صفحات الثقافة

الترجمة والإمبراطورية: الدراسات ما بعد الكولونيالية، دراسات الترجمة

 

  دعونا نبدأ بمراجعة موجزة للمصطلحين الأساسيين في هذا العنوان، الترجمة والإمبراطورية. ثمّ نستكشف المصطلح الأساسي الوارد في العنوان الفرعيّ، ما بعد الكولونيالية.

الترجمة والإمبراطورية مصطلحان لا يبدوان متلازمين لأول وهلة: فالمصطلحات الأكثر شيوعاً التي اقترنت بالترجمة خلال ألفي سنة أو أكثر هي المعنى، والتكافؤ، والسّداد، والتقنية، وما إلى ذلك، وهي مصطلحات تقنية محض (تُعْنى  بـ»الكيفية«) وتقويمية (تُعْنى بـ»الجودة«) ممّا يشير إلى نشاطٍ أو فعاليةٍ تُجْرى على الكلمات، والجمل، والنصوص الكاملة. والنظرة التقليدية إلى الترجمة هي نظرة ميكانيكية إلى حدٍّ بعيد: تراها عمليةَ نقلٍ للمعنى متجرّدةً عمّا هو شخصي من نصٍّ مصدر إلى نصٍّ هدف دون تغييرٍ كبير. أمّا البشر الذين يقفون وراء هذه العملية، أي المترجمين، فيُدْرَسون دراسة سلبية، من حيث الأثر المشوِّه أو المُخِلّ الذي تُحْدِثُه »آراؤهم« أو »تحيّزاتهم« أو »أسواء فهمهم« فيقلّل من نجاح العملية واكتمالها. فالاهتمام النظريّ بالمترجمين يتركّز على تخليص المترجم المثالي من ضروب الإخلال هذه، وذلك خاصةً بتحذير المترجمين من الأغلاط على اختلاف أنواعها، ومن الابتعاد المتعمّد أو الغافل عن المعنى الدقيق للنصّ الأصلي، حتى يمكن للعملية النصّية أن تتواصل دون تدخّل من طرفِ عالم التفاعل والتحفيز الإنساني الواقعي.

وفي هذا التقليد البحثيّ، تبدو أي صلة بين الترجمة والإمبراطورية غير واردة للوهلة الأولى، بل مستحيلة، ومعاكسة للحدس والتوقّع بلا شكّ. فما الذي يمكن أن يربط بين الترجمة والإمبراطورية؟ فالإمبراطوريات هي كُتَل عسكرية وسياسية واقتصادية ضخمة تطاول قروناً في الزمان وقارّات كاملة في المكان؛ وتشتمل على تفاعلات وتعاملات معقّدة من الغزو والمقاومة، والاحتلال والاحتواء، والدعاية والتعليم، والسيطرة والخضوع، وهلم جرا. والإمبراطورية هي نظام سياسي يقوم على السيطرة العسكرية والاقتصادية التي توسّع من خلالها جماعة معينة سلطتها على كثيرٍ من الجماعات الأخرى وتعزّزها، وعادةً ما تكون هذه الجماعة أمّة تسيطر على كثير من الأمم الأخرى. والعادة أيضاً أن يبُرَّرَ بناءُ الإمبراطوريات على أسس الكَسْب الاقتصادي (حيث تزيد الأراضي المفتوحةُ القوةَ الإمبراطورية)، والاستراتيجية والأمن (حيث تعمل الاراضي المفتوحة كمناطق واقية أو دارئة بين القوة الإمبراطورية وأعدائها)، والواجبات الأخلاقية (وجوب تحرير الشعوب المحكومة بالظلم والشّدة من مضطهِديها وطغاتها وحمايتها منهم)، والداروينية الاجتماعية (حيث يكون من الطبيعيّ أن تحكم الثقافات الأقوى الثقافات الأضعف). وفي الحالات الأسوأ، تعمل الإمبراطوريات على تدمير شعوب وثقافات كاملة؛ أمّا في الحالات الأفضل، فتُحْدِثُ ذلك الاختلاط والامتزاج الخصب بين الثقافات مما يُجْري دماءَ حياةٍ جديدة في عروق الجماعات النائية المنعزلة.

والإمبراطورية ليست ظاهرة حديثة بأيّ حال من الأحوال؛ فهي، في حقيقة الأمر، واحد من أقدم أشكال الأنظمة السياسية الضخمة التي نعرفها (حيث تشتمل الأشكال الأخرى على روابط وأحلاف متنوعة؛ انظر شومبيتر 1951، دويل 1986). فنحن نتكلم في العصور القديمة عن الإمبراطورية المصرية، والإمبراطورية الصينية، والإمبراطورية الآشورية، والإمبراطورية الفارسية، والإمبراطورية المقدونية، والإمبراطورية الرومانية، وعن الإمبراطورية الرومانية المقدّسة، منذ تتويج شارلمان في العام 800 بعد الميلاد وصولاً إلي تنازل الإمبراطور الأخير في العام 1806. ولقد سيطرت الإمبراطورية المغولية على مساحة شاسعة تمتدّ من روسيا إلى شمال الصين في القرنين الثالث عشر والرابع عشر؛ وامتدّت الإمبراطورية العثمانية فوق بقاعٍ بين المتوسط وما وراء البحر الأسود من العام 1300 إلى الحقبة الحديثة، وفي بعض المناطق حتى أوائل القرن العشرين. وخلال القرون الأربعة الماضية، دار تاريخ الإمبراطورية العالمي بصورة أساسية حول الإمبراطوريات الأوروبية المختلفة: البرتغالية التي بدأت ببناء إمبراطوريتها التجارية في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر؛ والألمانية، والفرنسية، والإنجليزية التي بدأت توسّعها في أوائل القرن السابع عشر. وكانت أجزاء مختلفة من أوروبا قد توحّدت طوال قرون في ظلّ الإمبراطورية النمساوية الهنغارية، والإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية الجرمانية. أمّا الوافدون الإمبراطوريون المتأخّرون الذين لم يشرعوا ببناء إمبراطوريةٍ خارج أوروبا حتى أواخر القرن التاسع عشر فمن بينهم ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا (التي اشتركت في التقاسم الأوروبي لإفريقيا بين 1880 و1914)، وروسيا واليابان (اللتين تقاسمتا كوريا والصين ومجموعات مختلفة من الجزر)، والولايات المتحدة (كوبا وهاواي والفليبين وهاييتى وجمهورية الدومينكان والجزر العذراء وبورتريكو) مع أنّها كانت هي ذاتها مستعمرة لإنجلترا وحقّقت الاستقلال ونمت بسرعة فائقة حَدَتْ بالإمبرياليين النافذين في الحكومة إلى الاعتقاد بأهمية أن تقيم البلاد إمبراطوريتها الخاصة.

فحتى أواخر النصف الأول من القرن العشرين، كانت الإمبراطورية لا تزال تُعْتَبَر مصدر فَخَارٍ عامّ: فالفَخَار لم يكن يقتصر على البريطانيين، مثلاً، بأنّهم فتحوا ذلك القَدْر الكبير من العالم (حيث »الشمس التي لا تغرب عن الإمبراطورية البريطانية«، و»تحيا بريطانيا، بريطانيا التي تتحكّم بالبحار«) بل كان يتعدّاهم إلى كثيرٍ من رعاياهم الذين يتفاخرون بانتمائهم إلى مثل هذا الخليط الهائل. وكما كتب وولتر باتر في كتابه ماريوس الأبيقوري (1885 :204):

إنّ مجرّد إحساس المرء بانتمائه إلى نظامٍ- نظامٍ أو تنظيمٍ إمبراطوري- لينطوي، بحدّ ذاته، على تلك القوّة الكبيرة المتأتّية عن تجربة عظيمة، شأنه شأن شعور أولئك الذين انتقلوا من طوائف ضيقة إلى ملّة الكنيسة الكاثوليكية، أو شعور المواطن الروماني القديم.

لكنَّ هذا الموقف راح يتآكل مع انتشار حركات الاستقلال والتحرر في أرجاء البلدان المستعمَرة وإدراك الرعايا المتزايد أنَّ الإمبراطورية لا تعني »الحماية من الأعداء الخارجيين« أو »الانتماء إلى مشروع جبّار«، كما كانت تصوّر في السابق على نحوٍ مثالي، بقَدْرِ ما تعني الاستئساد العسكريّ، والسيطرة السياسية، والاستغلال الاقتصاديّ، والهيمنة الثقافية. وهكذا بدأت صفة الإمبراطوري تفقد معانيها الإيجابية التي تشير إلى »الرِّفْعَة« و»الجبروت« و»الشموخ« و»السمو« وراحت تغدو مجرد مصطلح حياديّ يصف الإمبراطورية  أو»القوى الإمبراطورية«، خاصةً حين شرعت البلدان المستعمَرة واحدة إثر أخرى بنيل استقلالها من القوى الإمبراطورية الأوروبية العظمى على مدى عقود منتصف القرن العشرين (حيث لم يبق تقريباً أي مجتمع مستَعمَر بعد المرحلة الممتدة من 1945 إلى 1965). وفي الوقت ذاته، صارت صفة الإمبرياليّ تُسْتَخْدَم مزيداً من الاستخدام بمعنى سلبيّ، لكي تصوّر الأفعال والمواقف الإمبراطورية بوصفها ضَرْباً من الاستئساد الاستغلالي المناهض للديمقراطية.

  ويبقى السؤال: ما علاقة ذلك كلّه بالترجمة؟ وما دامت الترجمة مرتبطةً بتكافؤ النصوص والكلمات والعبارات ومعانيها، فما هو الأساس المشترك الذي يمكن أن يجمعها مع سياسات الإمبراطورية؟

وُلِدَت دراسة الترجمة والإمبراطورية، بل ودراسة الترجمة بوصفها إمبراطورية، في الفترة بين أواسط ثمانينيات القرن العشرين وأواخرها انطلاقاً من إدراك أنَّ الترجمة قد كانت على الدوام قناةً لا غنى عنها للفتح والاحتلال الإمبراطوريين. فالأمر لم يقتصر على احتياج الفاتحين الإمبراطوريين الأكيد إلى إيجاد طريقة فعّالة للتواصل مع رعاياهم، بل كان عليهم أيضاً أن يطوروا طرائق جديدة في إخضاعهم، وتحويلهم إلى رعايا طيّعين أو »متعاونين«. وقد تمثَّل واحدٌ من مجالات الاهتمام الأولى في تاريخ الترجمة بوصفها إمبراطورية باختيار مترجمين وتدريبهم للتوسّط بين المستعمِرين والمستَعمَرين، حيث جرت المفاضلة، مثلاً، بين إرسالِ أفرادٍ من القوة الفاتحة ذوي موهبة لغوية كيما يتعلّموا لغات الشعوب المفتوحة، وتعليمِ أفرادٍ من الثقافة المفتوحة ذوي موهبةٍ لغوية لغةَ الإمبراطورية الفاتحة. وكان من الحاسم، في كلا هاتين العمليتين التاريخيتين اللتين غالباً ما تعايشتا معاً في التفاعلات العابرة للثقافات ذاتها، أن تتمّ السيطرة على ولاءات المترجمين المدرَّبين على هذا النحو، بحيث يعملوا على خدمة القوة الإمبراطورية ولا يحتفظوا بولاءات تجاه الشعوب المفتوحة أو يطوروها. وكان السؤال: ما هي الخطوات التي ينبغي اتّخاذها لضمان موثوقية الترجمة عبر مثل هذه الضروب من تباين القوة؟ ومن الذي يكفل سداد الترجمة إذا ما كان المترجم هو الوسيط الوحيد المتاح بين المستعمِرين والمستَعمَرين؟

 وهذان مثالان على ذلك:

في العام 1515، اعتمد الفاتح الإسباني هرنان كورتيس في المكسيك على خليلته ومترجمته المحلية مالنتزين أو مالينش، التي دعاها الإسبان دونا مارينا، في تواصله مع شعب النهوا الذي كان يحاول الاستيلاء على أرضهم. وفي بلدة من بلدات النهوا، تُدْعى تشولولا، استُقْبِل كورتيس بالاستعطاف وتوسّلات السلام، لكن يُقال إنَّ مالنتزين سمعت مصادفة إحدى النساء المحليات وهي تتحدّث عن كمين يعدّه الرجال للجيش الإسباني الصغير المؤلف من 400 عنصر، فنقلت الخبر إلى كورتيس، الذي أحبط الكمين وأسر وذبح 3000 من رجال تشولولا. وكانت هذه نقطة الانعطاف في الفتح الإسباني للمكسيك؛ فحين سمع ملك النهوا مونتيزوما بأنَّ كورتيس اكتشف الخطة المرسومة ضد عساكره وأحبطها، تنامت لديه القناعة بأنّ الفاتح الإسباني ليس رجلاً عادياً بل تجسيداً للإله كويتزالكوتل. وغالباً ما وصف المكسيكيون مالنتزين بأنها خائنة لشعبها؛ إلاّ أنّ اللقب المحقِّر، La Chingada، يكشف عن موقعها العسير وسط سياسات القوة، بوصفها امرأة بين رجال، ومتعددة اللغات بين ذوي اللغة الواحدة، بِقَدْر ما يكشف عن خيانتها. فما القوة التي يحوزها المترجمون في الميدان السياسي؟ وكيف تزداد تلك القوة تعقيداً بعوامل مثل الانتماء إلى جنسٍ، أو عِرْقٍ أو طبقةٍ مُحْتَقَرة؟

وبعد قرن أو أكثر، في العقدين الأولين لمستعمرة بليموث (1620- 1640) التي غدت الآن ماساشوستس، عَمِلَ الباوتكسيت بريف سكوانتو Pawtuxet brave Squanto كأول مترجم للمستعمِرين الإنجليز، وعُرِفَ في التاريخ (الإمبراطوري) كصانع للسلام، والمعاهدات، الخ. وكان قد تعلم الإنجليزية بتلك الطريقة المؤلمة، حيث أُسِرَ من قبيلته وبيع في سوق النخاسة في إنجلترا؛ لكنه فرّ وعاد إلى قبيلته التي كانت عندها قد أُبيدَت؛ ووقع في الأسر ثانية وبيع من جديد في سوق النخاسة، وفرّ مرّة أخرى، وعاد إلى وطنه، الذي كان المستعمرون يطلقون عليه اسم العالم الجديد. والسؤال: ما التعقيدات الإنسانية (الانفعالية والسياسية) التي كانت تقف وراء »سداد« ترجماته، وكيف تلاعب سكوانتو نفسه، والزعيم الهندي ماساسويت، والحاكم وليم برادفورد بتلك التعقيدات بحيث تتحقق لهم مصالح متباينة تتراوح بين الحفاظ على ماء الوجه، وتدمير المستوطنة الأوروبية، وتوسيع الهيمنة الأوروبية؟

من الواضح أننا كيما نستكشف ما تنطوي عليه الإمبراطورية من حيث علاقتها بالترجمة، وما تنطوي عليه الترجمة من حيث علاقتها بالإمبراطورية، لا بدَّ أن نمضي أبعد من التصورات التقليدية عن الترجمة بوصفها فعالية لغوية أو نصّية محض. أمّا أساس هذا التوسّع في المفهوم التقليدي للترجمة فكانت قد وضعته مدارس نظرية مختلفة شتّى، خاصةً:

– عمل جورج شتاينر التأويليّ في كتابه بعد بابل (1957)، حيث يتّكئ بقوة على الرومانتيكيين وما بعد الرومانتيكيين الألمان من يوهان وولفغانغ فون غوته إلى فالتر بنيامين ومارتن هيدغر كيما يستكشف  الترجمة بوصفها عدواناً، وغزواً، وأسْراً، وسَلْباً؛

– جماعة دراسات الترجمة متعددة النُّظُم أو الوصفيّة، ومن بين صفوفها إيتامار إيفن زوهار (1981,1979)، وجدعون توري (1995,1981,1980) وأندريه لوفيفر (1992)، الذين يستكشفون السياسات الكبرى الخاصة بالترجمة من حيث الأنظمة الثقافية والأدبية التي تُتَرْجَم إليها نصوص بعينها؛

– منظّرو Skopos وHandlung مثل هانز.ج. فيرمير (1989) ويوستا هولز مانتاري (1984)، الذين يتفحّصون السياقات الاجتماعية ونشاطات الترجمة، أي الترجمة كما ينجزها أشخاص واقعيون في شبكةٍ اجتماعية واقعية ولمقاصد وغايات معينة.

لقد تواجدت هذه المقاربات، التي تعمل جميعها على توسيع حدود »دراسات الترجمة« التقليدية، منذ أواسط سبعينيات القرن العشرين وحازت منذ ذلك الحين نفوذاً متنامياً. غير أنه ينبغي أن يكون واضحاً أنّ من الصعوبة بمكان أن نزيح تلك الافتراضات الفكرية التي صاغتها المراجع الكلاسيكية مثل شيشرون، وهوراس، وبليني، وكوينتليان منذ ألفين من السنين؛ حيث اعتُبِرَت الأفكار الكلاسيكية السبيل الوحيد المقبول للنظر في ممارسة الترجمة طوال ثلاثة أو أربعة قرون. بل إنّ الافتراضات القديمة عن الترجمة، تلك الافتراضات التي تراها عمليةً لغويةً محض متجرّدة أشدّ التجرّد عمّا هو شخصي وترمي إلى تحقيق تكافؤ معنوىّ بين النصوص، لا تزال هي التفكير السائد حول الترجمة لدى أقسام واسعةٍ من جماعة دراسات الترجمة الدولية. وإذا ما كُنْتَ تشاطر هذه الأقسام تلك الافتراضات، فسوف تبدو أفكار هذا الكتاب غريبةً تماماً وبعيدة أشدّ البعد عن دراسة الترجمة »الحقيقية«.

ما الذي تعنيه ما بعد الكولونيالية؟

يُنْظَر إلى حقل الدراسة المسمَّى »النظرية ما بعد الكولونيالية« أو »الدراسات ما بعد الكولونيالية« على أنّه جزء من حقل النظرية الثقافية أو الدراسات الثقافية متعدد الفروع، الذي يعتمد على الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، ودراسات الجنوسة، والدراسات الإثنية، والنقد الأدبي، والتاريخ، والتحليل النفسيّ، وعلم السياسة، والفلسفة في تفحّصه النصوص والممارسات الثقافية المختلفة. بل إنّ الأهمّ من هذا التوصيف العام هو ملاحظة أنَّ الدراسات الثقافية تجمع معاً نقّاد الثقافة؛ فهي ليست مجرّد منتدىً لِسَبْرِ الثقافة بتلك الطرق الحيادية الخالية من أحكام القيمة بل تعزيز استراتيجيّ للنقد. فمنظّرو الثقافة غالباً ما يشعرون أنَّ تقسيمات الفروع الأكاديمية تعمل على سدّ السبيل أمام النقد الثقافي بعزلها المفكرين الأفراد في أقسام مختلفة ومنهجيات مختلفة، بحيث لا يمكن، مثلاً، لعالم الاجتماع الذي يقوم ببحثٍ كمّي وللباحث الأدبي الذي يقوم بتحليل بلاغي أن يتبادلا الكلام بما يكفي لاكتشاف أنهما يتقاسمان الغايات ذاتها، خاصةً كَشْف تلك الأشكال المختلفة الماكرة والمخفيّة جيداً من السيطرة الفكرية. وباتّكاء منظّري الثقافة على فكرة »الهيمنة« عند غرامشي في وصفه البنى السياسية والاجتماعية والثقافية والإيديولوجية والفكرية السائدة في المجتمع فإنّهم يستخدمون في العادة مصطلح »مناهضة الهيمنة« في وصف أنفسهم وما يقدّمونه من أعمال.

 هكذا تكون الدراسات ما بعد الكولونيالية قد ترعرعت على كلٍّ من انهيار الإمبراطوريات الأوروبية العظمى في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته وستينياته وما تلا ذلك من بروز الدراسات الثقافية المناهضة للهيمنة في الدوائر الأكاديمية (انظر أشكروفت وآخرون 1989، وتيفين ولاوسن 1994، ووليامز وكريسمان 1994). وتتقدّم الدراسات ما بعد الكولونيالية على الدراسات الثقافية في كثير من الحالات الفردية؛ إلاّ أن كليهما ترعرعتا معاً، ويُنْظَر إليهما اليوم على أن بينهما تلك الصلة الوثيقة والخصبة. أمّا المصطلح الآخر الذي يُسْتَخْدَم في بعض الأحيان كمقابل للدراسات ما بعد الكولونيالية فهو »دراسات التابع«، على اثر سلسلة من المقالات جمعها راناجيت جحا في ثمانينيات القرن العشرين وحرّرها تحت هذا العنوان.

ويبقى مجال الدراسات ما بعد الكولونيالية ومداها الدقيقان محلَّ نقاش. فقد عُرِّفَت بطرائق شتّى:

 (1)- دراسة مستعمرات أوروبا السابقة منذ استقلالها؛ أي كيف استجابت لإرث الكولونيالية الثقافي، أو تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه خلال الاستقلال. وهنا تشير الصفة »ما بعد الكولونيالية« إلى ثقافات ما بعد نهاية الكولونيالية. والفترة التاريخية التي تغطيها هي تقريباً النصف الثاني من القرن العشرين.

(2)- دراسة مستعمرات أوروبا السابقة منذ استعمارها؛ أي الكيفية التي استجابت بها لإرث الكولونيالية الثقافي، أو تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه منذ بداية الكولونيالية. وهنا تشير الصفة »ما بعد الكولونيالية« إلى ثقافات ما بعد بداية الكولونيالية. والفترة التاريخية التي تغطيها هي تقريباً الفترة الحديثة، بدءاً من القرن السادس عشر.

(3)- دراسة جميع الثقافات/ المجتمعات/ البلدان/ الأمم من حيث علاقات القوة التي تربطها بسواها من الثقافات/ المجتمعات/ البلدان/ الأمم؛ أي الكيفية التي أخضعت بها الثقافاتُ الفاتحة الثقافاتِ المفتوحةَ لمشيئتها؛ والكيفية التي استجابت بها الثقافات المفتوحة لذلك القَسْر، أو تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه. وهنا تشير الصفة »ما بعد الكولونيالية« إلى نظرتنا في أواخر القرن العشرين إلى علاقات القوة السياسية والثقافية. أما الفترة التاريخية التي تغطيها فهي التاريخ كلّه.

وقد تبدو هذه السلسلة من التعريفات متكلِّفةً، بل وإمبريالية هي ذاتها، تستعمر المزيد والمزيد من التاريخ الإنساني وتضعه تحت سيطرة منظور نقدي معين. ففي مقالته »ردود هامشية: مشكلة النظرية ما بعد الكولونيالية«، على سبيل المثال، يستغرب راسل جاكوبي (1995 :30) التركيز المفرط على التعريف الثاني:

يرى بعض المتمسّكين [بهذا التعريف] أنَّ الإمبريالية تغطّي الكولونيالية وتتمّتها، ما بعد الكولونيالية، الأمر الذي يحصر النطاق بأميركا الجنوبية، وإفريقيا، وأجزاء من آسيا. ويرى آخرون أنَّ هذا المصطلح يشتمل على مستعمرات »الاستيطان الأبيض« مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا، بل والولايات المتحدة. فما الذي يبقى خارجه إذاً؟ ليس سوى القليل. ففي الدراسة الموسومة الإمبراطورية تكتب ردّها (روتلج1989)، وهي نصٌّ مؤسِّس بالنسبة لكثير من المنظّرين ما بعد الكولونياليين، يقدّر بِلْ أشكروفت وغاريث غريفيث وهيلين تيفين أنَّ ثلاثة أرباع العالم قد عانت من الكولونيالية. ها نحن أمام حقلٍ جديد يزعم أنّ مجاله يمتدّ على مدى أربعة قرون ويغطّي معظم الكوكب. لا بأس.

وبالطبع، فإنَّ ذلك »المجال« يزداد اتِّساعاً في التعريف الثالث؛ فأين هي الثقافة التي لم تحكمها ثقافة أخرى في لحظةٍ ما من لحظات تاريخها؟

لقد بذل بعض الباحثين ما بعد الكولونياليين كلَّ ما بوسعهم لتكريس واحدٍ من هذه التحديدات بوصفه التعريف الأساسي الحاسم. غير أنّه قد يكون من المفيد في نصٍّ تمهيدي من هذا النوع أن نلاحظ وحسب أنَّ الجدال حول التوسيع المناسب لمصطلح ما بعد الكولونيالية لا يزال جارياً. بل إنّه قد يكون أكثر فائدةً أيضاً أن نلاحظ أنَّ كلَّ تعريف من التعريفات الثلاثة يروق لجماعة معينة من الباحثين ويكون مفيداً لها:

(1)- دراسات »ما بعد الاستقلال«: فمثل هذه المقاربة الضيقة في مداها تفيد الباحثين الذين يدرسون التاريخ القريب لثقافاتٍ ما بعد كولونياليةٍ معينة مثل الهند وبعض الأمم الإفريقية والإنديز الغربية. فهي تتيح لهم أن يركّزوا على المشاكل الجديدة (والقديمة نسبياً) الناشئة عن بقاء الإرث الكولونيالىّ بعد الاستقلال: مشاكل اللغة، والمكان، والذات، وقضايا سياسية وقانونية، الخ.

(2)- دراسات »ما بعد الاستعمار الأوروبي«: وهي مقاربة تفيد الباحثين الأوروبيين المناهضين للهيمنة والمهتمّين بتقويض هيمنة أوروبا الثقافية والسياسية، والباحثين من المستعمرات السابقة المهتمّين بترسيخ تجربة ثقافتهم مع القوة الإمبراطورية عبر استكشاف التوازيات مع الثقافات ما بعد الكولونيالية الأخرى. وهي تمكّنهم من وضع الحوادث التاريخية المحددة في سياق جغرافي سياسي أوسع.

(3)- دراسات »علاقات القوة«: وهي مقاربة تفيد المنظّرين الثقافيين الذين يتركّز اهتمامهم على إبراز علاقات القوة التي ظلَّت مكبوتة حتى وقت قريب، أو أُضْفَى عليها الطابع المثالي، أو الكوني. وهي تمكِّنهم من الاتِّكال على سلسلةٍ كاملة من التواريخ الإنسانية في ضرب أمثلتهم عن السيطرة الإنسانية وأثمانها، مما يشكّل ردّاً فاعلاً على وجهة النظر المحافِظة اللامبالية التي ترى أنَّ هذه الظاهرة أو تلك من الظواهر »ما بعد الكولونيالية« لا تنطبق علينا، أو على الثقافات التي نُعْلِي من شأنها.

بل يمكننا المضيّ إلى أبعد من ذلك أيضاً: »فقد أشار بعض النقّاد المعاصرين«، كما يقول أشكروفت وغريفيث وتيفين في الإمبراطورية تكتب ردَّها، »إلى أنَّ ما بعد الكولونيالية ليست مجرّد مجموعة من النصوص المُنْتَجة ضمن المجتمعات ما بعد الكولونيالية، وأنَّ من الأفضل النظر إليها بوصفها ممارسةً قرائية« (1989 :193). ومثل هذا التقييد يمكن أن يُطَّبَق على التعريفات الثلاثة جميعاً لما بعد الكولونيالية.

ففي دراسات »ما بعد الاستقلال«، تبدو النظرية ما بعد الكولونيالية على أنّها طريقة في النظر إلى تاريخ مستعمرات أوروبا السابقة بعد استقلالها – وهي طريقة خصبة إلى أبعد الحدود فضلاً عن كونها واضحة ولا بدَّ منها – لكنها ليست الطريقة الوحيدة من غير شكّ.

وفي دراسات »ما بعد الاستعمار الأوروبي«، تبدو النظرية ما بعد الكولونيالية على أنّها طريقة في النظر إلى تاريخ أوروبا ومجال نفوذها السياسي والثقافي خلال الأربعة أو الخمسة قرون الماضية – وهي طريقة منحازة، بالنسبة لبعضهم، حيث تنزع إلى إلقاء ضوء مزعج على بعض النصوص، والقادة، والحوادث وضروب وعي الذات الأوروبية التي كان يُضْفي عليها طابع مثالي حتى فترة قريبة – لكنها أيضاً مجرّد طريقة واحدة. وما يبررها ليس أنها تقول لنا الحقيقة أخيراً، بعد قرون من الأكاذيب البارعة، بل أنّها تدفعنا إلى النظر إلى أشياء لم نكن نريد أن نلاحظها، وبذلك تلقي الضوء على ثروة من المعلومات الجديدة وعلى صفٍّ كامل من الإمكانيات الجديدة لقيام فعل مبدئي.

 وفي دراسات »علاقات القوة«، تبدو النظرية ما بعد الكولونيالية على أنّها طريقة في النظر إلى القوة بين الثقافية، والتحولات النفسية الاجتماعية التي تُحْدِثُها ديناميات الهيمنة والإخضاع المتوائمة، والانزياح الجغرافي واللغويّ. وهي لا تحاول أن تفسّر كلّ الأشياء في هذه الدنيا، بل تقتصر على هذه الظاهرة الواحدة المهمَلة، السيطرة على ثقافة معينة من قبل ثقافة أخرى.

وسوف نرى أنّه في الوقت الذي ينزع فيه معظم الباحثين ما بعد الكولونياليين في الترجمة إلى تحديد مقاربتهم بالتوافق مع التعريفين الأول والثاني، فيُعْنَون بتأثير الترجمة على ثقافات معينةٍ استعمرتها أوروبا- مجتمع التاغالوغ عند فايسنت رفاييل، الأميركيين الأصليين عند إريك تشيفيتز، الهند عند تيجاسوينى نيرانجانا، مصر عند ريشار جاكومون، شمال أفريقيا الفرانكوفوني عند سامية محرز- فإن هنالك أيضاً دراسات ما بعد كولونيالية مهمّة للترجمة تنتمي إلى الصنف الثالث. فحين تعلّق ريتا كوبيلاند (١1991:30)، مثلاً، على النص الفرعي الإمبريالي الخاص بتملّك شيشرون خطباء اليونان (والثقافة اليونانية، بمعنىً أوسع) عبر الترجمة المبدعة، يكون من الواضح أنَّ رصدها هذا مشروط بالدراسات ما بعد الكولونيالية ويشكّل مصدر خصوبة بالنسبة لها في آنٍ معاً. فالصلات الصريحة بين دراسة الإمبراطورية القديمة والترجمة وتحولات التعبير الثقافي بصورة أعمَّ هي صلات جديدة نسبياً، ويمكن للدراسة ما بعد الكولونيالية التي تتناول مستعمرات أوروبا السابقة أن توفّر منظورات نافعة لاستكشاف تلك الصلات. وعلى سبيل المثال، فإن ريشار جاكومون (1992) معنيّ بصورة مباشرة بالعلاقات ما بعد الكولونيالية بين مصر وفرنسا، لكن مخطط دراسة الترجمة الذي يستخلصه من هذه العلاقات (انظر الفصل الثاني) هو مخطط بالغ الخصوبة بالنسبة للدراسات التي تتناول الترجمات الرومانية عن اليونانية، وترجمات إسبانيا القروسطية من اليونانية، والعبرية، والعربية إلى اللاتينية، والترجمات العامية من السنسكريتية في الهند ما قبل الكولونيالية.

 وثمة جدال حامٍ أيضاً، كما يشير راسل جاكوبي، حول البلدان والثقافات التي تُعَدّ »ما بعد كولونيالية«. وأكثر البلدان إثارةً للخلاف على هذا الصعيد هي ما يُطلق عليه اسم »مستعمرات الاستيطان الأبيض«: كندا وأستراليا ونيوزيلندا وخاصةً الولايات المتحدة التي غدت هي ذاتها قوة إمبراطورية. ويلاحظ أشكروفت وغريفيث وتيفين، في سياق إلحاحهم على وجوب اعتبار الولايات المتحدة ما بعد كولونيالية، أنّ:

 أدب الولايات المتحدة الأميركية ينبغي أن يوضع أيضاً في هذا الصنف. ولعلّ موقع القوة الذي تحتلّه الآن، والدور الاستعماريّ الجديد الذي تلعبه، أن يكونا السبب فيما نراه عموماً من عدم تبيّن طبيعتها ما بعد الكولونيالية.غير أنّ علاقتها مع المركز المتروبولي كما تطوّرت خلال القرنين الأخيرين كانت نموذجاً للآداب ما بعد الكولونيالية في كلّ مكان.(1989:2).

وهنا أيضاً، يستند الموقف الذي يتّخذه المرء من هذه القضية الى ما يدرسه وما يدفعه إلى هذه الدراسة. وعلى سبيل المثال، فإنّ اعتبار الولايات المتحدة ثقافةً ما بعد كولونيالية يبدو للمؤرّخ ما بعد الكولونيالي من أميركا اللاتينية والكاريبي ضرباً من الفحش. فالولايات المتحدة لم تقتصر على ممارسة سياسات استعمارية جديدة واستغلاليةٍ مفرطة في هذه المناطق، وإدارة الاقتصادات المحلية من خلال الشركات متعددة الجنسية دون أن »تمتلك« تلك البلدان كما تُمْتَلك المستعمرات في حقيقة الأمر، بل تعدّت ذلك إلى إبقائها بورتوريكو والجزر العذراء مستعمرات بالمعنى القديم للكلمة. (ويرى بعضهم أنّ هاواي هي مستعمرة في إهاب »دولة«، وهو المصير ذاته الذي يجدُّ الحزب الحاكم في بورتوريكو في السير نحوه).

 غير أنّ باحثين آخرين يرون أنَّ دراسة تاريخ الولايات المتحدة ما بعد الكولونيالي تبقى دراسة خصبة ومفيدة، بوصفها »نموذجاً للآداب الكولونيالية في كلّ مكان«. وعلى سبيل المثال، فإنَّ »ترجمة« الهنود الأميركيين التي سنرى كيف يستكشفها إريك تشيفيتز هي مشكلة ما بعد كولونيالية. كما أنَّ الصدامات الحالية في الولايات المتحدة بين الأنجلوفونيين المسيطرين والهسبانيين المهمَّشين، وبين البيض والسود، هي مشكلات ما بعد كولونيالية. وحركة الإنجليز فقط وما تعكسه من »بوتقة انصهار« لتعدد الألسنة هي مشكلات ما بعد كولونيالية. كما أنَّ التجاذب الدائم تجاه إنجلترا وأوروبا بوصفهما المركزين الإمبراطوريين السابقين- أي ذلك الشعور لدى الأميركيين بأنهم أرقى وأدني في آنٍ معاً من الإنجليز وبقية الأوروبيين، وذلك القلق العميق تجاه مشاعرهم المختلطة هذه- هو مشكلة ما بعد كولونيالية.

نشوء النظرية ما بعد الكولونيالية

 وُلِدَت الدراسات ما بعد الكولونيالية من تاريخٍ مختلطٍ من الاستجابات، البريطانية والهندية في معظمها (خاصةً المبكرة منها) لكلٍّ من الكولونيالية وأفولها في القرن العشرين ولسلسلةٍ من المفكرين الغربيين الراديكاليين (كارل ماركس، فريدريك نيتشه، لوى ألتوسير، فريدريك جيمسن، جاك ديريدا، ميشيل فوكو، إدوارد سعيد) الذين أشاعوا الاضطراب في الافتراضات التقليدية المتعلّقة بالمعرفة. ويمكن للقارئ أن يجد عرضاً جيداً لهذا التطور في مقالةٍ نافذة ضمّها كتاب الدراسة المقارنة للمجتمع والتاريخ الذي وضعه جيان براكاش، وعنوانها »كتابة تواريخ العالم الثالث ما بعد الكولونيالية: منظورات مستمدّة من التاريخ الهندي« (1990).

 ويرى براكاش أنَّ الخطوة الأولى في هذا التطور تمثّلت بالتأريخ الاستشراقىّ، أي بتواريخ الهند التي كتبها مستشرقون أوروبيون تصوّروا الهند على أنّها طفولة أوروبا الآريّة وتالياً على أنّها موضوع ثابت وراسخ وساكن، عاجز عن النمو (أي فاقد للقدرة على التقدّم) وعن تحقيق ذاتيته (أي فاقد للقدرة على التعبير عن ذاته).

 أمّا الخطوة الثانية فتمثّلت بالتأريخ القومي، الذي تطوّر من انتقادات وجّهها مؤرّخون قوميون هنود في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته إلى هذه الآراء المتّسمة بالمركزية الأوروبية، حيث عارض هؤلاء المؤرخّون التأريخ الاستشراقيّ بسرديات مركزية هندية بقيت مشابهةً للسرديات الاستشراقية التي حاولت إزاحتها. فمثل المستشرقين، حاول القوميون الهنود ردَّ الهوية الهندية إلى أسطورة مُرْضِية عن الآريين القدماء، الذين لا يزال إرثهم مشتملاً على كلّ ما هو قيّم، كما زعم هؤلاء. أمّا »السقوط« فقد أتى، بحسب هذا السرد الأسطوري، مع وصول المسلمين في القرنين الحادي عشر والثاني عشر؛ حيث أفسد ذلك الروح البراهمية في الهند وتركها عرضة للإمبريالية البريطانية. وعلى الرغم من معارضة هذه المقاربة المركزية الهندية أو القومية للتصور المركزيّ الأوروبي أو الاستشراقيّ الذي يرى إلى الهند بوصفها مرتعاً غامضاً لديانة حسيّة طفولية، ومحاولتها فهم التاريخ الهنديّ عبر عيون هندية تماماً، إلاّ أنّها لم تعمل، من نواحٍ كثيرةٍ، إلاّ على تعزيز الأساطير الاستشراقية القديمة.

 وتتمثّل المرحلة الثالثة بالتأريخ ما بعد الكولونيالي، الذي وُلِدَ، كما يرى التأريخ الهنديّ الذي يتبنّاه براكاش على الأقل، من محاولة تجاوز الآراء الضيقة التي ميّزت المرحلتين السابقتين بغية تفسير التعقيد الذي يَسِمُ ماضي الهند وحاضرها ورسم اتجاهات جديدة لمستقبلها في الآن ذاته. ويشير براكاش في هذه السيرورة إلى اتجاهين منهجيين كبيرين، الماركسي وما بعد البنيويّ، مُطْلِقاً على كلا هاتين المقاربتين صفة »ما بعد القومية«، مع وصفه المقاربة الأولى بالمقاربة »الأسسيّة« والثانية بالمقاربة »ما بعد الأسسيّة«. ويشير هذان المصطلحان الأخيران إلى صدعٍ في الفكر الفلسفيّ المعاصر بين أولئك الذين يعتقدون أنَّ هنالك كيانات أو ماهيات (أو أسس) ثابتة يمكن للمفكّرين أن يعتمدوا عليها في تنظير دوامة الظواهر المعقدة المحيطة بهم، وأولئك الذين يؤكدون أنّ مثل هذا الاعتقاد ليس سوى اختلاق أو وهم مُتْرَع بالحنين. وهكذا تُوصَف الماركسية عموماً بأنّها فلسفة أسسيّة نظراً لاعتقاد الماركسيين التقليديّ بالماهيات أو الأسس الثابتة مثل قاعدة المجتمع الاقتصادية، وبنيته الفوقية (الإقطاعية، الرأسمالية، الاشتراكية وإيديولوجياتها)، والطبقة الاجتماعية والصراع الطبقي (الأرستقراطية، البرجوازية، البروليتاريا)، وطبيعة التاريخ التقدمية (التي تَدْفَعُ قُدُماً باتجاه فناء الرأسمالية وانتصار الاشتراكية). أما المفكّرون ما بعد البنيويين مثل جاك ديريدا وميشيل فوكو فيعمدون، بالمقابل، إلى وصف هذه »الماهيات« أو الأسس المزعومة بأنها مَحْضُ »آثار خطاب«. وهذا يعني أنّها ليست »موجودة« ولا تمرّ عبرها القوة القائمة في المجتمع إلاّ لأنَّ هنالك جماعات اجتماعية كبيرة تؤمن بها وتتحدث عنها كما لو كانت كيانات راسخة. وتعني مقاربة التاريخ السياسي ما بعد البنيوية أشدّ العناية في العادة بتتبُّع مسارات »خطابات القوة« هذه: الطرائق التي تَنْشُرُ بها القوة (وفقدان القوة) في مجتمعات معينة. أما المجتمعات بدورها فيتمّ تصوّرها كقواعد مُتَنازَع عليها للتوحيد والتشظّي الخطابيين، وأمكنةً حيث تتنافس جماعات معينة للتمكّن من القوة وتعزيزها في حين تعيش جماعات أخرى بعيداً عن المركز، في دفقٍ من الهوامش المختلفة، دون منفذٍ إلى خطابات القوة التي تفرض النظام على التجربة.

 ولقد نَزَعَت المقاربات ما بعد الكولونيالية، خاصةً في تلك المجموعة النافذة من المقالات التي نشرها راناجيت جحا وغاياتري تشاكرافورتي سبيفاك في عدد من الأجزاء بعنوان دراسات التابع، إلى الاعتماد على هذه التقاليد الفلسفية، مشدِّدةً في بعض الأحيان على »اليقينيات« الأسسيّة من منظور ماركسي، وفي أحيان أخرى على »الأحاجي« ما بعد الأسسيّة (أي تلك الشكوك وضروب عدم الحسم الاستراتيجية) من منظورات ما بعد بنيوية (انظر أيضاً أوهانلون ووشبروك 1992 وبراكاش1992). فوجهة النظر الماركسية لا تتيح للباحث ما بعد الكولونيالي تحديد بنى القوة التي تواجه التابع وحسب بل تتيح له أيضاً صياغة »سياساتِ هوية« متماسكة في معارضة الأنظمة السياسية والإيديولوجية الظالمة. أمّا المقاربات ما بعد البنيوية فتتيح لهذا الباحث ما بعد الكولونيالي أن يتبيّن وينظّر الطرائق واللحظات التي تتصلّب فيها رؤى الهوية والتحرر المتماسكة هذه وتتحوّل إلى أساطير مترعة بالحنين تُوقِع التابع مرّة أخرى في شراك ماضٍ ثابت. وهكذا نجد توتراً أو ديالكتيكاً خصباً بين رؤى مُفْصَحٍ عنها بوضوح لما اعتدنا أن نكون عليه، وما نحن عليه اليوم، وما نريد أن نكون عليه غداً، ومن هم مضطهدونا وحلفاؤنا في تلك السيرورة (المقاربات الماركسية) من جهة أولى، وبين لمحات متشظّيةٍ مُدَوِّمةٍ ومُدَوِّخَةٍ ترمق تدفقات التجربة الفوضوية التي تتحدى مثل هذه الضروب من الإفصاح من جهة أخرى (مقاربات ما بعد البنيوية). فالمقاربات الأولى تمكّن من الإفصاح عن سياسات التحرر النشطة، كما تمكّن من العمل، فرادى وجماعات، على تحقيق مستقبل أفضل؛ أما المقاربات الثانية فتقدّم منظوراً أوسع وأعقد للقوى السياسية والإيديولوجية التي تشكِّلنا، وتشكّل حتى الصراعات التي نخوضها لتحرير أنفسنا من سيطرتها على تفكيرنا وكلامنا. وما يراه الباحثون التابعون أو ما بعد الكولونياليين هو أنّ من الجوهريّ والمستحيل في آنٍ معاً أن نُطْلِقَ هويةً ما بعد كولونيالية »جديدة«: فذلك جوهريّ، لأنَّ تلك البنى الكولونيالية غريبة وسلبية في الوقت ذاته، ولأنها أتت من الخارج ودمّرت كثيراً من قيم الثقافات المحلية، ولأنّ السياسات ما بعد الكولونيالية الفاعلة تقتضي تطوير رؤى محلية أكثر إيجابية؛ لكنه مستحيل أيضاً، لأن الخطاب الكولونيالي يواصل إملاء حتى هذه المحاولات ما بعد الكولونيالية التي تسعى إلى التحرر منه، وينزع إلى تشريط حتى تخيّل هوية (ما بعد كولونيالية) »جديدة« بالسُّبُل (الكولونيالية) »القديمة«. ولذلك قد يبدو لهنديّ ما بعد كولونيالي، على سبيل المثال، أنَّ البديل الوحيد لبقاء المرء تابعاً مُسْتَعْمَرَاً هو أن يغدو »حديثا«، أي أن يكفَّ عن كونه بدائياً، ويصبح أشبه بالمستعمِر الغربي، وهذه معضلة تحتل مكاناً مركزياً في قلب السجالات ما بعد الكولونيالية.

ويرى باحث هنديّ آخر وعضو نشط في جماعة دراسات التابع، هو ديبيش شاكرابارتي، في مقالة بعنوان »ما بعد الكولونيالية واصطناع التاريخ: من يدافع عن ضروب الماضي »الهندي«؟»(1992 :18) أنَّ التأريخ ما بعد الكولونيالي (خاصة الهنديّ) واقع في إسار نوعٍ من القيد المزدوج:

فهو من جهة أولى، ذات الحداثة وموضوعها في آن معاً، لأنّه يدافع عن وحدة مزعومة تُدعى »الشعب الهندي« لا تني تنفصم إلى اثنين: نخبةٌ تحدّثت وفلاحين ينبغي أن يتحدّثوا. غير أنّ مثل هذه الذات المنفصمة تتكلّم من داخل سرديةٍ كبرى تحتفي بالدولة الأمّة، وفي هذه السردية الكبرى لا يمكن للذات النظرية إلا أن تكون »أوروبا« مفرطة الواقعية، »أوروبا« بُنِيَتْ من الحكايات التي حكاها للمستعمَر كلّ من الإمبريالية والقومية.

 وبعبارة أخرى، فإنَّ الطريقة الوحيدة »الحقّة« أو »الموثوقة« لكتابة التاريخ الهنديّ من الهند هي كتابته (تخيّلياً) من أوروبا. فكتابة التاريخ الهنديّ تعني كتابة تاريخ الهند كأمّة، ومفهوم الأمة ذاته هو مفهوم أوروبي، قائم في شبكة التاريخ الأوروبي المفاهيمية. وهكذا تنطوى إمكانية كتابة تاريخٍ للهند بحدِّ ذاتها على نظرة مركزية أوروبية إلى التاريخ تتصوّر الهند في أفضل حالاتها وأشدّها استقلالاً على أنّها مجرّد انعكاس مشوّه لأوروبا. وهكذا يكون السؤال »ما الذي كان يمكن أن يكون عليه التأريخ الهندىّ اليوم لو لم يُصْنَع مفهومياً عبر التأريخ الأوروبي؟« أشبه بكوان أو أحجية من تلك الأحاجي التي تطرحها بوذية زن، مثل »ما الصوت الذي تحدثه يدٌ واحدة تصفّق ؟«. فالخطاب التاريخىّ الأوروبي (أو الأكاديمي عموماً) هو العدسة التي تمكّن الباحث ما بعد الكولونيالي حتى من تخيّل أنه يرى الهند بعيون هندية، وبذلك يجعل من المستحيل على هذا المشروع أن يثمر أو يسفر عن شيء.

 والحلّ الذي يقدّمه شاكرابارتي لهذه المشكلة هو في الحقيقة ذلك الحلّ الذي انكبّ عليه الباحثون ما بعد الكولونياليين في أرجاء العالم منذ بعض الوقت: »مشروع ترييف »أوروبا«، »أوروبا« التي جعلتها الإمبريالية الحديثة والقومية (العالمثالثية) كونيةً، بمغامرتهما المشتركة وعنفهما« (1992 :20). وكجزء من هذا المشروع، يدعو شاكرابارتي الباحثين لأن »يكتبوا في تاريخ الحداثة تلك التجاذبات، والتناقضات، واستخدام القوة، والمآسي، والمفارقات التي صاحبته«؛ أي لأن يفصحوا ضمن التاريخ الأوروبي (أو ضمن التاريخ الغربي أو تاريخ العالم الأول، بصورة أعمّ) عن »الظلم والعنف اللذين كان لهما الفضل في انتصار الحديث شأنهما شأن قوة الإقناع في استراتيجياته البلاغية« (1992 :21). و»ترييف« الغرب يعني دكّ التراتبية بين المركز والريف، التي هي في ظلّ الكولونيالية وبعدها تراتبية نمطية بين الثقافة والبدائية، والنظام والفوضى، والوحدة والتنوّع، وذلك بغية رؤية التنوّع والتغاير في كلّ مكان، لا بوصفهما ملمحاً من ملامح المستعمرات السابقة وحسب، بل بوصفهما أيضاً شرطين للمراكز الاستعمارية ذاتها سواء كانت أوروبية، أم أميركية شمالية، أم من »العالم الأول« عموماً. أما المصطلح الآخر الشهير الذي يُطْلَق على هذه العملية أو السيرورة فهو »نقل المركز« الذي سكَّه وشرحه الباحث والكاتب الكينىّ نغوجي واثينغو في كتاب بهذا العنوان:

المسألة مرّة أخرى هي مسألة نقل المركز: من اللغات الأوروبية إلى جميع اللغات الأخرى في إفريقيا والعالم؛ نقله إذا شئتم باتجاه تعددية اللغات بوصفها الحوامل المشروعة للخيال الإنساني (1993: 10)

ولقد سبق لنغوجي أيضاً أن كتب  تصفية استعمار العقل (1986)، وهو نصّ مؤسِّس في الدراسات ما بعد الكولونيالية غدا عنوانه عبارة مشهورة ومهمّة أخرى من مهمّات تلك العملية المضنية والمتواصلة التي تمَّ من خلالها تفكيك عقلية الكولونيالية أو إيديولوجيتها الجمعيّة بصورة تدريجية في كلٍّ من المراكز الإمبريالية والهوامش الكولونيالية السابقة.

 وهذا الجزء من المشروع بات مألوفاً بالنسبة لنا من خلال ما ندعوه تحليلاتٍ ما بعد بنيوية (فوكوية خاصة) للقوة المجتمعية؛ حيث يمكن للقارئ أن يعود بشكل خاص إلى كتاب ميشيل فوكو المراقبة والمعاقبة (1975). غير أنَّ كتاب فريدريك نيتشه جينالوجيا الأخلاق (1878) ربما يكون أول محاولة أوروبية عظيمة ل »ترييف الغرب« بهذا المعنى، فهو يتتبّع في هذا الكتاب تاريخ العنف الماديّ والمعنويّ الذي كان مطلوباً من ألمانيا لتحقيق »الثقافة« أو »الحضارة« الألمانية. وحقيقة الأمر أنّ نيتشه شخصية محورية في النظرية ما بعد الكولونيالية، فهو السلف الأوروبي الرئيس لتلك الدراسات المزيلة للتعمية والتي تتناول القوة المكبوتة أو التي يُضْفي عليها طابع غامض أو مثالي؛ وليس مصادفة أيضاً أنّ نيتشه كان أول من قام بنقدٍ للترجمة بوصفها إمبراطورية (انظر نهاية الفصل الثالث). وإنّه لذو دلالة أيضاً أنَّ أحد التيارات المهمة في النظرية ما بعد الكولونيالية يسير على خطا نيتشه في ربطه الترجمة بالإمبراطورية بصورة حصرية والافتراض على ذلك الأساس أنّ الترجمة شيء ينبغي التغلّب عليه وتجاوزه. يقول تشاكرابارتي، على سبيل المثالَّ:

هذا تاريخٌ سوف يحاول اجتراح المستحيل: يحاول أن يرنو إلى موته الخاص بتتبّع ما يقاوِمُ ويفرّ من أفضل الجهود البشرية الرامية إلى الترجمة عبر الأنظمة الثقافية وغيرها من الأنظمة الدلالية، بحيث يمكن تخيّل العالم مرّة أخرى بوصفه متغاير العناصر على نحوٍ جذري (1992:23).

الهيمنة والتذويت والاستدعاء

من المفاهيم الأساسية في الدراسة ما بعد الكولونيالية التي تتناول الإمبراطورية وما أعقبها مفهوم »الهيمنة« الذي أفصح عنه الماركسيّ الإيطالي أنطونيو غرامشي (الترجمة الإنجليزية  1971)، ومفهومي »التذويت« و»الاستدعاء«، اللذين نظّرهما الماركسيّ الفرنسيّ لوى ألتوسير (1971).

 ومفهوم الهيمنة عند غرامشي هو محاولةٌ ناجعة لتفسير قدرة السلطة الدائمة على تشكيل المفهوم الذاتيّ، والقيم، والأنظمة السياسية، وشخصيات الشعب ككل حتى بعد فترة طويلة من زوال المصدر الخارجيّ لتلك السلطة. ففي الأسرة، مثلاً، يمكن أن نتتبّع نمو الهيمنة من ال »لا« الأبوية إلى هزِّ رأس الطفل بقوة حين يمدّ يده إلى موضوع مُحَظَّر، مروراً بكلّ درجات استدخال السلطة الأبوية التي لا نهاية لها، وصولاً إلى حالة الراشد المكتمل الذي ينظّم أموره ويضبطها على النحو الأكمل. ويتّضح بقاء السيطرة الأبوية في هذه الحالة الأخيرة كلما فتح الراشدون أفواههم لضبط طفلٍ ما، حيث نسمع أصوات الآباء والأمهات صادرةً عنهم. وسوف نرى أنَّ المستعمرين الأوروبيين قد أفادوا إلى أقصى الحدود من هذا القياس على الأطفال والراشدين في محاولاتهم أن يشرحوا لأنفسهم ولرعاياهم كيف (أ) يبقى »المحلّيون« أطفالاً بالمقارنة مع حكّامهم الأوروبيين و(ب) ضرورة فرض نظام »تعليمي« (بما فيه الترجمة) »على المحليين للأخذ بيدهم من حالتهم الطفولية إلى حالةٍ أوروبية من»الرشد« أو »البلوغ«؛ أي إلى حالة من التنظيم الذاتيّ القائمة على استدخال السلطة الأوروبية.

أما التذويت والاستدعاء فهما المصطلحان اللذان استخدمهما ألتوسير للعملية التي يتحقّق من خلالها استدخال السلطة هذا. ففى السيناريو المثالي الذي وضعه ألتوسير، لا يغدو أعضاء المجتمع الأفراد ذواتاً قبل أن »تناديهم« أو »تستدعيهم« قوى المجتمع الحاكمة (ما يدعوه ألتوسير »أجهزة الدولة الإيديولوجية«). ففي هذا السيناريو لا يولد الشخص »ذاتا«- بالمعنى المزدوج الذي يشير إلى »فردٍ يفكر ويشعر ويعمل في العالم وعليه« (معنى »الذات« التقني المُسْتَمدّ من الفلسفة) وإلى »مواطنٍ صالح، وتابعٍ مخلص، وعضوٍ مطيع في المجتمع« (معنى »الذات« التقنيّ المستمدّ من السياسة)- بل المجتمع هو الذي يحوّل الشخص إلى ذات. وهذه العملية عند ألتوسر هي عملية معقّدة تصهر كلا المعنيين التقنيين لكلمة الذات subjec .

 هكذا يتكلّم الفلاسفة على التذويت subjectification بوصفه بروز الفرد الذي يفكّر ويشعر من جسدٍ يُنْظَر إليه على أنّه »موضوع«، أو شيء خامل. وعلى سبيل المثال، فإنَّ النظر إلى امرأةٍ بوصفها »موضوعاً جنسيا« يعني معاملتها كجسد لا يفكّر ولا يشعر أو كشيء يمكن للرجل أن يفعل به ما يشاء. ولذلك اهتمّت الحركة النسوية بإحداث التذويت لدى النساء: أي إعادة بناء المفاهيم والتصورات الخاصة بالنساء بوصفهم ذواتاً تفكّر وتشعر وتعمل على العالم.

 أمّا المنظّرون السياسيون، من جهة أخرى، فيتكلمون على الإخضاع subjection بوصفه السيطرة على شخص يُعَرّف على أنّه »خاضع« لآخر. وما يريده ألتوسر، توريةً، هو دمج المعنيين تحت عنوان التذويت. ففي نظريته، يشتمل التذويت دوماً على كلٍّ من دَفْعِ الشخص إلى إدراكٍ واعٍ مكتمل والسيطرة عليه في آنٍ معاً؛ فالشخص يغدو »(subject) بالمعنيين في آنٍ معاً، عبر جَعْلِهِ فرداً يفكّر ويشعر ويكون خاضعاً للقوى المهيمنة. وبعبارة أخرى، فإنّ الذاتية هي إخضاع. فالذاتية، أي كون المرء ذاتاً تفكّر وتشعر، لا تتحقق إلا في سياق سياسي من السيطرة والإذعان، أو الإخضاع. فما تفكر به الذات أو تشعر هو ما تريد لها أجهزة الدولة الإيديولوجية أن تفكّر به أو تشعر.

 أما الاستدعاء، أو النداء، فهو مصطلح ألتوسر الآخر الذي يشير إلى دعوة الشخص إلى الذاتية/ الخضوع. والفكرة هنا أنّك بتسميتك شخصاً ما شيئاً ما، خاصةً من موقع السلطة، تحوّل ذلك الشخص إلى الشيء المُسَمَّى. وعلى سبيل المثال، فإنَّ تسميتك طالباً »بطيء التعلّم« تعنى أن »تذوِّت« ذلك الطالب على أنّه بطيء، غبيّ، متخلّف؛ أي أنَّ ذاتية هذا الطالب تتشكّل على هيئة »بطيء التعلّم«، ويغدو من الصعب على هذا الطالب »المنادَي« على هذا النحو أن يتعلّم أي شىء بسرعة أو يسر. وأن تسمّي أو »تنادي« أو »تستدعي« الشعوب الأصلية في مستعمرة بأنهم »همج« يعنى أن تذوِّتهم بوصفهم بريّين، غير متحضرين، وغير عقلانيين، الخ. وبهذا يغدون خاضعين للمستعمِر بوصفهم ذواتاً »همجية«.

 وكما تبيّن تيجاسويني نيرانجانا في كتابها موقع الترجمة (1992 :33)، فإنَّ الهند الكولونيالية كانت تُدَار بآليات ثقافةٍ مهيمنةٍ: فالهنود الذين تمّ تذويتهم بوصفهم رعايا شركة الهند الشرقية، وبريطانيا العظمى لاحقاً، راحوا ينظرون إلى أنفسهم بعيون المستَعمِر: بوصفهم أطفالاً، مخنثين، لا عقلانيين، غامضين، لينيّ العريكة. وباستدعائهم على أنهم أطفال فإنّهم يغدون أطفالاً؛ ذلك أنّ تذويت المستعمِر يعلّمهم أن يخجلوا من ذاتيّتهم »الأصلية« (التي حدّدها لهم المستعمِر) وأن يتطلّعوا إلى ذاتيته هو، حيث يُعَرَّف بأنّه راشد، قويّ، عقلاني، وهلمجرا. وباستدعائهم على أنّهم »شرقيون«، أي على أنّهم »آخرو« البحث الغربي الآسيويون، فإنّهم يغدون شرقيين.

 والنقطة الأساسية التي تنبغي ملاحظتها في كلّ هذا هي أنَّ الهيمنة التي يمكن لها أن تذوّت شعوباً كاملةً ليست بالضرورة مؤامرة أو مكيدة من طرف القوة المستعمِرة؛ إنّها ذهنيّةٌ دائمة التحول أو حالةٌ عقلية جمعيّة لا تعمل عملها إلا إذا كانت تذوّت أعضاء الطبقة الحاكمة أيضاً. فهذا النموذج لا يتصوّر مستعمِرين يمتلكون الوعي الكامل ويسيطرون على أفعالهم سيطرة مطلقة ومستعمَرين هم مجرد دمى عاجزة في أيديهم. والأحرى أنّ المستَعمَرين أيضاً تسيطر عليهم الهيمنة، جزئياً على الأقل، وبصورة غير مكتملة، لكنهم لا يزالون من القوة بمكان. فالمستعمِرون »يُسْتَدعون« أو »يُذَوَّتون« بوصفهم سلطات، أومديرين، أو قضاة، أومبشّرين، أوأنثروبولوجيين، ويُتَوَقَّع منهم أن ينظروا إلى أنفسهم كراشدين عقلاء وإلى رعاياهم الكولونياليين كأطفال لا عقلانيين؛ و»يُسْتدعى« المستعمَرون أو »يُذَوَّتون« بوصفهم »محليين«، »همجا«، وما إلى ذلك، ويتوقَّع منهم أن ينظروا إلى أنفسهم كأطفال ينقصهم العقل وإلى حكّامهم الكولونياليين كراشدين عقلاء.

 ومن هنا بقاء الهيمنة الكولونيالية حتى بعد سقوط الإمبراطورية: فما إِنْ يُذَوَّت الشعب التابع بوصفه »شرقيا«، أو »آخر«، أو »غامضا«، أو »عاجزا«، أو »متوحشا«، أو »طفوليا« حتى يحتفظ بهذه الذاتية، ويبقى »مُسْتَدْعَى« بوصفه رعايا خاضعين حتى بعد مغادرة حكّامه الكولونياليين واستقلاله الظاهريّ. وبقاء الهيمنة الكولونيالية هو إحدى أعقد المشكلات الشائكة التي تواجه الذوات ما بعد الكولونيالية: كيف نستدعي أنفسنا بحيث نغيّر ذاتيتنا بطرائق خصبة ومنتجة؟

 وتجد نيرانجانا أنَّ استدعاء الهنود المستعمَرين إنّما يعمل عمله من خلال الترجمة: ذلك أنّ »الترجمات الأوروبية للنصوص الهندية والتي أُعِدَّت لجمهور غربي زوَّدت الهنديّ »المتعلّم« بسلسلةٍ كاملة من الصور الاستشراقية« (1992 :31). وبالنسبة لها، فإنّ هذا ما يحتّم على المشروع ما بعد الكولونياليّ أن يشتمل على »ترجمة« للنصوص- والذوات- الأصلية على نحوٍ يُعيد استدعاء من كانوا مستعمَرين ذات مرَّة بوصفهم يزيلون استعمارهم ويُصَفّونه على نحوٍ متزايد. ويبقى أن نرى كيف يُفْتَرَض بذلك أن يتمّ.

اللغة والمكان والذات

 يمكن أن نقول بشيء من التبسيط إنَّ التجارب الثقافية جميعاً تولد من تقاطع وتشابك اللغة والمكان والذات؛ وإنَّ التجربة ما بعد الكولونيالية تولد من ضروب شتى من بَذْر الاضطراب في تلك التقاطعات ونزع استقرارها. ويتتبّع »الاستدعاء« تقاطعات اللغة والذات، غير أنّه من المهمّ في سياقٍ كولونيالي وما بعد كولونيالي أن نهتمّ بالمكان أيضاً. ذلك أنَّ الكولونيالية تشتمل على الانتقال من مكان إلى آخر، وعلى أشكالٍ من »الانخلاع« يمكن أن تكون مادية أو ثقافية، كأن تُضْطَهَد ثقافة معينة من قِبَل ثقافةٍ يُزْعَم أنها أرقى فلا تعود تشعر أنّها »في موطنها«. وكما يلاحظ أشكروفت وغريفيث وتيفين، فإنّ »المكان، والانزياح، والاهتمام الطاغي بأساطير الهوية والأصالة هي سمة مشتركة في كلّ الآداب ما بعد الكولونيالية المكتوبة بالإنجليزية« (1989 :9)، ولعلّ ذلك أن يكون سمة لكلّ الأوضاع ما بعد الكولونيالية.

 ولقد وصف ماكسويل بصورة مفيدة، وإِنْ تكن مبسَّطة، تأثير اللغة على العلاقة بين المكان والذات (1965: 28-38):

هنالك صنفان واسعان. في الأول، يجلب الكاتب لغته الخاصة- الإنجليزية- إلى بيئة غريبة ومجموعةٍ جديدةٍ من التجارب: أستراليا، كندا، نيوزيلندا. وفي الثاني، يجلب الكاتب لغةً غريبةً- الإنجليزية -إلى ميراثه الاجتماعي والثقافي الخاص: الهند، غرب إفريقيا. إلا أنَّ قرابةً جوهرية تجمع بين هذين الصنفين… حيث »الصراع الذي لا يُطاق مع الكلمات والمعاني« يتّخذ له هدفاً إخضاع التجربة للّغة، وإخضاع الحياة الغريبة للّسان المستورَد.

 تشتمل كلتا التجربتين على تكييفٍ إشكالي للّغة مع المكان والذات، كما تشتمل بصورة حتمية على تكييف أشدّ إشكاليةً للذات مع اللغة والمكان. وتقتضي كلتا التجربتين من الكولونياليين، مستعمِرين ومستعمَرين، أن يسعوا وراء تواشجٍ جديد بين الكلمات ومراجعها، فيتعلمون أو يبتدعون كلمات جديدة للأشياء القديمة المألوفة، ويتبنّون كلمات قديمة في وصف أشياء جديدة وغريبة. لكن هذه التجربة تختلف كثيراً بين المستوطنين الأوروبيين، الغرباء في أرضٍ غريبة، والمنقطعين فجأةً عن العوالم الاجتماعية والطبيعية التي منحت كلاً من لغتهم وذواتهم وهم الاستقرار والأمن؛ وبين السكّان الأصليين الذين أفقرتهم الثقافات المستعمِرة، فانقطعوا فجأةً أو بصورة تدريجية عن اللغة والإحساس بالذات اللذين منحا عوالمهم الاجتماعية والطبيعية وهم الاستقرار والأمن. ويتضح هذا الفارق بجلاء في المرحلة التي تلي الاستقلال: فمستعمرات المستوطنين تكافح لخلق لغةٍ وذاتٍ جديدتين جوهرياً مؤسَّستين في المكان الجديد، في حين تكافح المستعمرات المفتوحة لإعادة خلق اللغة والذات القديمتين كما كانتا قبل هجمة الاستعمار.

 وعلى الرغم من الفائدة التي يقدّمها هذا النموذج بوصفه مقاربةً أولى لضروب الاختلاف في التجربة ما بعد الكولونيالية، إلا أنّه أبسط بكثير من أن يُنْصِفَ ما تنطوى عليه تلك التجربة من التعقيد. فهو يقصي حالات وسطى بالغة الأهمية، وبمعنىً ما، فإنَّ كلَّ ثقافة ما بعد كولونيالية تقطن تلك الحالات الوسطى. فأين هي الثقافة ما بعد الكولونيالية التي لا تبدي عن كلا النمطين، ولا تضمّ كلاً من المستوطنين من الثقافة المستعمِرة والسكّان الأصليين المُفْقَرين والمحرومين؟ إنَّ مجرّد تعداد المستوطنين البيض والسكّان الأصليين في أميركا أو الهند أو جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، لكفيل بأن يبيّن أنَّ تلك الثقافات جميعاً هي حالات هجينة مؤلَّفة من القطبين اللذين تحدّث عنهما ماكسويل.

 وثمة مزيد من ضروب التعقيد التي تنشأ حين ينظر المرء إلى جميع الجماعات التي تكوّن ثقافةً من الثقافات ما بعد الكولونيالية: لا المستوطنين الطوعيين والسكّان الأصليين فقط بل أيضاً المستوطنين غير الطوعيين (العبيد، خاصةً أولئك الذين جيىء بهم من إفريقيا إلى العالم الجديد، والمجرمين المدانين الذين حُكِم عليهم بالعيش في المستعمرات) والمستوطنين شبه الطوعيين (الخدم الذين يعملون بعقود مؤقّتة، كثير من الزوجات، معظم الأولاد)؛ لا الأعضاء »الأنقياء عرقيا« في هذه الثقافة أو تلك وحسب بل أيضاً أولئك المولَّدون، ثمرة التزاوج والتهاجن بين المستوطنين والأصليين. وعلى سبيل المثال، فإنّ نموذج ماكسويل لا يستطيع أن يفسّر حالة الإنديز الغربية التي جلبت أناساً من إفريقيا والهند والصين والشرق الأوسط وأوروبا وأهلكت السكّان الأصليين (الكاريب والأرواك) بصورة تكاد أن تكون كاملة. وجميع سكّان الإنديز الغربية هم افتراضياً مستوطنون منزاحون، لكن بعضهم (الأفارقة) كانوا قد جُلِبوا كعبيد، وبعضهم الآخر (الهنود والصينيون) كانوا قد جُلِبوا كخدم بعقود مؤقتة، وبعضهم الثالث (الأوروبيون) جاءوا كأسياد. وقد عمل التهجين بين هذه الجماعات الثلاث على تشويش تلك الخطوط مزيداً من التشويش، حتى بات من الصعب أن ننسب أي إنديزىّ غربي إلى هذه الجماعة أو تلك من جماعتيّ ماكسويل.

 عادةً ما تترافق هذه التغيرات في الثقافات ما بعد الكولونيالية بتوفيقيةٍ ثقافية وكريوليةٍ لغوية. وكلتاهما تعنيان على الدوام أَنْ ليس ثمّة عودة، الأمر الذي يحبط كثيراً أولئك القوميين أو المحليين الذين يعيدون عند الاستقلال خلق »ثقافة« ما قبل كولونيالية أو »شعب« ما قبل كولونيالي مُحِيَت منهما كلّ آثار التدخّل الكولونيالي. وعلى سبيل المثال، فإنَّ الكاتب الغويّاني دينيز وليامز يتكلّم على عملية »حَفْز«، هي تلك العملية الجارية التي تقوم فيها الجماعات المختلفة في ثقافةٍ ما بإعادة تشكيل بعضها بعضاّ عبر تفاعلٍ بالحَفْز، أما ولسون هاريس، الكاتب الغويّاني الآخر، فيمتدح الخلائط الثقافية في الكاريبي لأنها توفّر أشكالاً من الإبداع والفكر لا يمكن أن نجدها في المجتمعات التي تبدو أحادية الثقافة (انظر: أشكروفت وآخرون 1989 :151). وكذلك الكريولية اللغوية، التي ظلَّ يُنْظَر إليها لزمن طويل تلك النظرة الثقافية الأحادية بوصفها »تنغيلا« للّغة وحطّاً من شأنها، صارت تُعْتَبَر الآن إغناءً عَبْرَ ثقافي للّغة من خلال التصالب الثقافي: فحين تختلط لغتان معجمياً ونحوياً، لا يكون الناتج لغةً ثالثة ينبغى اعتبارها ارتداداً عن أي نقاء سابق بقدر ما يكون تنوعاً مثمراً ضمن هذه اللغة أو تلك (أو ضمن كلتيهما)، وضَرْباً من غَزْلِ إمكانيات لغوية جديدة على مستوى اللهجة، واللهجة الاجتماعية، واللهجة الفردية. وعند أشكروفت وشركاه (1989 :36)، أنَّ هذا التصالب الثقافي يتّضح على نحوٍ متزايدٍ »بوصفه نقطة النهاية الممكنة لتاريخٍ بشريٍّ من الفتح والإبادة لا نهائيّ في الظاهر وكان قد بُرِّرَ بأسطورة »نقاء« الجماعة، وبوصفه الأساس الذي يمكن أن يُقام عليه استقرار العالم ما بعد الكولونيالي بصورة خلاّقة«. والحال، أنَّ قسماً كبيراً من النظرية ما بعد الكولونيالية يسعى لأن يقدّم إطاراً لهذا الاستقرار الخلاّق الجديد.

أبعد من القومية: الثقافات المهاجرة والحدودية

 يعمد هومي بابا (1994)، الذي قد يكون الباحث ما بعد الكولونيالي الأبعد أثراً على الإطلاق، إلى تطوير فكرة الهجنة هذه تطويراً أعقد بكثير في مقالةٍ عنوانها »كيف تدخل الجدّة العالم: الفضاء ما بعد الحديث، الأزمنة ما بعد الكولونيالية، وتجارب الترجمة الثقافية«. وعند بابا، كما عند كثير من الباحثين ما بعد الكولونياليين، أنَّ مشروع ترييف الغرب يتحقّق بفاعلية أكبر من خلال دراسة الثقافة المهاجرة سواء ضمن »الغرب« أو على حدوده، أو ما يدعوه فنان الأداء المكسيكىّ والأميركي غوليرمو غوميزبينا »النظام (الحد) العالمي الجديد«. يقول بابا:

 تضفي ثقافة الـ»فيما بين« المهاجرة، أو موقع الأقلية، طابعاً درامياً على ما تبديه الثقافة من عدم قابلية الترجمة؛ وهي إِذْ تفعل هذا، إنّما تنقل السؤال المتعلّق بتملّك الثقافة أبعد من حلم داعية التمثّل، أو كابوس داعية العنصرية، بـ»نَقْلٍ كامل للموضوع«؛ باتجاه مواجهةٍ مع سيرورة متجاذبةٍ من الانشطار والهجنة تَسِمُ التماهي مع اختلاف الثقافة. (1994 :224).

 ولا تَنْبُعُ »عدم قابلية الثقافة للترجمة« عند بابا من فرادة كلّ ثقافة، وخصوصيتها، واختلافها عن الثقافات الأخرى، بل من كونها مختلطة على الدوام مع الثقافات الأخرى، ولا تني تفيض على الحدود المصطنعة التي تقيمها الأمم لاحتوائها. والترجمة بمعناها التقليدىّ تتطلّب اختلافاتٍ ثابتةً بين ثقافتين ولغتيهما، ليقوم المترجم بردم الهوة وإقامة الجسور بينها؛ أمّا اختلاط الثقافات واللغات في الثقافات المهاجرة والحدودية فيجعل الترجمة بمعناها التقليدىّ مستحيلة. غير أنَّ ذلك الاختلاط يجعل الترجمة أيضاً وفي الوقت ذاته، أمراً عادياً تماماً، يومياً ومألوفاً: فثنائيو اللغة لا يكفّون عن الترجمة؛ والترجمة هي حقيقة الحياة الفعلية. هكذا يقرن بابا الثقافات الحدودية بكلٍّ من عدم قابلية الثقافة للترجمة وما يدعوه »الترجمة الثقافية«: »أن تراجع مشكلة الفضاء العالمي من المنظور ما بعد الكولونيالي يعني أن تنقل موقع الاختلاف الثقافي بعيداً عن فضاء التعدد الديمغرافي باتجاه التفاوضات الحدودية التي تَسِمُ الترجمة الثقافية« (1994 :223).

 لنأخذ الولايات المتحدة والمكسيك. ففي الفضاء الإيديولوجىّ للتعددية الديمغرافية أو التعددية عموماً، هذان البلدان هما بلدان مختلفان، أمّتان مختلفتان، بثقافتين مختلفتين، ثقافة فردية في الولايات المتحدة وثقافة جمعية في المكسيك (إذا ما استشهدنا بأحد التوصيفات الشعبية)، ولغتين مختلفتين، الإنجليزية في الولايات المتحدة والإسبانية في المكسيك. والترجمة في هذا السياق التعدديّ لا تعدو كونها مشكلةً تقنيةً تتمثّل  بإيجاد المكافآت في إحدى الثقافتين/اللغتين لكلماتٍ وعباراتٍ ومدوّنات في الثقافة/اللغة الأخرى، أو، بحسب المقاربة متعددة النُّظُم التي طورها إيتامار إيفن زوهار وجدعون توري وأندريه لوفيفر وسواهم من الباحثين، مشكلة مناقشة لمعايير إحدى الثقافتين بالعلاقة مع معايير الثقافة الأخرى. فالثقافتان المصدر والهدف يتمّ تصوّرهما على أنهما مختلفتان جوهرياً لكنهما نظامان ثقافيان متكافئان يمتلكان إلى هذا الحدّ أو ذاك القدرة ذاتها على صياغة عمل المترجم وضبطه في تلبية حاجات الثقافة الهدف.

 أمّا في سياقٍ ما بعد كولونيالي، فينبغي أن نضيف إلى هذه المعادلة تباينات القوة الهائلة بين الثقافتين،ما يؤدّي لأن تغدو الترجمة إشكالية باطراد، بل مستحيلة ومن هنا »عدم قابلية الثقافة للترجمة«. فكيف يمكن للمرء أن يعيد التعبير عن نصٍ إنجليزيٍّ أميركي بإسبانية مكسيكية ويقدّم بذلك لشخصٍ من بلدٍ فقير من العالم الثالث أي شيء يشبه المعنى الذي لدى شخصٍ من أغنى بلاد العالم؟ هل يمكن للترجمة أن تتخطّى تباين القوة هذا؟ ما يراه بابا، وما يوافقه عليه عدد متزايد من الباحثين ما بعد الكولونياليين، هو أنَّ عدم قابلية الثقافة للترجمة تغدو عند الحدود على أشدّها وفي أقصى درجات قابليتها للحلّ العمليّ في الوقت ذاته، حيث يتكلّم المكسيكيون (بل وبعض الأميركيين الشماليين) على كلا جانبيّ الخطّ اللغتين كلتيهما ولا يكفّون عن ترجمة تجاربهم من هذه اللغة إلى تلك، لضروبٍ متنوعةٍ من الجمهور (سيّاح إلى الجنوب، سلطات اجتماعية مختلفة إلى الشمال).

 والحال، أنَّ الثقافة المهاجرة، أو الثقافة الحدودية، أو ما تدعوه الكاتبة الشيكانية التيجانية غلوريا أنزالدوا »الثقافة المولَّدة الجديدة«، تحظى بأهمية متعاظمة لدى الباحثين ما بعد الكولونياليين الذين يعملون على ترييف الغرب. فهي تضيف حدّاً ثالثاً منتجاً إلى ثنائية المستعمِر/المستعمَر: فعلى طول الحدود بين بلدان »العالم الأول«، مثل الولايات المتحدة، وبلدان »العالم الثالث«، مثل المكسيك، ثمة ثقافة قائمة تردم الهوّة وتقيم الجسور بينهما، بشتّى الطرائق التهميشية بل الوحشية في الغالب التي توفّر سبلاً جديدة للتطور الثقافي. وكلام أنزالدوا على الثقافة المولَّدة هو كلام إيجابي إلى أبعد الحدود: »من هذا التلاقح المتبادل العنصريّ، الإيديولوجيّ، الثقافي، والبيولوجيّ، ثمة وعي »غريب« قيد التكوين في الوقت الحاضر: وعى هجين جديد، هو وعي التخوم«(1987 :77). غير أنّها تدرك أيضاً ذلك الصراع الذي يكمن تحت هذا التفاؤل: »إنَّ المولَّد الذي هُزَّ له في المهد في ثقافةٍ، وأُقحم بين ثقافتين، وتوزّع بين الثقافات الثلاث جميعاً وأنظمة قيمها إنمّا يخضع لصراع في اللحم، صراع حدود، حرب داخلية«(78).

 وبالمثل، فإنَّ كارول بويس ديفيز، في كتابها النساء السوداوات والكتابة والهوية: هجرات الذات (1994)، تنظّر لما تدعوه »الذوات المهاجرة« بوصفها طريقةً جديدةً في الكلام على تداخل الثقافات والأعراق واللغات الذي نجده على الحدود بين الأمم. وبما أنّها امرأة سوداء هي نفسها، وُلِدت وترعرعت في الكاريبي وتعيش الآن في نيويورك، فإنها تُسَائِل كلا الطرفين القائمين في حَدّيّ هويتها المرتبطين معاً بوصفها »إفريقية-أميركية« و»إفريقية-كاريبية«: فبأيّ معنى هي إفريقية أو أميركية أو كاريبية؟ وإذا لم تكن أياً من ذلك، وكانت هويتها تجري وتسيل عبر هذه التخوم جميعاً، فكيف يمكن لها أن تخيط معاً بواصلةٍ صغيرة توصيفين خاطئين؟ والحال، أنَّ ذوات الكاتبات السوداوات المهاجرة لا ينبغي »أن يتم تصورها بلغة السيطرة، أو الإخضاع، أو »الاستتباع« في المقام الأول، بل بلغة الزلاقة المتقلقلة والوجود في غير مكان« (36). ولأنَّ »في غير مكان« تشير إلى حركة، فإنَّ الذات الأنثوية السوداء تؤكّد على الفاعلية [القدرة على العمل في مجتمعات العالم الواقعي] بينما هي تعبر الحدود، وترحل، وتهاجر، وبذلك تعيد المطالبة بينما هي تعيد التأكيد« (37).

 ومن المصطلحات الأساسية في هذا المشروع ما بعد الكولونيالي الرامي إلى ترييف الغرب مصطلح الدياسبورا أو الشتات. وبينما كانت العادة في الماضى أن يُسْتَخْدَم هذا المصطلح للتأكيد على الوحدة العرقية أو الثقافية التي تجمع جميع أفراد الشعب المشتّت (خاصة اليهود) بالإحالة إلى أرضٍ موعودة، غدا في الدراسات ما بعد الكولونيالية الأحدث تمثيلاً للاختلاف، والغربة، والاختلاط، ولحقيقة أنَّ معظم شعوب الأرض أو كلّها قد جاءت من مكان ما وتعيش الآن في غير مكان. وهذا ما يعني أيضاً أننا قد تكيّفنا جزئياً مع ظروفنا الثقافية الجديدة بتمثّلنا معايير المحليين وقيمهم وباختلاط دمائنا بدمائهم، لكننا لا نزال نحتفظ جزئياً أيضاً بآثار ما كُنّا عليه في السابق. وهكذا يكون الشتات طريقةً لتصوّر الثقافة الحدودية على نطاق عالمي، حيث تُعنى الجماعات والأفراد بالاختلاف الثقافي على أساس يومي، في تلك المجتمعات حيث يعيشون ويعملون، ويتزاوجون، ويخلطون الثقافات والأعراق، ويترعرعون على لغتين وثلاث، ويقاومون (أو يذعنون) للضغوط التي تدفعهم لأن يغدوا (أو لأن يزعموا أنّهم يغدون) أحادييّ اللغة. فالثقافة الشتاتية هي ثقافة عالمية منخلعة على الدوام، منفيّة، تعيش بين غرباء يغدون الشخصيات المألوفة في بيوتنا وأماكن عملنا. وبذلك يترك الشتات أثره على الجميع؛ فالأمر لا يقتصر على وجود شتات أوروبي فضلاً عن الشتات الآسيوىّ، الإفريقىّ، اليهوديّ، بل يتعدّى ذلك إلى ضروب أخرى من الشتات هي مصدر »الغرباء«، والسكّان المهاجرين، والثقافات الحدودية التي تنهض في وسط أوروبا والولايات المتحدة (التي هي ذاتها نتاج ضروب من الشتات أوروبية وإفريقية وآسيوية).

 ولئن كانت هذه »الثقافة الحدودية« العالمية، أو هذا الشتات، تجعل الترجمة بمعناها التقليديّ مستحيلة، كما يرى هومي بابا، إلا أنها تجعلها أيضاً واقعة حاسمة لا يمكن نكرانها من وقائع الحياة. وإذا ما كان الغرب المُرَيَّف يبدو أشبه فأشبه بمستعمراته السابقة، في تغاير عناصره وتنوّعها، فإنَّ ذلك يوجب النظر إلى العالم ما بعد الكولونيالي برمّته بوصفه مسرحاً أو ساحةً للترجمة. فالترجمة في هذا السياق لم تعد مجرّد عملية نقل للمعنى يُجريها على النصوص اللغوية محترفون ذوو دربة رفيعة ومهارات لغوية وثقافية ترتبط بأكثر من ثقافة قومية أو مناطقية واحدة؛ بل غدت أساس قدر كبير من التواصل العادي اليومي. وبذلك فإنها تظل تنضح بتباينات القوة الكولونيالية التي شكلتها في الاصل.

دوغلاس روبنسون

و

ترجمة: ثائر ديب (كاتب ومترجم من سورية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى