صفحات الرأيميشيل كيلو

“داعش” وابن تيمية!/ ميشال كيلو

 

 

لم يكن دور الفكر هامشيا في التاريخ، لكن وقائعه ومساره لم يتعينا به وحده. بل انه لم يكن في مراحل كثيرة محددا رئيسا لعلاقته الشديدة التراتب والتعقيد، المتعددة الحمولات، مع الواقع، الذي إن كان الفكر مجرد انعكاس له عوق او سرع مساره، لكنه لا يتقدم عليه ولا يفتح امامه سبل التقدم والتغيير.

ومع أن أحدا لا ينكر دور ابن تيمية بالنسبة الى المدارس السياسية والفقهية الحديثة، فإن من الاجحاف اعتباره مسؤولا عن ظهور تنظيمات السلفية المتطرفة والجهادية، التي تنسب نفسها وننسبها نحن اليه. ومن الخطأ الاعتقاد أن هذه التنظيمات ما كانت لتتشكل، لو ان اين تيمية لم يظهر في حقبة تاريخية ما ويضع نصوصه الذائعة الصيت. لا ينبثق الواقع من الفكر وحده، مهما كان دوره كبيرا فيه. الاصح ان الإنسانية تنتج الفكر الذي تحتاج اليه في واقع تاريخي معطى، وان دوره يتعين دوما بأولوية الواقع وما يختزنه من روح عصره والعصور السابقة له، فإن لم يتطابق الفكر معه ويلبي حاجاته تلاشى. ربما كان هذا يفسر ما نراه من تأثيره في شروط معينة ومن انعدام أي تأثير له في شروط أخرى، مع انه يظل هو نفسه: ثابتا لا يتغير، خاصة عندما يكون من الماضي وتتجاهل قراءته الاختلاف بين معايير وقيم العصر الذي انتج فيه ومعايير وقيم عصرنا، او كان يتعامى عن ما لهذا العصر من خصوصية وفرادة، او يريد رده إلى ماض يستحيل احياؤه، تقوض محاولة بعثه بالفكر الذي تم انتاجه فيه علاقته مع الواقع القائم، لاستحالة إنتاج راهن يطابق الماضي وان توهم انصار ابن تيمية ان فكره عابر للزمان ومنفصل عن الواقع الذي انتج فيه ولأجله، وانه قادر على احلال واقع مضى محل الواقع الراهن، لأنه عابر للزمان بدروره ومتعال وابدي.

هل يحق لنا اعتبار ابن تيمية مسؤولا عن المحاولات السلفية، التي يتم اليوم فرضها بقوة السلاح والعنف؟. هل هو مسؤول عن قراءتها المجافية للعقل والمنطق ولعصرنا وحاجاته؟. هناك من يعتبر الرجل صاحب نهج خاص لا بد ان يتبع، تجسده دعوته إلى تفسير الدين ومقاصده وفق قراءة نصيه ترفض الاجتهاد القائم على حرية الرأي، خشية تداعيه بفعل تطور الواقع البشري، الذي قد يقود المسلمين إلى هجر دينهم او اخضاعه لاجتهادات خاطئة؟. فهل يكفي ان يعتقد احد ما انه قرأ هذا عند ابن تيمية كي نعتبره نحن مسؤولا عن النظرة التي ترى في قراءته للنص القراءة الوحيدة الصحيحة للإسلام، التي لا يجب فرضها على المسلمين والدفاع عنها بقوة السلاح؟. ام ان موقف السلفية من ابن تيميه يتعين بعوامل لا علاقة لنصه بها، هي ابنة عصرنا بأزماته التي تطحن العالم الإسلامي، وتتجسد في فارق تطور لا يني يتعاظم بين البلدان المتقدمة، غير المسلمة، وبلدان المسلمين، التي تبدو عاجزة عن ابتكار وسائل وأفكار تجسر بمعونتها هوة تتسع بلا انقطاع بين الآخرين وبينها، وتوفق الدين والدنيا والحرية والإيمان، وتترجم قيم الإسلام ومبادئه إلى طرق في العيش: فاعلة ومقبولة، تنهض على جوامع مشتركة بين النخب السياسية والاقتصادية والثقافية، ترد التحديات المتعددة التي تواجه المجتمعات الإسلامية، وتزيد قدرتها على بلورة ردود ملائمة عليها في الواقع والفكر، تمكنها من تقريب أنماط عيشها مما يمليه عليها دينها، فتوائم كونية الإسلام مع خصوصيات مجتمعاته، المنضوية في عوالم شديدة التباين، لكنها تنتج بفعل مآزقها واحتجازاتها الكثيرة رؤى وقراءات دينية تتمسك بموروث مدارس الفقه الأشد انغلاقا وتقديسا للنص، المجمعة على رد ضعف المسلمين الى سبب اوحد هو ابتعادهم عن دينهم، والمؤمنة بأن عودتهم إلى السلف الصالح هي سبيلهم إلى تحدي عصرهم والتفوق عليه، على ان يفعلوا ذلك من خارجه: دون الانغماس فيه والتلوث بقيمه، التي لا تستطيع ان تكون الا معادية للإسلام، في ظرف كوني يتسم بصراع الأديان، يعتبر أي انزياح فيه عن نص الدين انضماما إلى العدو يستحق صاحبه القتل كمرتد.

ليس ابن تيمية مسؤولا عن قراءتنا له، ولو لم نكن في ازمة مع واقعنا وعصرنا لأمكننا بالتأكيد قراءته بطرق مغايرة لقراءة السلفية الجهادية، التي تضعه في خدمة اهداف لم ترد في نصه ولا يلزمنا بها، إلا إذا اعتبرناه نصا قرآنيا مقدسا علينا تطبيقه حرفيا، بخلاف ما اعتبره هو نفسه في نظرته اليه.

قدم ابن تيمية قراءته حول حفظ الدين، فهل كانت قراءة وحيدة ولا جدال حولها في عصرها؟. أليس باستطاعة عصرنا تقديم قراءة مختلفة عن قراءته، تكون عصرية وخليقة بحفظ الإسلام في واقعنا وعلى ضوء حاجات لا يستطيع أي نص تجاهلها او الغاءها، كما لم يستطع نصه الغاء او تخطي حاجات عصره؟.

لا يصح نسبة ما نراه من سلفية جهادية الى ابن تيمية، لسببين، أولهما اننا لم نقدم بعد قراءة غير سلفية له، وثانيهما ان الفراغ المتروك في القراءة الدينية لعصرنا يسهم في اعتماد نصه كمرجعية يتوهم المؤمنون بها انها قادرة على التعامل مع ازمات نعيشها، متجاهلين ان مفرداتها ليست دينية بالأساس، واننا نتخطى بتصدينا لها في اطار واقعنا الراهن ابن تيمية وفكره الغريب عنها، وغير المفيد بالتالي في التصدي لها، لكونها ازمة دنيا وليست ازمة دين. يفتح تقصيرنا واليأس من العالم الطريق للراغبين في مبارحة عصرنا الى زمان يظنون انه كان افضل، رغم ما حفل به من انكسارات وهزائم وغزوات فرنجية ومغولية، قدم ابن تيمية وصفة لمواجهته هي التمسك بحرفية نص مقدس فيه تعويض متعال عن بلايا عالم قاس، وحض على مبارحته الى عالم جواني يستوطنه المؤمن فلا يهلك اسى على نفسه او يشك في نجاعة ايمانه.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى