صفحات المستقبل

بعد الامبريالية الإسلامية

 

مازن السيّد

 عندما يفجّر رجلٌ نفسه في هدف لقوات العدو، تبرز تضحية الرجل واستعداده لمقايضة حياته كفرد بما قد يعود نفعاً على المجموعة التي ينتمي إليها. ولكن عندما يختار طرفٌ أن يضع مجتمعاً كاملاً على محكّ الانفجار التام، تحت عنوان مواجهة العدو، فمن أضعف الإيمان أن تصبح مشاريع هذا الطرف عرضةً للشك والتساؤل.

لا يمكن للتضحية بمجتمع كامل أن تكون ثمناً مقبولاً للمعركة مع أي عدو، لأنها بحدّ ذاتها الهزيمة الكاملة، التي ما بعدها انتصار.

هذه الخلاصة التي لا أتصوّرها قابلةً للكثير من النقاش والمزايدة في حال بقينا ضمن إطار التحليل العقلاني، تنطبق اليوم على طرفين أساسيين، بات من الجليّ أنهما يجرّان المشرق العربي إلى بحورٍ من الدماء قد تتجاوز بكثير ما شهدناه خلال العامين الماضيين في سوريا.

ولا مساحة لّلغو هنا، او للتعريفات الفضفاضة؛ الطرفان هنا ليسا “السنة والشيعة”، بل هما مجموعتان متطرفتان تقومان على عقيدتين تمجدان تاريخاً حربياً غابراً ومستقبلاً مثالياً “مسيحانياً” (messianic)، وتستمدان الدعم المالي والعسكري والإعلامي إما من ايران وحلفائها أو من شبه الجزيرة العربية وحلفائها. (الاختبارات الأخيرة أثبتت أن تركيا لا زالت حتى الآن غير قادرة على لعب دور امبريالي، وخاصة في ظل تخبط “الإخوان المسلمين”).

 هاتان المجموعتان تمثّلان الرافدين المتبقيين من الامبريالية الإسلامية بمكوناتها “العربية والأعجمية”.

بطبيعة الحال فإن “التجنيس الثقافي” (homogeneisation)، يصبح من الأدوات الأساسية لهذه الامبريالية. وهنا أذكر ما رواه لي زميل صومالي عن توزيع البعثات “الوهابية” السعودية ل”حقائب عفّة” على النساء النيجيريات في المجتمعات الزراعية، حقائب فيها قفازات…موجّهة لفلّاحات تعمل في الحقل تحت لهيب الشمس طول النهار!

 نذكر أيضاً ما هو جليّ لأي متابع مدقّق لاحظ التصدير الايراني المعاصر لعناصر ثقافية أثرت كثيراً في المحيط اللبناني والسوري (بدرجة أقلّ)، على صعيد اللباس واللحية والحجاب والموسيقى (المحدودة طبعاً بما أننا في سياق سلفيات دينية).

 كما يبدو لافتاً بروز تبني بعض الأطر العلوية مثلاً في الأعوام الأخيرة، لمكونات وشعارات تنتمي تقليدياً إلى التشيّع الإثني العشري، في إطار تبلور التحالف بين النظام السوري والوجه الايراني لما أسميناه بالامبريالية الإسلامية.

الملفت للنظر هنا قدرة النظام السوري على الانضواء الكامل تحت لواء إحدى الامبرياليات الإسلامية، وتقديم نفسه في الوقت ذاته على أنه “الحصن العلماني” الأخير في المنطقة، كما يفعل المسؤولون السوريون الذين يتوجهون أكثر في الآونة الأخيرة إلى العقل السياسي الأميركي، بدءاً من تصريحات وزير الإعلام عمران الزغبي الأخيرة. وهو بذلك يسعى إلى تنويع ارتباطاته الامبريالية في اتجاه الغرب، اتباعاً لعقيدة حافظ الأسد الدبلوماسية.

 واقعياً، علينا الإقرار بأن النظام السوري أحسن السباحة في أمواج المصالح الغربية انطلاقاً من فتحه الباب أمام الامبريالية الإسلامية بوجهها السنّي بما يكفي لتغيير حسابات الغربيين في اتجاه التدخل لضرب “الجهاديين” بدل “إسقاط النظام”. وثمن الخراب والموت، لا يعني شيئاً في حساباته الوجودية.

لنجرّد أتباع الامبريالتين من غشائهما الفكري، علينا أن نخاطب الشرعيتين اللتين تبنيان عليهما اليوم حاضنتهما الشعبية: شرعية قتال الكيان الصهيوني، وشرعية قتال النظام القمعي العسكري المحلي. وبالعودة إلى نقطة البداية، يسقط الطرفان في ميزان القضيتين لأنهما يقدّمان المجتمع بأسره، بل المنطقة بأسرها كثمن لقتال العدو، ما هو بحدّ ذاته الهزيمة المطلقة كما ذكرنا.

 ما جاء به معاذ الخطيب في رسالته إلى الأمين العام ل”حزب الله”، عن مؤامرة كونية على المسلمين لاستنزاف ما أشرنا إليه ب”الامبريالتين”، ردّ عليه “حزب الله” في نفيه مسؤوليته عن الطائرة بدون طيار التي دخلت اجواء الدولة العبرية. فإن كان النفي صحيحاً، فيعني ذلك تكريساً لابتعاد بندقية الحزب عن اسرائيل، وإن لم يكن، فيعني ذلك أنه يراهن على اشتعال الصراع الكامل في المنطقة، مراهناً في الواقع على انتصار الامبريالية التي ينتمي إليها. وهو بذلك يصبّ في عكس اتجاه حديث الخطيب، الذي يعتبر أن أحداً لن يخرج منتصراً من هذا الصراع، سوى الغرب واسرائيل.

 رسالة معاذ الخطيب لا يعوّل عليها في المتابعة السياسية كأكثر من وثيقة مثالية لأمل إنساني في لحظة حرجة من تاريخنا، لكنها على الأرض تعبّر عن الكثير مما يخالج الغالبية العددية على امتداد المشرق، التي سئمت تحوّل كل القضايا المصيرية إلى صراعات خارجية على أرضنا لم يعد غطاؤها الديني كثيفاً.

 للأسف، وكما الخطيب، هذه الغالبية تقطن في ال”لا موقع”. والظروف الضاغطة تدفعها نحو العودة إلى ارتباطها الديني بإحدى الامبريالتين، تضاف إليهما طائفة علمانية للروس وطائفة علمانية للغرب.

 قلّة، تبني اليوم ارتباطاتها لا بمشاريع امبريالية، بل بمشروع الثورة على أساس قاعدته الشعبية على امتداد المساحة العربية، وذلك لا لغايات قومجية بل للأرضية المشتركة لغةً وإشكاليات وثقافة.

 هذه القلّة، هي النقيض الوحيد للخريطة الامبريالية الثقيلة، وهي المستقبل الوحيد الذي لن يقدر أحدٌ على استنزافه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى