صفحات المستقبل

لن تستمر الحرب إلى الأبد لن يدوم هذا الخراب/ نجاة عبد الصمد

أدين بالشكر لذاكرتي البعيدة التي تبعث مراسيلها البيضاء إلى أيامنا الظلماء هذه؛ حين ليس في حاضر سوريا الدامي ما يكفي من الرجاء لننصت، نحن الباقين على قيد العيش، إلى حياةٍ نديّة بين خرائب أرواحنا، لا بدّ أن تورق غداً وتكشح عنها موت اليوم.

هنا تحت أرتال الشهداء وتحت المدن الشهيدة كما أصحابها، وتحت الشجر المحروق والضروع الغائرة، ثمة جذوةٌ حيّة لن يطالها كل هذا الموات. هكذا يعيد مرسال ذاكرتي صوغ المشهد العالق في عنقها كآية الكرسي، المشهد الآتي من ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته التي عشتها في الاتحاد السوفياتي السابق. تلك الأيام هي جزء عمري الذي أحب، والذي أشكر، والذي يعنيني الآن أن استرجع كيف انحفرت في الذاكرة الجمعية لمن عاصرتُهم هناك من أبناء الجيل الثاني بعد الحرب الوطنية العظمى التي انتصر أجدادهم في نهايتها على هتلر وعلى النازية الألمانية.

في تلك الثمانينات، لم يكن في تقويمهم السنوي أعيادٌ للميلاد المجيد، ولا يومٌ للمولد النبوي، ولا أضحى ولا فصح. كان لديهم أربعة أعياد في السنة: عيد 7 نوفمبر ذكرى ثورة 1917، وعيد رأس السنة الميلادية، وعيد العمال العالمي في أول أيار، وعيد النصر على الفاشية يوم 9 أيار. كأنما أريد للبلاد أن تحتفل بالعموم مع العالم في يوم رأس السنة، ويوم عيد العمال، وبالخصوص في ذكرى الثورة وذكرى النصر على الفاشية.

لم يكن في تلك البلاد أجمل من عيد النصر على الفاشية. لن تخرج طقوسه من ذاكرتي ولو هششتُها بألف عصا. كان احتفاليةَ فرحٍ مختلف، بل وهائل. في هذا اليوم، في كل مكانٍ مأهول في البلاد تفرغ البيوت من أهلها، وتمتلئ بهم الطرق. تصير الشوارع كرنفالات ألوانٍ سعيدة، ومهرجانات عزفٍ ورقص وغناء. كل من لديه أكورديون يحمله إلى الشارع، ويتجمع الناس حول عزفه ويرقصون من غير احتساب. يرقص التسعيني والتسعينية مع أبنائهما وأحفادهما وأبناء أحفادهما. كلّ امرأةٍ لديها بروشٌ ذهبيّ ورثته عن أمها، أو خاتمٌ بحجرٍ كريم، أو عقد كهرمان، تتزين به وتأتي لترقص في العيد.

تصير ساحات المدن والقرى أسواقاً مفتوحة للذيذ الطعام والشراب: قناطير المعجنات الحلوة والمالحة، عشرات العصائر الطبيعية التي يحضرها أهل البلاد في بيوتهم ويأتون بها إلى الساحات ليأكلوها ويطعموا الآخرين. تفرج الأسواق الموقتة في زوايا الساحات عن البضائع النادرة المفقودة على مدار العام، لتراها أمامك في يوم العيد عيداً إضافياً. في أول الليل يجتمع الأقارب الذين قد يقطعون مسافة 40 أو 50 ساعة بالقطار فقط ليحيوا أواصر قرابتهم ويحتفلوا معاً في يوم العيد.

كم كانت كبيرةً وحاضرةً قافلة معطوبي الحرب المشاركين في الرقص، ذلك الذي فقد إحدى عينيه أو أذنيه أو يده أو قدمه… وحتى من فقد قدميه معاً، يهتف عالياً ويلوّح بيديه، مِن على كرسيه المتحرك.

تلك البلاد التي التهمتها الحرب على مدى سنواتٍ أربع (1941-1945)، شقّت بطن الموت وهبّتْ تلاقي الحياة. كانت الإحصاءات الأولية لخسائر الحرب: موت عشرين مليون سوفياتي ما بين قتلٍ وجوعٍ وتجمّد من البرد في العراء، واختفاءٍ في عواصف الثلج، وأَسر بيد الألمان، وموتٍ في أعمال السخرة أثناء الأسر، وإثر التجارب والاختبارات العلمية التي كان الأسرى السوفيات حقول تجربةٍ لها في ألمانيا (عادت الإحصاءات النهائية لترتفع إلى خمسين مليون شهيد). كذلك دمار معظم المدن التي صمدت عشرٌ منها، فأعلنوها بعد الحرب “مدناً بطلة”. إعلانُها مدناً بطلةً، يعني إعلان ولادة من عدم، يعني مواساةً لها وتكريماً بعدما سُوّيتْ بالتراب، واحترق شجرها وثروتها الحيوانية ومخزونها الاحتياطي من كل ما يمتّ للحياة بصلة.

وكم من الأمثلة على ذاك الدمار: مدينة مينسك مثلاً، عاصمة روسيا البيضاء، العصرية الفائقة الجمال والتنظيم، هي إحدى هذه المدن البطلة التي لم يسلم منها بعد الحرب سوى مبنى وحيد في وسطها أنفقت الحكومة على ترميمه أكثر مما يحتاج أي بناء جديد أكبر منه بكثير، فقط لكي يبقى شاهدا بعد الحرب تحت عنوان: كي لا ننسى.

كان الجسر الحديث المقام على نهر التيبر أجمل ما في مدينة زباروجيا الأوكرانية التي فيها درست. قبل الحرب كان فوق النهر جسرٌ قديم يصل طرفي المدينة اللذين يفصل بينهما النهر العريض كالبحر.

حين هجم الألمان على المدينة لم يجد قادة الحرب السوفيات طريقةً لإنقاذها بسوى تدمير هذا الجسر الذي كانوا بنوه بالفكر والسواعد والمال والدم، بحيث لو دمّروه سيجبرون فيالق العدو ودباباته على الالتفاف حول المدينة من طريقٍ بعيد وطويل ومحفوف بالأخطار، وسيستغرق مسير العدو قرابة شهرين يخسر خلالهما الكثير من عزيمة جنده، وتستطيع خلالهما المصانع الحربية في المدينة أن تصنّع المدفعية المضادة، فتلاقي دبّابات العدو في دربها الوحيد وتقنصها، وتبيدها قبل دخول المدينة. وهذا ما كان.

أحببت هذا الشعب الشديد الخصوصية، شعبٌ تربّيْتُ في بلده مثلما تعلمت. شعبٌ لن يطول بك الوقت كي تكتشف كم تركت سنوات الحرب الأربع على روحه من ندوبٍ لا تزال موروثةً حتى جيله الثالث بعدها. حين تزور هناك أيّ بيت، ستحشوك صاحبته بالطعام كأنك آتٍ إليها من صومال اليوم. أقول لصاحبة البيت: شبعت يا خالة. ولا تسمعني. لا تريد أن تسمع. تقول: كلي يا بنيتي، لا قدّر الله لك أن تجرّبي ذلك الجوع الذي خبرناه.

ليس شتاؤهم الطويل وحده ما يحملهم على تعليب كل طعام. إنما الرعب المحفور في الذاكرة عن أيام الجوع إياها. إضافة إلى مخللاتنا التي نعرفها، يخلّلون الملفوف والقنبيط والكوسا والباذنجان والجزر والشوندر والبطيخ والبندورة الخضراء والحمراء ويعلّبون ويقدّدون لحم الدجاج واللحم الأحمر والسمك وشحم الخنزير في بيوتهم. كل بيت؛ حتى ولو كان شقةً من غرفة واحدة، هو مصنع كونسروة متكامل وشديد الإتقان. رفيقي باردين في الصف، كانت جدته تجبره على التهام فخذ ديكٍ رومي وصحن أرزّ كبير وتفاحة ومربّى وكأس من عصير الخوخ قبل أن يأتي إلى الدوام في الساعة الثامنة صباحاً لأنها تخشى أن يجوع في الدرس.

في إمكان أي عابرٍ في تلك البلاد أن يطلب سيجارةً من أيّ مدخّن على الطريق، عادةٌ انحدرتْ إليهم من افتقار جنودهم إلى السجائر حين حوصروا طويلاً أيام الحرب، ولا يزالون يعتذرون لأنفسهم عن ذلك الحرمان بتقديم السجائر للغرباء عن طيب خاطر. هناك أيضاً حين يجتمع الأصدقاء، لن يشعل واحدهم من عود كبريتٍ واحد سيجارةً لأكثر من اثنين. يحفظون عبارة: “لا تشعل لثالثكما”. ذلك فألٌ يعود أيضاً إلى أيام الحرب، حين كان الجنود في عتمة الليل يخشون لو استمرت شعلةُ عود الكبريت لأكثر من ثوان، ريثما يشعل الجندي الثالث منها سيجارته أن يستدلّ القناص بالشعلة إلى مكانهم ويصطادهم عبر إحداثيات دائرته الحمراء.

تلك الليالي أورثتهم أيضاً احترام الفودكا التي كانوا يكرعونها طلباً للدفء، وأورثتهم احترام الخبز الأسود الغزير الألياف لأنه يكفيهم شرّ الجوع لساعة إضافية، أو أن يشرب الجندي الفودكا وحدها، وبسرعةٍ عصابية حين لا خبز؛ ويكتفي بعدها بشمّ رائحة العرق على ظهر زنده كما لو أنها المقبّلات التي تعدّل طعم الشراب المرّ.

وإذ أستعيد صورة سوريا التي كانت قبل حرب اليوم حلوةً كدبس العنب؛ تعينني حكايات ذاكرتي البعيدة على استجلاب صورتها من الغد حلوةً أيضاً كدبس العنب، كرقصات السوفيات بعد سنوات الحرب المرعبة، كجوعهم المرّ الذي صار حلو التذكار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى