صفحات العالم

الحوار في سورية.. بين الجد والمناورة


د يحيى مصطفى كامل

الثورة عملٌ خلاق ، لا أستطيع إحصاء عدد المرات التي سمعت فيها هذه المقولة، بل و رددتها مع الآخرين بإيمان…إلا أننا في غمرة الحماس ننسى ما لا يقل عن ذلك أهميةً ألا و هو أنها عملٌ كاشفٌ فاضح..

أجل.. إن الثورة إذ تحرر الواقع و تستخلصه من ستر الزيف الإعلامي و الأوهام الكثيفة المنسوجة من قبل الأنظمة تظهره على حقيقته العارية بكل قبحه و قسوته، لينجلي ما كان غامضاً مبهماً و يتيقن ما كان موضع شكوك…

من هذا المنطلق، فلعل ثورةً لم تعرِ نظاماً و تفضحه مسلطةً الضوء على كمٍ مذهلٍ من الالتباسات الفكرية العميقة و ازدواجية المعايير كالثورة السورية المجيدة؛ في يقيني الشخصي أن مرد ذلك الخلط يرجع إلى الطبيعة المنفصمة للنظــــام و المسافة الفاصلة بين ظاهرٍ داعمٍ و منادٍ بالقضــــايا الوطنية و باطنٍ معدنه و جوهره الاستبداد و القمع الرهيب، و لئن كان يشترك في ذلك مع سائر الانظمة التي استولت فيما يشبه القرصنة على مفاهيم التقدم و الحداثة فإن له طبيعةً و نكهةً خاصة نابعة من خصـــوصية سورية التاريخية و تركيبتها الاجتماعية، و الأهم من ذلك من شخصية و عقلية الأسد الاب و النظام الذي اوجد و كرس طوال اربعة عقود… و عليه فإني لأعتقد أن أي تحليلٍ في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة يقف في منتصف الطريق دون النفاذ إلى صلب بنية و تكوين هذا النظام يتسم بالنقصان، بل لنكن صريحين باللاجدوى.

لم تفتقر سورية إلى الأحزاب و الأفكار و القادة و المنظرين حين اعتلى سدة الحكم، و إنما إليه يرجع الفضل في وفاة هذا الحراك و تغير شكل البلاد… و إذ ترسخت لديه قناعة ،أنا الدولة و الدولة أنا، التي يشارك فيها إخوانه من طغاة العالم و الشرق بصفةٍ خاصة فقد شرع في إعادة تشكيل الدولة و المجتمع و الحزب (ذلك الذي اعتبره إرثاً و ملكيةً خاصةً له و لأسرته) ليكونوا انعكاساً و امتداداً وتجلياً لشخصه و لذهنه.. أنا لا أعني هنا رؤاه الاستراتيجية و إنما ما هو أعمق و أهم و أكثر ظلاماً من ذلك، إلى نسيج عقله بمكوناته و ما تأثر به من خلفيته العسكرية و قشور الافكار و كناسة النظريات التي حصدها في سني خدمته مشفوعة بفهمٍ غوغائي لتفسيراتٍ مبتسرة و مشوهة للاشتراكية و عروبية شوفينية على خلفيةٍ أسياسيةٍ و صلدة من موروثات العشيرة و الجبل… الملفت أن ذلك الرجل لم يكن طاغيةً صنعته أو ساعدته الظروف فحسب و أنما كان ذا مزاجٍ مستبدٍ متأصلٍ في نفسه يؤمن فقط بالولاء له و ليس للحزب و الدولة… رجل صبور صموت ذو موهبةٍ فريدة في التآمر يجمع بين القسوة الهائلة التي لا مثيل لها و الحرص الشديد و الأناة، فهو لم يكن بالمتهور أبداً شأن غيره و في حين أنه قد يسترسل لساعاتٍ في أحاديثٍ سياسية و محاضرات مدرسية عن الحقوق التاريخية معادة أبداً و لا طائل من ورائها مع زائريه مما قد يندرج تحت باب ،طق الحنك، فقد كان قليل الكلام فيما يهم، و على رأسه التخلص من أعدائه ( الذين غالباً ما كانوا أصدقاءه بل و رفاقه في مرحلةٍ ما…) و في عقد و نقض تحالفاته المتغيرة أبداً في بيئةٍ مختلفة دائماً.. و لأنه أدرك إما حدساً أو اعتباراً من سابقيه بأن أي نظامٍ لا يمكن له أن يستقر على العنف وحده فقد عمد إلى تصنيع ما يشبه قاعدةً سياسيةً لنظامه المرعب، فئة من المنتفعين المصفقين ممن يحتاج إليهم من البورجوازية التجارية العريقة في المدن الكبرى أما الخطوة الحاسمة فتمثلت في استبدال و إحلال من يمتون إليه بصلة قرابة من الدم أوالعشيرة في كل المفاصل و القيادات الامنية و الاستخباراتية الهامة التي تشكل عقل وعيني و إرادة حركة و قبضة النظام في ظل منظومةٍ أمنيةٍ عنكبوتيةٍ متغولةٍ هي عين الكابوس..و هم نفسهم الذين ما لبثوا أن احتكروا الاقتصاد مجردين نفس البورجوازية التي ذكرنا من امتيازاتها..

لقد نجح في أن يصبح هو كل شيء و ظل الله على الارض متوحداً في سلطته و قراره ثم تحيط به، و إن على مسافة، تلك الحلقة من الأعوان في بلدٍ بات ديدنه تراتبية ً هرميةً صارمة تحكمه بالحديد و النار…الأهم من ذلك أنه لاكتساب شرعيةٍ نهائيةٍ لنظامه قام بقفزةٍ مضمونةٍ للأمام بالتصدي للقضية الوطنية و الفلسطينية متفرغاً إلى لعبته المفضلة في السياسة و التحركات الإقليمية التي استغرقت جل وقته.

و هبت رياح الثورة…و فاض بالشعب السوري الذي سئم التهميش و القمع و الاستنزاف و تلال الأكاذيب و الشعارات الجوفاء و العنتــــريات فخرج إلى الشارع متحــــدياً آلة القمع الأسطورية و مطالباً بحقه في الكرامة و الحرية التي لا يستحق دونهما…و كالمتوقــــع، لم يجد النــــظام أمامه سوى الأسلوب الوحيد الذي يخبرُه للتصدي لهم: العنف اللامحدود، حتى أتت تصريحات السيد رامي مخلوف الحمــــقاء و تحركات الإسرائيليين لتسقط عن النظام قناع القضايا الوطنية المصيرية و الحداثة بحيث يبرز على حقيقته العارية…نظامٌ قمعي دموي كرس العشائرية و حكم طائفةٍ بعينـــها رغم الادعــــاءات المتزايدة بنبذها و تخطيها، لا يختلف كثيــــراً عن لبنان الذي طالما زايد عليه مع فارق أنه لا يسمح بأية محاصصة أو مشاركة للسلطة و أنه يسيطر على بلدٍ بحجم و قدرات سورية و يسخـــرها لمشروع بقائه، و ما كل تحالفاته سوى أوراق ضغـــطٍ لتعزيز موقفه الإقليمي بعيداً عن المبادئ…إن نظاماً يبيد شعبه للبقاء لا مبادئ لديه…

لقد وصل هذا النظام لنهاية الطريق وما كل الحديث عن الحوار في رأيي سوى مناوراتٍ لإضعاف و تقسيم المعارضة و كسب الوقت، فنظام كهذا متضخم العضلات الأمنية و فاسدٌ حتى النخاع يدرك تماماً أن أي تنازلٍ مهما كان ضئيلاً أو مشاركةٍ في السلطة و لو حتى شكلية يعني نهايته فضلاً عن نشر غسيله القذر و فظاعاته و ما أكثرها…

أما الالتباس و الازدواجية فناجمان إما عن قصورٍ في فهم طبيعة النظام التي أسلفنا ممن انطلت عليهم الأكاذيب ( أو يرغبون في تصديقها) و إما لأن الأطراف الإقليمية التي تقاطعت مصالحها معه تخشى غياب دعمه و خاصةً لورقة المقاومة بمطالبها المشروعة ناسيةً أو متناسيةً أن النظام لم و لن يكون أكثر بذلاً للقضايا الوطنية و انحيازاً للعروبة من الشعب السوري الذي لم تكن انحيازات النظام العروبية المزعومة سوى محاولةٍ هزيلة لمجاراة مزاج ٍ شعبي اصيل شكل الفكر القومي العربي إحدى تجلياته و مطالبه الحيوية ، كما أن سورية طليقة القدرات و المواهب من نيرهذا النظام المسخ لهي بكل تأكيد أكثر مقدرةً على البذل و العطاء … و قد لا يخلو الأمر من كون بعض الأطراف ببساطةلا يكترث لمأساة الشعب السوري…

تبقى الكلمة الأخيرة و الأهم أتوجه بها إلى أحرار سورية الذين يتصدون و يقعون شهداء لا آلة البطش بكل قضـــها و قضيضها فقط و إنما الإهمال المشــــبوه المتــــلكئ و مؤامرات شتى الأطراف الخارجية التي مازالت تفضل التعاون مع هذا النظام المجرم رغم كل ادعاءاتها..إني لأدهش إذ أراهم يستشهدون في هذه المواجهة الغير متكافئة و مع ذلك لم ينوا يخرجون بآلاف متزايدة يبتكرون أساليب جديدة للمقاومة السلمية كل يوم و يواجهون الموت بصدورهم العارية… و على الرغم من نفوري و ريبتي الفطريين من أحاديث العواطف و الحماسة إلا أنها كلماتٌ صادقة من القلب :

أنت الأجمل،أنت الأروع، أنت الأنبل ، أنت الأعظم، أنت الأنقى، أنت الأرقى، أنت الأبقى ، فالمجد كل المجد للشعب السوري العظيم…

‘ كاتب مصري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى