صفحات سوريةعمر قدور

الانتفاضة السورية تبحث عن جمالياتها


عمر قدور

عندما بدأ السوريون انتفاضتهم كان الشعار المتفق عليه هو كلمة “حرية”، حتى شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” لم يكن قد بدأ تداوله على نطاق واسع. الحرية التي لم يختبرها السوريون، والتي ظلت وفق القاموس البعثي هدفاً بعيد المنال، صارت مطلباً راهناً ملحاً يختزن عقود القهر والاستبداد بصرف النظر عما ستكون عليه حريتهم. وربما، إلى الآن، ما تزال الحرية تعني بالنسبة إلى البعض كل ما هو مضاد لسيئات النظام القائم، دون أن تكتسب إرثها الذي يتراكم باستمرار ويعيد تعريفها باستمرار أيضاً.

لكن الحرية بدأت فعلاً، لم تعد مطلباً وحسب، صار لها رموزها المعروفة خارج الحدود من طفولة حمزة الخطيب المهدورة إلى حنجرة ابراهيم القاشوش المرمية في نهر العاصي وصولاً إلى أصابع الفنان علي فرزات التي حاول الشبيحة كسرها. مع ذلك ليست العبرة فقط في الأيقونات التي صنعتها الانتفاضة؛ هي في مجمل التفاصيل التي لولاها لبقيت الشعارات هدفاً، ولم تتحول إلى رصيد يكبر مع الوقت. الانتفاضة تنتشر، وتنتشر معها روح الانتفاضة، فلا يتوقف الأمر عند جموع جديدة تنضم إلى المظاهرات لأن من يخرج إلى التظاهر لا ينظر إلى نفسه بوصفه رقماً؛ هو يختبر ذاته أولاً، ويختبر قدرته على التشارك مع الآخر تالياً. من هذا التعبير العفوي والحقيقي عن الذات بدأت الحرية، رأى السوري في نفسه ما لم يكن يعرفه من قبل، أو ما لم يكن مسموحاً له باكتشافه. الفنان المعروف فارس الحلو قال، إثر مشاركته في مظاهرة، إنه لأول مرة يسمع صوته على هذا النحو، ومعلوم كم هي وثيقة علاقة الممثل بصوته.

من المؤسف أن صور القتل والتعذيب قد طغت على ما عداها، وبالتأكيد لقد أرهقت هذه الصور وجدان السوريين لكنهم رغم ذلك حافظوا على قناعتهم بأن مواجهة النظام هي مواجهة شاملة ومتكاملة، وفي حين لم يمتلك الأخير سوى الوجه البشع للقمع اغتنت الانتفاضة سريعاً بروح الإبداع التي فجرها الإحساس بالحرية. لقد تبين على نحو حاسم أن النظام الذي حكم لعقود طويلة لم يعد يليق بالسوريين، ولم يعد الأمر متوقفاً على الممارسات القمعية له، ما انكشف هو رثاثة النظام وفقدانه أية مخيلة، وعجزه حتى عن حبك الأكاذيب ببراعة. إن نظاماً يقدم لشعبه مادة يومية للسخرية لا يملك فرصة جدية في الحكم مهما امتلك من أدوات القمع؛ بالمعنى العميق للكلمة هو نظام مبتذل ثقافياً وفكرياً، وكلما طال بقاؤه افتُضح البؤس الذي يعاني منه بالمقارنة مع الشعب.

لو قرر السوريون جمع الطرائف والنكات التي ألّفوها عن النظام خلال أشهر الانتفاضة لضحكوا زمناً طويلاً، لم يُشتهر السوري من قبل بأنه صاحب نكتة أو سخرية، بالأحرى لم يُتح له اختبار هذا الجانب من شخصيته إذ طالما عاش تحت رطانة الإنشاء والشعارات البليدة. الآن تزدهر السخرية لا لأنها فعل مقاومة وحسب، بل لأنها أيضاً فعل تطهيري، لأنها تكنس من الذات ما تراكم فيها من لغة عقيمة. بالسخرية يصوغ السوريون واحداً من أهم جماليات الانتفاضة، ويبتدعون لغة جديدة تنأى بنفسها حتى عما هو معهود من لغة الثقافة، فـ”ثقافة الانتفاضة” لا تحتمل الشرح المطوّل والإنشاء. الأمر هنا لا يقتصر على المقارنة ببؤس الحكم، بل يتعداه إلى نمط من المثقفين سيجد نفسه باطراد خارج اللغة الجديدة.

“أفرِجوا عن سبيكرات عرنوس”؛ هذا النداء هو الجزء الثاني من الاستهزاء بالنظام الأمني، القصة بدأت عندما انطلقت فجأة في ساحة عرنوس أغنية ابراهيم القاشوش بصوته، الساحة في وسط دمشق ومحروسة دائماً برجال الأمن والشبيحة الذين هرعوا لمعرفة مصدر الصوت في وقت الازدحام. أحد ما وضع السبيكرات ومضى، نجح رجال الأمن في اعتقال أجهزة الصوت بعد تكرار الأغنية، وبعد أن صاروا مثار سخرية للمارة. هذه الحادثة نموذج لما يقترحه شباب الانتفاضة من أفكار جديدة، وإذا أدت الضرورة أحياناً إلى الابتكار فهذا لا ينقص من شأنها وإنما يدل على قدرة العقل على التحدي. في الواقع ليس هذا بالنموذج الفريد لأن المظاهرات باتت تزدان بشعارات جديدة كل يوم، “جاري البحث عن نظام جديد حصرياً خلال شهر رمضان: تشاهدون عندنا مسلسل سقوط النظام”؛ هذا بعض من لافتات تخرج عن مألوف الشعارات، وإذا أعادت أغنية القاشوش إنتاج ما يعرف بـ”العراضة” الشامية على نحو جديد، فإن شباناً آخرين اكتشفوا قرابة بين “العراضة” وموسيقى الراب فأُنتِجت أكثر من أغنية تمزج بينهما.

العالم الافتراضي للانتفاضة يحتاج وقفة منفصلة لأن عدد المواقع والصفحات على الفيس بوك وتنوع اهتماماتها أكبر من أن يُختزل بأمثلة قليلة، وما ينطبق على العالم الافتراضي ينطبق على مجمل جماليات الانتفاضة، إذ ربما ما يزال الوقت مبكراً لتحريها على نحو وافٍ. لكن من المهم أن نتوقف عند هذا الجانب، وهو يستوقف الكثيرين حقاً، فالجماليات هنا ليست ترفاً ثقافياً يمارسه السوريون بقدر ما هي تعبير عفوي وأصيل عن الحرية التي أشرقت في دواخلهم، وبينما يبقى النظام أسير الكليشيهات التي توارثها خلال عقود من عقود من ثباته وسباته بدأ الشباب رحلة إسقاطه بأدوات يعجز عن مجاراتها.

ليس من حسن حظ السوريين أن تطول معاناتهم ويزداد عدد ضحاياهم، مع ذلك استطاعوا استثمار هذه الأشهر العصيبة في اقتراح صورة جديدة لهم، صورة لم تكن ممكنة قبل اكتشافهم لذواتهم المقموعة. إن نظاماً كاملاً يبدأ رحلة السقوط، ويزداد عدد الذين يؤمنون بضرورة التخلص من ثقافة النظام لا من مستواه السياسي فقط، لذا تبدو جماليات الانتفاضة فعلاً تأسيسياً لا يكتفي بمواكبة اللحظة الراهنة، بل يطمح إلى فتح الباب أمام ثقافة أكثر انطلاقاً وحرية. ما يُنجز اليوم، فضلاً عن أهميته الراهنة، يؤشر إلى رغبة عميقة في التخلص من كل إحاطة وشمولية، وربما يكون بمثابة إنذار بأن أي نظام لن يعتقل مخيلة السوريين بعد الآن

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى