموي من التمرد الكردي كيف أن طهران مستعدة لبذل قصارى جهدها لمنع قيام حكم ذاتي كردي على أراضيها، ناهيك عن منح الاستقلال للأكراد الإيرانيين. ولا تزال إيران تحتفظ بقوات عسكرية كبيرة بالقرب من المناطق التي يسكنها الأكراد في أقاليم كردستان وأذربيجان الغربية وكرمنشاه. وفي السنوات الأخيرة، شهدت هذه القوات تصاعداً في الاشتباكات المسلحة مع المتمردين الأكراد، مما أسفر عن وقوع خسائر فادحة في كلا الجانبين.

تجدر الاشارة إلى أن جماعتي المعارضة الكرديتين الرئيسيتين فى البلاد هما «حزب كومله الكردستاني الإيراني» و«الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني». كما أن «بيجاك» نشطاً جداً في المناطق الكردية. وإذا قامت كردستان قوية ومستقلة في العراق، فقد تصبح الاضطرابات الكردية الإيرانية أكثر صخباً وتشدداً. وهذه المخاوف هي المحرك الرئيسي وراء معارضة طهران الشديدة لاستفتاء «إقليم كردستان العراق» والدعوات إلى الاستقلال بشكل عام. ونتيجة لذلك، تراقب أجهزة المخابرات الإيرانية عن كثب المجتمعات الكردية في البلاد لمعرفة ما إذا كانت هناك علامات سخط أو أنشطة انفصالية.

كما أن طهران قلقة من الخطط الجيوسياسية الإسرائيلية المُتصوَّرة حول شمال العراق، وربما ترى تأييد إسرائيل العلني للاستفتاء بمثابة رد الدولة اليهودية على سنوات من تموضع إيران/«حزب الله» على حدودها الشمالية وتهيؤهما ضد إسرائيل. ولذلك ستواصل إيران التدقيق في العلاقات الكردية – الإسرائيلية.

قدرات إيران العسكرية في شمال غرب البلاد

لدى إيران أربعة هياكل للقيادة والسيطرة من أجل التعامل مع التهديدات التي تتراوح بين شن غارات عبر الحدود والقيام بأعمال شغب في الشوارع في المناطق الكردية. ويتولى مقر «حمزة سيد الشهداء» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» في أورميا التعامل مع القطاع الشمالي الغربي، بينما يتولى مقر «النجف الأشرف» [التابع لـ «حرس الثورة الإسلامية»] في كرمنشاه [التعامل مع القطاع] الغربي. ويشرف هذان المقران معاً على أربعة فيالق، من بينها «فيلق بيت المُقدّس» في محافظة كردستان؛ ولكل فيلق فرقة تضم لواءين.

ودائماً ما تخشى طهران من أن تؤدي عملية أمنية عقابية ضد جماعة أو بلدة كردية إلى إثارة المزيد من الاضطرابات الأكثر انتشاراً في مناطق أخرى. ولذلك كَلَفت هذه المقرات المحلية التابعة لـ «الحرس الثوري الإسلامي» وجماعات «الباسيج» المنتسبة إليها، إلى جانب أجهزة الاستخبارات المختلفة، بإنشاء نظام للتحكم والاحتواء في المناطق الحضرية الكردية يأتي في المرتبة الثانية فقط بعد ذلك الذي يمكن مشاهدته في إقليم طهران.

وتُكَمِّل القوات المسلحة الوطنية الإيرانية [الجيش الوطني]، أو “أرتيش” هذه الجهود من خلال مَقرَّيْ القيادة الإقليمية “الشمالية الغربية” و”الغربية” الخاصين بها، في أورميا وكرمنشاه أيضاً. ويسيطر كل منهما على ثلاثة مقار تابعة لهياكل الفرق التي تعمل وحداتها الفرعية كـ “ألوية عاملة” مستقلة، يقال إنها تتمتع بمزيد من القوة النارية والتنقل. وتركز الوحدات أساساً على التهديدات الأجنبية؛ وتشمل “اللواء 35″، الذي هو وحدة القوات الخاصة للرد السريع في كرمنشاه، وعادة ما تكون أول قوة “أرتيش” يتم نشرها رداً على أي حادث حدودي.

موقف متشدد ضد الاستفتاء

في 17 أيلول/سبتمبر، هدد أمين “المجلس الأعلى للأمن القومي” الإيراني، علي شمخاني، بقطع جميع الاتفاقات العسكرية والأمنية مع «إقليم كردستان العراق» وإغلاق جميع المعابر الحدودية إذا ما مضى الأكراد قدماً في استفتائهم، في حين أشار رئيس البرلمان علي لاريجاني إلى إمكانية فرض حصار اقتصادي. كما هدد شمخاني باستخدام “تدابير مختلفة تماماً” ضد جماعات المعارضة الكردية الإيرانية التي يُزعم أن مقرها في «كردستان العراق»، الأمر الذي قد يعني شن عمل عسكري متكرر وأكثر قوة ضد «بيجاك» وجماعات أخرى في المناطق الجبلية الحدودية. ويمكن لهذه الإجراءات أن تستهدف تدريجياً قوات «إقليم كردستان العراق» أيضاً.

وبالمثل، أمضى اللواء محمد باقري، رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، الأشهر القليلة الماضية، محذراً من “العواقب الوخيمة” للاستفتاء. وفي آب/أغسطس، فاجأ باقري المراقبين إثر قيامه بزيارة لتركيا، واجتماعه مع الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس أركان جيشه الجنرال هولوسي أكار. وفي وقت لاحق تحدث مسؤولون من البلدين عن العمليات العسكرية المشتركة المحتملة ضد “الخطط الانفصالية” الكردية، ليس فقط على طول الحدود المشتركة لكلا البلدين [مع «إقليم كردستان العراق»]، بل أيضاً في سوريا والعراق.

وفي المرحلة القادمة، يمكن توقّع قيام إيران بإلقاء بثقلها وراء تهديد بغداد باستخدام القوة ضد الحملة الكردية من أجل الاستقلال، ربما من خلال تقديم المزيد من الأسلحة والقوات الخاصة للجيش العراقي والميليشيات الشيعية. ولكن من المرجح أن تدرك طهران أن أي شحنات من الأسلحة الثقيلة (مثل المدفعية ذات العيار الكبير وصواريخ “فاتح – 110″/”ذو الفقار”) إلى تلك الأطراف محظورة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2231، حتى إذا أعيد توجيهها عبر سوريا. وقد تحاول إيران أيضاً استغلال المنافسات الداخلية بين الأكراد من خلال استدراج فصائل معينة بعيداً عن حركة الاستقلال وتزويدها بالأسلحة وغيرها من أشكال الدعم.

وعلى المدى البعيد، يمكن أن تقرر إيران أو العراق أو تركيا مواجهة «إقليم كردستان العراق» غير الساحلي مع “منطقة جوية غير آمنة” أو منطقة حظر جوي أو حتى حصار جوي يمنع الرحلات الجوية الدولية من الهبوط في مطارات أربيل أو السليمانية أو كركوك. وبالنظر إلى العدد المحدود للطائرات المقاتلة في القواعد الجوية الإيرانية في الشمال الغربي من البلاد في تبريز وحمدان، من المرجح أن تقتصر مشاركة إيران في هذه الجهود على نشر أسلحة الدفاع الجوي في خطوط متقدمة مثل بطاريات صواريخ “S-300”. ويفتقر «إقليم كردستان العراق» لقوة جوية أو نظام دفاع جوي تتوفر فيهما قدرة عملياتية، كما لا تلتزم حالياً أي قوات جوية أجنبية بحماية «الإقليم»، لذلك تظل منشآته النفطية وبنيته التحتية العسكرية ضعيفة جداً. وفي الوقت نفسه، قد تكون إيران مقيّدة باحتمال أن تؤدي التوترات على حدودها الغربية والشمالية الغربية إلى التأثير على عبور الطائرات التجارية اليومية التي تزيد عن ألف رحلة يومياً في تلك المناطق، والتي تدفع لها شركات الطيران الدولية رسوماً إضافية كبيرة.

بالإضافة إلى ذلك، ولكي ينجح أي حصار، هناك حاجة إلى تعاون روسي. وقد كان موقف موسكو من استقلال الأكراد غامضاً على الرغم من علاقاتها الحميمة مع الدول التي لها حدود مع «إقليم كردستان العراق». ومؤخراً وقّعت شركة الطاقة الروسية “روزنفت” اتفاقاً مع «إقليم كردستان العراق» لبناء خط أنابيب إلى تركيا، يسمح لها بإرسال ما يصل إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً لإشباع الطلب الأوروبي. وسيستفيد أيضاً سوق الغاز الكبير في تركيا من هذه المبادرة الجديدة. وبمساعدة الاستثمارات الروسية الكبرى، من المتوقع أن تنمو أيضاً صادرات النفط في «إقليم كردستان العراق» من مستواها الحالي البالغ حوالي 650 ألف برميل يومياً لتصل إلى مليون برميل. ويمكن لهذه العوامل الاقتصادية أن تعقّد إلى حد كبير أي خطط إيرانية لوضع ضغوط عسكرية على «إقليم كردستان العراق».

الخاتمة

من المحتمل أن ترى طهران أن استقلال «إقليم كردستان العراق» يشكل تھدیداً مباشراً لسیادتھا وأیدیولوجیتھا الثوریة، لذلك قد تبذل کل ما في وسعھا لمنع ھذه النتیجة. وبناء على ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تعد نفسها لحدوث تصعيد على طول حدود «إقليم كردستان العراق». ولكن يجب على واشنطن أن تدرك أيضاً أن استمرار المعارضة لحركة الاستقلال سيضعف من تأثيرها على الأكراد وربما يخلق المزيد من الفرص لروسيا.

ولن تكون طهران مُحصَّنة أيضاً ضد عواقب معارضتها [لمبادرة] «إقليم كردستان العراق». فإن أي محاولة إيرانية لعرقلة عملية الاستقلال الكردي بشكل فعال أو تزويد الجهات الفاعلة الأخرى بالأسلحة ستكون بمثابة هدية لإدارة ترامب، التي وضعت بالفعل نصب أعينها على الأنشطة الإقليمية الإيرانية. وحتى لو كانت طهران تحد من تدخلها في النفوذ التجاري، فستظل عرضة لأن تصبح عدواً مشتركاً للقضية الكردية. ويعتمد العديد من الأكراد الإيرانيين على التجارة عبر الحدود، لذلك يمكن أن تؤدي العقوبات الاقتصادية أو الحصار الذي يُفرض على «إقليم كردستان العراق» إلى مزيد من زعزعة الاستقرار والسخط في غرب إيران – وهي النتيجة نفسها التي تسعى طهران إلى تجنبها.

معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى

فرزين نديمي هو محلل متخصص في الشؤون الأمنية والدفاعية المتعلقة بإيران ومنطقة الخليج ومقره في واشنطن.

 

 

 

استفتاء كردستان: ذرائعية تغطي الواقع/ حسام عيتاني

اجتمعت الظروف والتطورات والأوضاع الراهنة والحرب على الإرهاب والمنعطف الخطير وقررت أن الوقت غير ملائم لاستفتاء الأكراد على استقلال إقليمهم في شمال العراق.

لم ينكر أي بيان صادر حول مسألة الاستفتاء، سواء عن مجلس الأمن او عن جامعة الدول العربية او عن العراق وتركيا وإيران التي تعتبر نفسها معنية مباشرة بمستقبل الأقليم، حق الأكراد في تقرير المصير. لم يرفض اي مسؤول تناول انفجار المشكلة بين بغداد وإربيل التي تتفاقم منذ سنوات، حقائق فرضها نضال الأكراد على مدى مئة عام، على الأرض وفي الضمائر: الأكراد محرومون من كيان سياسي مستقل وذي سيادة على غرار بقية الشعوب المحيطة بهم.

تصاعد المشاعر القومية الكردية الذي يعبر عنه بعض الناشطين تعبيراً شوفينياً إضافة الى المآخذ العديدة على ممارسات الجناح السوري من حزب العمال الكردستاني (الـ «بي واي دي»)، يضعها الكرد في إطار تعقيدات العلاقة المريرة مع العرب وأنظمة الحكم خصوصاً تلك التي سادت في سورية والعراق منذ النصف الثاني من القرن العشرين، بيد ان ذلك لا ينفي لبّ المسألة وهي ان ملايين الأكراد في هذه المنطقة يتطلعون الى حق بديهي بالاستقلال.

الظروف والأوضاع والمنعطف الذي تمر به منطقتنا وبيان مجلس الأمن الدولي امس الأول، ناهيك عن الطبيعة الشديدة النسبية لمبدأ تقرير المصير وتعارضه مع اسس بناء الدولة القومية وإشكالياته التي تنتهي في نواحي العلاقات بين الأقليات والهويات والتفويض السياسي، لا تفعل كلها غير الحضّ على تأجيل النظر في القضية الكردية الى امد غير منظور. قد يوافق رئيس اقليم كردستان على ذلك (سنرى اليوم ما يعلنه في مؤتمره الصحافي بهذا الخصوص) لكن لا شيء يقول، في المقابل، إن ظروفًا وأوضاعًا وتطورات وبيانات جديدة لمجلس الأمن لن تصدر في المستقبل وتدفع نحو تأجيل جديد لكل خطوة استقلالية كردية في اتجاه زمن مقبل قد لا يأتي ابداً.

عليه، سيبدو محرجاً للدول المحيطة بالإقليم اي سؤال من نوع «متى سيحق للأكراد نيل استقلالهم؟» الأرجح ان الدول هذه ترفض فكرة الاستقلال الكردي على اي بقعة من الأرض، ما دامت هي ذاتها تعاني من مشكلات، تتفاوت حدّتها بين كلّ من العراق وتركيا وإيران، في سياساتها الداخلية وعلاقات مكوّناتها القومية والعرقية والطائفية ببعضها بعضاً. وما من أحد في حكومات الدول الثلاث هذه (إضافة إلى نظام بشار الأسد الذي يحاول إدارة الملف الكردي كمن يتعامل مع لغم مخبأ)، في وارد إعادة النظر في قضية تمس أسس الدولة وخطابها وصورتها.

من جهة ثانية، تشبه مقاربة الحقّ الكردي في تقرير المصير تلك المقاربة الفقيرة والبائسة التي يتبناها الغرب والعديد من الدول العربية حيال نظام الأسد. الجميع، من رؤساء الدول الكبرى وصولاً إلى ممثلي منظمات الإغاثة، يبدأ كلامه بالتأكيد على علمه أن «بشار الأسد مجرم وارتكب فظائع وجرائم ضد الإنسانية» وسرعان ما تبرز الـ «لكن» التي تجبُّ ما قبلها. «لكن ينبغي التعامل معه بواقعية». أو تلك النغمة المضجرة عن ان «اسرائيل دولة احتلال لكن لا مفرّ من حل على اساس التفاوض».

تغطي هذه الذرائعية المعضلة الحقيقية التي تواجهها الدول المحيطة بإقليم كردستان العراق والمتعلقة بمسقبل الأكراد وأوضاعهم في تركيا وإيران وسورية، وأن تواجه ما يواجهه العراق اليوم من نهاية فرضها الواقع لوحدته الترابية التي رسمتها خرائط الاستعمار، للمفارقة.

الحياة

 

 

 

البارزاني وتقرير المصير: كلمة حق أريد بها باطل!/ جلبير الأشقر

لا شك في أن الأمة الكردية تشكّل هي والجناح المشرقي للأمة العربية الضحيتين الرئيسيتين للتقاسم الاستعماري الأوروبي/التركي لتركة الإمبراطورية العثمانية. فحيث كانت الأمتان مضطهَدتين في إطار الإمبراطورية تخضعان لحكمٍ عثماني شهد تتريكاً متصاعداً خلال القرن التاسع عشر بما انعكس تصاعداً في الاضطهاد العثماني/التركي للقوميات غير التركية، أدّى انهيار الإمبراطورية إلى تقسيم أراضي القوميتين العربية والكردية التي كانت واقعة تحت سيطرة الباب العالي.

إلا أن مصيبة الكرد كانت أعظم من مصيبة العرب: فحيث جرى تقسيم المشرق العربي إلى ثلات دول هي العراق وسوريا (التي اشتُقّ منها لبنان ولواء إسكندرون تحت الانتداب الفرنسي) وفلسطين (التي تقاسمت أراضيها المملكة الهاشمية والحركة الصهيونية في ظل الانتداب البريطاني)، ونتجت عن ذلك أربع دول عربية ذات سيادة قانونية (وأراض محتلة في فلسطين وإسكندرون)، فقد جرى ضمّ كافة الأراضي الكردية بصفة مناطق أقليات بلا سيادة في كل من تركيا والعراق وسوريا.

والحال أن الأمة الكردية في كل من المناطق الثلاث (ناهيكم من أرض كردستان الواقعة ضمن حدود الدولة الإيرانية) عانت من شتى أنواع الاضطهاد من قِبَل حكومات التعصّب القومي في أنقرة وبغداد ودمشق وتعرّضت لسياسات التتريك الكمالية والتعريب البعثية، لا يضاهيها في المعاناة إقليمياً سوى الشعب الفلسطيني. ومن مفارقات التعصّب القومي العربي أنه كان ينادي بوحدة الأمة العربية وبحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وينكر على الأمة الكردية حق كل جزء من أجزائها في تقرير مصيره وحقها في التوحّد القومي، بل حتى حقها البسيط في الوجود. ولا معالجة ديمقراطية للمسألة القومية في منطقتنا سوى بتحقيق حق الأمة الكردية بكافة أجزائها في تقرير المصير، بما فيه الانفصال والتوحّد، حيث تشكل أكثرية سكانية، على أن يتم إيجاد حل حضاري ديمقراطي توافقي للأراضي المتنازع عليها التي شهدت تغييرات سكانية بنتيجة التخطيط القومي الاضطهادي.

غير أن قرار مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، إجراء استفتاء على استقلال الإقليم يوم الإثنين القادم لا يمت بأي صلة إلى الأفق الديمقراطي الموصوف أعلاه.

والحقيقة أن كردستان العراق قد تمتّعت منذ ما يزيد عن ربع قرن باستقلال يفوق بالتأكيد استقلال الدولة العراقية، كما تمتّعت معظم هذا الوقت بظروف من الأمن والرفاهية تميّزت بحدّة عن المأساة بلا نهاية التي عانت منها مناطق العراق العربية. فبعد الحرب الأمريكية الأولى المدمِّرة على نظام صدّام حسين سنة 1991 وبعد أن كانت واشنطن قد أتاحت لهذا الأخير قمع الانتفاضتين الناشبتين في جنوب العراق وشماله، مما أحدث موجة كبيرة من لجوء الكرد العراقيين إلى كردستان تركيا مثيرةً قلق أنقرة وكذلك قلق عواصم أوروبا الغربية من فتح تركيا أبوابها لانتقال اللاجئين إلى دولها (مثلما حصل لاحقاً مع اللاجئين السوريين)، قرّرت الولايات المتحدة تأمين الحماية لكردستان العراق وفرض حظر جوّي فوق أراضيها.

وكانت النتيجة أن كردستان العراق، وبعد مخاض عسير ودموي، استقرت على نظام توافقي بين جناحي الحركة الكردية العراقية أتاح للإقليم أن ينعم بازدهار اقتصادي نجم بشكل رئيسي عن وساطته التجارية بين نظام صدّام حسين (لا بل عائلة صدّام حسين!) وتركيا. وبكلام آخر فإن كردستان العراق كان المستفيد الأكبر من الحظر المجرم الذي فرضته واشنطن على العراق والذي عانى منه الشعب العراقي ولم يعانِ منه قط الطاغية صدّام حسين وأقاربه.

وعند احتلال العراق واستكمال تدميره من قبل الولايات المتحدة وحلفائها كانت كردستان العراق بمثابة جنّة مقارنة بالجحيم الذي ساد في مناطق العراق العربية، فضلاً عن تمتّع كرد العراق بقوة عسكرية تفوق ما تبقّى لدى الدولة العراقية في ظل الحراب الأمريكية. فكرّست التطورات الدستورية والعملية استقلال «إقليم كردستان العراق» الفعلي بينما كان سائر العراق يقبع تحت الاحتلال الأمريكي ومن ثم تحت الهيمنة الإيرانية، أي أن الحكم الذاتي الذي تمتّع به الإقليم كان استقلالاً فعلياً بما في ذلك الجيش والعلَم، لا ينقصه لكي يكون كاملاً سوى اعتراف دولي و قطيعة اقتصادية رسمية مع الدولة العراقية.

وحيث أن كردستان العراق واقعة على تخوم دولتين مضطهِدتين للأمة الكردية، ألا وهما تركيا وإيران، وليس لديها منفذ خاص بها إلى أي بحر، اقتضت مصلحة كرد العراق أن يستمر الإقليم ببناء ذاته مستفيداً من وضعه الخاص حتى تتسنّى ظروف تاريخية تسمح بتسوية ديمقراطية شاملة كالتي تم وصفها أعلاه. بيد أن مصلحة كرد العراق ليست ما يعمل مسعود البارزاني بوحي منه، بل لا يحرّكه سوى مصلحة نظام الفساد والمحسوبية الريعي الذي أرساه في الإقليم على حساب شعبه وعلى الطراز المعهود لدى الحكام العرب. لا بل يجازف البارزاني اليوم بكل ما تيسّر لكردستان العراق خلال العقدين الأخيرين إذ يتشبّث حتى الآن بإجراء استفتاء ترفضه بغداد ويرفضه حتى أصدقاؤه في واشنطن وأنقرة.

كل هذا أدركه المتنوّرون من سكان الإقليم الذين عارضوا الاستفتاء وندّدوا بسلوك البارزاني الذي يعرّض كردستان العراق لأوخم العواقب بغية تحقيق مطامعه الأنانية الضيقة. لقد أدركوا أن تحجج البارزاني بحق تقرير المصير إنما هو مثال ساطع عن ذلك السلوك الذي وصفه الإمام علي بن أبي طالب بعبارة خالدة: «كلمة حق أريد بها باطل».

٭ كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

 

 

 

المواجهة تقترب في العراق/ حازم الامين

يكشف الاستفتاء الكردي حول الاستقلال في العراق يوماً بعد يوم حجم الهاوية التي تفصل بين العراقيين، لا بل بين العرب والأكراد في الإقليم. فالأصوات العربية المؤيدة الاستفتاء قليلة وخجولة ومقيدة، فيما رفع اقتراب الموعد من منسوب الخطاب القومي الكردي، ما جعل المناسبة منصة تراشق قومي غير مسبوق بين الجماعتين على ضفتي الحدث.

لكن الاستفتاء كشف أيضاً عن تفكك آخر، ذاك أن العراق الذي تحصل في رحابه معركة كبرى ضد «داعش» تخوضها قوى ملتبسة الهوية الوطنية والمذهبية، دولة تتخبط في أكثر من وجهة فشل. فشل اقتصادي بفعل تداعي أسعار النفط، وفشل سياسي كشفته انقسامات على مختلف المستويات، وفشل سيادي يتمثل في تصدر نفوذ قوى إقليمية قراره السياسي. وجاء الاستفتاء ليدفع عناصر الوهن هذه إلى أقصاها. فالسجال الذي يحف بالحدث حُمل على لغة سياسية وانقسامية تُشعر المرء بأن عراق سايكس بيكو لم يلتئم يوماً، وأن الخطاب «الوحدوي» القسري والدموي كان حاجة هذه الوحدة التي تترنح اليوم.

هناك رفض عربي عميق ثقافي وقومي وسياسي لأي خطوة كردية نحو الاستقلال. في العراق اختبر هذا الأمر على نحو قاطع، وفي سورية تلوح مؤشرات مشابهة. الأصوات العربية المؤيدة حق الأكراد في تقرير مصيرهم خافتة ومشروطة ومُدانة على نحو مضاعف. لا بيئة تستقبلها بصفتها صوتاً يملك حق الاختلاف، وهي إن وجدت فهي امتداد للصوت الإسرائيلي الذي أعلن وقوفه إلى جانب استقلال الأكراد. وفي مقابل هذا، كشف الاستقلال أيضاً عن شوفينية كردية أعلنت عن أن رغبتها في الاستقلال صادرة عن صوابية كردية في الانفصال عن الشر. فماذا لدى العرب سوى المذهبية و «داعش» والحشد الشعبي؟ الاستقلال وفقها لحظة افتراق عن هذه المؤشرات الجوهرية في الثقافة العربية.

لا أكراد مع الاستقلال إلا بصفته القومية والسلبية. بصفته مغادرة لحاضنة عربية. ولا عرب ضد الاستقلال إلا لأن الأخير خطوة باتجاه ضرب هيمنة تاريخية وثقافية. السجال في محيط الحدث ومن حوله يؤشر إلى ذلك. اللغة التي يستعين بها طرفا السجال ترد الانقسام إلى أصله في لاوعي الجماعتين، إذ تخرج الكلمات من الصدر مباشرة إلى اللسان، من دون عبورها في العقل. وهذا تمرين على قساوته وفضاضته وخطورته مفيد أيضاً، ذاك أنه يُزيح عن المشاعر كماً هائلاً من التقية التي كانت مارستها الجماعات في المنطقة حيال بعضها بعضاً على مدى قرون.

شوفينية عربية في مقابل شوفينية كردية. شوفينية السلطة المتداعية في مقابل شوفينية الضحية المستعدة للإنقضاض. لا مكان للمجاملات والصداقات التي انعقدت حول هذه العلاقة المريضة. الكل كشف عن وجهه. الكل قال كل شيء حيال الآخر. العربي مستعمر قبيح ومتخلف، والكردي لا يستحق أن يحكم نفسه وأن يستقل فيها.

أيام قليلة تفصلنا عن موعد الاستفتاء. ثلاثة نهارات وأربع ليال. وهذا وقت كاف لمشغلي خطاب الكراهية. ثمة حكومات أربع سيهزها الحدث، وثمة جماعات كردية أربع تنتظره.

المواقف تسير على نحو تصاعدي، وكل يوم يحمل ذروة جديدة في الانقسام. الجميع خائف. الأكراد لم يعد يمكنهم أن يتراجعوا والعرب والأتراك والإيرانيون يشعرون بأن خطر الانشقاق الكردي سيهز كياناتهم. الجماعات متماهية على نحو غير مسبوق مع مواقع حكوماتها. مسعود البارزاني نجح في جذب القوى الكردية المعترضة أصلاً على تفرده في السلطة وفي القرار، والحكومة العراقية (الشيعية) نجحت في اجتذاب السنة الذين تضطهدهم. خط انقسام يؤشر إلى مواجهة، وربما إلى حرب.

الاستفتاء اختبار لمستوى انقسام لم تختبره أجيال جديدة. العروبة إذاً معطى ليس «وهمياً»، والكردية في المقابل تغذت على هذه الحقيقة وانبعثت على نحو مشابه.

الوقت لم يعد يتسع لصوت العقل، ولمراجعة في المواقع والمواقف. الأكراد لا يستطيعون أن يتراجعوا، والحكومات من حولهم لا تتحمل استقلالهم. المواجهة لن يحول دونها سوى اختراق أميركي لخط الانقسام الملتهب، وهذا ما لا يلوح حتى الآن.

الحياة

 

 

 

حروب «الحدود الكردية» في العراق وسورية بعد «داعش»/ جورج سمعان

الاستفتاء على استقلال كردستان في موعده الإثنين المقبل. لم تفلح الوساطات والمناشدات حتى الآن في ثني رئاسة الإقليم عن هذا الاستحقاق. بات مستقبل مسعود بارزاني على المحك. لا يمكنه التراجع لأنه سيخسر كل شيء، معه الكرد أيضاً. لم يعد في حساباتهم التراجع عن الانفصال، خصوصاً بعد تأييد البرلمان في إربيل هذه الخطوة بالإجماع، وإن قاطع عدد من نواب «كتلة التغيير» و «الجبهة الإسلامية». حتى هذه المقاطعة لا تعني رفض جمهور هاتين القوتين الاستقلال. الأمر يتعلق بخلافات حزبية داخلية معروفة بين رئيس الإقليم المنتهية ولايته وهذين الحزبين. وبعيداً من التهديدات الإقليمية المحمومة، خصوصاً من جانب تركيا وإيران، فإن المساعي الدولية التي تقودها الولايات المتحدة لم تثمر حتى الآن. لو نجح تسويق البديل الذي قدمه المبعوث الرئاسي الأميركي للحرب على «داعش» بريت ماكغورك وسفراء غربيون، لكان صرف النظر عن إعادة تفعيل مجلس نواب الإقليم. لم تقدم الضمانات التي طالب بها بارزاني. لأنه كان ولا يزال يريد خطوة متقدمة تفوق بمفاعيلها الاستفتاء. وحتى الكونفيديرالية فات أوانها على الأرجح بديلاً معقولاً. غير الذهاب نحو الانفصال يعد انتقاصاً من رصيده الشعبي. لم يرضَ بالتأجيل سنتين على أن تناقش هذه القضية في الأمم المتحدة، ما لم تقر بغداد صراحة بحق الكرد في تقرير المصير مقروناً بضمانات دولية، وما لم تحدد المنظمة الدولية نتيجة هذا النقاش موعداً جديداً لهذا الاستحقاق.

الثابت إذاً أنه لم يعد مطروحاً في أجندة كردستان طي صفحة الاستفتاء والعودة إلى طاولة الحوار لا مع بغداد ولا مع غيرها من عواصم إقليمية ودولية معنية. تأجيل الاستحقاق من دون بديل حقيقي يعني ببساطة انهيار كل ما بناه بارزاني في مسيرته السياسية. علماً أن ما قدمه ماكغورك نفت الناطقة باسم الخارجية الأميركية عمله به. الاقتراح صاغه وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس بعد زيارته الأخيرة إربيل، بالتفاهم مع مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر. وواضح تماماً أن واشنطن تقر بما تسميه الطموحات المشروعة للكرد، لكنها تخشى أن يترك هذا الاستحقاق في هذا التوقيت بالذات آثاراً سلبية على الحرب ضد «تنظيم الدولة». ولا يمكنها الذهاب بعيداً في الضغط على إلإقليم حليفها الرئيس وشريكها المضمون في الحرب على «داعش». أما أن تكرر حرصها على وحدة العراق فمثل هذا قالته إدارة الرئيس جورج بوش الأب مع بدء انهيار الاتحاد السوفياتي. شددت على وجوب بقاء الاتحاد لكنها سرعان ما بدلت رأيها وكان ما كان من أمر الكتلة الشرقية.

والثابت أيضاً أن بارزاني أظهر عزيمة وصموداً في صراع الإرادات. وتمكن من فرض خيار الاستفتاء على جميع المعترضين. حتى الاتحاد الوطني الذي كان تردد في البداية لم يجد بداً من الاصطفاف خلف هذا الاستحقاق. وسيمنحه الاستفتاء مزيداً من الشرعية الشعبية لتكريس زعامة بلا منازع. وهذا ما سيعزز موقعه في مفاوضات لا مفر منها لاحقاً مع بغداد وأنقرة وطهران، يدعمه رأي عام واسع. أما التلويح بالحرب والوعيد بالويل والثبور فيبقى من باب التهويل. لا يبدو أن ثمة طرفاً يستطيع اللجوء إلى القوة خلال أيام لفرض تأجيل الاستحقاق أو إلغائه. بل لا مصلحة لأحد في مثل هذا الخيار. فلا الكرد أعلنوا استقلالهم بعد ولا هم أعلنوا الحرب على بغداد. ولا الحكومة العراقية في وارد أن توقف حربها على «داعش» والانصراف عن مشكلاتها الجمة من أجل شن مواجهات ميدانية تعجل في إعلان الاستقلال. جل ما يمكن التفاوض عليه في الأيام القليلة الباقية قبل الاستفتاء هو البحث عن إمكان تأجيله في كركوك والمناطق المتنازع عليها. وهو أمر يبدو مستبعداً في ضوء تصعيد بارزاني لهجته. فقد أعلن في إحدى جولاته قبل أيام أنه لن يقبل التفاوض على حدود كردستان، والعودة إلى «حدودنا في عهد حزب البعث». كما أن بغداد ستستمع إلى رأي إيران.

وحتى إيران التي يرى غلاة قادتها أن الاستفتاء «مشروع صهيوني» هو المرحلة الأولى في «مؤامرة لتقسيم العراق وقيام إسرائيل جديدة»، ليست في وارد استخدام القوة لإرغام الكرد على إلغاء الاستفتاء. قد لا ترى بداً في المرحلة التالية للاستحقاق من حوار مع قيادة الإقليم للحصول على ضمانات لحدودها. وهي لن تكون، مثلها مثل تركيا بمنأى عن أي حريق كبير يندلع في كردستان أو على حدوده. فلهذه كردها ولتلك أيضاً، وقد وفرت لهم الحروب المشتعلة في الإقليم، كل أنواع السلاح ووفرت لهم الخبرات القتالية اللازمة. وفي ظل الصراعات الدولية والإقليمية على المنطقة ستكون هناك قوى وجهات خارجية جاهزة لمدهم بما يحتاجون من دعم. حتى رهان بعضهم على حزب العمال وعلاقته الجيدة مع «الحشد الشعبي» قد لا تفيد. فالهدنة القائمة بين طهران والقوى الكردية القريبة من الحزب مردها إلى رغبة الطرفين في اقتطاع حصته من الجغرافيا السورية. علماً أن الفرع السوري للعمال الكردي تمر تجارته من النفط السورية عبر كردستان. وليست لديه مصلحة في أي مشكلة مع إربيل. وأبعد من ذلك كيف للحزب الديموقراطي الكردي أن يعرقل توجه الإقليم نحو الاستقلال وقد دعت الهيئة التنفيذية لـ «الفيديرالية الديموقراطية لشمال سورية» إلى المشاركة في الانتخابات بعد أيام؟

لم يعد يفيد التوقف عند تحديد المسؤوليات عما آل إليه الوضع في العراق. صحيح ما يسوقه بارزاني عن استئثار بغداد بالسلطة وتحويل الدولة دولة دينية والكرد يريدونها كما في الدستور دولة مدنية ولا يرغبون في أن يكونوا خدماً. لكن ما يسوقه له خصومه صحيح أيضاً فهو ساهم في نظام المحاصصة وأفاد من الدعم الأميركي، وكذلك من الثنائية الكردية الشيعية التي أدارت الحكم إثر سقوط نظام صدام حسين. ولا شك في أن الإقليم لم يجد أي مصلحة في أن يكون «تكتل عربي» واسع يحول دون تحقيق طموحات الكرد في الانفصال. ولم يكن يعنيهم قيام حكم قوي في بغداد يكرر التجارب السابقة معهم. وهم على حق في ذلك. وحتى أعتى مناوئيهم زعيم «دولة القانون» نوري المالكي وفروا له ولاية ثانية. بل حالوا دون نزع الثقة عنه عندما تنادت قوى عدة لإطاحته. على رغم أنه وجه إليهم تهديدات واضحة وحشد قوات من الجيش الذي أشرف على بنائه على حدود الإقليم ملوحاً بالحرب. ولن تكون هناك ترجمة لما يرفع من شعارات عن «وحدة» عرب العراق بمواجهة الإنفصال، فالصراع المذهبي لم يبق شيئاً من وشائج هذه الوحدة. حتى أن مجاميع سنية عدة تلوذ بالإقليم، وبعضها يدعو إلى شمله بالاستفتاء!

الأيام السبعة الفاصلة عن موعد الاستفتاء حافلة بالغموض وبكثير من الأسئلة عن اليوم التالي لهذا الاستحقاق، وكذلك عن اليوم التالي لهزيمة «داعش». ليس واضحاً مشروع الحوار الذي سيقوم بين بغداد وإربيل في شأن الاستقلال، وما هي آليته ومتى يعلن، وما هي القضايا التي سيشملها هذا الحوار وأبرزها الحدود، هذا إذا تجرأت حكومة حيدر العبادي المقبل على انتخابات مصيرية، على بدء حوار في هذا الشان. علماً أن الكرد لا يبدون ولن يبدوا أي مرونة في احتمال التنازل عن الحدود الجديدة التي رسموها في أثناء مشاركتهم في الحرب على «داعش»، خصوصاً كركوك التي ستشكل بنفطها عماد اقتصاد الدولة الوليدة. وقضية الحدود هي المحك لمستقبل العلاقة بين بغداد وإربيل بعد سقوط آخر معاقل «تنظيم الدولة». فهل تتنازل المكونات العراقية الأخرى من عرب وتركمان وأقليات أخرى عن هذه المناطق بسهولة؟ والأمر نفسه بدأ يطرح في سورية أيضاً مع استعداد كردها لانتخابات في إطار فيديرالي يستقلون فيه بإقليمهم. ولا يبدو أن دمشق يمكنها مواصلة التنسيق معهم بعدما شارفت الحرب على «تنظيم الدولة» وبقية الفصائل نهايتها في بلاد الشام. وبدأت نذر المواجهة بين «قوات سورية الديموقراطية» بغالبيتها الكردية وقوات النظام في السباق إلى دير الزور ومنها الحدود مع العراق. قد تكون النزاعات الحدودية عنوان الحروب المقبلة للكرد مع شركائهم «السابقين» في كل من العراق وسورية… وربما في إيران وتركيا.

الحياة

 

 

دولة كردستان المستقلة”.. بواقعية سياسية/ سمير سعيفان

يتمتع الأكراد بهمّةٍ عاليةٍ من أجل قيام “دولة كردستان المستقلة”. لكن إذا ما اختلطت الهمّة العالية بروح قومية متطرفة، فإنها تفقد القيادات والنخب القدرة على الرؤية الصحيحة، ويغشي الطمع على أبصارها. فأين تقف القيادات والنخب الكردية اليوم؟

مع خيبة أمل الأكراد بقيام دولتهم المستقلة على أنقاض السلطنة العثمانية، قاموا بتمرّدات عديدة في تركيا وإيران والعراق، لكن تمرداتهم تم قمعها بشدة. تحالفوا بداية مع السوفييت الذين دعموهم في جمهورية مهاباد في إيران في أربعينيات القرن العشرين، ودعموا تمردهم المسلح في شمال العراق في ستينياته. ومنذ سبعينياته، حوّل الأكراد تحالفهم إلى بريطانيا وأميركا.

أسست القيادات الكردية علاقة قديمة غير معلنة مع إسرائيل، منذ ستينيات القرن العشرين، وقد أخفوها في البداية بسبب ضعفهم وحساسية العرب من أي تعاون مع اسرائيل التي وجدت مصلحة قوية لها في دعم قيام “دولة كردية مستقلة”، لتكون مصدر إزعاج للعراق وسورية ولإيران وتركيا، ثم لأن دولة الأكراد ستكون محل تهديد دائم، ما يجعلها بحاجة كبيرة لدعم إسرائيل. ويلوم العرب الأكراد، بسبب علاقتهم المبكرة بإسرائيل، وتطوير هذه العلاقة والمجاهرة بها أخيرا، ولكن الأكراد وجدوا في إسرائيل منفعةً كبيرة ومصدرًا قويًا لدعمهم، خصوصا بما لها من نفوذ في أميركا… هل نعتبر سلوك الأكراد هذا خيانة للعرب؟ المسألة أن ما يهم الأكراد ليس الإخلاص للعرب أو خيانتهم، بل يهمهم قيام دولتهم.

“أثمر تحالف الأكراد مع أميركا دعمًا لقيام كيانٍ شبه مستقل، بحكم الواقع في شمال العراق منذ 1991”

أثمر تحالف الأكراد مع أميركا دعمًا لقيام كيانٍ شبه مستقل، بحكم الواقع في شمال العراق منذ 1991، حين أصبح صدّام حسين في وضعٍ صعب، بسبب غزو الكويت. ثم تحول هذا واقعا سياسيا أقره دستور عراقي، صيغ تحت وصاية سلطات الاحتلال الأميركي للعراق، والسيطرة الإيرانية على مقاليد السلطة فيه، وأصبح إقليم كردستان العراق جمهوريةً شبه مستقلة، تنتظر فرصة سانحة لكي تستقل كليًا.

وجد الأكراد في سورية فرصتهم السانحة بعد مارس/ آذار 2011، وانطلاق الانتفاضة، إذ اضطر النظام للعودة إلى أوراقه القديمة، والتحالف مع حزب الاتحاد الديمقراطي (فرع حزب العمال الكردستاني “التركي”) لضبط المناطق الكردية، ومنعها من الانضمام إلى الحراك المعادي للنظام، ومَنَحَ النظام هذا الحزب كل ما يلزم من دعم مالي وسلاح ودعم لوجستي وإعلامي، وقد قام “الاتحاد الديمقراطي” (بي يي دي) بمهمته خير قيام، لكن غايته، كما “العمال الكردستاني” ومشروعهما في النهاية ليس حماية نظام دمشق، أيا كان هذا النظام، بل إقامة إقليم مستقل في شمال سورية، على غرار شمال العراق، وقد عمل من أجل هذه الهدف بنشاط، مستغلاً حاجة النظام وإيران وروسيا لخدماته.

حين برز تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قوة إقليمية ناشئة، بعد استيلاء مسلحيه على الموصل وأجزاء واسعة من شمال العراق وغربه، ومعظم شمال سورية وشرقها، وأصبح التنظيم الهاجس الأميركي الأول في المنطقة، استغل أكراد العراق المتحالفون مع الأميركان شعار محاربة “داعش” وسيطروا على مناطق إضافية من أرض العراق، مستغلين ضعف حكومة بغداد. كما استغل “بي دي يي” السوري تحالفه مع أميركا واستراتيجيتها لقتال داعش دون قتال النظام السوري، وحصل على دعم أميركي كبير.

بسبب تحالفه المتعدّد مع كل من النظام وأميركا وروسيا وإيران، طوَّر “بي دي يي” مهامه وطور قواته التي باتت تقدر اليوم بنحو 40 ألف مقاتل، جاء جزء كبير منهم من تركيا وإيران والعراق، شاركوا مع جيش النظام ومليشياته في قتال المعارضة، وفرض هذا الحزب، بقوة السلاح، في مناطق سيطرته مؤسساتٍ قيام كيان كردي شبه مستقل، ضاربًا بعرض الحائط مصالح (وإرادة) غالبية سكان تلك المناطق من عرب وسريان وحتى الأكراد، مستغلاً الدعم الأميركي وظروف الصراع في سورية، وغياب سلطة دمشق وحاجتها اليه.

اندفع حزب الاتحاد الديمقراطي إلى توسيع منطقة سيطرته إلى خارج المناطق ذات الغالبية الكردية، والسيطرة على مناطق أوسع بكثير، والسيطرة على شمال وشرق سورية بكامله، ويندفع للسيطرة على محافظة الرقة، حيث لا وجود كرديا يذكر فيها سوى في ريف عين العرب على الحدود التركية، ولم يفلحوا في السيطرة على دير الزور، لأنها، كما يبدو، من حصة الروس والنظام، حسب اتفاقهم مع الأميركان. ولا أعلم كيف سيستطيع الحزب هضم الكتلة السكانية العربية التي تفوق أعدادها أعداد الأكراد، إلا إذا كانوا يخططون لاستقدام أكرادٍ من تركيا وايران.

كي تكون الصيغة مقبولة، فقد تخلى “بي يي دي” عن شعاره المحدود السابق “روج آفا” (منطقة الإدارة الكردية في شمال سورية)، وطرح شعار سورية الديمقراطية، وتحالف مع بعض العشائر العربية وبعض السريان، وبالطبع بقيت السيطرة والكلمة المطلقة للحزب. وهو يطرح الفيدرالية على غرار شمال العراق، ويتوقع أنه، بعد تحقيق هذه الخطوة، سيبدأ يوطد وجوده، ويتعاون مع إقليم كردستان العراق الذي يحضّر نفسه للاستقلال. وأن طموحات “بي دي يي”، في النهاية، أن يحوّل منطقة سيطرته من “سوريا الديمقراطية” إلى “كردستان الديمقراطية” بقيادته، وسيستغل أي ظرف مناسب ليقوم، هو الآخر، باستفتاء على الاستقلال، وإعلانه إن تمكن، ثم يسعى إلى إقامة اتحادٍ فيدراليٍ مع إقليم كردستان العراق الذي يكون قد أعلن استقلاله، وذلك ما لم تتغلب العقلية العشائرية الكردية على المصالح المشتركة، وخلافاتهم كثيرة منذ الآن.

وضمن منطق الواقعية السياسية، سيفعل الأكراد هذا كله وأكثر، طالما هم قادرون على فعله، فلا الحق ولا الباطل سينتصر بدون من ينصره، فالعراقيون مشغولون، والسوريون متقاتلون ومشرذمون، وليسوا قادرين على منع كيان كردي على منطقةٍ واسعة من شرق سورية وشمالها. هل نلوم الأكراد فيما يسعون إليه، ونقول إنه لا حق لهم في ذلك؟ نعم، ليس لهم حق في كل ما يفعلنوه، لكن ما نفع اللوم وما نفع هذا القول؟

“سيقوم الأكراد باستفتاء على استقلال “كردستان العراق”، على الرغم من معارضة العالم، ونتيجته محسومة، مستغلين ضعف العراق وتشتته وانشغاله بصراعه الداخلي”

المهم أن من يملك القوة لفعل شيء سيفعله، ومن يملك القوة على منع الآخر من فعل شيء سيمنعه، فالحق مع القوة، وما تفرضه القوة يصير حقًا ويفرض سمعة حسنة، ونعني بذلك “مركّب القوة” من عناصر ناعمة وأخرى خشنة. هذه هي القاعدة الذهبية، وهذه القاعدة/ الحقيقة ستزعج الضمائر الحية، لكن أصحاب القوة لا يهتمون بالضمائر، حية أم ميتة. هكذا كان التاريخ ويبدو أنه سيبقى كذلك.

سيقوم الأكراد باستفتاء على استقلال “كردستان العراق”، على الرغم من معارضة العالم، ونتيجته محسومة، مستغلين ضعف العراق وتشتته وانشغاله بصراعه الداخلي، وسورية مفتتة وهذا وضع مثالي. لكن هذا الكيان، بالطريقة التي يفرضونه بها سيكون مشروع حرب قادمة مستقبلا. ويغامر الأكراد، وهم يعلمون أنهم يغامرون، لكن نمو الشعور القومي الطاغي والجارف يجعل روح المغامرة يغلب على الواقعية السياسية، فلا يقدّرون المخاطر حقّ قدرها. ويُغريهم تحالفهم مع أميركا وإسرائيل على المضي في إعلان قيام دولتهم المستقلة، فتركيا تعد قيام دولة كردية مستقلة خطًأ أحمر، ولإيران الموقف نفسه، وهما قوتان إقليميتان، وقد تشنان حربًا على أي دولة كردية وليدة، لأن قيامها سيشجع انتفاضات كردية في كلا البلدين. وقد صوت برلمان العراق أخيرا ضد الاستفتاء المزمع تنظيمه في 25 سبتمبر/ أيلول الجاري، وهذا تخويل لحكومة حيدر العبادي بشن حرب لو أراد واستطاع، كما هدد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في خطاب له أخيرا. ويتقارب الموقفان الإيراني والتركي من موضوع قيام كيان كردي مستقل. كما بدأ التوتر بين نظام دمشق و”بي دي يي” الذي أصبح في موقع أقوى، وصارت حاجته لقوات النظام قليلة، بعد أن أصبح بحماية الأميركان. ولكن قيام دولة كردستان المستقلة في سورية أو العراق قد يدفع الدول الأربع لتتشارك في القضاء على الدولة الوليدة، ولن تستطيع الولايات المتحدة إنقاذها آنذاك.

ويبدو أن هذا الخطر لن يثني القيادات والنخب الكردية عن المضي في القتال السياسي والعسكري لإعلان استقلال دولتهم، وأن يضموا اليها أكبر مساحاتٍ ممكنة، وقد لا يردعهم موقف إيران أو موقف تركيا، وسينظرون إليه “جزءا من تقاليد الصراع وجزءا من ثمن قيام دولة كردستان المستقلة، وتستحق أن يُدفع أكثر”. أو قد ينتظرون ظروفًا سانحة أخرى، ولا يغامرون إلى حدود إثارة أربع دول في المنطقة ضد الدولة المأمول ولادتها، خصوصا أن الولايات المتحدة طلبت صراحة إلغاء الاستفتاء على الاستقلال في إقليم كردستان العراق، إلا إذا كان هذا توزيعًا للأدوار، أي إعلان صحفي أميركي، ومن جهة أخرى تشجيع الأكراد للمضي في الاستفتاء، فإسرائيل تريد قيام دولة كردستان المستقلة.

لتبسيط المشهد المعقد، يمكن أن نلحظ توجهًا طاغيًا لدى القيادات والنخب الكردية، تختلط فيه الحماسة القومية الكردية بالطمع، فهي “فرصة الأكراد التاريخية”، فإن سنحت الفرصة اليوم قد لا تسنح غدا، أيا كانت المجازفة. أما توجه الواقعية السياسية بين هذه القيادات والنخب، ويبدو أنه التيار الأضعف الآن، فيدخل في حساباته عناصر أخرى، مثل عواقب الأفعال، ويرى الاكتفاء بإقامة حكم ذاتي في المناطق ذات الغالبية الكردية في كل من العراق وسورية “شراكة مع بقية شركائنا الذين عشنا معهم قرونًا كثيرة”، ومن ثم انتظار المستقبل. فأيهما سيفوز؟

العربي الجديد

 

 

 

كردستان وآلام المخاض في الشرق الأوسط/ مراد يتكن

عرف الشرق الأوسط مثل هذه الأوقات الأليمة قبل قرن. وحينها كان فجر عصر النفط يبزغ، وكانت ثلاث سلالات حاكمة (السلطنة العثمانية، وآل رومانوف وآل هابسبورغ) في ثلاث امبراطوريات برية (في تركيا وروسيا والإمبراطورية المجرية– النمسوية) تتداعى وتتهاوى. وحينها، كانت الولايات المتحدة قوة نامية ولم تكن الفيصل السياسي في المنطقة والعالم. وكانت بريطانيا وفرنسا أبرز القوى المهيمنة في وجه ألمانيا التي كانت تسعى كذلك إلى ضمان الوصول إلى المناطق الغنية بالنفط في الشرق الأوسط والقوقاز.

ومذ ذاك، أبصر النور أكبر مشروع اشتراكي في العالم المعاصر، الاتحاد السوفياتي، وأفل وتفكك. وجمهورية تركيا، وقلة من السياسيين الأوروبيين توقعوا أن تقيض لها حياة مديدة، نجت وصمدت. وصارت صاحبة واحد من أكبر الاقتصادات في المنطقة على رغم افتقارها إلى النفط والغاز وموارد الطاقة. وإيران هي بلد إرث دولته راسخ في التاريخ، وهي كذلك نجت وصمدت، على رغم فداحة رضة الثورة الإسلامية. ومصر دولة أخرى راسخة في الشرق الأوسط كتبت، كذلك، لها الحياة، على خلاف دول مصطنعة في أوروبا مثل يوغوسلافيا وشيكوسلوفاكيا، انهارت في التسعينات. وإسرائيل أنشئت في 1948، وهي لاعب جديد نسبياً في المنطقة، ولكن دورها بارز في الشرق الأوسط. ويعود الفضل في هذا إلى دعم أميركا اللامتناهي.

واليوم، نعيش في عالم مختلف. وعلى رغم أننا في فجر العصر الرقمي، لم نخرج بَعد من العصر النفطي- فالنفط والغاز لا يزالان وازنين في حسابات الدول. وتحتاج سورية والعراق، وهما دولتان أبصرتا النور في عهد الانتدابين الفرنسي والبريطاني في الشرق الأوسط إثر تفكك السلطنة العثمانية، إلى جهود دولية (من قوى مثل روسيا وأميركا) وإقليمية (دول مثل إيران وتركيا والمملكة السعودية) لتتماسكا وتحفظا وحدتهما، على رغم أن البلدين هذين يملكان الغاز والنفط. واليوم فراغ القوة يعصى العقل في العراق وسورية. وفي العراق، تدعم أميركا (وإيران لسخرية المآلات) حكومة حيدر العبادي للحؤول دون انهيار البلاد وتشظيها. وفي سورية، يدعم الروس (والإيرانيون) نظام بشار الأسد. فالسياسة تلفظ الفراغ وتمقته. وتملك أربعة بلدان في جوار سورية والعراق القدرات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وهي تركيا والمملكة السعودية وإيران وإسرائيل. ولكن منظمات ليست بدول سبقت هذه الدول إلى التمدد. فتنظيم «داعش»، سار على خطى «القاعدة» وسارع إلى ملء الفراغ وإعلان «دولة»، على رغم أن الدولة هذه على شفير الانهيار. واليوم، تقاتل فصائل كردية في سبيل حيازة دولة. ويريد الأكراد العراقيون، على رأسهم «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، والأكراد السوريون، وتوجه دفتهم مجموعات تتحدر من «حزب العمال الكردستاني» الإرهابي، ملء الفراغ اليوم واقتطاع دولة.

وعلى خلاف القوى التي يعتد بها في المنطقة، تدعم إسرائيل فكرة استقلال أكراد العراق بدولة، في مرحلة بالغة الدقة. فـقبضة «حماس» في قطاع غزة ترتخي جراء تخبط قطر بسبب ضغوط السعودية ومصر عليها جزاء صلاتها بـ «الإخوان المسلمين». ويبدو أن إسرائيل يروقها تراجع تركيا عن سياستها في سورية وفلسطين. وفي مقدور تل أبيب اليوم استعراض قوتها أمام إيران من طريق دعم دولة مسلمة غير عربية، كردستان، كياناً عازلاً على الحدود مع إيران وتركيا. ومثل هذه الدولة يجعل العلاقة بإسرائيل شائكة، من جهة، ويضعف العراق، من جهة أخرى. ويتفاقم تعقيد المشهد الشرق الأوسطي، مع زيادة عدد اللاعبين السياسيين. وحين يكثر عدد اللاعبين، ولا يتغير الوضع الإقليمي الرسمي، يتعذر حل المشكلات. ومع الأسف، الآلام ستتفاقم مع تغير الحدود في المنطقة. فما إن تتغير حدود في الشرق الأوسط، يخشى أن تكر السبحة. ولا أحد يعرف أين ستتوقف موجة تغير الحدود. فنحن أمام المجهول، على نحو ما كان عليه أمرنا قبل قرن من الزمن.

* كاتب، عن «حـــرييـــات» التـــركــية، 19/9/2017، إعداد منال نحاس.

الحياة

 

 

 

الكرد خارج هيمنة إيران … فماذا عن سنّة العراق؟/ عبدالوهاب بدرخان

كان متوقعاً ومتصَوَّراً أن يتمّ استقلال اقليم كردستان عن العراق في أي وقت، طوال المئة عام التي مرّت، ولم يكن متوقّعاً ولا متصَوَّراً أن يحصل الانفصال ودّياً أو بالتراضي. أن يؤدّي الى «حرب أهلية» أو الى عزلة اقليمية دائمة أو موقتة لـ «الدولة» الوليد فهذا من أثمان الهدف المحدّد: تقرير المصير. لن تغزو تركيا الإقليم، على رغم تهديدات رجب طيّب أردوغان، مبطّنة ومكشوفة. أمّا إيران فلا تراهن على «عمليات مشتركة» مع تركيا لأن لديها أذرع «الغزو بالوكالة» ممثّلة ببعض ميليشيات «الحشد الشعبي» وليس كلّها. وأمّا بغداد التي لم تخرج بعد من حربها على تنظيم «داعش» فليست في وضع أفضل مما كانت عليه الحكومات العراقية السابقة إبان حروبها على الأكراد، وربما تضطرّ الضغوط الداخلية حيدر العبادي الى إجراء عسكري، إلا أنه سيركّز فيه على تأمين وجود لحكومته في المناطق المتنازع عليها، الموزّعة بين محافظات كركوك وديالى ونينوى وصلاح الدين، أكثر مما سيفكّر بتطويع الإقليم لإبقائه في نطاق «الدولة الاتحادية».

الأكيد أن الأخطر هو ما سبق الاستفتاء، فالانفصال أصبح أو يكاد انقساماً سياسياً حادّاً وواقعاً نفسياً جماعياً يدّعي مقاومة هذا الاستحقاق فيما هو يعمّق تسويغه. باتت كل كلمة في أرجاء البرلمان، وكل انفعال على الفضائيات، وكل شتيمة على مواقع التواصل الاجتماعي، كما في الشارع، ترسّخ واقع ما بعد الاستفتاء ولا تبدّده. وكأن عراقيي إيران يستشعرون بأنهم عشية سقوط آخر لنظامٍ آخر يتيح فرصاً جديدة لنهج المغانم، لذا هناك من يتعجّلون شغور المناصب من رئاسة الجمهورية الى وزارات الى وظائف حكومية، كما يتربصون بأملاك ومخلّفات يوشك الأكراد أن يفقدوها. لكن، حتى في الإقليم نفسه، حيث لا تسود هذه الحال المسعورة ضد العراقيين العرب «اللاجئين» الهاربين من جحيم بغداد، توجد حسابات متوجّسة لدى «حركة التغيير» والإسلاميين من أن يفضي الاستفتاء الى إدامة الحال الاستبدادية التي ينعتون بها حكمهم وحكومتهم، بل يتخوّفون من استشراس هذا الاستبداد في ظلّ العزلة المتوقّعة للإقليم.

زرع الاستفتاء حدّاً فاصلاً تاريخياً، ولحظة إعلان موعده كانت عملياً لحظة الانفصال، وبالتالي لحظة انتهاء الحوار، إذ لم يفد قبلها، وبالطبع لم يفد بعدها، لا مع بغداد ولا مع الأطراف الخارجية. فرئيس الإقليم سأل مراراً وتكراراً عن «البدائل» و «الضمانات»، وكان مسعود بارزاني مدركاً مسبقاً أن أحداً لن يتمكّن من توفيرها، لأن البدائل التي في خاطره وخواطر الأكراد كافةً ليست صعبةً فحسب بل مستحيلة: ضمان اميركي علني وموثّق بمساعدة الأكراد على تحقيق دولتهم المستقلّة… صحيح أن الولايات المتحدة ملتزمة أمن الإقليم وسلامته، منذ ما قبل الغزو والاحتلال عام 2003، وأن جيمس ماتيس جدّد أخيراً هذا الالتزام بمعزل عن الاستفتاء ونتائجه وتداعياته، إلا أن الولايات المتحدة التي اجترحت نظام ما بعد صدام حسين ثم انسحبت بعدما ارتبطت مع حكومة بغداد باتفاقات معروفة، ما لبثت أن ضاعفت التزاماتها مع عودتها لقيادة الحرب على «داعش» وإنهاء سيطرته.

لم يكن ممكناً في حال الحرب، إذاً، أن تُقدِم واشنطن على أي تعهّد ستعتبره شريكتها بغداد ضرباً لهيبتها ولسيادة العراق ووحدة أراضيه وانتهاكاً واضحاً للاتفاق بين الدولتَين. وعلى رغم التعاطف الأميركي والغربي عموماً مع الإقليم قضيته، إلا أن التأييد للأكراد لا يبلغ حدّ تجاهل التوتّرات الإقليمية المتصاعدة، بل إن الاستفتاء يزيدها سخونةً، فالشأن الكردي ماضٍ في تعقيد الأزمة السورية على رغم بلوغها احتمال وقف شامل لإطلاق النار، وهو يفاقم مخاوف واقعية لتركيا على وحدة أراضيها، ويثير قلق إيران من وجود انفصاليين أكراد في ربوعها، كما أن المحيط العربي يطرح أسئلةً جدّية ومشروعة عن مصير سنّة العراق في ظل هيمنة إيران واستيعابها للفلول «القاعدية» و «الداعشية» في فلكها… لذلك قيل للإقليم وحكومته أن «التوقيت خاطئ وغير مناسب»، لكن هذه الظروف الإقليمية الصعبة هي بالضبط الظروف المناسبة التي اقنعت بارزاني وقادة كردستان العراق بالذهاب الآن وليس غداً الى الانفصال والاستقلال.

وطالما أن الاستحقاق لن يكون سهلاً في أي حال فالأحرى أن يتحقّق في ظلّ انشغال الجوار بمشاكله وصراعاته، لأن كل السيناريوات لمعالجة الوضع الإقليمي وضبطه تفترض تسويات دولية يعتقد الأكراد في ضوء السوابق أنها اذا لم تتمّ ضدّهم وعلى حسابهم فإنها على أقلّ تقدير ستطيح طموحاتهم وأحلامهم.

كالعادة انتظر الأميركيون بلوغ «المأزق» نقطة اللاعودة للإيحاء بأنهم لم يقصّروا في تفاديه. هكذا فعلوا في ذروة الأزمة بين حكومة نوري المالكي والمحافظات السنّية عام 2013 حتى منتصف 2014، بل هكذا فعلوا أيضاً في سورية، إذ كانوا على يقين بأن قنبلة الإرهاب «الداعشي» تنتشر وأنها على وشك الانفجار، لكنهم اكتفوا آنذاك برسائل باردة ونصائح باهتة لم يعرها المالكي أي اهتمام وهو المستغرق في تطبيق الخطة الإيرانية: إمّا اخضاع تلك المحافظات وإمّا «استدعاشها» بسحب الجيش والأمن الحكوميَين منها وتركها نهباً للتنظيم ثم استعادتها لمعاودة اخضاعها بعد تدمير مقوّمات العيش فيها. وهكذا فلا مبالغة اذا وُصِف «المشروع» الذي جاء به المبعوث الأميركي الخاص والسفير البريطاني وممثل الأمم المتحدة في العراق كـ «بديل» من الاستفتاء بأنه «صغير جداً ومتأخر جداً»، وبدل أن يقنع الأكراد بالتخلّي عن الاستفتاء أقنعهم بأن أضرار التراجع عليهم ستكون أضعاف الأضرار المحتملة للاستفتاء نفسه.

لم يكن متوقّعاً أن يخرج المشروع الثلاثي عن إطار الدستور وضرورة التفاوض مع بغداد لحلّ الخلافات واستئناف «الشراكة» التي كان فشلها أهم حجج بارزاني للدفع بمشروعية الاستفتاء. وإذ قُدّمت مواكبة مجلس الأمن الدولي للتفاوض على أنها ضمانٌ لحقوق الإقليم فإن الواقع الدولي أعطى براهين كافية على عقم مجلس الأمن وعجزه. أما الاعتماد على رحابة صدر بغداد واستعدادها الطيّب للتعاون وتفعيل الشراكة فدونهما صعوبات كأداء يمكن اختصارها بأسئلة ثلاثة: مع افتراض كل حسن النية عند العبادي فهل إن القرار في بغداد أم في طهران، وهل هو وطني أم «حشدي»؟ ومع افتراض الدعم الإيراني للتوافق مع الأكراد وإرضائهم تفادياً للأسوأ، فهل يمكن التعامل بالمثل مع سنّة العراق أم يجوز ايرانياً و «حشدياً» التمييز ضدهم «وفقاً» للدستور؟ ومع افتراض أن التسوية التفاوضية ممكنة مع الأكراد، كمصلحة عراقية وطنية، فهل إن كردستان العراق ستتخلّى نهائياً عن المطالبة بالاستقلال والانفصال؟..

يمكن وضع حديث «الشراكة» على حدة، فهي شعارٌ ولم تكن هدفاً، ولو كانت كذلك لوجب احترامها خلال كتابة الدستور وبعد إقراره وبالأخص بعد إجراء التعديلات المتفق عليها. فالوضع الذي نشأ لم يكن دستورياً على الإطلاق، فالشيعة اعتبروا إرضاء إقليم كردستان بـ «الفيديرالية» كافياً لإطلاق أيديهم في تشكيل نظامهم لا لإعادة بناء الدولة بل لتلبية أطماع إيران ونزواتها، أما الأكراد فتحالفوا مع الشيعة لترتيب مصالح الاقليم وتأمينها ولم يحضّهم «تمسكهم» بـ «الشراكة» على الاهتمام بحقوق المكوّن الآخر السنّي، ولم تكن تقارباتهم الآنية معه سعياً الى تصويب «الشراكة» بل الى استدراج تنازلات من بغداد لقاء إهماله مجدّداً، الى أن ضرب التباعد عميقاً في الأرض بينهم وبين المالكي واستمرّ ولو مخَفَّفاً حتى بعد مجيء العبادي.

لو لم تفشل «الشراكة» لربما كانت حجّة الأكراد أقلّ زخماً. أما فشلها فلا شكّ أنه مسؤولية الجميع بلا استثناء ولو بدرجات متفاوتة. ذاك أن سلطة الاحتلال الأميركي كانت المسؤولة عن حلّ الدولة العراقية ومؤسساتها غداة سقوط النظام السابق. وإيران لا تزال المسؤولة عن الاستثمار في الخراب العراقي بموجب «الشراكة» الضمنية بينها وبين الولايات المتحدة. لكن عراقيي/ ايرانيي النظام الناشئ في بغداد مسؤولون عن ادارة «دولتهم» بعقل ميليشيوي – طائفي. وفيما يلام السنّة على تقصيرهم المريع في إدراك المتغيّرات واستيعابها، لا يمكن القول أخيراً إن الأكراد ساهموا في «الشراكة» وحاولوا فعلاً انجاحها، فعندما كانت هناك منافع استفادوا منها وعندما انقطعت يريدون الاستفادة من فشلها لتفعيل الطلاق مع العراق.

* كاتب وصحافي لبناني.

الحياة

 

 

 

إسرائيل الوحيدة المؤيدة لقيام دولة الأكراد/ د. فايز رشيد

يرفض قادة إقليم كردستان، كافة المقترحات العراقية والعربية والدولية إلغاء الاستفتاء على إقامة دولة كردية مستقلة. هذا الذي أمر بتنظيمه مسعود بارزاني رئيس الإقليم. بالطبع المقصود به هو خطوة الانفصال عن العراق، رغم تأكيد بارزاني على أن الاستفتاء في حالة الموافقة عليه من الشعب الكردي، لن يعني الانفصال مباشرة.

من قبل قال الزعيم الكردي في تصريح له «إن ما حدث في العراق خلال السنوات الماضية خلق واقعاً جديداً وعراقاً جديداً، وأن الأحداث، أكدت أن الشعب الكردي عليه أن يغتنم الفرصة الآن ويحدد مستقبله»، فضلاً عن التصريحات العلنية الأخرى، وما أكثرها، التي تكشف عن نوايا انفصالية عن جسد الوطن الأم. معروف أن الجيش الكردي استغل ما جرى ويجري في العراق، لتعزيز سيطرته على مدينة كركوك الغنية بالنفط، وعلى كافة المواقع المُختلف عليها مع الحكومة المركزية في بغداد.هذه المواقع ينادي الأكراد بإضافتها إلى مدينة كركوك، ومن ثم ضمها إلى إقليم كردستان.

لقد أعلن مسعود بارزاني أيضاً، أن المادة 140 من الدستور العراقي سقطت، وهي التي تنص على إجراء استفتاء شعبي في المدينة – المقصود كركوك – لتخيير سكانها بين الانضمام لإقليم كردستان، أو البقاء مع الحكومة المركزية في بغداد ومع العراق. (كان مقرراً للاستفتاء أن يجري عام 2007 لكن ظروفاً عديدة حالت دون ذلك).

إبقاء هذه المادة يعني عدم إجراء هذا الاستفتاء، وبارزاني يعرف تمام المعرفة، أن غالبية سكان هذه المدينة هم من العرب، إضافة إلى بعض الأقليات التركمانية والكردية والأصول الإثنية الأخرى. ما يؤكد الهدف الرئيسي لبارزاني في الانفصال عن العراق، أن جيش إقليم كردستان، توقف عند السيطرة على المناطق التي ينوي الأكراد ضمها إلى إقليم كردستان. لم تشارك البيشمركه في مساعدة القوات العراقية التي أخذت المبادرة لاستعادة المناطق التي احتلها «داعش». أيضاً، إن كردستان تقوم بتصدير نفط الإقليم إلى بعض الدول، عن طريق أنابيب تمتد إلى تركيا، ومنها ما تردد من أنباء عن تصدير شحنات مستمرة إلى الكيان الصهيوني. هذا ما كشفته أيضاً الصحف الإسرائيلية.

الكيان الوحيد الذي يهلل لانفصال إقليم كردستان عن العراق، كما هلل لانفصال جنوب السودان عنه، وتأسيس دولة، أول خطوة قامت بها هي الاعتراف بإسرائيل، التي تساعد دويلة جنوب السودان عسكرياً، خاصة بناء جهاز أمني. نتنياهو أعلن في تصريح له «دعوته الأكراد لإعلان دولتهم» ووعد بالاعتراف بها وسريعا، كذلك فعل إيلي شاكيد ونفتالي بينت وليبرمان.

العلاقات الكردية – الصهيونية تمتد إلى ستينيات القرن الماضي. فقد زار الملاّ مصطفى بارزاني (والد مسعود وأول من طرح انفصال إقليم كردستان عن العراق) الكيان في إبريل عام 1968، واجتمع مع القادة الصهاينة آنذاك، خاصة مع القيادات العسكرية. الأخيرون مع السياسيين نصحوه «بالانفصال وتأسيس دولة مستقلة». الزيارة بقيت سرية إلى أن تطرقت لها كتب صهيونية كثيرة، كذلك العلاقات مع الأكراد كشفتها كتب كثيرة، لعل من أبرزها، كتاب اليعازر تسافرير الذي تولى رئاسة الموساد في شمال العراق أوائل السبعينيات، وكتاب الصحافي الإسرائيلي شلومو نكديمون بعنوان»الموساد في العراق ودول الجوار». الكيان الصهيوني أمدّ الأكراد بالأسلحة والخبراء أثناء ما سموه بـ«الثورة في مقاتلة الجيش العراقي» في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ولم تنقطع العلاقة بل تطورت ونمت كثيراً بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.

العراق وعن طريق قادته العسكريين كان قد طلب في عام 1967، معاونة الأكراد في التصدي لعدوان ذلك العام، وقد كان على وشك الوقوع. أجابهم الملاّ مصطفى بارزاني (وفقاً لصحف إسرائيلية وغربية عديدة) بأنه على عبد الناصر إعادة فتح خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية، وعند احتلال الكيان لباقي أجزاء فلسطين وأراضي من دول عربية لم يخف بارزاني الأب شماتته بعبدالناصر. أيضا، فإن دعما كبيرا يبديه نتنياهو وقادة الكيان لتصريحات مسعود بارزاني. هذا الموقف هو مزيج من نظرية ديفيد بن غوريون القائلة، «بضرورة إقامة تحالفات مع الأقليات في المنطقة ودول الطوق الثالث»، أي الدول التي ليس لديها حدود مشتركة مع دولة الكيان، لكن تجمعها مصالح مشتركة معها. فالتعاون الكردستاني- الصهيوني ليس جديدًا. حاليا، وكما تؤكد مصادر إسرائيلية، فإن مئات الشركات الإسرائيلية متواجدة في إقليم كردستان، كما أن مراكز للموساد، وكثيرين من ضباط المخابرات الإسرائيلية، ممن يتدخلون فعليا في توتير وإشعال النزاعات الطائفية والإثنية العراقية – العراقية، يجدون في أرض الإقليم مرتعا خصبا لهم.

بالنسبة لتقسيم العراق، فقد كان قد دعا إليه جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي الحالي، مبكراً، وبُعيد الاحتلال الأمريكي للبلد العربي، وقد كان حينها عضواً في مجلس الشيوخ، دعا إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات على أساس كونفدرالي. هذا الحل هو الاسم الحركي لتقسيم العراق. لكن الولايات المتحدة رسميا، وبديماغوجية كبيرة، تطالب بارزاني بإلغاء الاستفتاء أو تأجيله.

ما يجري في العراق حالياً من صراعات هو بفعل التأجيج الأمريكي- الصهيوني للمذهبية والطائفية والإثنية في بلد الرافدين. العراق اعتبر لسنوات طويلة عمقاً استراتيجياً عربياً في الصراع العربي – الصهيوني. تفتيت العراق وتقسيمه يخدم الأمن الإسرائيلي. هذا ما تحدث عنه صراحة خبراء عسكريون استراتيجيون إسرائيليون وأمريكيون. من جهته قال الخبير الإسرائيلي في الشؤون العربية تسفي بارئيل – في مقال له في صحيفة «هآرتس» (15 /9/2017) إن الأكراد يطلبون مساعدة إسرائيل لإقامة دولتهم المستقلة.

وأشار بارئيل إلى أن الأكراد باتوا يعتقدون، أن العراق دولة فاشلة، تجبر العديد من مواطنيها على أن يعيشوا فيها في مستقبل غير مضمون، وأكد أنهم يرون أن الانفصال عن العراق هو الخيار الوحيد. وكشف الخبير الإسرائيلي عن زيارة في الأيام الأخيرة قام بها عدد من المسؤولين الأكراد الكبار، إلى الولايات المتحدة، وكان من بينهم شيرزاد مامسني ممثل اليهود في وزارة الشؤون الدينية بإقليم كردستان العراق. والتقى الوفد بممثلين عن اللوبي اليهودي في العاصمة الأمريكية، وطلبوا الاستعانة بالعون الإسرائيلي لإسناد مطالبهم، في ظل ما يراه الأكراد من قدرة واضحة لليهود وإسرائيل على إقناع صناع القرار الأمريكي. وأشار إلى جملة من خطوات التقارب بين الأكراد وإسرائيل، من بينها ما شهدته عاصمة الإقليم أربيل من احتفال لإحياء ذكرى المحرقة اليهودية، التي وقعت في الحرب العالمية الثانية من قبل الألمان، وقد شهد الاحتفال للمرة الأولى ارتداء اليهود قبعاتهم الدينية. كما قرر إقليم كردستان بصورة غير مسبوقة تأسيس دائرة جديدة في وزارة الأديان خاصة بأتباع الديانة اليهودية، أسوة بباقي الطوائف والديانات.

هذا ليس منعزلا عن اعتماد أحزاب كردية سورية، النظام الفيدرالي في شمال سوريا في إقليم «روج أفا». وكما أكد القادة الأكراد، فإن هذه الخطوة تشكّل مقدمة لطرح نظام فيدرالي في كامل الأراضي السورية، باعتباره «الحل الأمثل» لمستقبل سوريا، كما يتصورون. وتم الإعلان عن الإقليم، خلال اجتماع شارك فيه أكثر من 150 شخصية من شمال سوريا، بينهم أكراد وعرب وسريان وآشوريون وتركمان وأرمن، في رميلان في محافظة الحسكة، إضافة أيضا إلى تبعية مناطق في محافظة حلب إليه، بحيث تبدأ حدود الإقليم الكردي، حسب الخريطة التي أعدّها مركز «ياسا» الكردي للدراسات والاستشارات القانونية، من قرية «عين ديوار» التابعة لمدينة «ديريك» في محافظة الحسكة، وتمتد بمحاذاة الحدود التركية، لتصل إلى أقصى الشمال الغربي عند لواء إسكندرون.

إقليمياً فإن موانع تركية وسورية وإيرانية وعراقية تهدد جديا قيام دولة كردية مستقلة، وحتى لو أُعلن قيام هذه الدولة، فمن المحتمل مهاجمتها عسكريا، وإعلان حرب جديدة في المنطقة. إننا مع إعطاء الأكراد في العراق وسوريا كافة حقوقهم، بعيدا عن التدخل الصهيوني ـ الأمريكي ـ الغربي، وعلى أرضية وحدة الأراضي العراقية والسورية، فالانفصال عن جسد الدولة العربية، سواء في العراق أو سوريا، وفي هذه الظروف تحديداً، يصب في مجرى المؤامرات متعددة الأطراف، خاصة الصهيونية، الهادفة إلى تفتيت الدولة القطرية العربية الواحدة. لا نريد دولة كردية تشكل قاعدة صهيونية جديدة في العمق العربي.

٭ كاتب فلسطيني

القدس العربي

 

 

 

الانفصال: المشنقة الكردية للإفلات من التاريخ/ صفاء خلف

تستدعي المخيلة الكردية التاريخية مشروع اقامة “الدولة” كواحدة من مبتكرات إعادة تشكيل “الهوية القومية” وصياغة الانتماء الجغرافي و”المستقبل الواعد” لمجموعة عرقية كبيرة مسلوبة التحكم بمصيرها ومتمددة على مساحة شاسعة بأربعة بلدان على الأقل (العراق، تركيا، إيران، سوريا، مع أقلية صغيرة في أرمينيا وجورجيا)، وتتنافس على النفوذ في منطقة ملغومة بالثروات والازمات. وإزاء هذه المخيلة الثورية، كانت الفاعليات الكردية تعتمد صيغاً لتحقيق الحلم النادر. ولكن، وفي كل مرة، كان مأزق التاريخ يصطدم بشراسة الواقع وحتمية الفشل بسبب التعقيد الجيوسياسي للمنطقة المحصورة بين امبراطوريات قديمة نشأت على أطلالها جمهوريات جديدة أكثر عنفاً في قمع الكرد وتبديد أحلامهم.

القصة..

ليست هذه المرة الوحيدة التي يختبر فيها الكرد تطلعهم الى اقامة “دولة قومية” في شمال العراق، لكنها المرة الاولى التي سيذهبون فيها – إن عُقِد الاستفتاء بموعده المحدد – الى المشاركة في حسم الموقف من الاستقلال المستحيل في المستقبل المنظور. فحين اصرّ البريطانيون على تأسيس الملَكية في العراق (1921) رفض الكُرد المشاركة بالتصويت في استفتاء ضمِ المنطقة الكردية الى المملكة العراقية. وعلى الرغم من هذا الرفض، أخضع البريطانيون بصفقة معقدة المنطقة الكردية

للعرش العراقي الذي نُصّب عليه أمير حجازي من الجزيرة العربية، في الوقت الذي كانت البصرة (جنوب العراق) تعارض ذلك التنصيب وتطالب بـ”دولة خليجية” مستقلة. قُمِعَ الرفض والمطالبتين الكردية والبصْرية عسكرياً، ونُفي المطالبون الى جزر المستعمرات والهند. لكن المتحقّق كردياً بات يُلقي بالظل الثقيل على المملكة المهزوزة، بعد ان أعلن الشيخ محمود الحفيد نفسه ملكاً لكردستان بموازاة فيصل في العام 1924، وكانت تلك هي المرة الاخيرة لقيام شبه دول كردية شمال العراق.. ثم حدث إبان الحكم الجمهوري غير المستقر اعلان المُلا مصطفى “الثورة الكردية” دون اعلان “دولة”.

ومن الجغرافيا التي رسمها الشيخ الحفيد لمملكته المنهارة، تأسس المشروع الكردي بصيغته البارزانية، بالسيطرة على “الاراضي المقدسة للدولة الكردية”. فالحفيد رسم جغرافيا مقاربة للتي يُصر الكُرد اليوم على انها مناطق استحقاق، من دهوك الى خانقين، وتقف عند حدود كركوك خشية البطش التركي، بمعنى شمول الحوض الاعلى للشمال العراقي بمجمله بالسيطرة الكردية. وبعد ذلك ونتيجة التبدلات الديموغرافية وسياسات التهجير والإلحاق الاداري، تمددت منطقة المطالبة الكردية بالأرض وباتت تشمل أراضٍ لم تكن ضمن التصور السياسي للدولة المفترضَة، لتضم كركوك بوصفها “قدس الاقداس” وفقاً لتعبير المُلا مصطفى بارزاني. ولعل هذا التمدد كان نتيجة لاكتشاف منابع الثروة، والرغبة بحيازة مساحات تشكل حدوداً لخطوطِ صدٍ لمعارك ترسيم وتسوية المناطق المتنازع عليها مستقبلاً.

الثابت في القضية الكردية عراقياً الإلحاح على الاستقلال، فيما تخضع في المناطق المجاورة لتعقيدات أكثر ولاشتراطات المؤثرات الثقافية والهوية الاجتماعية والقراءة السياسية. فنظراً لضعف الدولة العراقية وعدم استقرار مؤسسة الحكم ــ على الرغم من رعونة القوة ــ كان الكرد العراقيون هم الأقدر على ممارسة ضغوط عسكرية وسياسية وبناء تحالفات بينية معقدة مع الجوار ذاته، ذاك الذي يقمع الكرد بقوة وشراسة.

لكن الآن، ما الذي يُمكن أن يحصل، بموازاة عناد التاريخ واستحالة الواقع؟ كيف قرأ الكرد خطوتهم الحالية المُفزِعة لكل المنطقة؟ وكيف لهم أن يسيروا بخطى سريعة الى الانتحار باعلان دولة مكروهة ومحاطة بأعداء حقيقيين دون منافذ تهوية اقتصادية أو حليف محاذي بامكانه كسر الحدود لإنقاذ رئتهم المعطلة؟

رسملة الاستفتاء

في كانون الثاني / يناير2005، وخلال الانتخابات النيابية المزدوجة، وُضعت في المناطق الكردية صناديق الى جوار الصندوق الانتخابي الرسمي، لقياس مقبولية فكرة الاستفتاء على الاستقلال. لم تكن تلك الصناديق رسمية. ولم تعلن السلطات الكردية مسؤوليتها المباشرة، وانيطت المهمة بمنظمات تنشط في الدفاع عن حقوق الكرد تحت مسمى حركة الاستفتاء الكردستانية. والنتيجة “نعم” ساحقة غير معترف بها رسمياً، استخدمت فيما بعد كواحدة من أوراق الضغط التفاوضي على بغداد، ورسالة ناعمة لدول المنطقة، وحجر جديد يضاف الى أحجار المطالبة التاريخية.

بذاك الاستفتاء غير الرسمي، الذي بدا مُدبَراً وموجهاً عبر الادوات الحزبية، شارك نحو مليوني مُصوّت. لم يضع علامة رفض الاستفتاء سوى 20 الفاً فقط، بنسبة تصويت إيجابية بلغت 98.98 في المئة، مشابهة لنسب الاستفتاءات في الجمهوريات القمعية المعتادة.

وما يثير التساؤل هو عدد المصوّتين الهائل مقارنة بعدد نفوس المحافظات الكردية حينها! وبحسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط عام 2005، فنسبة سكان المحافظات الكردية الثلاث (اربيل، دهوك، سليمانية) يبلغ 13.2 في المئة من عدد سكان العراق البالغ عددهم وقتها 27.962.968 نسمة، أي بما يعادل 2.118.406.67 نسمة.. وما يعني ان ادعاء تصويت مليوني ناخب كردي في الاستفتاء غير الرسمي ربما يكون غير دقيق. فالحركة ذاتها حين سلمت الامم المتحدة، قبل الاستفتاء في كانون الاول/ ديسمبر 2004 عريضة بتوقيع 1,7 مليون عراقي للمطالبة باستفتاء على استقلال كردستان عن العراق، لم تُشر وقتذاك لمناطق جمع تواقيع العريضة، ولا يمكن التحقق من صحة الرقم الذي اعلنته لعدد المصوّتين، كما لا يمكن تدقيق العريضة لمعرفة نسبة الكرد العراقيين، ومناطق توزعهم، وحجم الكرد غير العراقيين القاطنين في الاقليم الذين شاركوا سواء بالاستفتاء او بالتوقيع على العريضة.

والآن، وبحسب “هيئة احصاء إقليم كردستان”، بلغ عدد سكان الاقليم وفقا لنشرة ايلول/ سبتمبر 2017 نحو 5,765,043 مليون نسمة، ما عدا كركوك وبقية المناطق المتنازع عليها في كركوك وديالى والموصل، ما يعني ان هذا الرقم مرشح للزيادة بنسبة الثلث مع اضافة كرد كركوك والمناطق المتنازع عليها. أي أن المؤسسة الرسمية الكردية تمارس مناورة بزيادة نفوس محافظات الاقليم الاساسية لضمان التفاوض لزيادة حصة الموازنة، ولتعويض نفوس المناطق المتنازع عليها في حال عدم قدرتها على ضمها ادارياً بشكل رسمي. لكن، ومع احتساب معدل مؤشر النمو السكاني السنوي والذي تحدده هيئة الاحصاء بـ 2.5 في المئة سنوياً، تبدو تلك الزيادة غير دقيقة لعدد السكان خلال 12 عاماً (2005- 2017)، ومتناقضة بشكل صارخ مع مؤشر النمو الديموغرافي الذي اعدته الهيئة بالتعاون مع اجهزة الامم المتحدة المختصة ومع جهاز الاحصاء في بغداد وخبراء من الاردن وتركيا.. وكأن ثمة طفرات رقمية لا صلة لها بالواقع. وعليه لا يُمكن افتراض نزاهة نتيجة التصويت على الاستفتاء.

وعلى مقلب مؤشر آخر، يقع بقلب المجموعة الكردية التي يُفترض ان تصوّت على الاستفتاء نحو مليون و300 ألف موظف يعملون في دوائر الحكومة الكردية ويتسلمون مرتباتهم من بغداد وفقاً لمعطيات 2016. لكن رسمياً، ووفقاً لمسح هيئة احصاء كردستان في 2013 قبل اندلاع الازمة مع بغداد وايقاف المرتبات، فان حجم العمالة الحكومية بلغ 50,6 في المئة فيما كانت عمالة القطاع الخاص 48,6 في المئة، وكلا القطاعين يعتمدان بشكل مباشر وغير مباشر على الحصة الاتحادية الممنوحة للاقليم لدفع المعاشات الشهرية، وهي السيولة النقدية الأكبر التي تُضخ شهرياً في اسواقه وتقدر بـ 80 مليون دولار (اكثر من 800 مليار دينار). ما يعني ان القوة الحيوية الأكبر المدعوة للتصويت على الاستفتاء متأثرة اقتصادياً باجراءات بغداد العقابية نتيجة سياسات حكومة الاقليم التي تهيمن عليها عائلة بارزاني (مسعود بارزاني/ رئيس اقليم، ونيجيرفان ادريس بارزاني/ رئيس حكومة الاقليم)، والتي ستكون مصدر قلق كبير لبارزاني والقوى الحليفة له، لاسيما مع تجربة قطع المعاشات التي مارستها بغداد ابتداءً من العام 2014، ومع برنامج دفع متلكئ كواحدة من سياسات الضغط. وعملياً فإن الاقليم يعاني من ضائقة اقتصادية مريعة، اثّرت على مجمل النشاط في المحافظات التي ازدهرت بقوة بعد 2003، الى الحد الذي خفّض أسعار العقارات ودفع موظفي الحكومة الى البحث عن بدائل عمل لسد العجز المالي، فضلاً عن الديون الكبيرة لشركات الطاقة، ونفقات “الحرب على الارهاب”، وتأمين محافظات الاقليم مع شساعة المساحة التي تنتشر فيها البيشمركة في المناطق المتنازع عليها اضافة الى كركوك، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان نسبة القوى العاملة في الاقليم المنخرطة في البيشمركة والاجهزة الامنية (مهن القوات المسلحة) وهي حكومية بالغالب، تبلغ 16 في المئة من نفوس اليد العاملة… وبالطبع، لا بد من احتساب القيمة المضافة على الفاتورة المُنهكة المتمثلة بالفساد المالي لحيتان كردستان الحزبية والعائلية.

تيه الهوية

مؤشرات الانفصال تبدو معدومة. يمكن تشبيه ذلك بانعدام المؤشرات الحيوية في جثة هامدة. لا يُمكن لكرد العراق الانفصال حتى بموافقة بغداد وقناعة الجوار، لجهة عدم قدرة الدولة الكردية العراقية على تحمل ضغط الشعوب الكردية الممتدة على مساحة 400 ألف كلمتر مربع، في ثلاث دول مجاورة (ايران، تركيا، سوريا)، بحصيلة نفوس تفوق الـ 20 مليوناً. لا يمكن لدولة الكرد في شمال العراق احتمال ضغط متطلبات “العمومة” الكردية التائهة، ما يعني سقوط الدولة الكردية الفتية بمعاول الكرد أنفسهم. انها مشنقة ذاتية برسم الانقسام والتباين الكردي.

يعتقد الكرد بحقهم في اقامة دولة في الانحاء الاربعة، رغم التباينات الثقافية والهوياتية لتلك الانحاء التي لا يربطها سوى التحدر العرقي المِيدي بوصفه الجذر الاول للجماعة الكردية المتشعبة، فيما تشتغل ببطن المجموعة تفصيلات متعددة قد تكون عامل انقسام هائل حين التفكير بالوحدة. وعملياً، ما يوحد المجموعة الكردية اليوم في تلك الانحاء هو “المخيلة الثورية لقيام الدولة”. لكن وبإزاء الانقسامات العنيفة في الهوية الثقافية، يسقط عامل الوحدة وينهار، ويجد الكرد انفسهم أمام اختبار تاريخي وجودي شرس، يهدد مستقبلهم ويحوّلهم الى مجموعة تائهة تتمسك بجغرافيا تبْسط دول قومية قامعة عليها سيادتها وتُقتّر عليهم فتات الحقوق السياسية والثقافية.

وقطعاً لا يُمْكن وضع كُرد الجهات الاربعة في معصرة التوحيد القسري على أساس نشوء دولة قومية ضامنة. فان تلك المعصرة ستفقد قدرتها على استيعاب ثقافات البيئة والهويات الضاغطة بتلك الدول التي عاش بظلها الكرد وباتوا جزءاً من نسيجها الهوياتي الجمعي المطبّع سياسياً واجتماعياً. ومحاولة اختلاق كيان كردي منسجم ستحطم كامل المنطقة على صخرة التباينات العميقة للمجموعة الكردية نفسها، غير الصامدة أمام عصمة التاريخ، وستهدد الاستقرار لجهة تقاطع الهويات الفرعية واللغوية.

العثرة التي لن يستطيع كرد العراق تجاوزها في مشروع اقامة “الدولة” المستحيلة، هي التشتت اللغوي علاوة على اشكالية الهوية الثقافية والتباين السياسي. فهذه “اللغة” تكاد تنشطر وتضيق وتنفتح وتلملم ذاتها في مصبات لفظية مختلفة، حتى بات الكُرد شعوباً “لغوية” رغم الدم القومي الذي يشحنهم بالعاطفة والانتماء. فالانقسام اللغوي شكّل ديموغرافيا ما يُعرف بـ”كردستان الكبرى” فاستحوذت اللهجات على الأرض والعرق، وباتت كردستان “كرمانجية شمالية” و”كرمانجية جنوبية” ويطلق عليها “السورانية”، وظلت كردستان العراق حبيسة هذه الاخيرة ومعها “البهدينانية”، فتغلبت الأولى وصارت اللغة الرسمية في دواوين الحكومة والكتابة والنشر وحتى الصحافة. فرئيس إقليم كردستان العراق (المنتهية ولايته) مسعود بارزاني الذي ينطق وقبيلته وأنصاره بـ”البهدينانية” وجّه باعتماد “السورانية” كلهجة رسمية تفادياً للاختلافات، وكخطوة تمهد لمشروع توحيد اللغة، العسير، بلهجة واحدة.

وفي الأصل، فإن اللغة الكُردية المتشعبة التي التقطت خلال عمرها المضطرب، وتبعاً للتحولات، آلاف المفردات العربية والفارسية والإنجليزية والتركية، تعدّ لغة “هندوأوربية”، وبها لهجتان أساسيتان هما “الكرمانجية” و”البهلوانية” اللتان تنقسمان إلى 18 لهجة محلية. ويؤكد أمين شحاتة (الذي يُعَد كتابه “الكُرد.. معلومات أساسية” مرجعاً مرموقاً لدى الكُرد وجميع المهتمين بقضيتهم)، فأن “كرد تركيا وسوريا وبعضاً منهم في إيران والعراق يتكلمون البهدينانية، في حين يتكلم معظم كرد العراق وإيران السورانية”.

بينما ينشغل الرأي العام بالتصعيد السياسي الفارغ، يكمن البركان في القاع، وبينما يبحث السياسيون عن الحلول لافشال خطوة الانفصال، تبدو المعطيات الخانقة لكرد العراق جاهزة، بسبب طبيعة تعقيدات القضية الكردية داخلياً، وتصادمها الدائم في المصالح والشراكات. ويعي رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، أن إرث العائلة وقامة الملا مصطفى وتاريخ الدم الكردي، لن تصمد كلها أمام طوفان التفوق العددي لكرد إيران وتركيا، والذي سيعوِّم مفهوم “الدولة الكردية” ويجعله مجرد وعاء أجوف لتحقيق هدف حققه الكرد العراقيون قبل 40 عاماً، باتفاق الحكم الذاتي والاعتراف بالحقوق الثقافية، وقبل 25 عاماً بتوسعة تلك التجربة بالادارة الذاتية المباشرة بعد آذار/ مارس 1991.

الانفصال لن يتحقق. والاستفتاء إذا انعقد فسيتحول الى ورقة تفاوض ستحترق سريعاً مع متغيرات المنطقة المقبلة، ومع قناعة الكرد العراقيون بالبقاء ضمن العراق الموحد لصد الابتلاع الكردي المجاور لتجربتهم الفريدة في بلاد الرافدين.

* شاعر وكاتب من العراق

 

 

 

انتخابات أكراد سورية: محاولات فرض أمر واقع بقوة السلاح/ عدنان علي

بدأت القوى الكردية السورية المحسوبة على الحركة القومية الانفصالية، تنفيذ مخططاتها الهادفة إلى فرض أمر واقع في مناطق الإدارية الذاتية في الشمال السوري بقوة السلاح، إذ من المقرر أن تجري “الإدارة الذاتية” الكردية لمناطق الشمال السوري، التي تخضع لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي، انتخابات محلية، اليوم الخميس، في مناطق سيطرتها، متجاهلة الخلافات داخل “البيت الكردي” بشأن هذه الانتخابات، واعتراضات من جانب قوى المعارضة والنظام السوري وروسيا.

وتأتي انتخابات الأكراد في سورية قبل أيام من استفتاء إقليم كردستان العراق، في 25 سبتمبر/أيلول الحالي، والذي يواجه ضغوطاً عراقية ودولية لتعطيله أو تأجيله. ويكشف موعد استفتاء كردستان العراق وانتخابات “الإدارة الذاتية” الكردية في سورية عن حجم مساعي القوى الكردية إلى توظيف تصاعد نفوذها العسكري في المنطقة بفعل المشاركة في المعارك ضد تنظيم “داعش” لتكريس أمر واقع سياسي بقوة السلاح.

ويقسم حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية، “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، المدعومة من الولايات المتحدة، المنطقة الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية”، والتي تضم الحسكة وعين العرب (كوباني) وعفرين، إلى وحدات صغيرة، تدعى “الكومينات”، وتعني حسب تعريفها “وحدة اجتماعية سياسية اقتصادية تؤسس على مبدأ المشاركة العامة وعلى أساس الديمقراطية المباشرة”. وتم بحسب مواقع تابعة للحزب توزيع بطاقات انتخابية على المواطنين في تلك المناطق، كما تم عرض صور الهوية الانتخابية الخاصة برئيس الحزب، صالح مسلم. وستجرى اليوم انتخابات “الكومينات” أو “مجالس الأحياء”، على أن تنظم في 3 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل انتخابات الإدارات المحلية (مجالس القرى والبلدات والنواحي والمقاطعات). وفي المرحلة الثالثة، يتم انتخاب “مؤتمر الشعوب الديموقراطية” لكل إقليم من الأقاليم الثلاثة، بالإضافة إلى مجلس آخر، سيكون بمثابة برلمان عام، على رأس مهامه تشريع القوانين ورسم السياسة العامة للنظام الفدرالي. وسيتم عبر الانتخابات اختيار 60 في المائة من الممثلين، بينما يتم تعيين 40 في المائة “وفق مبدأ الديمقراطية التوافقية”، أي العمل بنظام “الكوتا”.

وإذا كانت “الإدارة الذاتية” حددت سابقاً المناطق التي سيتم إجراء الانتخابات فيها، والمتمثلة في الحسكة وعين العرب وعفرين، إلا أن “قوات سورية الديمقراطية” تعمل حالياً على توسيع مناطق سيطرتها، إذ تخوض معارك مع تنظيم “داعش” في مدينة الرقة، كما تقدمت نحو دير الزور في حوض الخابور، ووصلت على بعد كيلومترات قليلة من ضفة نهر الفرات الذي يقسم المدينة إلى قسمين. وأخيراً قررت “الإدارة الذاتية” ضم منطقتي الشهباء وتل أبيض إلى الفدرالية المقترحة (روج آفا)، وهو ما يعني أنها باتت تمتد عملياً من نهر دجلة إلى غرب عفرين. ولا تستبعد مصادر كردية ضم محافظة الرقة، التي لا وجود للأكراد فيها، إلى الفدرالية، بغية توسيع مساحتها وثرواتها، وجعلها رقماً مهماً في أية تسوية مستقبلية في البلاد.

ويساعد في إدارة هذه المناطق، بحسب تقارير صحافية وتصريحات لمسؤولين أميركيين، مستشارين من الولايات المتحدة، يقومون بتقديم المعونة والاستشارة في العديد من الأعمال الإنشائية والإدارية. وقد حثت “الإدارة الذاتية” على المشاركة في هذه الانتخابات، معتبرة أنها “النموذج الوحيد المطروح لما يطمح إليه الشعب السوري في الحرية والديمقراطية والحياة الكريمة”، وأنها “بمثابة ميلاد جديد للشعوب، وهي أول عملية انتخابية ديمقراطية في تاريخ سورية الجديدة”، وأنها “مهمة، ليس بالنسبة للمكونات الموجودة في شمال سورية فحسب، وإنما ستكون انطلاقة جديدة لكل سورية، لأنها تقوم بتأسيس نظام يحقق لكل السوريين ما يطمحون إليه من المساواة والعدالة والحرية. وهذه الانتخابات ستكون حجر الأساس لسورية فدرالية ديمقراطية”.

في موازاة ذلك، هددت اللجان التابعة للمفوضية العليا للانتخابات، المشرفة على انتخابات “مجالس الأحياء”، المواطنين بعدم الحصول على الخدمات اليومية في حال مقاطعتهم للانتخابات المقررة اليوم. ونقلت “شبكة روداو” الإعلامية عن مصادر محلية قولها إن “اللجان الخاصة بتحضير عملية الانتخابات حذرت المواطنين من أن مقاطعة الانتخابات ستعني عدم حصولهم على مواد أساسية، مثل المحروقات، والتي توزع عن طريق المجالس المحلية”. وكانت “الإدارة الذاتية” أوكلت إلى المدرسين في 8 سبتمبر الحالي مهمة القيام بتوزيع البطاقات الانتخابية على سكان حيهم، وتعبئة معلومات الاستمارة والبطاقة الانتخابية، على أن تبقى الاستمارة مع المعلم، الذي يدون البيانات الموجودة في دفتر العائلة لكل من تجاوز عمره الـ18 سنة. وقال الناشط من مدينة القامشلي، دليار حمو، لـ”العربي الجديد”، إن “12421 مرشحاً سيتنافسون على رئاسة 3732 كوميناً، في أقاليم الجزيرة والفرات وعفرين”. وتقول تقارير إن نسبة المكون الكردي بين مكونات الشعب السوري هي قرابة 1.5 مليون شخص، أي نسبة 8 في المائة، يتوزعون على مختلف المحافظات السورية.

وفي السياق، أكد رئيس الدائرة الإعلامية في الائتلاف الوطني السوري، أحمد رمضان، أن “نسبة العرب، ومعهم الآشوريون السريان والأرمن والشركس والتركمان، في مناطق سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي، هي ما بين 55 و60 في المائة،‏ والأكراد 40 في المائة، وهناك بعض المناطق لديهم أغلبية تزيد عن 50 في المائة‏ مثل عامودا وديريك والقحطانية”. وأشار إلى “وجود عمليات تهجير مستمرة من المنطقة تقوم بها المليشيات التابعة إلى حزب الاتحاد الديمقراطي بحق بعض المكونات، ومنها الآشوري السرياني”. وبحسب تقديرات الرئيسة المشتركة لـ”الهيئة التنفيذية لفدرالية شمال سورية” فوزة اليوسف، فإنه “يعيش في الأقاليم الثلاثة نحو ثلاثة ملايين سوري، يشكل الأكراد 50 في المائة منهم، والعرب 45 في المائة، مقابل 5 في المائة من باقي المكونات”.

وتواجه انتخابات مجالس الأحياء باعتراضات عدة. وفي السياق، رفض  المجلس الوطني الكردي، وهو المكون الآخر الرئيسي في تلك المناطق، إجراء هذه الانتخابات، معتبراً أنها غير شرعية. وأوضح رئيس ممثلية المجلس الوطني الكردي في تركيا، عثمان مسلم، في حديث مع “العربي الجديد”، “أن المجلس الوطني الكردي يرى بأن الحلم السوري يتحقق من خلال إقامة فدرالية سورية، لأنها الحل الأفضل من أجل بقاء سورية موحدة، والحل الأفضل لبقاء سورية كدولة وكوطن، وذلك عبر حوار بين الجميع، يكون مركزه دمشق، وليس بالرصاص”. وأضاف أن “هذه الانتخابات تجري من طرف حزب واحد، وتجري في منطقة معينة بعيداً عن دمشق، والفدرالية يجب أن تتم بالحوار مع الشعب السوري وليس بهذا الشكل المنفرد من جهة، أو حزب، أو فصيل معين. نرفض الفدرالية التي تعلن عنها الإدارة الذاتية بغياب بقية مكونات الشعب السوري”. وأكد أن “المجلس الوطني يرفض هذه الانتخابات، وأي نتائج تترتب عليها، وهكذا أمر مهم يخص القضية السورية والقضية الكردية، هو شأن سوري وليس شأن فصيل بعينه”. وأعلن أن المجلس الوطني الكردي “يرفض تلك الانتخابات لأنه يرى أنها ستزيد في الخصومات والنزاعات والتوترات الحاصلة في المنطقة، وقد تؤدي إلى حرب طويلة لا يتمناها المجلس، فضلاً عن ارتباط حزب الاتحاد الديمقراطي بنظام الأسد، وعدم اعترافه بوجود الثورة السورية”.

من جانبه، قال رئيس المجلس الوطني الكردي، وعضو الائتلاف المعارض، عبد الحكيم بشار، إن “عدد القتلى الأكراد المخالفين سياسياً على يد مليشيات الاتحاد الديمقراطي خلال ثلاث سنوات تجاوز عدد القتلى الأكراد على يد النظام خلال نصف قرن، وعدد السجناء الأكراد على يد مليشيات الاتحاد الديمقراطي خلال ثلاث سنوات تجاوز أضعافاً مضاعفة عدد معتقلي الرأي لدى النظام خلال نصف قرن”. وأضاف “في مثل هذه الظروف، الكل يعرف كيف تكون نتائج الانتخابات. ستكون مزيفة بكل تأكيد”. وتدعم حكومة إقليم كردستان العراق، المجلس الوطني الكردي السوري، الذي يتخذ من الإقليم مقراً، وتتواجد فيه قواته المسماة “البشمركة السورية”. وكان أجرى احتفالات دعماً لاستفتاء الانفصال عن العراق، يوم الجمعة الماضي، في مدن بمحافظة الحسكة، شمالي شرقي سورية.

وتعتبر بعض القوى السياسية الكردية أن هذه الانتخابات ناقصة الشرعية، لأنها لا تحقق تمثيلاً حقيقياً للنسيج السياسي والاجتماعي في المنطقة، داعية إلى تهيئة الأرضية السياسية قبل إجراء الانتخابات، خصوصاً تبييض السجون من معتقلي الرأي، وتحقيق مشاركة الأطراف السياسية الأخرى، كي تكون انتخابات شرعية.

من جهته، بعث الائتلاف الوطني السوري رسالة رسمية إلى الأمم المتحدة، يدعو فيها إلى اعتبار الحزب الديمقراطي الكردي وأدواته العسكرية كيانات إرهابية تمارس التطهير العرقي في البلاد. وأكد الائتلاف، في بيان، أن “جميع المشاريع التي تحاك بالالتفاف على إرادة الشعب السوري هي مشاريع باطلة وغير شرعية أو قانونية”. وأشار إلى أن “الاتحاد الديمقراطي يحاول تسويق الانتخابات لتمرير مشاريعه في سورية، مصراً على إجرائها، مستخدماً كافة وسائل الترهيب المستوحاة من أساليب عصابة الأسد، والقائمة على مختلف ألوان الضغط والتهديد بحق أبناء الشعب السوري”. وحذر المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات، رياض حجاب، خلال اجتماعه مع وزيرة الخارجية الكندية، كريستيا فريلاند، أول من أمس، من خطورة الدعم الخارجي لـ”المشاريع الانفصالية التي تطرحها أقليات سياسية تتحدث باسم مجموعات سكانية من دون وجه حق”، مؤكداً أنه “سيكون لمحاولة تكرار الوضع العراقي في المشهد السوري تبعات خطيرة على دول الجوار”. وذكّر حجاب بالتجارب السابقة، والتي اعتبر أنها تثبت أن “محاولات تحويل سورية إلى عدة كيانات وظيفية ستؤدي إلى المزيد من الفوضى وتبوء بالفشل الذريع، لأنها ستمنع البلاد من ترميم ذاتها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية”.

بدوره، أكد الملتقى التشاوري الأول للقبائل والقوى السياسية السورية في المنطقة الشرقية (دير الزور- الرقة- الحسكة)، في ختام أعماله، أول من أمس، على وحدة الأراضي السورية، لافتاً إلى أن المحافظات الشرقية الثلاث تواجه اليوم مصيراً مجهولاً، في ظل تغييب شبه كامل للقوى والفعاليات الاجتماعية القبلية والفكرية والسياسية العربية في هذه المحافظات، التي تشكل أكثر من 80 في المائة من سكانها. وناشد الملتقى، في بيان، جامعة الدول العربية، ومصر، ودول مجلس التعاون الخليجي، والمنظمات الدولية والإنسانية، تقديم المساعدة لأبناء المنطقة الشرقية المنكوبة للحد من الحالة الكارثية الحاصلة، مشيراً إلى الاتفاق على تشكيل “المجلس العربي في الجزيرة والفرات” ليكون معبِراً سياسياً عن مصالح سكان المنطقة وحقوقهم ودورهم في إدارة شؤون محافظاتهم والمشاركة الفاعلة في رسم مستقبل سورية.

العربي الجديد

 

 

 

 

نهاية البراغماتية الكردية.. تعطيل الاستقلال (1/2)/ حيدر سعيد

ما فتئ الساسة الكرد العراقيون يذكّرون بأنهم اختاروا، غداة إسقاط نظام صدام حسين، الاتحادَ الفيدرالي شكلا للعلاقة التي تربط كردستان بالحكومة المركزية في بغداد، وأنهم عملوا على تثبيت هذا في الدستور العراقي الدائم لسنة 2005، الذي كانوا طرفا رئيسا في صناعته، وأنهم (يقولون) لم يلجأوا إلى الأسلوب الذي لجأ إليه زعماءُ جنوب السودان، حين وضعوا، في اتفاقية نيفاشا سنة 2005 التي أنهت الحرب الأهلية في السودان، مدة زمنية تجريبية (ست سنوات)، يقرّر بعدها أبناءُ جنوب السودان مصيرَهم ومصير إقليمهم، فيما إذا كانوا سيبقون وسيبقى جزءًا من السودان الموحّد أم لا. وبالفعل، انفصل جنوب السودان سنة 2011، بعد السنوات الست التي نصّت عليها الاتفاقية، لتنشأ جمهوريةُ جنوب السودان، في عمليةٍ سلسة، احترمتها الأطراف جميعا.

اتفاقية نيفاشا للسلام الدائم والدستور العراقي الدائم وُضعا في الوقت نفسه تقريبا. ولذلك، كان الساسةُ الكرد العراقيون يشيرون إليها لإيضاح الأسلوب المختلف الذي اعتمدوه، فهم لم يعمدوا إلى وضع مدة تجريبية، ولم يقترحوها، كما السودان. اختار الساسةُ الكرد الاتحادَ الفيدرالي اختيارا دائما، هذا مع أن الاستقلال حلم للكرد جميعا، يمتزج بتفاصيل حياتهم، وتكاد تجده في ثقافتهم وأغانيهم، في رقصاتهم وملبسهم. كلُّ ما على أرض كردستان يحلم بالاستقلال. وهو فكرة راسخة وعريقة، تبدأ حتى قبل أن يكون ثمة كيان سياسي اسمه “العراق”، فحركةُ الشيخ محمود الحفيد، الذي قد يكون الأبَ الفعلي لفكرة “الاستقلال” في التراث السياسي الكردي، انطلقت سنة 1919، قبل قيام المملكة العراقية بسنتين. وهذا التحديدُ يعني أمرًا شديد الأهمية، هو أن استقلال كردستان لم يكن تمرّدا على العراق، أو مطلبا حرّكه الظلمُ والاضطهاد وعسف الدولة في إدارة ما ستعرف منذ تلك اللحظة بـ “المسألة الكردية”، وإن كان هذا كله صحيحا وحقيقيا، فإن ما حرّك فكرةَ استقلال كردستان هو رغبة هذه القومية الصاعدة في أن تكتسب إطارَها السياسي الخاص. وقد أنتجت حركةُ الكرد لاكتساب هذا الإطار الخاص وتحقيقه، ما بعد رسم الخريطة السياسية الحديثة للمنطقة في الربع الأول من القرن العشرين، تصدعاتٍ دامية، في كل البلدان التي يتوزع عليها الكرد.

كانت مسيرةُ الكرد دامية ومؤلمة، بكل تأكيد، لا تقف عند محمود الحفيد فقط، بل تمر بالشيخ سعيد بيران، وجمهورية مهاباد والملا مصطفى البرزاني، وثورة سبتمبر/ أيلول 1961، وَعَبد الرحمن قاسملو وَعَبد الله أوجلان، والأنفال وحلبچة، إلى آخر سجل العذاب الكردي الذي تورطت سائرُ دول المنطقة فيه. وأصبحت فكرة استقلال كردستان كالأفكار المقدسة لدى معتنقيها، ذلك أنها غُمّست بالدماء.

استكمال مقومات الدولة

مع ذلك، ومع أن الكرد عاشوا وضعاً خاصاً في العراق منذ 1991، إثر انسحاب السلطة

“أصبحت فكرة استقلال كردستان كالأفكار المقدسة لدى معتنقيها، ذلك أنها غُمّست بالدماء” المركزية في بغداد، والحماية التي وفّرها التحالفُ العسكري الغربي للمناطق الكردية، لم يختاروا أن يطوّروا هذا الوضعَ الخاص إلى دولة مستقلة، أو في الأقل، وضع برنامج زمني يفضي إلى الاستقلال، واختاروا، في دستور 2005، الاتحاد الفيدرالي الدائم.

هل تنكر الساسةُ الكرد لفكرة الاستقلال، آنئذ؟ يسيطر شعور عام على عرب العراق (وسواهم بكل تأكيد) بأن بقاء الكرد في العراق مؤقت، وأنهم سيختارون الاستقلال متى أتت اللحظةُ المناسبة. و”اللحظة المناسبة”، هنا، تعبير مكثفٌ عن تقاطع حزمة عوامل، كردية، وداخلية (في العلاقة مع الحكومة المركزية في بغداد)، وإقليمية، ودولية.

ومع ذلك، باشر الساسةُ العرب العراقيون بتصميم نظام “تقاسم السلطة”، مع الكرد، في إطار ما تعرَف بـ “الديمقراطية التوافقية”، بغض النظر عن تقييمنا هذا النظام وكفاءته ومدى نجاحه ومدى إيمان الساسة العرب العراقيين بأن “يتقاسموا السلطة”، في ظل ثقافة ومشاعر وتاريخ (وأحيانا إيديولوجيا) بأن هذا البلد عربي، هوية، وسياسة، وروحا، وتوجها، ورموزا، وذاكرة.

ومن ثم، كان الساسةُ العرب العراقيون يمارسون شيئا من الازدواجية: إحساسهم بأن بقاء الكرد مؤقت، وأن استقلال كردستان قادم لا محالة، والعمل على نظام دائم لتقاسم السلطة.

بالنسبة لي، بوصفي مثقفا عربيا، تحمل هذه الازدواجيةُ (فضلا عن الوعي بها) نزعةً عدمية، لا يمكن العمل بها ومعها، فكيف يمكن أن نعكف على تصميم نظام سياسي مستقر، أيّا كان شكله، ونحن نوقن أن حدود البلاد لن تبقى كما هي؟ كيف نصمّم تقاسمَ السلطة مع مجموعة إثنية، ونحن نؤمن بأنها ستنفصل قريبا؟

وبالنسبة لي أيضا، كان التجريبُ (على الطريقة السودانية) أمرًا شديد الأهمية. ولكن، لا أن يجرّب الكردُ مدى تكيفهم في اتحاد فيدرالي، بل أن يجرِّب العربُ إمكانيةَ أن يُنشئوا (أو يسهموا في إنشاء) دولة متعدّدة الهويات والإثنيات، لا أن تطبع هويتُهم روحَ الدولة وذاكرتها، وتعرّف “الآخرين” بوصفهم “أقلياتٍ”، ملحقة وثانوية، بل أن تكون جزءا، فاعلا، من نسيج هويات مركّب، تحكمه المواطنة المتكافئة.

هذا التجريب وحده الذي كان يمكن أن يستدرك على الإشكالية المؤسِّسة للدولة العراقية الحديثة، وهي أنها دولة متعدّدة الهويات، وبهوية غالبة متفوقة في الوقت نفسه، وما قاد إليه هذا من معالجاتٍ قسرية، ولا سيما فيما يخص المسألة الكردية، وصلت إلى حد الإبادة الجماعية. هذا هو الرهان الذي كان علينا أن نخوضه. ولا يبدو أننا خضناه، بل أعدنا إنتاج نمط الدولة الأمة نفسه، بتراتبياته وتوازنات قواه المعتادة، وكأن الأزمة ليست في النظام، بل في أشخاص وسياسات خاطئة، وكأننا لم نتعلم من تأريخنا الثر بأخطائه/ نا.

وفي كل الأحوال، لم يكن ثمّة “طريق ثالث” في هذه الازدواجية العدمية التي حكمت تفكير

“يسيطر شعور عام على عرب العراق (وسواهم) بأن بقاء الكرد في العراق مؤقت، وأنهم سيختارون الاستقلال متى أتت اللحظةُ المناسبة” الساسة العرب. وتحديدا، كان يمكن أن يكون ثمّة طريق ثالث، يتمثل بالتخطيط لمرحلة انتقالية، بما تتضمن من ترتيباتٍ وإجراءاتٍ تفضي إلى استقلال كردستان.

أما الكرد فلم يكونوا خارجَ هذه الازدواجية، إلا أن “الطريق الثالث”، في الرؤية الكردية، ليس برنامجًا زمنيًا بتوقيتاتٍ محددة، تنتهي إلى الاستقلال، بل هو “استكمال مقومات الدولة”، الذي قد لا يتحقق في مدة زمنية قصيرة، ولا يمكن ضبطه بتاريخ محدّد، فـ “اللحظة المناسبة” للاستقلال لا تتوقف على الكرد، بل على الخارج وتعقيداته كذلك.

من هنا، لم تكن هذه الازدواجيةُ ذاتَ طبيعة عدمية لدى الكرد، ذلك أنها مرحلة انتقالية، ستعبر بهم إلى الدولة المستقلة، وإن كانت هذه المرحلة الزمنية من دون حدود.

ومن هنا، أيضا، لم يتنكّر الكرد لمبدأ الاستقلال، بل إنهم (من أجله) غضُّوا النظرَ عنه قليلا، ووضعوه جانبا لصالح الاتحاد الفيدرالي في إطار العراق الواحد. وهذا هو الجانب الأكثر قوة في السياسة البراغماتية التي مارسها الكرد.

النزعة البراغماتية للسياسة الكردية

وفي الحقيقة، لا يمكن فهم تعطيل مبدأ الاستقلال (وإن كان تعطيلا مؤقتا)، لصالح الاتحاد الفيدرالي الدائم، إلا بأنه جزء من النزعة البراغماتية التي طبعت السياسة الكردية ما بعد 2003.

وكانت هذه البراغماتية تتجلى بأكثر من مظهر، منها (وأهمها ربما) أن الكرد جعلوا (أو قبلوا بأن يكون) حسم مسألة “المناطق المتنازع عليها” سائبا، على المستوى الزمني، أي من دون حدود زمنية، عمليا. ومع أن الخطاب الكردي الداعي للاستفتاء الآن يستعمل حجةَ عدم تنفيذ الإجراءات والخطوات التي نص عليها دستور 2005 لحسم وضعية “المناطق المتنازع عليها” مبرّرًا لشمول هذه المناطق بالاستفتاء وإجرائه فيها، لم يعمل الساسةُ الكرد ولم يضغطوا ـ في الحقيقة ـ لوضع برنامج زمني واقعي للانتهاء من هذه المسألة. وبالنسبة لهم، كان الانهماك بالترتيبات الداخلية لكردستان أوْلى من حسم وضعية هذه المناطق، هذا فضلا عن أن الحدود الزمنية المفتوحة لهذا الحسم تحيّد (أو تؤجل) الصراعات التي يمكن أن تنشأ على هذه المناطق وتربك البناءَ الكردي الداخلي.

وبموازاة هذا، كانت هناك سياسة “قوة ناعمة” كردية بطيئة وطويلة النفس، عملت على هذه المناطق، لإقناع أهلها بالنموذج الكردي مقارنة بنموذج بغداد: إدارة كفوءة في كردستان، ودولة فاشلة في بغداد، دولة تحمي الحريات الشخصية والأقليات الدينية في كردستان، ودولة عاجزة عن فعل ذلك في بغداد. ومع أن النموذج الذي تقتبسه كردستان هذا لا يعير اهتماما بالحريات المدنية والسياسية، وقد تكون بغداد أكثرَ تقدّما في هذا المجال، إلا أن هذا النموذج بات رائجا في المشرق، ومغريا للأقليات الدينية والإثنية، حيث تستبدل الدولةُ بالحريات المدنية والسياسية الحرياتِ الشخصية (وكذلك الدينية والثقافية)، وتتعهد بحمايتها. هذا النموذج الذي يُسوَّق بديلًا لفشل الانتقال الديمقراطي الذي فرّط بالدولة، ولم يُنجز الديمقراطية، تقتبسه كردستان ليكون أحدَ مصادر قوتها الناعمة، على المكونات الدينية والإثنية المنتشرة في المناطق المتنازع عليها.

ومن مظاهر البراغماتية الكردية، كذلك، تحالف الساسة الكرد مع الإسلام السياسي الشيعي، الذي تصدّر حكم العراق ما بعد 2003. ومع أن إحدى الحجج التي تُستعمل كرديًا، الآن، لتبرير الاستفتاء أن العراق، من حيث هو مشروع دولة ديمقراطية أُطلق في حقبة ما بعد الاستبداد، فشل ولم يتحقق، وتحول، على النقيض من ذلك، إلى دولة طائفية، فإن قراءة مسار التطورات منذ أبريل/ نيسان 2003 تكشف أن المفاصل الأساسية في هذا المسار صنعها تحالفُ أحزاب الإسلام السياسي الشيعي والحزبين الكرديين الرئيسين، وأن الكرد لم يقفوا لردع النزعة التسلطية النامية، التي تبلورت خلال حقبة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، في حين وقفت أطراف شيعية، ومن داخل الإسلام السياسي الشيعي (مقتدى الصدر مثلا)، في مواجهة هذه التسلطية، منادِيةً بإطلاق مشروع إصلاحي جذري لمسار الدولة العراقية المتعثر. وحتى خلاف الكرد (رئاسة الإقليم والحزب الديمقراطي الكردستاني تحديدا) مع المالكي في سنوات حكمه الأخيرة، لم يكن بسبب الموقف من الديمقراطية، أو علمانية الدولة، أو الحكم الرشيد، أو حال الحريات المدنية، بل بسبب قواعد توزيع الثروة في عراق ما بعد 2003، ومنها قانون النفط والغاز، وقيام إقليم كردستان بالاستثمار في القطاع النفطي وإنتاج النفط وتصديره، وحصة الإقليم من الموازنة العامة، وما إلى ذلك مما يدور في هذه الدائرة.

“لم يتنكّر الكرد لمبدأ الاستقلال يوما، بل من أجله غضُّوا النظرَ عنه قليلا، ووضعوه جانبا لصالح الاتحاد الفيدرالي في إطار العراق الواحد”

كانت القوى العلمانية الديمقراطية في العراق تأمل أن تكون الأحزابُ الكردية حليفًا لها، إلا أنها أيقنت أن هذه الأحزاب تركّز على امتيازات الإقليم وحقوقه أكثر مما تركز على المفاصل الديمقراطية للنظام. طبعا، ينبغي التأكيد، هنا، على أن النظام السياسي لكردستان لا يمكن وصفه، بأي حال، بأنه ديمقراطي، فهو يعاني من سائر أمراض الأنظمة السياسية في المشرق: القرابية، تغوّل السلطة التنفيذية، الريعية، عدم احترام الفصل بين السلطات، النزعة التسلطية، الفساد. .. كان أملُ الأحزاب العلمانية الديمقراطية هذا ينطلق من أن الأحزاب الكردية علمانية (بما أنها أحزاب قومية، وكسائر الأحزاب القومية في العالم)، يمكن أن تواجه الأحزابَ الدينية الصاعدة في بغداد، ولم يتنبه الأملُ العلماني الديمقراطي إلى أن الأحزاب الكردية ليست ديمقراطية، وإن رفعت شعارَ واسمَ الديمقراطية (كان شعار “الديمقراطية للعراق” من الشعارات الأساسية التي رفعتها حركة التحرير الكردية منذ ثورة سبتمبر/ أيلول 1961)، ومن ثم، فإن “فاقد الشيء لا يعطيه”، على نحو ما يرد في القول المأثور.

يمكن إيراد أمثلة كثيرة على فاعلية البراغماتية الكردية وحيويتها ما قبل قرار الاستفتاء. أقول: ما قبل قرار الاستفتاء، لأنني أتصور أن القرار بالمضي في الاستفتاء لم يُنهِ فقط تعطيلَ مبدأ الاستقلال، بل أعاد السياسةَ الكردية إلى المبادئ، لا المصالح والممكنات، بغض النظر عن الاعتبارات السياسية المحيطة ومدى إمكانية تحقق هذه المبادئ.

وبكلمة: يضع الساسة الكرد، مع قرارهم المضيَّ بالاستفتاء على استقلال كردستان الآن، حدًّا لنزوعهم وسياستهم البراغماتية.

نهاية البراغماتية الكردية.. استفتاء كردستان وأزمات الداخل والخارج (2/2)/ حيدر سعيد

طبعت السياسةَ الكردية في العراق ما بعد 2003، إذن، نزعة براغماتية، من أبرز مظاهرها تعطيل مبدأ الاستقلال، على الرغم من مفصليته في التراث السياسي الكردي، وإعلان الساسة الكرد أنهم، بدلا من ذلك، اختاروا الاتحاد الفيدرالي الدائم شكلا للعلاقة بين كردستان والحكومة المركزية في بغداد، غير أن هذا التعطيل ليس، بأي حال، إنكارًا لمبدأ الاستقلال، بل هو “تعطيل مؤقت”، يريد الساسة الكرد من خلاله استكمال مقومات الدولة، وهو أمرٌ لا يمكن ضبطه بحدود زمنية محدّدة. ولذلك، أتصور أن قرار المضي في الاستفتاء على استقلال كردستان لم يُنهِ فقط تعطيلَ مبدأ الاستقلال، بل أعاد السياسةَ الكردية إلى المبادئ، لا المصالح والممكنات، بغض النظر عن الاعتبارات السياسية المحيطة، ومدى إمكانية تحقق هذه المبادئ، ووضْع حد لنزوع السياسة الكردية البراغماتي.

ولكن، لماذا الآن؟ ما الذي حدث، بحيث قرّر الساسةُ الكرد المضيَّ إلى الاستفتاء الآن، أيًّا كان الثمن؟ هل لذلك علاقة بمرحلة ما بعد “داعش” وقرب تسوية الأزمة السورية، ما أوحى للكرد (ولغيرهم، بكل تأكيد) أن خريطة سياسية جديدة ستُرسَم في المنطقة، أو أنها يمكن أن تتقبل خريطة سياسية جديدة؟

فشل العراق أم اختناقات الإقليم؟

لا أحد يبدو مقتنعا بالحجة التي يستعملها الخطابُ الكردي لتبرير الاستقلال، وهي أن العراق تحوّل إلى دولة طائفية فاشلة، لا فقط لأن هذه الحجة لا تبرّر التاريخ (تاريخ تنظيم الاستفتاء). أي لماذا تنبه الكرد إلى فشل الدولة العراقية وطائفيتها في 2017، وليس في 2016، مثلا، أو 2015، أو 2014، أو 2013؟ ولكن لأن الكرد كانوا أحد عوامل صناعة هذه الدولة الفاشلة، فهم (منذ 1991) عاشوا وضعا خاصا منفصلا عن السلطة المركزية في بغداد، ومن ثم، لم يستطيعوا أن يتقبلوا عودة سيادة بغداد على المناطق الكردية. ولذلك، كان النظامُ الذي عملوا على تصميمه في دستور 2005 نظاما يتجاوز الفيدرالية المعيارية (كان يُوصَف في الأدبيات الكردية بأنه “فيدرالية موسّعة”)، يميل إلى إعطاء الصلاحيات لسلطات الإقليم، على حساب السلطات الاتحادية. وعلى الأرض، كانت كردستان تعيش في انعزال (إداري) شبه تام عن بغداد، ولم تكن لبغداد أية صلاحيات تُذَكَر في الإقليم، سوى ما يمكن أن يناله الإقليم وأبناؤه من سماتٍ بوصفهم “مواطنين عراقيين”، من نسبةٍ من الموازنة العامة للدولة، أو بعض الأمور التنظيمية التي يضطر فيها الإقليم إلى العودة إلى بغداد، لأن النظام الدولي لم يعترف بعد بكردستان دولة مستقلة، من قبيل العملة وما يستتبعها من سياسة نقدية، وإصدار جوازات السفر والبطاقات الوطنية، وتنظيم حركة الملاحة الجوية، والرموز الدولية في الاتصالات والبريد، وما إلى ذلك.

الحديث هنا بشيء من العمومية في توصيف الحدود الفعلية للسلطات الاتحادية في النظام

“لا أحد يبدو مقتنعا بالحجة التي يستعملها الخطابُ الكردي لتبرير الاستقلال أن العراق تحوّل دولة طائفية فاشلة” الفيدرالي العراقي. وفي كل الأحوال، من المهم أن تتصدّى دراسة ما لمتابعة تفصيلات النظام الفيدرالي في العراق، على نحو ما مورس (لا كما وُصف وقُنّن في الدستور، لأن الواقع لم يكن تجسيدا أو تنفيذا للتصور الدستوري)، وما هي حدود صلاحيات المركز في الإقليم، إن كانت هناك صلاحيات، ولماذا سُمح بهذه الصلاحيات دون غيرها، ثم كيف تشكل نظام على هذه الشاكلة، وُصف بأنه “نظام فيدرالي”.

يلاحظ هشام دَاوُد أن الكرد لم يريدوا من النظام الفيدرالي في العراق تقاسما للسلطة، بقدر ما أرادوا تقاسمَ السيادة، ومن ثم، نشأ نظامٌ هو أعلى من الفيدرالية، ودون الدولة المستقلة. وفي تقديري، هذه الأزمة هي التي حملت الكردَ على مشروع توصيف طبيعة الاتحاد مع الحكومة المركزية في بغداد بأنه “اتحاد كونفدرالي”، وليس “فيدراليا”، مع كل ما يحيق بهذا التوصيف من التباسات، ذلك أن الاتحاد الكونفدرالي هو بين دول مستقلة ذات سيادة (الاتحاد الأوروبي مثلا)، وليس نظاما للعلاقة بين المركز والإقليم داخل دولة واحدة. نعم، يصف باحثون درجة استقلالية الوحدات المكوِّنة للنظام الفيدرالي في بعض الدول (بلجيكا مثلا) بأنها قريبةٌ من نمط العلاقة في الاتحادات الكونفدرالية. ولعل هذا هو ما أراده الكرد، حين طرحوا مشروع الكونفدرالية، ولكنني أتصور أن الأمر أبعد من ذلك، فـ “اللاشعور السياسي” الكردي كان يريد للكونفدرالية أن تقنّن تقاسمَ السيادة، أي أن تُفهَم العلاقة بين كردستان والحكومة المركزية في بغداد ـ من ثم ـ بأنها أشبه بالعلاقة بين الدول المستقلة ذات السيادة. وهكذا، لم يكن مشروع الكونفدرالية الكردي ليريد أكثر من تعديل الدستور ليطابق الواقع، في حين كان تعبير “الدولة الكونفدرالية” الذي استعمله القوميون الفيلمنغ في بلجيكا، مثلا، يطمح (بالفعل) إلى توسيع استقلالية الوحدات الفيدرالية إلى أقصى حد.

مرة أخرى، يُرجع باحثون كثيرون مختصون بالمسألة الكردية قرارَ الاستفتاء وتوقيته إلى الظروف الإقليمية، وما يمكن أن تشهده من تحولات ما بعد “داعش”، ما جعل الساسة الكرد يدفعون بمشروع الدولة الكردية، لتكون جزءا من الخريطة الجديدة. ومع ذلك، من الضروري التوقف عند عاملين:

الأول، وهو أمر يُتداوَل كثيرا في الأوساط الداخلية الكردية، تلميحا، وتصريحا بدرجة أقل، وقد سمعته من قياديين وباحثين كرد معروفين، ولن يؤتى بجديد حين يرد هنا، وهو أن قرار الاستفتاء مرتبط بالأزمة السياسية الداخلية في كردستان، وطبيعة العلاقة بين الأحزاب الرئيسة التي قادت إلى إيقاف الحياة البرلمانية، وشرعية رئاسة مسعود البرزاني. ومن ثم، تُنهي الدولةُ الكردية إقليمَ كردستان، بأزماته واختناقات شرعية زعاماته، لتشكل بداية جديدة، وإطار شرعية جديدا، هذا فضلا عن الرصيد المضاف للشرعية التاريخية التي تملكها الزعاماتُ الكردية الحالية، حين تكون قائدةَ مشروع الاستقلال.

ولذلك، لا نجاوب الصواب إذا قلنا (أستعير من سياسي كردي بارز): إن تحديد الاستفتاء وتوقيته هو مشروع الحزب الديمقراطي الكردستاني، والبرزاني تحديدا، وهو مرتبط بالأزمة السياسية الداخلية أكثر من أي شيء آخر.

نعم، انخرطت أحزاب وتنظيمات سياسية كردية عدة وكثيرة في المشروع، لأنها، في هذه اللحظة التاريخية، لا تستطيع أن تقف بوجه هذا الحلم، ولا تستطيع أن تتعفّف في التنافس على الشرعية التاريخية التي سيُكسِبها الاستقلالُ للساعين إليه. ولكن هذه الأحزاب، في الوقت نفسه، تعارض محاولةَ الحزب الديمقراطي الكردستاني القبضَ على مقاليد الحياة السياسية الكردية. ومن ثم، هي تؤجل قليلا هذه المعارضة، لكنها ستطلقها في اليوم التالي للاستقلال، بكل تأكيد. وبكلمةٍ، لا تعني الموافقةُ على الاستقلال الموافقةَ على الزعامة وشكل نظام الحكم ما بعد الاستقلال.

وفي الحقيقة، ليست ثمة وحدة كردية. وليست الانقساماتُ الكردية جديدة وطارئة، بل هي قديمة كذلك، وهي انقساماتٌ ذات طابع جهوي ولغوي، غير أنها ظلت تتحكّم بالديناميكيات السياسية الكردية. وحتى عندما نشأت القوميةُ الكردية، أواخرَ القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فإنها كانت نتاج تكوين سوسيولوجي محدّد، غير أنها حاولت أن تفرض نمطها السياسي وأهدافها على سائر الجغرافيا والتكوينات الديموغرافية الكردية، وعملت على إعادة تعريف “الكردية السياسية”، إن صحّ التعبير. في عمل سابق، حاولتُ أن أوضّح كيف استبعد الخطابُ القومي الكردي الكردَ الذين عملوا في إطار الدولة العراقية الناشئة سنة 1921 بوصفه خيارا كرديا، وحصرَ مشروعَ “الكردية السياسية” بالاستقلال، أو الوضع الخاص.

وهكذا، يتأثر الانقسامُ على مشروع الاستفتاء الراهن على الاستقلال بالانقسامات الكردية التي هي أبعد وأوسع من اللحظة الراهنة.

التفكير الرغبوي بالخارج

العامل الآخر أن الأزمة الداخلية التي قادت إلى الاستفتاء رافقها (وجعلها ممكنةً) تفكير رغبوي كردي بأن الأطراف الإقليمية والدولية ستتقبل، في النهاية، الدولةَ الكردية.

وتحديدا، هناك قراءة في أوساط الحزب الديمقراطي الكردستاني أن موقف تركيا سيكون

“ليست الانقساماتُ الكردية جديدة وطارئة، بل قديمة وذات طابع جهوي ولغوي” إيجابيًا. وتستند هذه القراءة إلى العلاقة اللافتة التي ربطت أربيل بأنقرة وبحكومة حزب العدالة والتنمية خلال السنوات العشر الماضية. وأيا كانت الظروف، أو الأسباب التي نمت خلالها هذه العلاقةُ (سواء محاولة تركيا جعلَ كردستان العراق منصةَ لنفوذها، أو في سياق مبادرة حكومة العدالة والتنمية بحل المسألة الكردية في تركيا، التي أطلقتها سنة 2009، وتتضمن، في جزء منها، تقديم نموذج كردستان العراق بديلا لحزب العمال الكردستاني، أو في سياق العداء المتصاعد بين تركيا وحكومة نوري المالكي، أو في البحث عن نافذة استثمارية، بحيث أصبح إقليم كردستان العراق في مرتبة متقدمة في قائمة الوجهات التي تتجه إليها الصادرات التركية، أو ما إلى ذلك من عوامل)، فإن الأتراك، ما قبل الربيع العربي وتورّطهم بالأزمة السورية، قد يكونون اقتنعوا (أو كانوا على استعداد لأن يقبلوا) بدولةٍ كردية في شمال العراق. ربما كان الموقف التركي، آنئذ، على هذا النحو، لكن الأكيد أن الكرد فهموه وتعاملوا معه على هذا الأساس.

في ذلك الوقت، وفي ذروة طرح الكرد مشروع الكونفدرالية، همس في أذني أحد أصدقائي من المثقفين الكرد بأن اتحاد كردستان الكونفدرالي لن يكون، بالضرورة، مع العراق، بل قد يكون مع تركيا التي ستكون بوابة كردستان نحو أوروبا والغرب.

ومن ثم، كان قرار الاستفتاء يستند إلى عقد كامل من العلاقات الإيجابية، بين أربيل وأنقرة، والإيحاءات (التي قد تكون إيجابية)، التي أرسلتها تركيا إلى كردستان، والفهم (أو سوء الفهم) الكردي لموقف تركيا من مسألة الاستقلال.

وبكل تأكيد، ومع أن الساسة الكرد يدركون أن قرار استقلال كردستان ليس كرديًا خالصا، بل هو قرار إقليمي ودولي، لم يكونوا يتوقعون أن يكون ردُّ الفعل الإقليمي والدولي على إعلان الاستفتاء أعلى حدة بكثير مما كانوا يتوقعون، ليس فقط الموقف التركي الذي قد يكون الساسة الكردُ عدّوه خذلانًا لهم، بل الموقف الإيراني، الذي هدّد (تقريبا) بإعلان الحرب، وبحصار كردستان وقطع المياه عنها.

وحتى الموقف الأميركي بدا للكرد أعلى حدة، فمع أن السياسة الأميركية ما بعد 2003 كانت ترفض باستمرار أي إيحاء كردي بالاستقلال، وكانت تكرّر أنها تتعامل مع الكرد بوصفهم جزءًا من الدولة العراقية الواحدة، هذا فضلا عن الدعم الأميركي المستمر للحكومة المركزية في بغداد (وجديده دعم حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي)، إلا إن واقع الحال يثبت أن لكردستان حظوة ما في التفكير الأميركي، لا يدل عليه فقط أن حرب الولايات المتحدة على “داعش” لم تبدأ إلا حين اقترب التنظيم من أربيل في أغسطس/ آب 2014، بل كذلك لأن الكرد هم الطرف العراقي الوحيد الذي كان على علاقة ود وصداقة دائمين مع الولايات المتحدة.

وما لم يقدّره الكرد أن هذه المواقف، ولا سيما الموقف الأميركي، لم تكن مناهِضة لأساس الدولة الكردية أو مبدئها، بل خشية من أن إعلان انفصال كردستان عن العراق سيطلق ديناميكية انفصالات (أو رغبات بالانفصال)، لا يمكن ضبطها، في سياق إقليمي ملتهب وعنيف، سيما أن هذه المنطقة تخضع لتأثيراتٍ داخلية كبيرة بينها. ولعل أحد أهم أمثلتها هنا، ليس فقط أن شابّا في إحدى مدن جنوب تونس أحرق نفسه محتجا في أواخر 2010، أسهم في سقوط نظم استبداد عتيدة وراسخة، وأطلق ثوراتٍ وحركات احتجاج في أقصى بقعة في

“قرار الاستفتاء يستند إلى عقد كامل من العلاقات الإيجابية بين أربيل وأنقرة” المشرق، منها كردستان، بل المثل الأهم أن نموذج الفيدرالية والإقليم ذي الحكم الذاتي الذي بنته كردستان في إطار العراق، أشعل النموذجَ اللامركزي في سائر المنطقة. وهل يبعد أبناءُ شرق ليبيا، حين دعوا إلى إقليم برقة، أو اليمنيون الذين شرّعوا لنظام فيدرالي ما بعد ثورة 2011، هل يبعدون عن النموذج الملهم الذي أطلقته كردستان العراق؟ فكيف إذا نشأت الدولة الكردية المستقلة.

لذلك، بخلاف كل ما يقال عن “مؤامرة دولية” لتقسيم المنطقة، كان الموقف الدولي ممانعا لأكثر حالات القابلية للاستقلال نضجا، وهي كردستان العراق. يتضمن الموقف الإقليمي والدولي الرافض للاستفتاء، كذلك، خشيةً على العراق، الذي لم يخرج بعد من الحرب على “داعش”، وها هو مهدّد بحرب جديدة، عربية كردية، لا سيما أن الأطراف المتنازعة لم تتفق بعد على حدود كردستان.

وفي تقديري، أن عموم المجتمع العربي في العراق لا يمانع في استقلال كردستان. ولكن، ما هي “كردستان” هنا؟ ما حدود كردستان التي ستنفصل؟ هل ستأخذ معها كركوك وسهل نينوى والمناطق المتنازع عليها، أم ستكتفي بالمحافظات الثلاث؟ ومَن سيقرّر مصير كركوك، العقدة الجوهرية في هذه المسألة؟ الكرد وحدهم؟ وهم ليسوا الأغلبية في المحافظة، بل المجموعة السكانية الكبرى؟ كيف يقبل الكرد الذين تمتعوا (في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية ودستور 2005) بحق النقض، الذي تفيد منه، في العادة، الأقلياتُ في النظم التوافقية، حتى لا تفرض عليها الأغلبيةُ ما لا تريد، كيف يقبلون بأن يحرموا المجموعات الإثنية في كركوك (التركمان، والعرب، والمسيحيين)، من حق النقض، ليفرضوا عليها ما لا تريد؟ لماذا دافع الكرد عن التوافق لتقرير مصير العراق، ولا يعملون على أن يتحدد مصيرُ كركوك من خلال التوافق، بل تحدّده المجموعة السكانية الكبرى، رغما عن الآخرين؟

قادت مغادرةُ الكرد السياسةَ البراغماتية بشكل متعجل والارتجالُ في إدارة ملف الاستفتاء، قادتهم إلى المضي من دون بناء تفاهماتٍ وتوافقات، داخلية وإقليمية ودولية، على كل هذه التفصيلات المعقدة، والتي تقع أبعدَ من مبدأ حق تقرير المصير.

الأسئلة جدية ومعقدة. وقد بدأت لغةُ الحرب تتصاعد في خطابات قوميات كركوك منذ الآن. الخطابُ السياسي الكردي يبدو أنه سيتمسك بالمبدأ، على الرغم من كل ما يمكن أن يحيق به من أضرار. وليس أمامه، من ثم، وقد وضع جمهوره أمام هذه الأزمة، وباتت مصداقيتُه على محك الشك، إلا استعادة دور الضحية، واستعادة الخطاب عن أن العالم يتوحّد، مجدّدا، ضد الكرد، ليحرمهم من الدولة التي لن تتحقق إلا بالدم.

وفي النهاية، يأتي حلم الاستقلال، الذي رافق الكردَ عقودا، بشكل غير الذي توقعوه، ليس فقط في الإدارة الارتجالية والمضطربة لملف الاستفتاء، بل في إحساس شريحةٍ كبيرة من الكرد بأن هذا الملف حرّكته مصالحُ حزبية، ببراهين ضعيفة، وفي غياب إجماع كردي. وبالأحرى، وُضع المبدأ الصحيح، بالطريقة الخطأ، وفي التوقيت الخطأ.

ولذلك، لم يكن غريبا أن تطلق جماعات سياسية ومدنية كردية وازنة حملة معارِضة لتنظيم الاستفتاء على الاستقلال، الحلم الذي رافق كل كردي، هذا فضلا عن المخاوف الجدية من أن يكون ثمة عزوف عن المشاركة في الاستفتاء، ما يقدح بشرعية النتيجة، كيفما كانت.

يحدثني أصدقاء كرد كثيرون عن تخوفاتهم من اليوم التالي للاستقلال، حيث كل شيء متوقع، الحرب، والحصار، والنزاع الأهلي. والأكثر قسوة هنا هو إحساس هذه الشريحة بأن الساسة الكرد يغامرون بالشعب الكردي.

السياسة الكردية، إذن، غادرت براغماتيتها، التي طبعتها عقودا، ومعها ستغادر أشياء كثيرة. وبالتأكيد، لن تكون نهاية البراغماتية الكردية نهاية واحدة، فريدة، بل حزمة نهايات.

العربي الجديد

 

 

كردستان ام برزانيستان/ حسين عبد الحسين

في المسألتين الكردية والفلسطينية، لا شك ولا تشكيك في المظلومية والعنصرية التي طاولت وما تزال تطاول سكان شمال العراق وشرق سوريا، من الكرد والعرب والتركمان والايزيديين والمسيحيين وغيرهم، ولا شك ولا تشكيك في المظلومية والعنصرية التي لحقت وماتزال تلاحق الفلسطينيين، لا في فلسطين وحدها، بل في سوريا ولبنان ومصر وعدد من دول الشتات.

في ماضي بيروت، جمعتنا المظلومية. يسار عربي وكردي وعالمي، تشاركنا الاحباط. تسامرنا. كرد سوريا بلا اوراق ثبوتية، وكذلك فلسطينيو لبنان بوثائق لاجئين بالية، كانت بمثابة دعوة لعنصرية ضدهم من السلطات اللبنانية والسورية الحاكمة لبنان في ذلك الزمان.

كرد الجزيرة والبيشمركة، ومقاتلو الراحل ”ابو ميسا“ جورج حبش، والمنتفضون على ”وتوات“ الحزب الشيوعي اللبناني، ومجموعات يسارية مستقلة، والمعجبون بالثائر السوري قبل كل الثورات، رياض الترك، بكينا سويا، وضحكنا سويا، وتظاهرنا، وصرخنا من اجل حقوق الكرد والفلسطينيين واللبنانيين وسائر الشعوب. تذكرنا حصار الأسد لمخيمات اللجوء الفلسطيني في لبنان، وظلمه لكرد سوريا. الظلم واحد، فلمَ لا يتوحد المظلومون؟

اتسعت حانة الرفيق العزيز الراحل نايا، الضيقة جدا، لنا كلنا، على انغام عازف البزق الكردي زورو يوسف، وتراقص ابن خالته كاميران، ودندنة خالد الهبر، وتصفيق سهى بشارة، وابتسامات كوزو اوكاموتو. استضفنا السوري سميح شقير، الذي غنى في مناسبات نوروز في مسبح عجرم عن ”صديق له من كردستان اسمه شيفان“، وهللنا لأغاني شيفان، حتى لو لم يفهم غالبيتنا معاني كلمات اغنياته، الا اننا فهمنا نغمتها، فالمظلومون يغنون بنغم واحد، وان بلغات متعددة، وكنا نردد مع شيفان ”بيجي كردستان“.

لم تتغير شؤون كرد العراق، على الرغم من تغير هوية حكامهم، من عرب الى كرد. كما في فلسطين، كذلك في كردستان العراق، حكام يخفون فسادهم واستئثارهم بالسلطة خلف قضايا محقة، فينفد الحكام مع فسادهم، فيما يغرق المحكومون بالفساد والشقاء.

في كردستان، كما في سوريا ولبنان، طغمة حاكمة منذ عقود، تآمرت على بعضها البعض، وخاضت حروبا داخلية دموية. مات الكرد، وبقي امراء الحروب.

في الايام القليلة المقبلة، يحاول الحاكم تغطية عوراته باستثارة عواطف المحكومين. لم يجر السيد رئيس اقليم كردستان مسعود برزاني اية انتخابات منذ انتهاء ولايته الثانية في العام ٢٠١٣، واخترق الدستور الكردي، الذي يجبر الرئيس على الخروج من الحكم بعد ولايتين، ومدد لنفسه عامين. وبدلا من خروجه من الحكم في العام ٢٠١٥، أقفل السيد برزاني برلمان كردستان، وعلّق الانتخابات فيها، بحجة تدهور الاوضاع الأمنية.

اليوم، بعد اربعة اعوام على وجوب خروجه من الرئاسة، ما يزال برزاني حاكما، وبدلا من اجرائه انتخابات برلمانية ورئاسية، قرر استثارة عواطف الكرد باعلان موعد استفتاء لانفصال كردستان عن العراق.

لا ضير في الاستفتاءات الشعبية. بريطانيا انفصلت عن اوروبا وجنوب السودان عن السودان، فيما لم تنفصل كاتالونيا عن اسبانيا، ولا اسكتلندا عن المملكة المتحدة.

المشكلة هي في ان يصوّر لنا برزاني استفتاء كردستان وكأنه عملية ديموقراطية، وان يعيّب على من لا يؤيدها، فيما السيد برزاني نفسه يضرب الديموقراطية بعرض الحائط منذ سنوات، فاذا كان السيد رئيس اقليم كردستان جديا في ديموقراطيته وحقوق الكرد، فليشرف على انتخابات برلمانية ورئاسية، وليخرج من الرئاسة، وليقرر حكام كردستان الجدد خطوتهم المقبلة.

فليعط السيد برزاني الكرد حقوقهم السياسية، بالسماح لهم بالانتخاب وتداول السلطة، وليعطهم حقوقهم المالية، بوقفه احتكار ثرواتهم ومواردهم. ثم، بعد ان يظهر برزاني احترامه للغالبية الكردية، اذ ذاك يمكنه الطلب الى العالم احترام رأي الغالبية الكردية في العراق.

لكن تصرفات السيد الرئيس برزاني تشي بأن الهدف الاول من خطوته الاستقلالية هي الخروج من مأزق اقفاله برلمان كردستان وبقائه في منصب الرئاسة من دون مسوّغ دستوري. ومن يدري، ربما في كردستان مستقلة، يلغي برزاني بند تحديد الرئاسة بولايتين، ويصبح رئيسا الى الأبد، فان كانت سوريا الأسد، والأسد طبعا حامي حقوق العرب وقائد لواء تحرير فلسطين، فلمَ لا تكون كردستان برزاني، او برزانيستان.

نحن من نشأنا على نصرة الشعوب المظلومة وحقوق مواطنيها، لا يرى بعضنا مصيرية استفتاء كردستان، بل يرى مناورة سياسية يقوم بها برزاني لمصلحته الذاتية. وحتى لو كان للسيد برزاني اصدقاء اقليميون، لن يكفيه ذلك، ولا نفط كردستان، في اقامة دولة تعطي مواطنيها حقوقهم، غير الدولة الاستخباراتية الفاسدة التي يديرها اليوم.

المدن

 

 

 

مأزق الاستفتاء الكردي/ أمير طاهري

ما أول شيء يجب القيام به إذا ما أقحمت نفسك في مأزق ما؟

الإجابة الواضحة هي: التوقف الفوري. وهذه هي النصيحة التي ينبغي أن يحظى بها أولئك المتورطون في ذلك المأزق المسمى الاستفتاء على استقلال كردستان العراق، المقرر انعقاده الاثنين المقبل، والذي ما زال معلقاً حتى كتابة هذا المقال.

وفكرة إجراء الاستفتاء حول قضية مثيرة للجدل في هذا التوقيت، هي فكرة شاذة وغريبة على أدنى تقدير. فلم يكن هناك مطلب شعبي كبير لمثل هذا الإجراء. كما لا يمكن لمن أشاروا بهكذا فكرة أن يوضحوا أي مشكلة من مشكلات العراق الراهنة يمكن تسويتها من خلال هذا الاستفتاء. وبعبارة أخرى، فإن هذه الخطوة لا لزوم لها، من واقع مقولة عالم السياسة القديم شارل موريس تاليران، وما كان يعنيه أن فعل ما لا يلزم في عالم السياسة هو أسوأ بكثير من ارتكاب الأخطاء.

وإن كان مقصد أحدهم من وراء الاستقلال الكردي تأمين أدوات إقامة الدولة الكردية المستقلة، فإن المحافظات الثلاث المكونة لإقليم كردستان العراق لا ينقصها أي من هذه الأدوات؛ فهناك رئيس للإقليم، وهناك رئيس الوزراء، ومجلس الوزراء، والبرلمان المنتخب، والجيش، والشرطة، وحتى السفارات الافتراضية الممثلة للإقليم في مختلف العواصم الأجنبية الرئيسية. كما أن الإقليم يملك رمزيات الدول المستقلة ذات السيادة، من العلم الوطني والنشيد الوطني.

واستناداً إلى ما تقدم، لا يمكن للمرء إنكار رغبة الشعب الكردي في الاستقلال. ومن بعض الوجوه، حلم بعض الأكراد بالدولة المستقلة لما يربو على ألفي عام، عندما انطلق المؤرخ الإغريقي القديم زينوفون إليهم في جبال غرب آسيا. (راجع ذكره لهم في مؤلفه الشهير: أناباسيس).

وفي الآونة الراهنة، رغم كل شيء، فإن كافة الدلائل تشير إلى أن أي محاولة منفردة لإعلان استقلال الأكراد من جانب واحد، يمكن أن تسفر عن فيضان من الصراعات، قد لا تتمكن المنطقة، الغارقة حتى أذنيها في الأزمات، من تحملها أو التعامل معها. وبعبارة أخرى: إن الحفرة التي تحفرها أربيل قد تتحول إلى ثقب أسود كبير يجر جزءاً كبيراً من منطقة الشرق الأوسط نحو المجهول، وبالتالي لا بد من التوقف عن الحفر فوراً.

ورغم ذلك، فإن الجميع تقريباً لا يفعلون إلا العكس. ولقد تعرض مسعود بارزاني رئيس الحكومة في إقليم كردستان بالهجوم ضد تركيا وإيران، في الوقت الذي هدد فيه باتخاذ الإجراءات العسكرية للسيطرة على المناطق المتنازع عليها في العراق.

وقد يتودد بارزاني بحديثه الصارم إلى قاعدته الشعبية المؤيدة، ولكنه قد يثير حفيظة العناصر الشوفينية المتربصة في بغداد وأنقرة وطهران، الذين دائماً ما يعتبرون الأكراد من معسكر الأعداء.

ومن جانبه، اقترب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي كثيراً من التهديد باستخدام القوة العسكرية، لوقف العملية التي لا تزال غير واضحة المعالم. وجاءت تهديدات أخرى من جانب طهران، إذ صرح مستشار الأمن القومي الإيراني علي شمخاني بأن الجمهورية الإسلامية سوف تلغي كافة الاتفاقيات الأمنية المبرمة والمتعلقة بالإقليم الكردي، وقد تتدخل عسكرياً هناك للتعامل مع الجماعات المناهضة للحكومة الإيرانية.

وبالنسبة لأنقرة، فقد وصفت الحكومة التركية الاستفتاء الكردي المزمع بأنه «خط أحمر»، مستخدمة المصطلح الفاقد للمصداقية الذي بات شائع الاستخدام، منذ إطلاقه على لسان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، في عام 2014 بشأن سوريا.

وقبل أيام معدودة على الاستفتاء، أعلن الجيش التركي عن مظاهرة عسكرية علنية وكبيرة، على الحدود مع إقليم كردستان العراق، الخطوة التي اعتبرت رسالة تحذير واضحة إلى أربيل.

أما بالنسبة إلى روسيا، فإن الدعم الموجز الممنوح للاستفتاء الكردي ناجم في جزء كبير منه عن آمال عقود النفط المربحة، أكثر من اعتبارات الجغرافيا السياسية الرصينة. ومثل هذا الموقف من شأنه أن يمنح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دعماً من النخبة الثرية في بلاده، ولكنه يخاطر في الوقت ذاته بجر روسيا إلى عملية محفوفة بالمخاطر، لن تكون لها أي سيطرة حقيقية عليها. كما أن تصريحات واشنطن المائعة وغير الواضحة بشأن القضية، تثير قدراً مماثلاً من المشكلات.

فلقد كان الأكراد العراقيون من أفضل حلفاء الولايات المتحدة الذين ساعدوا في تفكيك نظام صدام حسين، فيما بعد حرب تحرير العراق، وفي أعمال القتال الجارية ضد تنظيم داعش الإرهابي. ولن تنال واشنطن شيئاً من اتخاذ موقف الخصم في عملية تقرير مصير الإقليم الكردي.

وعند تناول المشكلة من الناحية القانونية، فقد أعلنت المحكمة العليا العراقية أن الاستفتاء الكردي المقترح يعد انتهاكاً صريحاً ومباشراً للدستور العراقي. ومن جانبه دعا البرلمان الوطني العراقي القيادة الكردية في أربيل إلى تأجيل عقد الاستفتاء، مشيراً في ذلك إلى رسالة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومن غير الواضح إلى أي النتائج سوف يسفر الحديث عن إلغاء الاستفتاء في اللحظة الأخيرة. ومع ذلك، أعتقد أن قرار الإلغاء في هذا التوقيت سوف يعود بنتائج سيئة وليست طيبة بحال.

أولاً، يمكن أن يسبب فقدان القيادة الكردية في أربيل لمصداقيتها الشعبية، في الوقت الذي تحتاج فيه الدعم الشعبي لتأكيد سلطاتها، وبالتالي شرعيتها. وسواء أحببنا القيادة في أربيل من عدمه، فإن الإطاحة بسلطتها الذاتية لن يكون في صالح الأكراد العراقيين، أو في صالح العراق بأسره. وتشجيع الانقسامات في الصفوف الكردية وتعزيز الخواء السياسي في منطقة الحكم الذاتي هو آخر ما تحتاج إليه بغداد الآن.

ثانياً، يمكن لقرار الإلغاء في اللحظات الأخيرة أن يؤدي إلى تعزيز العناصر التي لا تزال تعتقد بأن القوة والتهديد باستخدامها هي الوسائل الأكثر فعالية في التعامل مع المشكلات السياسية في المنطقة. وبعد مرور 14 عاماً على انهيار حكم صدام حسين، لم يتحرر العراق تماماً بعد من غيلان الماضي، الحالمين بالعراق أحادي اللون.

ثالثاً، إن إلغاء اللحظة الأخيرة يمكن أن يعتبر «شرعنة» لحق أنقرة وطهران في التدخل في الشؤون الداخلية العراقية، من خلال مزيج قميء من الضغوط العسكرية والابتزاز المقنّع.

لذلك، فما أفضل السبل لوقف تفاقم المأزق الحالي؟

قد تنبني الإجابة المحتملة على الموقف المتخذ من قبل الرئيس العراقي فؤاد معصوم، وهو ينتمي بنفسه للأصول الكردية، ولكنه على ما يبدو ملتزم التزاماً حقيقياً ببناء النظام التعددي في العراق. ولم يقدم السيد معصوم حتى الآن أي خطة تفصيلية لتسوية الأزمة، غير أن اقتراحه بأن يجري تناول المشكلة من خلال المحادثات بين بغداد وأربيل، يمكن استخدامه كأساس التوصل إلى حل وسط للأزمة. وفي مثل هذه الحلول التوافقية، يمكن أن يمضي الاستفتاء من دون عراقيل، في حين أن يكون من الواضح أن نتائجه لن تكون ملزمة بصورة قانونية لأي طرف من الأطراف. وبعبارة أخرى، يتم قبول الاستفتاء، بصرف النظر تماماً عن نتائجه، من واقع أنه حقيقية سياسية يمكن، بل ينبغي، أن تؤخذ بعين الاعتبار عند صياغة خريطة الطريق التي يحتاج إليها العراق، بمجرد القضاء التام والنهائي على تنظيم داعش الإرهابي.

لن يمكن للأكراد العراقيين فرض رغباتهم بالقوة، ولا سيما في ظل حالة الانقسام الشديدة التي يعانون منها بشأن الاستراتيجية الوطنية. ومن ناحية أخرى، لا يمكن للعراق النزوع إلى أساليب التعامل مع «المشكلة الكردية» والتي أسفرت فيما سبق عن كثير من المآسي المروعة للشعب الكردي، وحادت بالحياة الوطنية العراقية عن مسارها لعقود من الزمن.

إن استفتاء الاثنين المقبل غير لازم وغير ضروري. وأفضل ما يمكن فعله في اللحظات الأخيرة هو المساعدة في تحويله إلى خطأ سياسي. ولا يمكن للسياسة التعامل مع «غير الضروري»، غير أنها يمكنها التعامل مع الأخطاء السياسية.

الشرق الأوسط

 

 

لماذا تعارض إيران استفتاء كردستان العراق؟/ عماد آبشناس

طهران والقضية الكردية

مخاطر الانفصال على إيران

ما أن أعلن رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني قراره القاضي بإقامة استفتاء على استقلال الإقليم عن دولة العراق؛ حتى بدأت الهجمات تنهال على هذا القرار يمينا وشمالا، ومن جميع الأطراف بمن فيهم إيران.

في الواقع؛ كان البارزاني يتوقع هذه الهجمات لأنه يعلم أن استقلال كردستان لن يكون شأنا داخليا عراقيا فقط، بل سيؤثر على كل المنطقة. ولربما كان هدف البارزاني منذ البداية التأثير والضغط على الجميع كي يلتفتوا إلى حل المسألة الكردية.

في أهم ردود الأفعال على إعلان تنظيم الاستفتاء؛ جاءت زيارة رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية لتركيا -وهي أول سفر خارجي لرئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية بعد الثورة- كي يجتمع بنظيره التركي، وقد بحثا -حسب الرئيس رجب طيب أردوغان- إجراء عملية عسكرية مشتركة ضد إقليم كردستان إذا ما قام بإعلان الاستقلال.

كما جاء إعلان سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الأدميرال علي شمخاني أن جميع المعابر التجارية بين إيران وإقليم كردستان العراق ستغلق إذا نُظّم الاستفتاء. وإذا ما ضممنا تصريحه إلى كلام مشابه لرئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم؛ فإن هذا يعني أن الدولتين ستقومان بمحاصرة إقليم كردستان العراق.

وإذا انضمت الحكومة المركزية العراقية إلى إيران وتركيا في محاصرة إقليم كردستان العراق؛ فإن ذلك يعني أن هذا الإقليم سيصبح معزولا عن المنطقة وبالتالي عن العالم.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما سبب شدة ردود الأفعال هذه؟ وإجابةً على الشق المتعلق بإيران من هذا السؤال؛ سنبحث -في هذا المقال- تأثير استقلال كردستان العراق على الشأن الداخلي الإيراني، وسبب معارضة إيران لهذا الاستفتاء.

طهران والقضية الكردية

لا يمكن البحث في موضوع استقلال كردستان العراق وتأثيره على إيران دون التطرق للوضع الداخلي للمجتمع الإيراني. فالمجتمع الإيراني يتشكل عمليا من عدة قوميات، أشهرها الفرس والأتراك الأذريون والقاجار والعرب والأكراد واللّر (اللور) والسيستانيون والبلوش والتركمان والغيلك والمازندرانيون.

وقبل نجاح الثورة الإيرانية عام 1979؛ حاول شاه إيران استغلال القومية الإيرانية لتوحيد البلاد في وقت كان إفيه حساس التوجه القومي يطغى على القوميات المختلفة في كل المنطقة، وواجه الشاه مشاكل عديدة مع القوميات المختلفة وخاصة الكردية والعربية، بسبب تأثير موجة الدعوات القومية في المنطقة عليهم.

كانت سياسة الشاه تقضي بالتفرقة بين الأكراد فأحدث صراعات داخلية بين الأكراد ودعم مجموعات منهم ضد مجموعات أخرى ليستطيع السيطرة عليهم، واستغل أحيانا أكراد منطقة كردستان العراق -الذين كانوا على وفاق مع إيران- ضد الحكومة المركزية ببلدهم، وأجّج الصراع الكردي/العربي مقابل محاولات العراق التأثير على العرب في إيران.

بعد انتصار الثورة -بقيادة الإمام الخميني- طغت الأيديولوجية المذهبية الشيعية على الأيديولوجية القومية، وبما أن قسما كبيرا من الأكراد الإيرانيين ينتمون إلى المذهب الشيعي فقد استطاع نظام الثورة أن يتعامل مع هؤلاء الأكراد مذهبيا، ومع باقي الأكراد على أساس الأيديولوجية القومية وأصولهم الإيرانية.

ورغم أن بعض الأكراد -وخاصة المنتمين إلى الأحزاب اليسارية والشيوعية- حاولوا إثارة الشغب والانفصال عن إيران، مستغلين ظروف بداية الثورة والحرب العراقية الإيرانية؛ فإن إيران استطاعت إرضاخ هؤلاء بالقوة تارة وبالمفاوضات تارة أخرى.

استمرت علاقات أكراد العراق بإيران كما كانت قبل الثورة، واستغلتها إيران لتجعل القضية الكردية جرحا نازفا باستمرار في ظهر العراق على عهد صدام حسين، ولتحسّن علاقاتها بأكرد إيران.

وبما أن ظروف أكراد إيران كانت أفضل بكثير من ظروف أكراد باقي الدول الذين واجهوا أحيانا مشكلة عدم إعطائهم الهوية أو التمييز القومي باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية؛ فإن موضوع الانفصال أو التمرد ضد الحكومة المركزية بات أمراً منسيا في إيران لعدة عقود.

لا يتمركز كرد إيران في منطقة واحدة بل هم منتشرون في عدة مناطق تمتد من غرب إيران إلى شمال وجنوب البلاد، ولكن أكثر من نصفهم يسكنون بالترتيب في محافظات كرمانشاه وكردستان وأذربيجان الغربية وإيلام، ويصل عددهم حسب الإحصاءات غير الرسمية إلى ما يزيد على خمسة ملايين نسمة.

وقد أدت سياسة التركز الإداري في البلاد والمشاكل التي تعاني منها المناطق الحدودية، وخاصة تلك التي دمرتها الحرب الإيرانية العراقية؛ إلى إيجاد نوع من الحرمان الاقتصادي في معظم المحافظات الحدودية ذات الوجود الكردي مثل كرمانشاه وكردستان إيران.

وقاد هذا الأمر إلى هجرة العديد من أبناء هذه المحافظات إلى مناطق أخرى داخل البلاد أو إلى إقليم كردستان العراق، وأدى ذلك إلى الامتزاج الفكري والسياسي بين قسم من أكراد إيران وأكراد العراق.

وقد تحول الحصار الاقتصادي الذي فُرض على إيران إلى فرصة بالنسبة للأكراد، حيث إن التبادل التجاري بين إقليم كردستان العراق وإيران بلغ سبعة مليارات دولار بشكل رسمي، وما يعادل هذا المبلغ عبر تهريب البضائع بين البلدين، واستغلت إيران منفذ إقليم كردستان العراق للإفلات من العقوبات الاقتصادية.

في ظل هذه الظروف تطورت العلاقات الإيرانية مع إقليم كردستان العراق بشكل ملحوظ فأضحت ممتازة جدا اقتصاديا سياسيا وعسكريا، وقامت طهران بتقديم دعم لوجيستي عسكري وتدريب مكثف لقوات البشمركة لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بعد أن احتل الموصل عام 2014، حسبما صرح به البارزاني في عدة مقابلات.

وخلال السنتين الأخيرتين؛ بدأ التوتر يسود علاقات إيران بقيادة كردستان العراق بسبب تحركات بعض الانفصاليين من معارضي إيران الأكراد بهذه المنطقة، وقيامهم بعدة هجمات في مناطق ومدن حدودية. وقد اتهمت إيرانُ السعوديةَ بتمويل وتحريك هذه المجموعات عبر قنصليتها في أربيل بكردستان العراق.

وإزدادت هذه العلاقات توترا إثر مهاجمة مجموعتين من “داعش” مبنى البرلمان الإيراني وضريح الإمام الخميني في طهران، وكشفت التحقيقات أن بعض هذه العناصر كانوا من الأكراد الإيرانيين الذين تدربوا والتحقوا بداعش عابرين إقليم كردستان العراق، حيث تلقوا هناك الأموال والأسلحة والمعدات.

مخاطر الانفصال على إيران

ما هي التهديدات التي تواجه إيران من الاستفتاء واستقلال كردستان العراق؟ رغم أن الأكراد يُعتبرون قومية إيرانية أصيلة، وأن الإيرانيين متأكدون من أن أكراد بلدهم يقفون في آخر الصف المطالب بالانفصال مقارنة بأكراد تركيا وسوريا؛ فإن موضوع انفصال كردستان العراق يمكن أن يحرك بعض انفصاليي الأكراد داخل إيران ويثير مشاكل تهدد استقرارها، خاصة أن أكرادها منتشرون في كل البلاد.

كما أن هناك قوميات أخرى قد تتأثر باستقلال كردستان العراق (مثل العرب والبلوش والأذريين)، فتطالب بالانفصال وتهدد وحدة الأراضي الإيرانية.

ويضاف إلى ذلك تخوف طهران من النفوذ الإسرائيلي والسعودي في كردستان، الذي أضحى -حسب قولها- أحد أهم الأخطار التي تواجه الأمن القومي الإيراني، حيث إن إيران واجهت عدة حملات وصفتها بالإرهابية، وأكدت أنها كانت جميعها منطلقة من كردستان العراق.

وعلى هذا الأساس؛ فإن تخوف إيران من استقلال كردستان العراق مرده خشيتها من تحوّل هذه المنطقة إلى بؤرة نفوذ أقوى لأعدائها، مما سيشكل تهديداً مباشراً لأمنها القومي ينضاف إلى عدة مشاريع أميركية/إسرائيلية لتجزئة المنطقة إلى دويلات متصارعة، وهو ما سيؤمّن الاستقرار لإسرائيل.

ويمكن أن نشير هنا إلى ما يُعرف بخطة برنارد لويس أو خطة “حدود الدم” التي نشرتها مجلة “ذا أتلانتيك” الأميركية، وهناك تخوف كبير من أن مشروع تأسيس كردستان العراق سيشكل الأرضية لتطبيق الخطة الأميركية لتجزئة المنطقة، وعلى هذا الأساس فإن الإيرانيين يقفون بكل ثقلهم ضد نجاح هذا المشروع.

والآن؛ ما هي خيارات إيران أمام استقلال كردستان العراق؟ حسبما تم إعلانه من قبل المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين الإيرانيين؛ فإن طهران تعارض انفصال كردستان عن العراق ومستعدة للتدخل اقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً.

والمفاوضات بين إيران وتركيا والحكومة المركزية في بغداد لمواجهة هذا الحدث بلغت ذروتها، حيث قامت إيران بإرسال عدة وفود على مستويات مختلفة لثني الأكراد عن الاستمرار في مشروعهم هذا.

ويأمل الإيرانيون أن يتراجع الأكراد عن مشروع الاستقلال في آخر لحظة، أو يقوموا بالاستفتاء دون إعلان الانفصال عن العراق، وأن يستغلوا نتيجة الاستفتاء فقط في أخذ امتيازات إضافية من الحكومة المركزية.

أما إذا قام الأكراد بالانفصال عن العراق؛ فإن أول ما ستفعله إيران هو قطع جميع علاقاتها الاقتصادية مع إقليمهم، وإغلاق الحدود بالتنسيق مع تركيا والحكومة المركزية ببغداد لتصبح الدولة الجديدة معزولة عملياً عن العالم.

وستواصل إيران الضغط على كردستان العراق اقتصاديا وسياسيا حسبما يتوقعه مراقبون في طهران، ومن غير المستبعد أن تشارك إيران في عمليات عسكرية تنفذها تركيا وحكومة بغداد لإعادة الأمور إلى نصابها السابق، إذا تأكد لإيران أن إسرائيل تقف خلف الانفصال وأن أمنها القومي مهدد بشكل مباشر.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2017

 

 

 

أكراد الوقت الضائع/ فاروق يوسف

لمَ لا يعترف العراقيون بوجود الدولة الكردية المستقلة؟!

ذلك ليس سؤالا، لذلك جاءت علامة التعجب بعد علامة الاستفهام. الدولة الكردية قائمة خارج حدود إقليم كردستان التقليدية أصلا.

شكليا لا شيء ينقصها. هناك علم ونشيد وطني وجيش وأجهزة أمنية ومحطات فضائية تنطق بلغتها المعترف بها محليا وممثليات في الخارج ورئيس ومجلسان للوزراء والنواب، وحدود لا يسمح لأحد شاء من يكون في تجاوزها.

ما الذي تحتاجه كردستان لكي تكون دولة؟

هذا سؤال يبقى عالقا في هواء طموحات الزعامة الكردية، وبالأخص الجـزء الذي يمثله مسعود البارزاني في أربيل.

حين نفى البارزاني غريم عائلته جلال الطالباني إلى منصب رئيس الجمهورية العراقية جرى ذلك على حساب العراق، وكان ذلك الإجراء تجسيدا لمفهوم الشراكة من وجهة نظره.

فالشراكة من وجهة نظر البارزاني ومَن اتبعه من الأكراد لا تعني المساهمة في بناء دولة عراقية جديدة بعد أن تم تحطيم الدولة العراقية، بل تعني الاستفادة من واردات العراق المالية إضافة إلى توفير فرص عمل ممتازة للأكراد داخل الدولة العراقية بما يخدم المصالح الكردية. وهو ما حدث حين تحولت سفارات العراق في الخارج إلى منابر لأكراد يدعون إلى إقامة دولة كردستان.

في سياق داخل المفهوم لم يتدخل الأكراد من أجل منع قيام دولة دينية، وهو ما يضعونه اليوم في مقدمة الأسباب التي تدعوهم إلى الانفصال.

كان أسوأ ما فعلوه أنهم لم يمنعوا حليفهم الشيعي من ارتكاب مجازره الطائفية في حق سكان المدن ذات الغالبية السنية. هل كانوا بالأمس يسعون إلى قيام دولة فاشلة في العراق، وهو ما يعترضون عليه اليوم؟

لا يتطرق البارزاني إلى الشراكة إلا من الجهة التي تتعلق بالطرف الشيعي الحاكم، ولكن ماذا عن الطرف السني الذي صار وجوده اليوم أثرا بعد عين؟

يدرك البارزاني أن اختفاء السنة من المعادلة العراقية سيمهد له الطريق نحو إقامة دولته المستقلة على حطام عراق صار في انتظار حروبه الثأرية التي لن تنتهي إلا إذا تم تقسيم العراق وهو ما سيجعل منه الرابح الأكبر.

لقد تم تدمير الطرف الذي كان يصرّ على بقاء العراق دولة بحدود معترف بها دوليا وبهوية فرضها التاريخ كما تؤكدها الأغلبية السكانية. ذلك التدمير الممنهج لم يقع لولا موافقة الأكراد.

بالنسبة للأجندة الكردية فإن لاجئا سنيا أفضل من سني متمرد. لذلك رحب إقليم كردستان بمَن لجأ إليه من السنة، وكان ذلك مصدر راحة بالنسبة لشيعة الحكم بالرغم من أنهم يعترضون عليه مسرحيا. لذلك تبدو صدمة الزعماء الشيعة كبيرة إزاء خيانة الشريك الكردي للصورة الافتراضية لعراق تُحفظ خرائطه في الملفات الدولية، كما هو من غير أن يكون له وجود على أرض الواقع.

“كانت دولة الأكراد موجودة فلمَ كل هذا الضجيج حول الاستفتاء المحرج؟” يتساءل الطرف الشيعي. كانت هناك أغنية للمطرب العراقي أحمد الخليل وهو كردي بعنوان “هربجي، كرد والعرب رمز النضال” وكلمة هربجي تعني يحيى. كان المطرب الخليل قد تغنى بالشراكة الكردية- العربية. يومها لم يكن هناك في العراق سنة وشيعة بل أكراد وعرب. وهو ما صار من الماضي بعد أن فرض المحتل الأميركي على عرب العراق أن يكونوا سنة وشيعة ليتم تمثيلهم في الحكم.

ذلك الإجراء الذي انتزع العراقيين من عروبتهم كان مفيدا بالنسبة للأكراد من أجل إقامة دولتهم التي هي ليست في حاجة إلى اعتراف دولي الآن.

لقد أحرج كاكا مسعود رفاقه من الأكراد وشركاءه من الشيعة بدعوته الغامضة إلى استفتاء ستجرّ نتائجه الشعب الكردي إلى منطقة اللاعودة. فكردستان الموعودة لن تكون سوى إقطاعية لآل برزان. أما الأكراد فإنهم سيخسرون الكثير.

كاتب عراقي

العرب

 

 

الحكمة والحذر إزاء الاستفتاء الكردي/ روبرت فورد

كنت رئيس المكتب السياسي في السفارة الأميركية في بغداد عام 2005 أثناء المفاوضات الطويلة والشاقة بين القادة السياسيين العراقيين في شأن الدستور العراقي.

وتركزت تلك المفاوضات على مسائل مثل اللامركزية والمساءلة واحترام حقوق الإنسان وصلاحيات السلطة التنفيذية والتشريعية والمؤسسات القضائية. وكثيراً ما بلغت المفاوضات طرقاً مسدودة، وتحتم على كبار القادة العراقيين، أمثال مسعود بارزاني، وجلال طالباني، وطارق هاشمي، وعبد العزيز الحكيم، وإبراهيم الجعفري الالتقاء على هامش المفاوضات لتقديم تنازلات عسيرة. وكان الجانب الأميركي يحض بارزاني على قبول التنازلات وأن كردستان العراق جزء لا يتجزأ من العراق الفيدرالي. وبارزاني من المفاوضين القساة، فلقد عانت أسرته وشعبه كثيراً في العراق «البعثي» إبان حكم صدام حسين. وقال لنا في نهاية المطاف وبكل وضوح في عام 2005: «إذا ما احترمت الحكومة المركزية في بغداد الدستور الجديد، ستظل حكومة الأكراد الإقليمية جزءاً من دولة العراق». ولقد كان شديد الوضوح فيما يتعلق بالاتفاق المشروط في عام 2005.

وبعد مرور اثني عشر عاماً، لم يحترم المسؤولون العراقيون الالتزامات الأساسية في الدستور العراقي. ولم يصادق البرلمان العراقي، الذي يضم أغلبية من الأحزاب الإسلامية الشيعية، قانوناً بشأن إنشاء مجلس آخر في البرلمان يمثل المحافظات والأقاليم (كما هو مطلوب بموجب المادة 65 من الدستور). كما لم تمرر الحكومة في بغداد قانوناً لإنشاء المحكمة العليا الوطنية (بموجب المادة 92 من الدستور)، ولا قانوناً في شأن تنظيم أجهزة الاستخبارات الوطنية (حسب اقتضاء المادة 84 من الدستور). كما نص الدستور العراقي كذلك، في المادة 80 منه، على ضرورة موافقة مجلس النواب على تعيين كبار ضباط الجيش. وفي واقع الأمر، يأمر رؤساء الوزراء بتعيين كبار قادة الجيش من دون موافقة مجلس النواب العراقي. ويحظر الدستور العراقي أيضاً (في المادة التاسعة من الدستور) تشكيل الميليشيات المسلحة، لكن الحكومة العراقية تسدد رواتب ميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية، وفي أغلب الأحيان ما تكون لتلك الميليشيات توجهات سياسية، كما أنها تعتبر انتهاكاً صريحاً للمادة التاسعة من الدستور. ومن المثير للاهتمام، في هذا الصدد، ملاحظة حصول الأكراد على الاعتراف في مفاوضات عام 2005 بشأن قوات الأمن الكردية، المعروفة باسم قوات البيشمركة، ذلك بموجب البند الخامس من المادة 121 من الدستور العراقي.

ويحمل النزاع النفطي بين بغداد وأربيل تعقيدات قانونية وسياسية عسيرة وعميقة. وتنص المادة 112 من الدستور العراقي على منح كلا الطرفين دوراً في هذا المجال، بيد أنهما لم يتفاوضا حتى الآن بشأن كيفية إدارة قطاع النفط المتنازع عليه.

وأذكر أيضاً حالة القلق التي انتابت الزعماء السياسيين الأكراد في عام 2005؛ لأن حكومة بغداد، تحت رئاسة الجعفري والبرلمان بأغلبيته الشيعية، لم يحترما الالتزامات الدستورية المتفق عليها. وتعهدت الحكومة الأميركية بالمساعدة في ضمان احترام الدستور العراقي. وقلنا آنذاك، على سبيل المثال، إننا سنساعد الجانب العراقي في إيجاد طريقة لحل مسألة الأقاليم المتنازع عليها ومسألة محافظة كركوك، وفق المادة 140 من الدستور العراقي التي تنص على إجراء استفتاء شعبي في الأقاليم المتنازع عليها بحلول عام 2007، لكن ذلك الاستفتاء لم يعقد قط.

وفي عام 2009، لاحت للجانب الأميركي فرصة ذهبية لمساعدة العراقيين على إيجاد حل للأزمة. وكان السفير الأميركي لدى العراق وقتذاك، كريستوفر هيل، من كبار المفاوضين المخضرمين الذي ساعد من قبل في تسوية أزمة الحرب الأهلية في البوسنة. وكان هناك الآلاف من الجنود الأميركيين المنتشرين في منطقة الأقاليم المتنازع عليها وكان بإمكانهم مساعدة جهود السيد هيل. وبدلاً من ذلك، لم يفعل الجانب الأميركي شيئاً بخصوص المادتين 112 و140 من الدستور العراقي، والآن في عام 2017 تحولت محافظة كركوك وحقول النفط فيها إلى نزاع سياسي كبير.

وفي عام 2010، حض السيد جوزيف بايدن، نائب الرئيس الأميركي، السيد بارزاني على دعم تولي نوري المالكي لولاية ثانية من رئاسة الحكومة العراقية. وتعهدت واشنطن بالمساعدة على ضمان احترام الدستور العراقي وتقاسم السلطة بين المالكي والأكراد والعرب السنة. وكانت هذه الاتفاقية التي صيغت من 19 نقطة تشتمل على تسوية إجراءات المادة 140، وكان من المفترض لها تحديد كيفية صنع القرارات في مجلس الوزراء في وجود رئيس مجلس الوزراء على النحو المنصوص عليه في الدستور (لم يتم تنفيذ المادة 85 من الدستور حتى الآن). ولقد تعمد المالكي انتهاك العناصر الرئيسية في هذه الاتفاقية إلى جانب انتهاكات حقوق الإنسان، والإجراءات الديمقراطية والتي ساعدت فيما بعد على ظهور وصعود تنظيم داعش الإرهابي. كما التزم الجانب الأميركي الصمت التام في عامي 2012 و2013 ولم يمارس الضغوط الجادة والحقيقية على المالكي إلا بعد بدء تحرك تنظيم داعش في ربيع عام 2014 الماضي.

ومرة أخرى، في العام 2014، ساعدت واشنطن على إبرام اتفاق بين بغداد والقيادة الكردية العراقية في شأن تقاسم السلطة؛ حتى يتسنى تأمين أصوات ممثلي الأكراد لانتخاب رئيس الوزراء العراقي الجديد حيدر العبادي. وتم تجاوز بنود ذلك الاتفاق مرة أخرى، مع المادة 85 من الدستور التي لم تدخل حيز التنفيذ بعد. وحاول مجلس النواب العراقي في الأسبوع الماضي، مع أغلبيته الإسلامية الشيعية، إقالة محافظ كركوك من منصبه على الرغم من أن الدستور العراقي لا يخول لهم مثل هذه الصلاحيات.

وفي العشرين من سبتمبر (أيلول)، نددت واشنطن بقوة بإجراء الاستفتاء الكردي، وأعلنت أنه ينبغي على السيد بارزاني والشعب الكردي قبول العملية السياسية الجديدة تحت رعاية الولايات المتحدة والأمم المتحدة بشأن تسوية مسائل الدستور العراقي والمطالب الكردية. وهي ليست المرة الأولى التي يستمع الأكراد فيها لهذه الوعود. وسنرى إن كان السيد بارزاني سيتراجع فعلاً في اللحظة الأخيرة من عدمه. وفي التفكير الكردي، فإن موقف تركيا، التي تعتبر أكبر شريك تجاري لدى أربيل وتنتشر قواتها العسكرية على طول الحدود الكردية، مهم بالنسبة إلى الأكراد، ربما أكثر من مزيد من الوعود الأميركية الخاوية.

ومن المهم تذكّر، أنه في حال أجري الاستفتاء الكردي وخرج بنتيجة إيجابية، لن يعني استقلال الحكومة الإقليمية الكردية عن العراق الفيدرالي. بدلاً من ذلك، يتعين على بغداد وأربيل النظر في فتح قنوات للاتصال فيما بينهما في شأن الخطوات التالية. كما سيتاح الوقت لأنقرة وطهران للتعبير عن اهتمامهما وأفكارهما في القضية كذلك. ومن الأهمية بمكان لكل من يعنيه الأمر أن يتوخى المزيد من الحذر في التصريحات وطريقة التفكير، وليس افتعال الغضب وإطلاق التهديدات.

الشرق الأوسط

 

 

 

 

 

ما الذي سيخسره أكراد العراق لو انفصلوا رسميا عن بغداد؟/ وائل عصام

■ لا يوجد شيء يغري أكراد العراق بالبقاء ضمن دولتهم الاتحادية، فما الذي سيخسرونه لو انفصلوا رسميا بعد 15 عاما من انفصالهم العملي عن سلطة بغداد؟

الحكومة العراقية مصنفة كإحدى أكثر الدول فسادا في العالم، رواتب سكان كردستان مقطوعة من حكومة المركز منذ ثلاثة أعوام، عدا بعض الدوائر المحدودة، وكذلك مخصصات الإقليم المالية لا يتوقف النزاع حولها، والأهم من كل هذه الشؤون الاقتصادية والإدارية، أن طبيعة السلطة في العراق بعد 2003 لم تختلف عن ما قبلها، إذ لم ينجح النظام الجديد في استيعاب شراكة مكونات البلاد العرقية والطائفية، وظلت الهيمنة لا الشراكة، هي السمة الغالبة للحكم في العراق، وكما قال بارزاني منذ سنوات وعاد ليكرره قبل أيام في خطابه، إن الأحزاب الطائفية في بغداد لم تترك مجالا لغيرها، واستأثرت بالمواقع السيادية الأمنية والسياسية، وهكذا فإن أهم ما يمكن الخروج به من تجربة ما بعد 2003، إن محاولة إشراك مكونات وطوائف العراق في إدارة الدولة بشكل عادل، قد وصلت لطريق مسدود، ومن اعترض عليها إما تم طرد ممثليهم المنتخبين، مثل سياسيي العرب السنة من طارق الهاشمي حتى رافع العيساوي وعدنان الدليمي وغيرهم، أو جرى سحق من تمرد منهم، كما حصل في الحراك السلمي، ومن قبلها فصائل التمرد المسلحة السنية، وهذا المصير ذكر به بارزاني عندما قارن بين مصير سياسيي العرب السنة الذين ظلوا يلحقون سراب الشراكة تحت مظلة الدولة العراقية، ومصير الكرد الذين اختاروا الابتعاد عن هيمنة المركز وباتوا أقرب من أي وقت مضى، للانفصال الرسمي.

حتى لو تأجل تنظيم الاستفتاء، فأكراد العراق أنجزوا تكوين مؤسسات كيانهم المستقل عن بغداد، وهم يمارسون عمليا سيادتهم على أراضيهم الكردية بمعزل عن تدخل حكومات العراق المتعاقبة منذ احتلال العراق، بل حتى منذ اواسط التسعينيات بشكل او بآخر، وكل محاولات الدول المجاورة للتضييق على بارزاني في استفتائه المزمع، ليست موجهة لكردستان العراق، وإنما هي محاولة لكبح جماح الحركات الانفصالية الكردية في إيران وتركيا، فهذه الدولة تنظر لمواطنيها الاكراد على أنهم خطر داخلي يهدد وحدة البلاد، وما زالت تنتمي لحقبة الدول الشمولية، التي ترفض الاعتراف بوجود ملايين من السكان غير المنسجمين مع هوية الدول القومية، التي شكلت عقب مرحلة الاستعمار في الشرق الأوسط، لأنهم ببساطة، مجموعات عرقية لم تندمج، ولا تنتمي للهوية القومية أو الثقافية للكتلة المركزية السكانية للدولة، إذن لا بد من مواجهة نزاع قومي كهذا، بدلا من تجاهله لأكثر من قرن، ومحاولة حله عن طريق النزاعات المسلحة.

وما دمنا شهدنا إعادة تشكيل الدول وفق خرائط جديدة، تمنح بعض القوميات أو المجتمعات كياناتها المستقلة، كما حصل في جنوب السودان والبوسنة وقبلهما باكستان، وما دامت فكرة الاعتراف بالحكم الذاتي مطبقة داخل أكثر الدول الغربية حداثة، حيث حالة إيرلندا واسكتلندا وغيرهما، فإن استمرار بعض الدول بفرض سلطتها بالقوة ولعقود على مكونات وعرقيات متمايزة عنها، لن يعفيها من مواجهة استحقاقات استفحال النزاع، نحو الأسوأ مع مرور الزمن. وعندما نتحدث عن حالة المشرق العربي في سوريا والعراق ولبنان، فإنه من الواضح أن تشكيل الدولة الوطنية الحديثة لم يتم وفق واقع الانسجام بين مكونات المجتمعات في هذه المنطقة، ولا حتى اعتمد على أسس بناء الدولة الوطنية (القومية) الحديثة التي تتمايز بالغرب بقوميات ذات لغة وهوية تاريخية وعوامل اخرى جامعة، بينما اتخذت تعريفا هجينا في الشرق الاوسط..

معظم الدول الإقليمية ومعها الولايات المتحدة تعارض استفتاء استقلال كردستان العراق، لكن هذه الدول نفسها وبالذات إيران وتركيا وسوريا، عارضت لعقود أيضا منع إقامة حكم ذاتي للاكراد العراقيين، ومع ذلك تحقق لهم هذا الحكم الذاتي، وكذلك حاول نظام الاسد لعقود منع أكراد سوريا من مصير كردستان العراق، وهم الآن اكثر من استفاد من حرب سوريا الاهلية ليشكلوا أيضا كيانهم المستقل إداريا شمال البلاد، وفي تركيا فإن اربعين عاما من الحرب الدموية في جنوب شرق تركيا لم تثن معظم الاكراد عن مواصلة توقهم لتقرير مصيرهم القومي، بعيدا عن سلطة الدولة ذات الأغلبية القومية للاتراك، فالواقع الجلي إذن يقول إن طموحات الأكراد الانفصالية تتصاعد وقدرتهم على فرض واقعهم القومي تتزايد، مستغلين أحداث العراق وسوريا وإصرار قادتهم الصلب منذ عقود على تحقيق هذا الهدف، وعموما، فإن إعادة رسم الخريطة في المشرق ستشمل، عاجلا أم آجلا، كل الدول الهشة التي قامت في اعقاب مرحلة الاستعمار.

ما يجري في المنطقة، يذكرنا بأن مواصلة استخدام شعار الوحدة الوطنية لصهر الجميع قسرا باسم «الوطن» لم ولن ينتج سوى المزيد من الأوطان الموحدة قسريا، التي أثبتت الاحداث أن وحدتها الداخلية هشة، سرعان ما تنهار أمام أول تحد «وطني» جدي.

القدس العربي

 

 

 

هل ينجح بارزاني بإجراء استفتاء كردستان العراق؟

رأي القدس

قدّمت حكومات العراق وإيران وتركيا موقفاً موحّداً مناهضا لقرار سلطات حكومة أربيل الكردية بتنظيم استفتاء في المناطق التي تسيطر عليها يصوّت فيه السكان على استقلال كردستان. البيان الذي أصدرته حكومات البلدان الثلاثة قال إن الاستفتاء «لن يكون مفيدا للأكراد» واتفق على اتخاذ «إجراءات مضادة» ضد أربيل في حال مضت في قرارها، كما أنه طالب بـ«تضافر الجهود الدولية لإقناع حكومة إقليم كردستان بإلغاء الاستفتاء».

وفي الحقيقة فإن «الجهود الدولية» لم تنقطع باتجاه موحّد، فالموقف الأمريكي، وهو الأكثر أهميّة في تقرير مصير هذا الاستفتاء، اتجه أيضاً لإعلان أن الاستفتاء «غير ضروري» و«يعرّض العلاقات التجارية الإقليمية لكردستان والمساعدات الدولية للخطر»، وتبعه الموقف البريطاني الذي حث أربيل وبغداد على «التفاوض والحوار»، والفرنسي الذي طلب، عبر رئيسه إيمانويل ماكرون، الذي اتصل برئيس الإقليم مسعود بارزاني، تأجيل إجراء الاستفتاء.

في المقابل كانت هناك ثلاثة مواقف مميزة تجاه الاستفتاء، الأول جاء من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي كان واضحا، ليس في تأييده للاستفتاء فحسب بل كذلك في أن «يكون للشعب الكردي دولة»، وهو موقف نقله للكونغرس الأمريكي قائلا إن «من الضروري أن تكون للكرد في العراق دولة مستقلة، فهم شعب شجاع وبطل، كما أنهم أصدقاء للغرب وللقيم الغربية… وأصدقاء لنا».

الموقف الثاني كان من روسيا، اللاعب العالمي والإقليمي الكبير في المنطقة، وتم تلخيصه بقول لديمتري بيسكوف، السكرتير الصحافي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي قال إنه يدعم «وحدة أراضي دول المنطقة» لكنه «لا يريد إعلان قرار روسيا حول الاعتراف أو عدم الاعتراف بنتائج الاستفتاء المرتقب»، وهو ما يوحي أن روسيا لا تعارض الاستفتاء بالضرورة، وأن اعترافها بنتائجه يتعلّق عمليّاً بمواقف الدول المضادّة له، وحسابات موسكو الاستراتيجية في المنطقة.

أما الموقف الثالث فكان موقف المملكة العربية السعودية التي اتخذت موقف الوسيط بين بغداد وأربيل، غير أن وساطتها انتهت بالفشل، بعد التصعيد الإقليمي والدوليّ مما دعاها إلى مناشدة «حكمة وحنكة الرئيس مسعود بارزاني لعدم إجراء الاستفتاء».

غير أن رفض الاستفتاء لا يقتصر على حكومة العراق نفسه، وعلى حكومات الإقليم والقوى العالمية المؤثرة فحسب، فالقوى السياسية الكردية نفسها تتنازعها المصالح والأهواء والتأثيرات الإقليمية، ورغم أن الطرفين الحزبيين الكبيرين، حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (18 مقعدا في البرلمان العراقي)، وحركة التغيير (24 مقعداً)، توافقا، على مضض، مع الحزب الديمقراطي الكردستاني (38 مقعداً) على قبول إجراء الاستفتاء، فإن حزب العمال الكردستاني التركي، الذي يسيطر على سنجار وجبال قنديل في العراق، رفض، عبر أداته السياسية العراقية «حركة المجتمع الكردستاني» الاستفتاء، بل وقال إنه لن يسمح بإجرائه في المناطق الخاضعة لسيطرته في شمال العراق.

أما شركاء الوطن العراقيّون، فقد تناسوا خلافاتهم، حيث وجدنا القوى المعبّرة عن السنّة في البرلمان ترفض بدورها الاستفتاء، كما وجدنا مباراة بين الخصمين اللدودين، مقتدى الصدر ونوري المالكي، في تهديد وتحذير الأكراد، مع تفوّق ظاهر للمالكي، الذي اشتهر عهده بانعدام النزاهة والفساد المالي الكبير والطائفية، بقوله إنه «لا يريد إسرائيل أخرى في المنطقة».

صعّدت حكومة بغداد والدولتان المحيطتان بكردستان، إيران وتركيّا، لهجة تهديداتها، فأرسلت طهران جنرالها القويّ قاسم سليماني إلى كردستان العراق مجدداً، فيما حشّدت تركيّا قوّاتها على الحدود، والسباق يدور الآن بين العاطفة القوميّة التي تجتاح إقليم كردستان (من دون أن ننسى حسابات حكومة بارزاني مع حكومة بغداد حول ميزانية الإقليم ورواتب البيشمركه)، وحسابات الواقعية السياسية التي تهدّد أركان الدولة المرتقبة، فهل تتغلّب عواطف القوميّة الجامحة على تهديدات حكومات بغداد والإقليم؟

 

 

لكنْ من الذي يقسّم العراق؟/ وحيد عبد المجيد

لا يلقى استفتـــاء الأكراد قبولاً في المنطقة والعالم. الجميع تقريباً رفضوه. إيران وتركيا الأعلى صوتاً ضده في المنطقة. القوى الدولية الكبرى أجمعت على رفض إجرائه كل بطريقتها. تزعمت الولايات المتحدة، المتهمة دوما بأنها تتآمر لتقسيم العراق، حملة الرفض، وضغطت سعياً لإلغاء الاستفتاء. تطابق موقفها مع الذين يؤكدون في كل مناسبة، ومن دون مناسبة، أن تقسيم العراق هدف أميركي، وجزء من مؤامرة تستهدفنا.

لا يجيب رافضو الاستفتاء عن سؤالين محوريين: أولهما ما إذا كان العراق مُوّحداً حقاً. والثاني عن الوزن النسبي لكل من الواقع المُر المثقل بمآسي الماضي، والحلم التاريخي بإقامة دولة كردية مستقلة، في تفسير تفضيل معظم الأكراد انفصالاً تزيد مغارمه كثيراً عن منافعه.

السؤال الأول يبدو أسهل. العراق دولة واحدة رسمياً، ونظامها اتحادي «فيديرالي» دستورياً. لكن الواقع ينطق بأنه مُفكَّك جغرافياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، وأن العلاقة بين مركزه في بغداد وبعض أقاليمه تقترب من الصيغة التعاهدية (الكونفيدرالية) التي تتيح أوسع استقلال ذاتي، فيما يحظى إقليم كردستان باستقلال شبه كامل يتجاوز هذه الصيغة.

حضور السلطة المركزية في معظم الأقاليم بين متوسط وضعيف ومعدوم سياسياً واقتصادياً. الميليشيات المذهبية التي تسند قوتها العسكرية النظامية لا تساعد في دعم حضورها، بل تخلق ضغائن وأحقاداً تزيد هذه السلطة ضعفاً على المستويين السياسي والاجتماعي.

وبخلاف السؤال عما إذا كان العراق مُوحّداً، يبدو سؤال الوزن النسبي للواقع والحلم صعباً. يتعذر منهجياً قياس أثر الأحلام في الواقع، لكن معظم الحالات التي أُثير فيها جدل حول انفصال إقليم عن دولة، أو حدث فيها هذا الانفصال فعلياً، في العقود الثلاثة الأخيرة، تفيد بأن الإنسان يُفضل الحفاظ على واقع يشارك في تحديد معالمه، وإدارة شؤونه، ويتمتع فيه بحياة كريمة، حتى إذا كان لديه حلم أكبر.

ويدل بعض هذه التجارب على أن الغالبية لا تسير وراء حلم انفصالي ما دام الواقع مقبولاً، ولا تغامر بما لديها من أجل ما لا تملك يقيناً بأنه سيكون أفضل. ولذا رفضت الغالبية في كيبك الانفصال عن كندا مرتين في 1980 و1995، وكذلك فعلت الغالبية في اسكتلندا في استفتاء الانفصال عن المملكة المتحدة في 2014. والأرجح أن تكون نتيجة الاستفتاء على انفصال كاتالونيا عن إسبانيا مشابهة إذا أُجري في الموعد الذي تصر عليه حكومة الإقليم مطلع الشهر المقبل.

أما الحالات التي وافقت فيها غالبية سكان إقليم على الانفصال فهي التي كانت مرارة الواقع فيها أقوى من حلاوة أي حلم، سواء بسبب حرب أهلية طاحنة في السودان انتهت بانفصال جنوبه، أو بفعل تطهير عرقي شديد أدى إلى تأييد أكثر من 90 في المئة من سكان كوسوفا الانفصال عن صربيا في 1999، أو نتيجة تهميش واضطهاد دفعا الإريتريين إلى تمرد مسلح فرضوا في نهايته إجراء استفتاء وافق فيه أكثر من 95 في المئة على الانفصال عن إثيوبيا.

وفي كل هذه الحالات لا يتحمل الإقليم المنفصل المسؤولية الأولى عن الانفصال، بل السلطة المركزية بسياساتها وممارساتها. وحالة أكراد العراق ليست مختلفة. وما الاستفتاء الذي أصروا عليه، وهم يعلمون أنهم لن يتمكنوا من الانفصال فعلياً في المدى المنظور، إلا نتيجة لمقدمات طويلة قادت إليه.

لم يأت هذا الاستفتاء من فراغ. وليس إصرار الأكراد على إجرائه إلا هرباً من واقع يؤلمهم، وسعياً إلى تضميد جروح أصابتهم عقوداً طويلة.

ولذا، وعلى رغم أنه يصعب منهجياً قياس الوزن النسبي لواقع الأكراد وحلمهم، ثمة ملاحظتان تفيدان في إجراء هذا القياس تقريبياً. الأولى أن الأحلام القومية ليست خالدة، أو مستعصية على الزمن، ولا هي مصبوبة في قوالب جامدة يستحيل الخروج منها مهما تقادمت وفعل الزمن فعله فيها. والثانية أنه ليس صعباً قياس مدى قوة أثر الواقع عبر طرح السؤال التالي: هل تفضّل جماعة إثنية ما تعاني قهراً وتمييزاً، الانفصال إذا توافرت لها الفرصة في غياب حلم إقامة دولة مستقلة؟

الجواب نعم، ليس لأن هذا رد فعل طبيعي فقط، ولكن لأن الحالات التي انفصلت فيها أقاليم لم تكن لديها أحلام قومية تؤكده. الواقع، إذاً، أكثر إنباءً بدوافع الانفصال مقارنة بأي حلم. وهذه حال أكراد العراق الذين يفضل أكثرهم الانفصال بفعل المرارات التي تراكمت منذ بدأت تجربتهم مع حزب البعث. كانت تجربتهم تلك أكثر مرارة من تجربة أحد أبرز قادة الحزب (منيف الرزاز) معه، والتي سجلها في كتابه «التجربة المُرة» (1966).

منح البعث الأكراد حكماً ذاتياً في بداية حكمه (1970) لكي يتفرغ لاستئصال المعارضة في بقية أنحاء البلاد، ثم انقض عليهم عندما فرغ من غيرهم، واستخدم ما في جعبته لفرض هيمنته عليهم، بما فيها الإبادة العرقية في حملة الأنفال، والغازات السامة في مذبحة حلبجة، في 1988.

وفيما أتاح فرض حظر جوي فوق إقليم كردستان، عقب حرب تحرير الكويت، حماية للأكراد من طغيان سلطة باطشة، فإنه كرَّس الشعور في أوساطهم بأن انفصالهم خير من بقائهم في كيان يفتقدون فيه المساواة والكرامة والحرية والعدل.

وبعدما أعاد إسقاط نظام صدام حسين إليهم الأمل بإمكان بناء دولة يتوافر لهم فيها ما افتقدوه، تعذر تحقيق مصالحة تاريخية بعد انفلات التطرف المذهبي والسياسي من عقاله.

وهذا هو السياق الذي يصح أن نقرأ فيه دلالة الاستفتاء. قد لا يكون هذا هو الوقت المناسب لإجرائه. وربما أرادت قيادة إقليم كردستان الهروب إلى الأمام وتغطية أزمة في داخل الإقليم بدل السعي إلى حلها. غير أن الأكراد ليسوا هم من يقسّمون العراق، بل القابضون على السلطة في بغداد حين يُبدّدون فرصة قد تكون أخيرة لتوحيده عبر معالجة اختلالات هائلة أدت إلى انفصال شعوري بين فئاته الاجتماعية، وفي داخل معظم هذه الفئات، وليس عن طريق تنظيم الحملات لإدانة استفتاء يُعد أحد تداعيات تلك الاختلالات.

ثمة فرصة أخيرة، والطريق إلى الإمساك بها معروفة لمن يرغب. إنها طريق بناء دولة وطنية تقوم على المواطنة الحقة، ويكون العراقيون جميعهم مواطنين أحراراً فيها.

الحياة

 

 

 

الاستفتاء الكردي غداً: المنطقة أمام خيارات مفتوحة/ أكثم سيف الدين

دخلت شوارع إقليم كردستان العراق مرحلة الصمت الدعائي للاستفتاء المقرر يوم غد الإثنين، بانتشار عسكري وأمني واسع غير مسبوق، لأكثر من 100 ألف عنصر من “البشمركة” و”الأسايش” (أمن كردستان)، بمشاركة متطوعين مسلحين وأعضاء من الأحزاب المؤيدة للانفصال، في ظل مخاوف حقيقية من اشتباكات ومواجهات في المناطق المتنازع عليها بين العرب والتركمان من جهة، وقوات “البشمركة” من جهة أخرى. ووسط استعدادات الإقليم، التقى رئيس الأركان العامة التركي خلوصي أكار، أمس السبت، نظيره العراقي عثمان الغانمي في العاصمة أنقرة، وتباحثا، وفقاً لوكالة “الأناضول”، بما وصفاه “التدابير التي ستُتخذ من أجل حماية وحدة التراب العراقي، والمكافحة المشتركة للإرهاب”. مع العلم أنه تمّ تداول أنباء عن مقاطعة حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” الاستفتاء في كركوك. وظهرت أجواء أقرب إلى الحرب الحقيقية في البرلمان التركي، أمس السبت، لدى مناقشة تمديد مذكرة التدخل العسكري في كل من سورية والعراق.

ووفقاً لمفوضية الاستفتاء الخاصة بالإقليم، فقد تم تجهيز 12 ألف صندوق اقتراع، موزعة على ألفي مركز اقتراع في محافظات الإقليم الأربع، أربيل ودهوك والسليمانية وحلبجة، فضلاً عن المدن والمناطق المتنازع عليها مثل كركوك وسهل نينوى ومخمور وسنجار ومندلي وخانقين وكلار وبلدات أخرى ذات خليط عربي تركماني كردي وآشوري. وتُفتح صناديق الاقتراع عند الساعة 7 صباحاً، وتُقفل عند الساعة 5 مساءً. ويحقّ لـ5.2 ملايين شخص الاقتراع، علماً أن إقليم كردستان يضمّ 3.5 ملايين نسمة، إلّا أنّ شمول المناطق المتنازع عليها زاد من عدد الناخبين، في سهل نينوى شمالي الموصل، والتي يبلغ عدد سكانها 750 ألف نسمة من العرب. كذلك سُجّل غياب الأمم المتحدة وكل منظمة غربية في مراقبة عملية الاقتراع، رغم توجيه حكومة الإقليم دعوات رسمية لها، إلّا أنّ 10 منظمات يمينية في فرنسا وألمانيا وبلجيكا، فضلاً عن منظمة إسرائيلية مشاركة في العملية، حسبما أكدت مصادر خاصة من داخل مفوضية الانتخابات لـ”العربي الجديد”، فيما منحت حكومة الإقليم ترخيصاً مفتوحاً لجميع وسائل الإعلام الأجنبية والعربية لتغطية عملية الاقتراع.

وانتشرت قوات كردية مدججة بالسلاح في المناطق المتنازع عليها، ووزّعت منشورات محذّرة من أن “أي إخلال بالأمن في يوم الاقتراع سيتم التعامل معه بحزم”، في وسيلة اعتبرت ترهيباً للسكان، وسط مخاوف من توترات أمنية في مناطق عدة على تخوم الإقليم.

بدوره، أكد مسؤول سياسي رفيع في بغداد، لـ”العربي الجديد”، أنّ “رئيس الحكومة حيدر العبادي عقد اجتماعات مع المسؤولين الحكوميين والسلطة القضائية والقادة العسكريين لبحث آخر تطورات الاستفتاء”، مبيناً أنّه “درس احتمالات المرحلة المقبلة، والتي تعد من أخطر المراحل التي تمر بها البلاد”.

وأوضح المسؤول أنّ “الخيار العسكري مطروح على طاولة مباحثات العبادي، إذ إنّ رئيس الإقليم بإصراره على رأيه ضرب هيبة الدولة العراقية، واستطاع من خلال ذلك أن يخرج من سلطة الدولة العراقية ويتمرّد عليها وعلى قرارات المحكمة الاتحادية، الأمر الذي يفتح الباب أمام صراع جديد في البلاد”.

وأكد أنّ “زيارة الوفد الكردي لبغداد لن تغير أي شيء بشأن الاستفتاء، إذ إنّ الزيارة متأخرة جداً، ولا فائدة منها، والوقت لا يتسع لأي اتفاق جديد يغير من شأن الاستفتاء”. وأشار المصدر إلى أنّ “العبادي وجّه بتحريك قطعات عسكرية نحو كركوك، ونحو الحويجة التابعة لها، وأنّ تلك القطعات وأعدادها الكبيرة تشي بنية عسكرية غير مبيتة، الأمر الذي يجعل من الخيار العسكري خياراً غير مستبعد في هذه المرحلة، وهو من أصعب الخيارات، والذي ستكون له تداعيات وخيمة على البلاد في حال أجبرت بغداد عليه”.

وعدّ مسؤولون عرب عن محافظة كركوك نتائج الاستفتاء، بمثابة “إعلان حرب”، وقال النائب عن المحافظة محمد تميم، في بيان صحافي، “سنتعامل مع نتائج الاستفتاء في كركوك على أنّه احتلال وإعلان حرب”. ومما زاد من احتمالات المواجهة العسكرية في كركوك وفي المناطق المتنازع عليها، هو وجود مليشيات “الحشد الشعبي” في بعضها وعلى مقربة من أخرى، إذ إنّ أغلب فصائل المليشيات حرّكت قواتها نحو كركوك ومندلي وخانقين وبدرة وسنجار وسهل نينوى والبعاج والطوز وغيرها من المناطق المتنازع عليها الأخرى.

وأعلنت مليشيا “العباس”، وهي جزء من “الحشد”، في بيان لها، عن “استدعاء ألفي مقاتل من عناصرها الاحتياطيين إلى كركوك”، فارتفع عدد مقاتليها في المحافظة إلى 3500 مقاتل، منضمة إلى فصائل الحشد الأخرى، وهي أرقام كبيرة جدا قياسا بمعركة الحويجة وهي بلدة صغيرة. بالتالي اعتبر مراقبون أن الخطوات العسكرية هذه “مؤشر إلى إمكانية دخول بغداد وأربيل مرحلة صدام عسكري في كركوك والمناطق المتنازع عليها”.

في هذا السياق، رأى الخبير السياسي أحمد عبد الرحيم، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أنّ “إصرار (رئيس الإقليم مسعود) البرزاني على إجراء الاستفتاء وضع البلاد أمام خيارات صعبة للغاية”، مبيناً أنّه “على الرغم من أنّ الموقف القانوني بالنسبة لبغداد واضح، وهي تستند إلى القانون وقرارات السلطة القضائية برفض الاستفتاء، إلّا أنّ الخيار العسكري خيار محتمل جدّاً”.

وأضاف أنّ “هناك تحاملاً من بين القوات الكردية ومليشيات الحشد، والتي لا يمكن السيطرة عليها، الأمر الذي يفتح باب الصدام على مصراعيه في المناطق المتنازع عليها، ومنها كركوك”، مشيراً إلى أنّ “الخيار العسكري لا يصب بصالح البلاد، وأنّه سيدخلها في مرحلة خطيرة جدّاً لا تقل خطورة عن مرحلة داعش”.

ولفت عبد الرحيم إلى أنّ “البرزاني لن يتراجع عن الاستفتاء، وأنّ توجهه هو توجه الشخص الذي لا يمتلك شيئاً يخسره، ويحاول كسب الشعب الكردي من خلال هذا التوجه الخطير، والذي يحظى بتأييد الشعب الكردي”. وضمن الخطوات السياسية، أصدر وزير الخارجية العراقي، إبراهيم الجعفري قراراً بـ”إيقاف مهام أي سفير عراقي كردي يشارك باستفتاء الإقليم، وتكليف الشخص الثاني بالسفارة بالقيام بمهامه رسمياً”.

في الوقت عينه، دعا قادة التحالف الوطني الحاكم في البلاد، رئيس الحكومة إلى “اتخاذ قرار يجمّد كل المواقع القيادية الكردية الداعمة للاستفتاء”. وقال النائب عن التحالف، صادق اللبان، في بيان صحافي: “أدعو العبادي والحكومة العراقية ورئيس البرلمان ورئيس الجمهورية إلى تجميد المواقع القيادية التي يشغلها الأكراد الذين لم يرفضوا الاستفتاء”. وأضاف أنّ “التزام المسؤولين الأكراد جانب الصمت إزاء الاستفتاء يعد تواطؤاً أو موقفاً خجولاً، ويتحتم علينا حماية حقوقنا وسيادتنا”. كذلك أطلقت تركيا تحذيراً وصفته بـ”الأخير” لإقليم كردستان من مغبة إجراء الاستفتاء، وقال المتحدث باسم الحكومة التركية، بكر بوزداغ، إنّ “تركيا تدعو إقليم كردستان للمرة الأخيرة، لإلغاء الاستفتاء”، مؤكداً أنّ “الاستفتاء يهدّد أمن تركيا القومي بشكل مباشر”.

ولم تكن الأجواء في تركيا بعيدة عما يشبه إعلان الحرب، أكان في التصريحات السياسية أو في الإجراءات الحدودية. وقد رفعت الأركان التركية من مستوى المناورات التي بدأها الجيش التركي على الحدود العراقية، في منطقة سيلوبي التابعة لولاية شرناق، والتي تواجه منطقة زاخو في إقليم شمال العراق. وقال رئيس الحكومة بن علي يلدريم، رداً على سؤال عما إذا كان القيام بعملية عسكرية أحد الخيارات المطروحة على الطاولة التركية، إن “هذا طبيعي للغاية، الخيارات الأمنية والاقتصادية والسياسية موجودة، لكن أي منها سيدخل حيز التنفيذ؟ هذه مسألة توقيت، سيحددها تطور الظروف”. ووصلت حدة الكلام التركي إلى مستوى قول يلدريم: “حذرنا البرزاني، ولكنه لا يفهم الكلام، نستطيع تحدث اللغة التي يفهمها”. كما حمل كل من بيان مجلس الأمن القومي التركي وتصريحات المتحدث باسم رئاسة الوزراء التركية، بكير بوزداغ، إشارات متعددة إلى عدد من الاتفاقيات التي وقع عليها كل من العراق وتركيا منذ نهاية الحرب العالمية الاولى، والتي توضح الحدود المشتركة بين البلدين، وتضبط آلية التعاون ضد أي تمرد في جانبي الحدود.

وفي رده على كون القيام بعملية عسكرية على الجانب الاخر أحد الخيارات المطروحة على الطاولة، قال يلدرم:” إن هذا طبيعي للغاية،الخيارات الأمنية والاقتصادية والسياسية موجودة، لكن أي منها سيدخل حيز التنفيذهي مسألة توقيت، سيحددها تطور الظروف”.

العربي الجديد

 

 

 

الاكراد عندما يساومون/ ساطع نور الدين

هي في جوهرها مشكلة داخلية عراقية، موروثة منذ عقود، قبل ان تكون معضلة عربية حرجة جدا، او قضية تركية وإيرانية بالغة الحساسية، أو مسألة دولية فائقة التعقيد. في بغداد خلل في السلطة المركزية ومؤسساتها، وإضطراب  في العلاقة بين  الأعراق والطوائف والمذاهب. .يعبر عنه الكرد بطريقة واقعية، جديرة بالملاحظة.

ليس الطلاق الكردي المنشود اليوم، طارئاً على تاريخ العراق أو الاقليم. لكنه هذه المرة الاقل جدية، بخلاف المرات العديدة السابقة التي لامست حد إعلان الاستقلال. الان يبدو الاستفتاء وكأنه مجرد ورقة للتفاوض مع بغداد، ولإستدراج عرض أفضل من الحكام الشيعة.  وهو ما يجرد فكرة الانفصال، من مبدئيتها، وتاريخيتها، كما يفرغ الكلام السائد عن تقسيم العراق وعن سايكس بيكو جديد للمشرق العربي من محتواه. ويحيل الجميع الى الاستنتاج الآتي: إذا كانت واحدة من أهم طموحات وتجارب إنفصال الاقليات العربية ، قد بلغت هذا الحد من المساومة-(المشروعة)، مع الحكومة المركزية ، لن يكون مستقبل لأي أقلية أخرى تعيش في العالم العربي ( أو حتى في تركيا وإيران) في طلب الاستقلال.

حماسة الكرد الحالية للاستفتاء في كردستان العراق، هي أشبه ما تكون بتواصل  مع التراث والفولكور، يعبر عن الضيق من حكومة بغداد الشيعية، لكنه أيضاً يعبىء الكرد خلف قيادة مسعود البرزاني المتآكلة التي لم يبق لها سوى اللعب على عواطف الجمهور الكردي العراقي وعلى إنتمائه الحقيقي الى ذلك الحلم القديم المبني على ظلم قديم، لحق بالاقلية الكردية، وما زال.

ليس الاستفتاء عملية إنتحارية. هو اقرب ما يكون الى مهرجان سياسي يرتفع فيه الخطاب فوق الواقع، بل وحتى فوق العاطفة، لكنه يترك صدى مباشراً في بغداد. يستفز الحكومة ، يدعوها الى التفاوض، الى التفاهم، من موقع القوة الذي يمثله ذلك الحلم، ومن موقع التضحية التي يمثله التعايش والتفاهم مع سلطة عراقية مركزية، تزداد هشاشة يوما بعد يوم، وتمضي في عصبيتها المذهبية الى حد إعتبار ان النصر الوشيك الذي تحقق بمساعدة أكثر من ثلاثين دولة على داعش، فرصة لنيل المزيد من الامتيازات ولفرض المزيد من التنازلات على الكرد وعلى السنة.

حتى اللحظة، لم يسفر التلويح الاستفتاء ، وفتح صناديق الاقتراع، عن عرض أفضل من بغداد. والاسوأ من ذلك أن الدول المعنية لم تنجح في إقناع حكام العراق بإغواء الكرد وإستعادتهم الى حضن الوطن..مع ان الثمن المطلوب بسيط جداً ، ومنصوص عليه في الدستور العراقي وفي القوانين والمراسيم التي وضعت طوال السنوات ال12 الماضية ولم تطبق حتى الآن.

المشكلة في جوهرها الداخلي قابلة للتسوية بسهولة. والاستعداد للتخلي عن الاستفتاء الكردي كان ولا يزال ممكنا.. كما ان الاستعداد لنسيان مفاعيله ما زال متاحا. الصعوبة تكمن في أن إعلان النوايا الكردي، أساء فهم التوتر الحالي بين الاميركيين وبين كل من بغداد وأنقرة وطهران.. وربما أيضا أساء تقدير التشجيع الإسرائيلي، والتسامح السعودي والاماراتي ، بل وربما العربي عموما، مع تلك المخاطرة بما تبقى من وحدة وطنية عراقية، ليس لها أثر الا في الخرائط القديمة.

وما تضخيم الخطر  الراهن من الاستفتاء الكردي، سوى محاولة لتمويه الفراغ الذي تعيشه بغداد، ومعها دمشق طبعا، ولصرف الانظار عن التحدي الذي يواجهه الاتراك والايرانيون في التعامل مع مشكلات العراق وسوريا، وإضطراباتهما المتزايدة.. ولحرف الانتباه عن حقيقة مهمة هي ان أميركا التي تتخبط في المشرق العربي وفي العالم كله، مسؤولة بشكل رئيسي ومنذ بدء حربها  الانتقامية على تنظيم القاعدة، وحملتها العسكرية العشوائية على العالمين العربي والاسلامي، عن تلك المعضلة العراقية المتجددة.

ليس التهديد الكردي بالانفصال عن العراق ، والذي جوبه بإجماع دولي قل نظيره، أكبر من التهديد الذي تواجهه الدولة الوطنية العراقية والسورية واللبنانية..والذي تتعرض له الفكرة العربية نتيجة مقاربتها السيئة لكل أقلية ولأي إختلاف أو إجتهاد.

المدن

 

 

من الذي ورط مسعود؟/ إبراهيم الزبيدي

يبدو أن مسعود البارزاني ملَّ وتعب، ولم يعد له إيمان ولا حاجة ولا ضرورة للعودة إلى حكومة بغداد لعقد المزيد من الاتفاقات التي لن يختلف مصيرها عن مصير الاتفاقات والتحالفات السابقة التي عقدها، هو نفسُه، سواء منها العلني والسري، مع أحزاب الدين السياسي الشيعي الإيراني، وآخرها اتفاقه السري مع نوري المالكي في أربيل 2010، حين تفضل عليه بدورة رئاسية ثانية كسرت ظهر الدولة العراقية لعشرات قادمة من السنين ثم قلب عليه المجنّ، وعض اليد التي أحسنت إليه.

وكانت أحزاب إيران العراقية وأحزاب الجبهة الكردستانية تحالفت وتقاسمت المعارضة العراقية السابقة، ليس من أول أيام الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، بل من أيام الحرب العراقية الإيرانية التي قاتل فيها “المتحالفون” جميعهم، كتفا بكتف، ورصاصة برصاصة، مع الجيش الإيراني، وتعاونوا على قتل الضباط والجنود العراقيين الذين كانوا يدافعون عن وطن لا يريدون له أن يصبح مستعمرة فارسية من جديد، لا عن نظام صدام حسين، ولا عن أيّ شيء آخر.

بعبارة أخرى إن حزب الدعوة ومجلس الحكيم والحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، بشكل خاص، كانت الأطراف الأربعة الأقوى المتفاهمة والمنسجمة والمتقاسمة والمحتكرة للعمل السياسي العراقي المعارض، خصوصا في أمور المال والقيادة والسلاح وعمليات التهريب وتفجير الأزمات في الشارع العراقي وبيع المعلومات العراقية الحساسة لإيران وأميركا وروسيا وتركيا وقطر والسعودية ولكلّ من يريدها.

مع ذلك ظل المتحالفون منذ ثمانينات القرن العشرين يخادع بعضهم بعضا ويخون بعضهم بعضا ويسرق بعضهم بعضا ويشي بعضهم ببعض، هذا لدى إيران وذاك لدى أميركا وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل، ولكنهم كانوا جميعا مأمورين بالمحافظة على شعرة معاوية، والتباوس والتمادح أمام عدسات الصحافيين.

واللاعب الكبير الحازم والحاسم في العراق “الإيراني” وفي إقليم كردستان، منذ أيام الحظر الجوي في أعقاب “انتفاضة آذار”، كما نسميها نحن، و”الانتفاضة الشعبانية” كما يسمّيها أنصار إيران، هما اثنان، قاسم سليماني والممسك بالملف العراقي في واشنطن، جوزيف بايدن نائب أوباما.

رأس مثقلة بأحلام الاستقلال

وكان بقاء مسعود البارزاني وجلال الطالباني داخل خيمة الحكومة المركزية “الدينية الإيرانية”، وفقا لتسمية مسعود، من أول أيام الغزو الأميركي وإلى ما قبل أسابيع، انصياعا لأمر من يرتدي ثوب النصيحة من جو بايدن، من جهة، ورضوخا اضطراريا لإرادة سفارة الولي الفقيه وسفارة أردوغان في بغداد.

وحين نغوص أكثر في أعماق الغاية التي أرادتها أميركا وإيران من وراء الحفاظ على الانسجام الظاهري بين عرب إيران وأميركا من جهة، وأكراد إيران وأميركا من جهة ثانية نجد أن الحاجة كانت أمّ الاختراع. فأميركا لا تريد للوضع الداخلي العراقي أن يتردى أكثر ويتشرذم ويتقسم فتفشل في تحقيق أهدافها البعيدة المقررة في العراق والمنطقة. وإيران تعرف ذلك ولكنها لا تريد مناطحة أميركا في هذه المرحلة على الأقل.

وهذا ما تَطلب، أميركيا، تبريد جبهة العراك السياسي والمالي والأمني والإعلامي بين أربيل وبغداد، في انتظار ما سيكون عليه الحال بعد إنهاء الوجود العسكري لداعش في العراق ووضوح مصير الوضع السوري. ولكنْ لإسرائيل، وخاصة للصقور من حكامها، خطط مغايرة وأهداف مختلفة لا تتطابق مع مصالح أميركا في المنطقة.

وليس مجهولا أنها تتمنى وتتشهى تفتيت العراق أولا، وتحقيق قيام دويلات أخرى في سوريا وتركيا وإيران. وهي لن تجد أسهل وأفضل من القادة الأكراد، حاليا، لتحقيق ذلك، جماعة العائلة البارزانية في العراق وقوات سوريا الديمقراطية المؤلفة في غالبها من وحدات حماية الشعب، وهي ذاتها قوات حزب العمال الكردستاني ومقاتلو حزب كومله الكردي الإيراني الذين يتخذون في كردستان العراق قواعد تدريب وتنظيم صفوف بعد أن عادوا للتمرد ضد طهران.

وبالرغم من أن إسرائيل تعلم أن تحقيق انفصال الإقليم عن الدولة العراقية وتأسيس دول كردية مستقلة أخرى لن يحدث بسهولة، وقد يستغرق سنوات من المناوشات والمشاكسات والعراك، فإن هذا هو المطلوب.

ويذكرنا مصدر مطلع من داخل المنطقة الخضراء بأن بايدن كان قد أوهم مسعود البارزاني، منذ سنوات، بمشروع تأسيس الإقليم السني برئاسة أسامة النجيفي وبدفعه إلى الانضمام لدولة كردستان في مرحلة لاحقة وأمره بالتريث والانتظار. وها هم عرب أربيل السنة يروّجون لفكرة الاشتراك في الاستفتاء، وينادون بضم المناطق السنية العربية العراقية إلى مملكة الأسرة البارزانية نكاية بحزب الدعوة والحشد الشعبي وإيران.

بالمقابل يقول المصدر إن إيران عملت على تبريد حروب نوري المالكي المزعجة مع خليفته حيدر العبادي المرضيِّ عنه أميركيا، والقادر الوحيد على تهدئة الحرب المستترة بينها وبين ترامب في العراق. فهو أولا وأخيرا يظل ابنها الذي لا تشك بولائه أبدا مهما اقترب من أميركا ومهما قيل عنه غيرَ ذلك.

وبهذا يصبح أيُّ دعم يحصل عليه من أميركا المحتاجة إليه في الوقت الراهن دعما يصبُّ في النهاية في خدمة الحكم الذي تريد إيران الحفاظ عليه في بغداد. وما يؤكد صحة معلومات المصدر المطلع في المنطقة الخضراء أن وزارة الخارجية الأميركية ترفض بشدة استفتاء كردستان وتجدد حرصها على مساندة حكومة المنطقة الخضراء المحاصرة بالكثير من العواصف والزلازل، ولا تريد أن تضيف إلى كل ذلك عاصفة إسرائيلية أخرى تهب عليها من شمال العراق.

وما عناد مسعود البارزاني ورفضه بشدة جميع النداءات والمطالب، وبالأخص أوامر إدارة ترامب، إلا نتيجة لوعود حصل عليها من قوة خفية قادرة على لجم الإدارة الأميركية، وعلى جعل نارها بردا وسلاما عليه.

كاتب عراقي

العرب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى