صفحات مميزةغازي دحمان

استحالة الثورة السلمية في سوريا: ثورات الشعوب على شاكلة حكامها/ غازي دحمان

لم يحصل في التاريخ أن حدثت ثورة سلمية في مواجهة نظام يقوم على منظومة قهرية تسلطية، ويعمل على تصريف تسلطيته على تنويعة واسعة من آليات التطويع والإخضاع. هنا الثورة إما أن تكون بحجم وموازاة صلابة آلة القهر، أو لا تكون ثورة من أساسه. والعكس صحيح، إذ لم يحصل أن حدثت ثورة مسلحة بمواجهة نظام سياسي يقوم على آليات حكم قادرة على استيعاب الجزء الأكبر من تطلعات ومطالب المحكومين. فلا منطقية هنا للعنف، ولا سياقات مكتملة ولا بيئة حاضنة للعنف ممكن أن تتشكل.

في التجربة التاريخية، كانت الثورات دائما، محاولات لموازنة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتحصل في الغالب، عند وصول تلك العلاقة إلى نقطة تعاظم حالة الاختلال، ووصولها إلى مدى لم يعد ممكنا معه استمرار هذا النمط من العلاقة، وبخاصة بعد أن تلجأ الجهة الحاكمة إلى إلغاء كل ممكنات الحياة الطبيعية، بعناصرها المختلفة، الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، والسيطرة على المجال العام والاستحواذ عليه، والتحكم بالموارد العامة واحتكار عملية توزيعها، وظهور الفوارق الاجتماعية بدرجة كبيرة، وتعميم الفساد ووصوله إلى حد الفجور والاستعراض من قبل الجهة الحاكمة، فيما تقذف الحياة على الجهة المقابلة يوميا مهمشين ومقصيين ومحرومين، لم يعد بإمكانهم مواصلة حياتهم بشكل طبيعي.

كانت سوريا بيئة مثالية للثورة، صدف أن اجتمعت فيها كل مكونات صناعة الثورة. عمليات القهر كانت قد بلغت حد الترف، لدرجة صارت أجهزة النظام تتفنن في ابتداع أشكال له، بل وصارت تفتخر بتجربتها وتسعى إلى تصديرها كنموذج حكم ناجح. أما الفساد فلتعاظمه وكثرته، حار كيف يعبر عن نفسه، والطرق والأساليب التي يتمظهر بها، لدرجة وصلت إلى حد أن تصبح البلد ملكاً لعائلات الأسد ومخلوف وشاليش، من دون حتى الحاجة الى عمليات تزويق تخفي هذا السفور، او تحسّن من قباحته ولو قليلاً. بل وصل الأمر إلى حد تقسيم البلد قطاعات، بحيث تحصل كل عائلة، أو كل فرد فيها، على قطاع معين، بثرواته وناسه وقديمه والمقبل منه، وذلك بعد أن يتم تجريف المنافسين، بإخراجهم نهائياً من المجالات العامة، أو يجري ترويضهم وتحويلهم مجرد واجهات لأبناء تلك العائلات.

في موازاة ذلك، ونتيجة له، كان المجتمع السوري يذوي على وقع تلك الممارسات، وكانت آليات القمع والفساد والتهميش، تولد يومياً آلاف المعذبين والمسحوقين والتائهين، والذين لا أفق لهم. ولم يكن ذلك الوضع يعد بغير المزيد من استمرار عملية القتل تلك، حتى أن القبول بهذه الوضعية صار أشبه بمغامرة وحالة انتحار مع سبق الإصرار، خصوصاً لدى الجيل الجديد الذي أحس بموته باكراً. بل أن الموت ولد مع الحياة نفسها. وربما، من هنا، ولدت مقولة تشابه الموت والحياة، وانعدام الشعور بالفارق بينهما. جيل رأى في تجربة من سبقوه، في طريقة حياتهم، بخيباتهم وانتكاساتهم، بصعوبة مسالكهم، رأى عدمية هكذا تجربة وعبثية المحاولة وإعادة إنتاج الألم. ثم أن سياسة النظام، وأساليبه، لم تترك لهم مسالك أخرى يجربون بها، فقط فتح باب الانخراط في الخضوع واسعاً، أو الذهاب للجحيم. ومن لا يعرف طريقه، يتكفل النظام بإيصاله إليه. هي العبارة ذاتها التي قالها عاطف نجيب لأهالي أطفال درعا، انسوا أولادكم وأنجبوا غيرهم وإذا لم تعرفوا كيف نرسل لكم عسكرنا ينجبون من نسائكم أولاداً بدل الذين اعتقلناهم!

هل كان ممكناً تغيير هذه الوضعية بطرائق وأساليب اعتيادية؟ هل كان ممكناً تفكيك آلة القهر والفساد تلك بسهولة؟ وهل كان ممكنا صنع سياقات جديدة لحياة ممكنة لمن فقدوا أفق مستقبلهم حتى قبل أن يلجوه؟ بالطبع لا، فلا آلة القهر ستتوقف عن طلب المزيد من الإخضاع وصناعة مناخاته، ولا ضحاياها باتوا قادرين حتى على الحلم بالخلاص، نضجت تماما ظروف الحركة باتجاه الحياة واستجمعت القوة للإنفكاك عن حالة الألم السرمدية، التي لم تعرف أجيالا عديدة غير ثقل وطأتها على حياتهم. وكان الانفجار موازياً لحجم كثافة الضغط، ربما لقناعة الناس أن تلك الكتلة الكبيرة من الضغط تحتاج كتلة موازية في القوة والفعالية لإزاحتها.

الغريب أنه وبعد كل ذلك الموت والقتل ثمة من يعتبر ان ثورة السوريين ليست أكثر من حالة ترف مارسوها وتورطوا بها. هذا الإحساس تجده لدى قسم مهم من الناس في دول الجوار، لبنان والأردن، وبخاصة الذين كانوا يقصدون سوريا للتبضع والتسوق وتقضية يوم جميل. كانوا يعتقدون أن حياة السوريين لا بد أنها تشبه يومهم التسوقي ذلك. واستتباعاً، فإن ثورة السوريين تصل حتى إلى مجرد عصابات خارجة عن النظام، ولا بيئة حاضنة لها، والناس مغرر بهم أو هم ضحايا تلك العصابات!

في الواقع، نكتشف اليوم أن الخطأ الأكبر في ثورة السوريين أنها ظلت لعام كامل ثورة سلمية، وأنها استهلكت كثيراً من قوتها في هذا العام، كما أنها أعطت للنظام فرصة لاستيعاب الصدمة، فلم يكن ممكنا إصلاح هذا النظام أو إزاحته ضمن تلك الاشتراطات الموجودة في سوريا. لم يقدم النظام تنازلاً واحداً طوال ذلك العام السلمي، بل انه أضاف لعذابات السوريين أكثر من مئة ألف معتقل ومثلهم مخفيين وهاربين ومطاردين، وألفاً من القتلى والمعاقين. ثورات الشعوب لا يمكن أن تكون إلا صورة لممارسات حكامها، أو تنكسر أمامهم. في التاريخ كثير من الثورات استطاع الحكام القضاء عليها، ليس بسبب عدم شرعيتها، ولكن بسبب عدم امتلاكها قوة موازية لقوة حكامها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى