صفحات الرأي

مصر: من إسقاط النظام وهدم الدولة الى تفكيك المجتمع

السيد يسين
اليوم التالي للثورة في مصر هو ديكتاتورية سياسية جديدة تتشح بثياب دينية متشددة، ومحاولات لاسقاط الدولة، واخيراً سلوك غوغائي غير مسؤول يؤدي الى نسف التراتبية الاجتماعية.
الشعار الرئيسي لثورة 25 يناير في محاولتها الجسورة لقلب النظام السلطوي تمهيداً لإرساء قواعد نظام ديموقراطي حقيقي يعبر عن جموع الجماهير المصرية بكل طبقاتها وفئاتها الاجتماعية، هو “الشعب يريد إسقاط النظام”.
وأصبح هذا الشعار من بعد الشعار الرئيسي لكل الانتفاضات الجماهيرية العربية في ليبيا واليمن وسوريا. وقد نجحت الثورات العربية في كل من تونس أولاً ثم مصر ثانياً وليبياً ثالثاً في الإسقاط الكلي للنظم الديكتاتورية التي حكمت هذه الأقطار جميعاً لعقود طويلة مستمرة، ولكن ماذا حدث في اليوم التالي للثورة؟
اليوم التالي للثورة لا يقل أهمية بل قد يفوق أهمية يوم وقوع الثورة، نظراً الى أن هناك احتمالات متعددة. فقد تفشل الثورة ويعود النظام القديم بصورة أبشع مما كان في السابق مسلحاً بالرغبة في الانتقام. وقد تنجح الثورة في اقتلاع جذور النظام القديم، ولكن قد يترتب عليها وضع سياسي ينجم عنه قيام ديكتاتورية من نوع جديد، أو انقلاب في توجهات بعض القوى الثورية فيجعلها تسعى إلى هدم الدولة ذاتها، وقد يحدث انفجار اجتماعي يؤدي في النهاية إلى تفكيك المجتمع.
وحتى لا نغوص في تفصيلات ما حدث في اليوم التالي للثورة في البلاد العربية دعونا نركز على ما حدث في مصر.
اليوم التالي الثورة في مصر بعد إسقاط النظام حدثت فيه أحداث جسام طوال العام الذي انقضى منذ تسلم المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة في البلاد بصورة مؤقتة. ولا نريد أن نقف أمام تفصيلات ما دار في المرحلة الانتقالية، ولكن أبرز وقائعها قاطبة تشرذم القوى الثورية وتشكيلها مئات الائتلافات المتناحرة والمتنافسة على الزعامة والوجاهة الاجتماعية والحضور الإعلامي، وإدعاء أنها، وليس غيرها، من يستطيع أن يحرك الشارع باسم شرعية الميدان. أما الأحداث الكبرى التي تلت ذلك فهي اندفاع القوى السياسية التقليدية وفي مقدمها جماعة “الإخوان المسلمين” للقفز فوق قطار الثورة المندفع، ونجاحها – نتيجة أخطاء سياسية فادحة للائتلافات الثورية والقوى الليبرالية واليسارية- في الحصول في انتخابات مجلس الشعب والشورى على الأكثرية، وشاركها في ذلك حزب “النور السلفي”. ومعنى ذلك إقصاء التيارات الثورية والليبرالية واليسارية من البرلمان لأنها لم تمثل إلا بعدد قليل للغاية.
الدليل على ذلك هو إصرار جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين على الحصول على نسبة 50% من عضوية اللجنة التأسيسية للدستور والدخول أيضاً بممثليهم في نسبة الخمسين في المئة الأخرى التي تركت لكل طوائف الشعب المصري.
ومعنى ذلك أن إسقاط النظام الذي نادت به الثورة أدى في الواقع إلى تأسيس نظام ديكتاتوري جديد أخطر من النظام السابق، لأنه يتحدث باسم الإسلام وينطلق من توجهات دينية تسعى في الواقع إلى إلغاء مدنية الدولة وتأسيس دولة دينية، وإعادة نظام الخلافة من جديد، بحيث تصبح مصر مجرد إمارة من الإمارات الإسلامية المتعددة التي سيحكمها الخليفة الإسلامي المنتظر، والذي كانت تحلم بعودته جماعة “الإخوان المسلمين” منذ بداية تأسيسها على يد الشيخ حسن البنا.
سقط النظام نعم، ولكن – كما رأينا – أقيمت على أنقاضه ديكتاتورية سياسية دينية تبلورت في حكم الإخوان المسلمين، ولكن أخطر من ذلك أنه حدثت محاولات منهجية لهدم كيان الدولة المصرية، سواء بطريقة واعية أو لا واعية، تكشف عن عدم إدراك خطورة إسقاط الدولة.
وقد بدأت هذه المحاولات من قبل جماعات ثورية خططت لإسقاط مؤسسة الشرطة بأكملها، بزعم أنها بكل أعضائها مارست قمع الشعب واستخدمت في ذلك وسائل التعذيب المرفوضة وبلغت ذروة تعسفها في محاولاتها التصدي لقمع تظاهرات 25 يناير باستخدام القوة المفرطة، مما ترتب عليه سقوط مئات الشهداء وآلاف المصابين.
وقد أدى الهجوم الكاسح على جهاز الشرطة عموماً وبدون تمييز إلى إحداث فجوة عميقة من عدم الثقة بين الشرطة والشعب، مما أدى إلى حالات واسعة من الانفلات الأمني، بحيث أصبح غياب الأمن إحدى المشكلات الجسيمة التي تواجه المواطنين بعد ثورة 25 يناير.
وتصاعدت الدعوات المشروعة لإعادة هيكلة جهاز الشرطة، تصاحبها دعوات غوغائية لتطهير الجهاز باستبعاد مئات من كبار قياداته بالجملة وبدون تحقيقات جادة، تحفظ لهم حقوقهم القانونية مما ما زال يثير بلبلة كبرى.
غير أن أخطر ما حدث من محاولات لهدم الدولة هو الهجوم غير المسؤول على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وصعود الهتاف الشهير “يسقط يسقط حكم العسكر” هكذا بدون التمييز الدقيق بين الوظيفة السياسية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة والتي يقوم بها بصورة مؤقتة وبين الجيش ذاته.
وخططت ائتلافات ثورية شتى سبق لها أن افتعلت معارك صدامية مع قوات الشرطة لاختلاق معارك صدامية مع قوات الجيش ذاتها، سواء بالتظاهرات التي توجهت إلى وزارة الدفاع بالقاهرة، أو إلى المنطقة الشمالية العسكرية بالإسكندرية. وكأن الهدف الثاني من إسقاط الدولة بعد إسقاط الشرطة هو إسقاط القوات المسلحة.
وليس هذا مجرد استنتاج من الوقائع، بل إن الاشتراكيين الثوريين وهم فصيل سياسي محدود العدد جهر بأن أحد أهدافه الكبرى هو إسقاط الدولة وإسقاط الجيش.
فكأننا بعد ثورة 25 يناير حصدنا إقامة ديكتاتورية سياسية دينية يتزعمها الإخوان المسلمون والسلفيون، وتم إسقاط الشرطة وكانت هناك محاولات لإسقاط الجيش، ولكن أخطر الظواهر بروز نمط من الممارسات الغوغائية انخرطت فيها مختلف الفئات والطوائف موجهة إلى السلطة في كل المواقع، وتهدف لتجريدها من كل هيبة وإفقادها أي احترام، والهجوم الشخصي عليها. ولعل ما يؤكد ذلك الاضرابات والاعتصامات الفوضوية التي حدثت اخيراً من قبل سائقي النقل العام، والتي أدت إلى حرمان الشعب من وسائل المواصلات الضرورية.
غير أن موجات السلوك الفوضوي التخريبي برزت اخيراً في التظاهرات التي قامت بها جماعات “الألتراس” في النوادي المصرية جميعاً، وأبرزها النادي الأهلي ونادي الزمالك والنادي المصري.
وقد تحولت روابط المشجعين الرياضيين هذه والمنظمة تنظيماً سرياً دقيقاً وكأنها جماعات “ماسونية” من التشجيع الرياضي إلى العمل السياسي الغوغائي. ويكشف عن ذلك التظاهرة الكبرى التي قام بها “ألتراس” “الأهلي” في القاهرة مطالبين بالقصاص للشهداء في بورسعيد، مع أن النائب العام قد حول خمسة وسبعين متهماً للمحاكمة. وأخطر من ذلك كله قيام “ألتراس” “المصري” بالهجوم على مبنى إرشاد قناة السويس في بور سعيد، وحدوث مواجهات دامية بينهم وبين قوات الأمن والجيش، مما ترتب عليه سقوط قتيل وإصابة العشرات من المتظاهرين الذين منعوا 30 ألف عامل من الوصول إلى المنطقة الصناعية، والتي اضطرت إلى غلق المصانع، مما ترتب عليه خسائر يومية قدرت بأربعة عشر مليون جنيه.
هل نبالغ لو قلنا أن هذه هي محصلة اليوم التالي للثورة في مصر؟
ديكتاتورية سياسية جديدة تتشح بثياب دينية متشددة كفيلة بتخلف المجتمع المصري قروناً عديدة إلى الوراء، ومحاولات لإسقاط الدولة لكي تصبح فريسة للأطماع الداخلية والخارجية على السواء، وأخيراً السلوك الغوغائي غير المسؤول الذي أدى في الواقع إلى نسف التراتبية الاجتماعية، والتمرد غير العقلاني على السلطة، والزحف المنظم لاقتلاع القيم والأعراف التي قامت عليها المؤسسات في مصر، ومعنى ذلك تفكيك المجتمع.
كيف يمكننا أن نخرج من هذا النفق المظلم؟
ليس هناك من سبيل إلا ممارسة النقد الذاتي من ناحية وتوجيه سهام النقد الاجتماعي المسؤول من ناحية أخرى، والذي لا يكتفي بالإشارة إلى الأخطاء وإنما يعطيها التكييف الصحيح.
وتبقى الحكمة التقليدية صحيحة وهي أن الثورة قد تؤدي إلى التحرر ولكنها قد لا تحقق الحرية!
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى