صفحات العالم

عودة إلى سورية


عبد الحليم قنديل

هل تمضي الأزمة فى سورية على طريق السيناريو الليبي ؟، وإلى أى مدى يمهد تعنت ودموية النظام إلى فتح الباب لتدخل أجنبي مسلح، تتحول معه الثورة السورية إلى مأساة تهدد بقاء الكيان السورى نفسه .

الخطر قائم، وإن كان مستبعدا إلى حد كبير، فليس فى سورية مطمع أو مغنم بترولي كما هى الحال فى ليبيا، وفى العراق قبلها، وأمريكا ومن لف لفها يتصرفون بطريقة براجماتية جدا، ولا يعنيهم أن يسقط عشرات الآلاف جرحى وشهداء، وربما يفضلون أن يبقى الحال على ما هو عليه، وأن يجرى استنزاف قوة الجيش العربي السوري فى حرب دموية مع شعبه، وأن تجرى عملية ‘ خض ورج ‘ للنظام السوري، ودون أن يسقط تماما، فهم لا يعرفون بالضبط إلى أين تذهب سورية بعد نهاية حكم بشار، ولا يثــــقون فى تعــــهدات سلامية مع إسرائيل على طريقــــة برهان غليـــون، وهو ما يفسر تردد واشنطن وعواصم غربية فى الاعتراف الرسمي بمجلس غليون، فهو لا يضم سوى قطاع أساسي من المعارضة ممثلا فى جماعة الإخوان المسلمين، بينـــــما أغلب الباقــــين شـــخصيات مشكوك فى أمرها ونسبها، وأقــــرب إلى دوائــــر عمل مخابــــرات بينهـــا جهاز المــــخابرات السوري نفســــه، أو من نهازي الفرص، والباحثين عن ثراء حرام من دفاتر شيكات خليجية، إضافة لشخصيات من تيار إعلان دمشــــق محدودة الحجم والتأثير، وهو ما لا يغري واشنطن بالعمل معهم إلى النهاية، خاصة مع تكاثر وتناسل جماعات سورية تعلن عن نفسها تباعا، وتعتبر أنها ممثلة لقضية الثورة، وتتصرف مع الدم السورى على طريقة التاجر الشاطر، والذى يبيع بضاعة لا يملكها، ويقبض ثمنها مقدما.

وأمثال هؤلاء هم الذين يدعون فى إلحاح إلى طلب التدخل الأجنبي العسكري، وإقامة مناطق آمنة ومناطق حظرجوي، وبدعوى حماية المدنيين، ووقف نزيف الدم السوري، بينما أى تدخل عسكري أجنبي لايعني إلا المزيد من إراقة الدماء، ولا يعنى سوى تدمير سورية بشرا وحجرا، وتحويل قضية الثورة إلى حرب أهلية مفتوحة، لا يعود فيها شرف لدم، ولا تفوق أخلاقي للثورة السلمية، وقد تتفكك فيها سورية لاقدر الله، وهو ما يعني أن طلب التدخل الأجنبي ليس دواء لداء، بل معالجة للداء بداء أكبر، فضلا عن إهداره لهدف استخلاص الإستقلال الوطني، وتخليص الأوطان من عبادة الأوثان، وهو هدف جوهري لأي ثورة وطنية عظيمة كالثورة السورية المتصلة فصولها إلى الآن، وتبدو محاصرة فى مناطق الأطراف، ودون نفاذ سريع إلى القلب السوري، وبالذات فى دمشق وحلب، وحيث يوجد نصف عدد سكان سورية، وحيث يتمترس النظام بآلته القمعية الدموية الوحشية.

وقبل أسابيع، كان قد صدر بيان مشترك لهيئة التنسيق مع المجلس الوطني الذي يترأسه غليون، و’هيئة التنسيق’ تضم جماعة المعارضة الأساسية فى الداخل السوري، ولا يكاد يكون خارجها من طرف داخلي مؤثر غير جماعة الإخوان، وقد اتفق الطرفان على رفض التدخل الأجنبي بكافة صوره وأشكاله، واعتبرا أن التدخل العربي ليس أجنبيا، لكن التدخل العربي لا يبدو إلى الآن مجديا بما فيه الكفاية، وتتعثر مهمة المراقبين العرب، ولا يتوقف نزيف الدم فى سورية، ولا يبدو النظام العائلي الديكتاتوري مستعدا لأي تسوية، وهو ما يستثير أجواء نفسية مواتية لطلب التدخل الأجنبي، ويستدعي الخطيئة الكبرى، ويحول رغبة الانتقام من نظام بشار إلى انتقام من سورية ذاتها.

وأول المستفيدين من طلب التدخل الأجنبي هو نظام بشار ذاته، فطلب التدخل يسيء إلى قضية الثورة، ويلطخ سمعة أنصار الثورة، وييسر مهمة النظام في اتهامهم بالعمالة والخيانة، ويساعده على اتقان تزوير صورة ما يجري فى سورية، وإلقاء الظلال السوداء على الرغبة الشعبية العارمة فى إنهاء نظام قاهر وسارق لشعبه، وتصويرها كما لو كانت مؤامرة استعمارية ضد النظام الوطنى جدا، وهو ما يستريح إليه النظام، ويستثمره فى جلب وتأكيد تأييد قطاعات متردة فى الالتحاق بركب الثورة، خاصة أنه يعرف مدى صعوبة اتخاذ الأمريكيين لقرار التدخل العسكري، وهم الذين يمدون حبال التواصل مع النظام إلى الآن، ويكتــــفون بالتصريحات النارية ضد بشار فى العلن، ودون رغبة فى اقتحام حقل ألغام مشرقي مليء بدواعى الكراهية للأمريكيين رعــــاة الإسرائيليين، ولاالمبالغة فى معاندة روسيا، والتى تعتبر النظام السوري حليفها الأوثق فى المنطقة، واستخدمت ‘ الفيتو ‘ من أجله فى مجلس الأمن، وتسعى لوقف تدهوره، وتعرض جهودها لاقامة جسور حوار بينه وبين المعارضة داخل سورية وخارجها .

والمحصلة إلى الآن أن الأزمة متفاقمة فى سورية، وأن نزيف الدم لا يتوقف يوما واحدا، وأن قضية الثورة فى مأزق، ولن تتقدم خطوة واحدة باستدعاء التدخل الأجنبي، بل ربما يحدث العكس بالضبط، فطلب التدخل الأجنبي طريق ضلال مؤكد، وخيانة كاملة لقضية الثورة، والحل فى سورية نفسها، الحل فى الوفاء الحقيقي لدم عشرات الآلاف من شهداء وجرحى الثورة، الحل فى انتقال شرارة الثورة إلى القلب السوري بعد انتفاضات الأطراف، وليس ذلك مستحيلا، وإن أخذ وقتا إضافيا، فمع ثبات وبطـــولات درعا وإدلب وحمص وحماة والبوكمال، بدأ القلق الثوري ينتقل بنبضه إلى أطراف حلب، وإلى ريف دمشق، وبدأت انشقاقات الضمير تتزايد فى الجيش، وتلعب دورا مؤثرا أكثر فأكثر، وهو ما نتصور أنه سيمضي إلى إطراد، فما يبدو من تماسك النظام الدموي، وعدم وجود انشقاقات كبرى فى بنيانه المغلق، هذه الحال لن تدوم طويلا، فآلة النظام القمعية الأمنية يتزايد إرهاقها فى ميادين الدم، وكل مذبحة ترتكبها تضيف إلى العداوة لها، وإلى كسر المزيد من حواجز الخوف، ومضاعفة الميل إلى انشقاقات بداخلها، وبشرط الابتعاد عن التشويش بدعاوى استدعاء التدخل الأجنبي، والتى تساعد النظام على تجنيد آلته العسكرية الأمنية، والإيحاء لعناصرها بأنها تخوض معركة وطنية، والتغطية على حقيقة الحرب القمعية المؤثمة بشرائع الأديان والأوطان والضمائر.

والمعنى باختصار أن استدعاء التدخل الأجنبي يفيد النظام، ويزيف قضية الثورة، ويهدد بتفكيك سورية، وليس المطلوب لاقدر الله أن تسقط سورية، بل أن يسقط النظام وحده، وأن تقوم سورية من رمادها، وكما يريدها أهلها وطنا حرا عربيا ديمقراطيا.

‘ كاتب مصري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى