صفحات المستقبل

وهم «الخيار الثالث» في سوريا/ داريوس درويش

 

في نقاش سابق في مكتب «تيار بناء الدولة السورية» في دمشق، أواخر عام 2011، تحدث السيد لؤي حسين وقتها عن «الخيار الثالث»، واصفاً تصرفات النظام على أنها تدفع باتجاه العسكرة وانجرار الثورة إلى ملعبه، ومركزاً على أن الخيارين الماثلين حاليا أمام الثورة هما (النظام أو الفوضى)، وكلاهما سيئان طبعاً، لذلك علينا إيجاد «الخيار الثالث».

ليس لأي عاقل أن يجادل في «الصحة النظرية» لهذا الطرح، علاوة على أن هذا ما تثبته الأوضاع الراهنة أيضاً، على أن بديل النظام الماثل أمامنا في المناطق المحررة هو الفوضى، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.

ولكن، هل كان من الممكن (أو لا يزال) إيجاد «الخيار الثالث» من دون «الفوضى»؟

صيغة «الخيار الثالث» التي كان «تيار بناء الدولة السورية« يركز عليها بشكل معلن، و«هيئة التنسيق« بشكل مبهم، هي أن يكون هناك استمرار في التظاهرات السلمية، يرافقها ضغط دولي بدءاً من الدول الداعمة للأسد (إيران وروسيا)، إلى الدول المعارضة للأسد (أميركا وأوروبا)، مروراً بدول البيريكس. وذلك للوصول إلى اتفاق تسليم للسلطة يستبعد بشار الأسد ورموز الإجرام، تشكيل حكومة انتقالية بقيادة المعارضة مع الحفاظ على بعض الوجود «النظامي» فيها، أو هيئة حكم انتقالي بشكل ائتلافي بين المعارضة والنظام.

بتفكيك هذا الطرح نجد بسهولة أنه يتألف من شرطين لتحقق النتيجة: شرط استمرار التظاهرات السلمية، وشرط قبول الدول المذكورة بالضغط على بشار الأسد ومن ثم افتراض قبوله لهذا الضغط، والنتيجة (المتفق عليها بين المعارضين إلى حد بعيد) الوصول إلى انتزاع بشار الأسد من السلطة.

في «استمرار المظاهرات السلمية»، لن أدخل بسرد تاريخي لهذه التظاهرات والأعداد الغفيرة التي خرجت فيها، ولكن هل توقفت التظاهرات لاحقا بالإرادة المحضة للشعب السوري؟ استمرار العنف الهادف للتصعيد من قبل النظام تجاه هذه التظاهرات، استدعى تحفيزاً للقيم السائدة عند معظم المجتمعات سواءً في سوريا أو الشرق الأوسط أو حتى معظم أنحاء العالم، تلك القيم التي لا تعتبر أن «عدم الرد على الإساءة» شجاعةٌ، بل تعتبرها جبنا إن لم يكن هناك قدرة على الرد، وتسامحاً إن توفرت القدرة. لذلك، فإن بناء «قدرة الرد» يأخذ الأولوية، ويحتاج بدوره إلى أدوات يفرزها الوعي المجتمعي، وهي «السلاح الفتاك» في الحالة السورية، نظراً لغياب الوعي بأسلحة وأدوات الكفاح السلمي (والتي لم يعمل على نشرها حتى أصحاب «الخيار الثالث» أنفسهم). كما أن ابتعاد أصحاب الوعي السياسي (معارضتا الداخل والخارج) عن قيادة الحراك الشعبي، وهو السبب وراء تسمية الثورة السورية «بالانتفاضة»، كان العامل الأبرز في عدم رؤية الأمل عند أصحاب الحراك الشعبي بجدوى النضال السلمي في إحداث التغيير المنشود.

بالتعريج إلى الشرط الثاني، وهو قبول المجتمع الدولي بالضغط على بشار الأسد وانصياع الأخير لهذا الضغط، فلو افترضنا أن الدول الداعمة للمعارضة ودول البيريكس ستقبل (وقامت بعضها) بالضغط على بشار الأسد والنظام من أجل تسليم السلطة، فهل كانت روسيا وإيران ستقبلان بالقيام بمثل هذا الضغط. لا أعتقد ذلك، فالمصالح الحيوية للدولتين بوجود بشار الأسد ونظامه ما كانتا لتسمحان بتغييره بأي شكل من الأشكال.

يرى العديد من المراقبين أن أنبوب الغاز القطري المزمع مده إلى أوروبا عبر سوريا، هو العامل الحاسم في وقوف روسيا إلى جانب النظام، فأي سلطة ستأتي بعد بشار وتنال توافقاً دولياً (كما يتحدث عنه أصحاب «الخيار الثالث») ستكون مستقلة على الصعيد الدولي بما يكفي لأن تبرم اتفاقاً مع قطر يعد مصلحة اقتصادية حيوية بالنسبة لها، وإن كانت سلطة وصلت بفضل الإسقاط العسكري للنظام، عندها ستسارع هذه السلطة إلى إبرام هذا الاتفاق المضر بقدرة روسيا على الابتزاز الدائم لأوروبا. لذلك، فالواجب الروسي (إن صحت التسمية)، يقتضي الوقوف بمواجهة أي تغيير محتمل للنظام، وهو موقف ثابت لروسيا (لعدم توفر البدائل أمامها) منذ بداية الثورة وسيكون حتى نهايتها.

ويضيف آخرون، أن الوجود الروسي في مياه البحر المتوسط (جنوب أوروبا)، هي أيضاً مسألة استراتيجية لروسيا، والدليل هو مسارعتها في إعادة تفعيل قاعدتها العسكرية في ميناء طرطوس مع بدء الثورة السورية، ربما لتهديد أوروبا من الجنوب، و/أو كسر احتكار الغرب (بقيادة أميركا) للمياه الدولية في البحر المتوسط. بجميع الأحوال، سيكون من المبالغة أن نعتقد أن أي سلطة مقبلة بعد بشار الأسد ستكون حليفة لروسيا، وإن كانت متصالحة معها، فإن حجم العلاقة لن يُسمَح له غربياً بالوصول إلى الحد الذي يمكن فيه بعث الإمبراطورية الروسية الجديدة انطلاقاً من أراضي سوريا عبر إنشاء قاعدة عسكرية لهم. فإن كنا نعتقد هذا، فالأولى أن تكون روسيا، بخبرائها ومحلليها، متيقنة منه.

الموقف الإيراني يبدو أكثر عمقاً من حيث مصلحتها في بقاء بشار الأسد كل هذا الأمد، وإن كنت لا أميل للاعتقاد أن استمراره ونظامه «إلى الأبد» يعد من ضمن الأولويات الإيرانية. ما تحتاجه إيران بشدة هو دولة مفككة وجيشاً ضعيفاً جداً في سوريا كما في لبنان. هذا ما سيكون الضامن الوحيد لاستمرار تواجد حلفاء إيران السياسيين في المنطقة، فمهمة الأسد ونظامه تنتهي حالما تسقط القوة العسكرية الحالية في سوريا أولاً، ويصبح من المستحيل بناء مثل تلك القوة في المستقبل ثانيا. وهنا لا يمكن أن تكون مقارباتٌ من نوع التطمينات الشفوية أو الاتفاقات الموقعة فعالة في إقناع إيران ببقاء مصالحها في سوريا إذا تخلت عن الأسد، فنزع القوة المُهدِدة أفضل بكثير من القبول بتعهد عدم استخدامها، وخصوصاً إذا وجدت إلى ذلك سبيلاً، وقد أوجدته بالفعل.

ولكن، ماذا لو قبلت روسيا بتعهد مبرم من المعارضة السورية بعدم مد أنبوب الغاز القطري، وقامت المعارضة بإبداء التزامها بالاتفاق الذي أبرمه حافظ الأسد مع الاتحاد السوفياتي السابق، والذي تم بموجبه إنشاء قاعدتهم العسكرية في طرطوس، وتعهدت بحفظ المصالح الروسية بشكل عام، وأيضاً قبلت إيران بتدمير طوعي للجيش السوري (كحالة تسليم الأسلحة النووية الأوكرانية)، هل كان بشار الأسد عندها سيرضخ لهذه الضغوط؟ لا أعتقد هذا أيضا، لاسيما في البدايات المبكرة للثورة السورية، حيث كان اعتماد النظام على الدعمين الإيراني والروسي في أدنى مستوياته، فعلى الرغم من أن النظام السوري يحاول إظهار نفسه على أنه داخل في منظومة المصالح العالمية من باب تمثيل «الأقليات» السورية ومواجهة الإرهاب، إلا أنه في جوهره سلطة ذو تركيبة تشبه المافيا، لا تسعى سوى للسلطة والمال المورث عنها، وبهذا المنطق، لا يمكن تصور تخلي النظام عن سلطته ووضع رأس ماله وشخوصه تحت نصل المقصلة، مهما تعرضت مبادئه المزعومة للخطر، وأي صفقة كان من الممكن أن تجري للحفاظ على حد مقبول مما يمتلكه بشار الأسد ونظامه، ما كانت لتتم طواعية، بل إنهم كانوا بحاجة للاقتناع بالاكتفاء بما يمتلكونه الآن مع بعض الخسائر، والاقتناع بعدم جدوى الاستثمار في الحرب، من خلال استخدام تهديد جدي وعسكري ومباشر تجاهه، وهذا ما لم يحصل، بل وحتى تم نفي إمكانية حصوله من البداية من قبل (راسموسن) الأمين العام لحلف الناتو. وهنا بعض المفارقة، حيث يمكن إسناد الفضل بقدرة تلك الدولتين الآن بالضغط الكبير على نظام بشار الأسد إلى «الفوضى» الحاصلة نتيجة التسليح بالدرجة الأولى.

إذاً، فالشروط التي يُبنى عليها تشكيل «الخيار الثالث» من شبه المستحيل تحققها (ربما نتيجة «تقديسها» المبالغ به لأدوات النضال السلمية ما أدى إلى منع هذا المقدس عن العامة)، وبالتالي فإن التمسك بهذا الخيار لن يكون سوى ذر للرماد في العيون لعدم مواجهة الحقيقة، وقد تتعداها إلى أن تُصنف ضمن خانة «التنظير» بالمعنى الشعبي. وهنا نعود إلى المربع الأول: الاختيار ما بين النظام والفوضى.

() كاتب كردي سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى