صفحات الرأي

الخطابة السياسية… من مارتن لوثر كينغ مروراً بأوباما وصولاً الى الـ “باور بوينت”/ اندرياس سينتكير

 

 

ألقى باراك أوباما آخر خطبة له في هانوفر (ألمانيا)، في 25 نيسان (أبريل) 2016. بعنوان «الى الأوروبيين». وهي من خطبه التي اشتهر بها وحملته الى رئاسة الولايات المتحدة. وعلى جاري عادته، ينتقل أوباما من الإبهار الى الملاطفة، ومن التورية الى الانفعال، بيسر لا شائبة فيه. وتبدو خطبته محاكاة أمينة لمثال مدرسي وتعليمي. فهو استهلها باستمالة الجمهور ودعوته الى الإصغاء اليه قبل الحكم عليه: «عليّ الإقرار بأن للشعب الألماني في قلبي مكانة خاصة»). وفي اختتام الخطبة يخلص الخطيب الى خلاصة جامعة: «فلا شك في أن أوروبا متحدة هي اليوم أمل معظم الأوروبيين، وضرورة تلح علينا كلنا، بعد أن كانت حلم حفنة من الرواد».

ويسعى أوباما في إقامة رابطة بصرية بالجمهور ومعه. فهو يعلق كلامه بين وقت وآخر، في مواضع منتقاة، ويجيل النظر في الحاضرين. ويبدو متخففاً من قيود منصبه قبل أن يستعيد هالة المنصب الرئاسي. وهو يخاطب الجمهور بكل جوارحه، ويحرك ذراعيه الطويلتين، ويوكل إليهما توقيع جمله، وتنبيه المستمعين الى ما يحرص على تنبيههم إليه. فهو خطيب بليغ، ويسير على خطى خطيب بليغ سبقه هو مارتن لوثر كينغ. وكان كينغ متمكناً من أدوات الخطابة وآلاتها. وبلغ الرجل ذروة تمكنه في خطبة تاريخية ألقاها في 28 آب (أغسطس) 1963. ففي ذلك اليوم، توجه 250 الف أميركي الى واشنطن، واحتشدوا في العاصمة مطالبين بإلغاء التمييز العنصري والتفريق بين السود والبيض، وانتظروا سماعه. فهو نجم التظاهرة في سبيل العمل والحرية، وخطبته يومذاك ذروة في فن الخطابة.

فبعد أن اعتلى المنبر في هذا اليوم القائظ عدد من خطباء الروابط والجمعيات والنقابات المحلية، جاء دور القس كينغ، وهو الأخير. وفي جيبه نص خطبة بارعة لم ينتهِ من إعدادها وتنقيحها قبل الرابعة صباحاً، وشاركه الإعداد مستشاره ويات والكر. ونصح والكر كينغ بترك جملة أكثر القس ترديدها في خطبه: «حلمت حلماً»، وعلل نصيحته بقوله إن الخطبة في هذا اليوم التاريخي ينبغي ألا تشبه غيرها.

وابتدأ مارتن لوثر كينغ خطبته وكأنه يتحدث الى أهل بيته. فبسط يديه، وأمسك حافة المنصة، ومال عليها. وأبرزت نبرته إلحاح قوله. وحرص على قراءة خطبته المكتوبة حرفياً. فكل جملة من جملها تحمل رأياً محكماً. وربما ساهمت حرارة الطقس في مكانة الخطبة التاريخية، وربما ساهم الجمهور الذي لم ينفك عن إجابة فقرات الخطبة والرد عليها.

فبينما يتوجه الخطيب الى مستمعيه، قاطعته المغنية الكبيرة ماهاليا جاكسون، وهي وراء المنصة قربه، وقالت: «مارتن حدثهم عن الحلم». وكان انقضى على بداية الخطبة 10 دقائق و30 ثانية، من غير ان تسري «الكهرباء» بين الخطيب والجمهور. وشرع الخطيب في إبلاغ الجمهور خطته: «عودوا الى (ولاية) المسيسيبي، عودوا الى كارولينا الجنوبية…». فكررت ماهاليا جاكسون، بصوت عالٍ هذه المرة طلبها: «الحلم، مارتن!». وفي الدقيقة الحادية عشرة، ترك كينغ نص خطبته ورفع صوته بما يشبه الصرخة: «وأنا كنت حلمت حلماً». وتذكر ويات والكر لاحقاً انه ادرك، في تلك اللحظة، أن الجمهور دخل، من دون أن يدري بعد بيت العبادة.

فكينغ معتاد على إلقاء خطب المواعظ، وإعمال تقنية سماها: «الأرنب في الشوك». وتقضي بإصلاء الجمهور الحجج المتتابعة، فإذا رد الجمهور، توجها بحجة راجحة وقاطعة. وحين رفع صوته بقولته: «وأنا كنت…» دوت استجابة الجمهور: «حلم بما هو أكثر». فمضى كينغ، وهو أخرج الأرنب من مخبأ الشوك، قدماً. فكرر 9 مرات القول: «وأنا كنت حلمت حلماً»، على شاكلة اللازمة الموسيقية أو الغنائية، ووقعها في كل مرة على إيقاع مرتجل ومختلف.

وابتكر استعادة لجرس الحرية الذي يقرع من قمم الجبال في وقت واحد. فدخلت قاموس الشواهد الأميركية ومحفوظاتها. وأحصى القمم: روابي نيوهامشاير الجميلة، وجبال ولاية نيويورك المهيبة، وذرى الصخريات («روشوز») المثلجة. وكرر 11 مرة: «ليقرع جرس الحرية!».

ودخلت خطبة واشنطن في باب عيون الخطب الأميركية، الى جنب خطبة غيتسبرغ التي ألقاها أبراهام لنكولن. وشواهد كينغ من مراجعه الكثيرة، الدينية والتاريخية الأميركية، لا يلاحظ المستمع استدعاءها الى السياق، فتبدو من بنات قريحة الخطيب البليغ، على ما ينبغي لها في فن الخطابة.

والمثلان، الثالث والرابع، على فعل الخطابة السياسية المعاصرة، أميركيان كذلك. ففي 26 حزيران (يونيو) 1963 كان على جون ف كينيدي، الرئيس الأميركي، أن يلقي خطبة في برلين الغربية، المدينة المقسَّمة والمحاصرة. ونصحه شقيقه، وزير العدل روبيرت، بإدراج جملة باللغة الألمانية. وأيد النصيحة روبيرت لوشنير، وهو صحافي أميركي ترعرع وشب في حي شارلوتينبيرغ ببرلين، وكان كينيدي يستشيره في بعض الشؤون الأوروبية. وسبق لكينيدي أن استعان بعبارة لشيشرون الروماني المشهور، في خطبة بنيوأورلينز في 1962، فقال: «أعظم الأقوال اعتداداً وكبراً هي قولك: انا مواطن في الولايات المتحدة»، محاكياً قول شيشرون قبل 21 قرناً: «أعظم الاقوال اعتداداً وكبراً هي قولك: انا مواطن في روما».

وما تألق في روما وفي نيوأورلينز قد يتألق في برلين، بل ينبغي ان يتألق فيها. وحين أراد كينيدي أن يخلص، في خطبته البرلينية، الى إثبات التزامه القاطع حماية برلين الغربية، وألمانيا الفيديرالية من ورائها، قال جملته الشهيرة: «أنا مواطن برليني»، بالألمانية. وتذكر هايدرون كوته، وكان في التاسعة عشرة يومها، موجة الحماسة الهائلة التي اجتاحت الجمهور. وغير بعيد من هذا، وقوف رئيس أميركي لاحق، رونالد ريغن، في بوابة براندنبورغ، بين شطري برلين، وأمام جدران المدينة، في 1986، ومناداة ريغن زعيم المعسكر الشيوعي السوفياتي: «مستر غورباتشوف، افتح هذا الحاجز! دمر هذا الجدار!».

والصدارة الخطابية الأميركية، مقارنة بالتحفظ والإمساك الإلمانيين، أثر من الآثار التاريخية التي خلفتها الخطابات النازية والديموقراطية في ثقافتي الامتين ونظاميهما التعليميين الجامعيين. فثبت في اعتقاد الألمان أن الخطابة الجماهيرية والدعوية الهتلرية ليست إلا فن قيادة الجماهير تحت تأثير التنويم والانبهار، الى الحرب والدمار والغزو والقتل. وكان بيسمارك المستشار الألماني الذي وحّد ألمانيا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وهو خطيب بارز، ينفي عن نفسه «تهمة» الخطابة ولقبها. فتاريخ الخطابة في ألمانيا، منذ القرن السادس عشر، مثار شبهات. وكانت مدينة توبنغين، منذ القرن السادس عشر، حاضرة جامعية درس فيها مارتن لوثر، المصلح البروتستانتي، وزميله الأول ميلانستون. والاثنان علمان من أعلام الخطابة. وفي 1753 ألغيت كرسي مادة الخطابة في الجامعة الكبيرة، وتقاسم الأدب والفلسفة، اي الخلفية النفسية والعقلية، إرثها. وحمل الإلغاء على معنى حاسم هو ضعف السياسة، وما يتعلق بها من إقناع وسعي في اجماع عصي، في ألمانيا.

وفي أعقاب قرنين، في 4 أيار (مايو) 1967، التمس فالتر جينس، الكاتب والناقد والمترجم وداعية السلم، من جامعته توبنغين، إحياء الكرسي. وحجته القوية هي أن الجامعات الأميركية الكبيرة كلها تخص مادة الخطابة بكرسي في قسم يسمى «أدب القول» أو الخطابة. وعرف جينس وظيفة الكرسي بـ «تسديد خطى النفس الى قطب العقل وأفقه». وميز الخطابة من الدعاية والبروباغندا: فالبروباغندا تريد الاستحواذ على الجمهور، استحواذاً كاملاً، والسيطرة على نفوس أفراده، على خلاف الخطابة التي تصدِّر الحجة وترسي عليها المنطق الخطابي.

و «الدعاية السوداء» لم تمت. فشعاب الشبكة العنكبوتية ورثتها. وعلى جبهتي «فايسبوك» و «تويتر» المعقدتين والعريضتين ينشط دعاة لا رادع لهم من الكذب والتمويه والخداع، ويتولون بث أنواع الدعايات كلها، العنصرية والجنسية والسياسية المنحطة. وتنظم البلدان الانغلو- ساكسونية دروساً في «التفكير النقدي» تضطلع بتمييز الحجج المخادعة من الحجج العقلانية. وفي توبنغين الألمانية، أنشأت مؤسسة كلاوس تشيرا مركزاً للبحوث في موارد التقديم. وكتاب الخطابة الذي يصدره المركز مؤلف من مختصرات وأجزاء تعيد النظر فيها على الدوام.

ويجتهد السياسيون، اليوم، بعد اقتصار الخطابة على جمل منتخبة تقرأ في نشرات الأخبار المسائية غالباً، في السير على خطى «باوير بوينت». ويتم تدريس الخطابة في الجامعات الأميركية بالتكنولوجيا والتسلية والديزاين (أو التمثيل البياني والصوري). وهو ثالوث (TED). ويمزج التدريس، في وقت لا يتعدى 18 دقيقة، بين الدقة والعاطفة واستدعاء الآفاق المبتكرة والاقتناع. ولا يزال رائد التدريس معياره ما كتبه فالتر جينس، على مثال لوثر: «أنا هذا، وما أقوله أعتقده».

* مدير قسم «المعرفة» في الصحيفة، عن «دي تسايت» الألمانية، 4/5/2016، إعداد منال نحاس.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى