صفحات الرأي

الربيـع العربـي: نحو آلية تحليلية لأسباب النجاح والفشل

خير الدين حسيب
مقدمة’ كنت قد كتبت افتتاحية للمستقبل العربي في شهر نيسان – أبريل((1)) من العام الماضي, حيث عمدت إلى استخلاص الدروس الرئيسية من الحركات الاجتماعية الواسعة النطاق التي كانت تتبلور في الوطن العربي والتغييرات التي كانت ترتسم حينها. أما اليوم فيبدو أنه ثمة حاجة إلى إعادة النظر في تلك الأحداث بطريقة تحليلية من أجل تفسير مختلف التطورات التي تشهدها المنطقة وإيضاح نتائج الربيع العربي, علماً أن الهدف من وراء هذا هو وضع فرضية تعنى بتفسير سبب نجاح بعض الانتفاضات في إسقاط أنظمتها, كمصر وتونس, وفشل المحاولات الأخرى, كما في سورية حتى الآن. من ناحية أخرى, فإني أنوي تبيان مدى قابلية تطبيق نموذج التسوية في اليمن مع بعض التعديلات أو الاختلافات البسيطة على مناطق أخرى من الوطن العربي حيث تأججت فيها الانتفاضات, أو من المحتمل لها أن تشتعل في المستقبل.
يتمحور هذا التحليل حول التئام أربعة عناصر أو شروط أساسية أو مسببات لقيام الانتفاضات, التي نجح توفرها جميعاً في تغيير أنظمة وإحداث تحولات جذرية في بلدَين عربيَين على الأقل. يمكن لهذه العوامل الأربعة أن تستخدم كمعايير تحليلية لتقدير لماذا لم تنجح بعض الانتفاضات في البلدان العربية من إسقاط أنظمتها, ومدى إمكانية قيام انتفاضات مدنية شعبية أخرى, أو لاستخدامها كمؤشرات يمكن لها توقع حصول بعض النتائج المعينة. وبالتالي, سوف أسعى في هذه الورقة إلى تحليل هذه العناصر في إطار الانتفاضات والثورات الحاصلة في الوطن العربي, بالإضافة إلى عرض آثارها في عدد من الأنظمة العربية كتونس ومصر, واليمن, والبحرين, وليبيا, وسورية مع التعليق على بلدان عربية أخرى, وإضافة بعض الملاحظات حول الربيع العربي القائم.
وقبل تحديد العناصر الأربعة أو الشروط التي يمكن اعتبارها معايير تحليلية موضوعية لتقييم احتمالات التغيير, بما فيه من إسقاط بعض الأنظمة العربية الدكتاتورية وإطاحة الطغاة, ينبغي لفت النظر إلى أنه في إطار هذا التحليل تعمل هذه المعايير كمجوعة متكاملة؛ أي أن تزامن هذه العناصر الأربعة والتقاءها سوياً يؤثر مباشرة في احتمال قيام عمل اجتماعي شعبي يهدف إلى التغيير, بينما يحول غياب أيٍّ من تلك العناصر دون تحقيق ذلك, أو على الأقل يقلّل من احتمال تحقّقه. وهذه العناصر أو الشروط الأربعة هي: أولاً , ينبغي أساساً كسر ‘حاجز الخوف السيكولوجي’ , حيث إن عامل الخوف لطالما قيّد الحركات الشعبية وصرفها عن محاولة التمرّد, رغم الظروف القاسية التي كان يعيشها الشعب والظلم الذي يتعرض له ويعانيه, أي رغم توفر المبررات التي تدعوه إلى التمرد؛ ثانياً , يجب على الثورة أو الانتفاضة أن تكون ذات طبيعة سلمية , خاصة وأن إمكانياتها لا تقارن بالجهوزية الأمنية, العسكرية لقوى النظام على الأغلب, ولأن لجوءها للسبل العنفية في الدفاع عن ذاتها سيقدم تبريراً للنظام الحاكم باستخدام كافة السبل المتاحة لقمع الثورات أو سحقها؛ ثالثاً , ينبغي أن يكون هناك حد أدنى من التماسك الاجتماعي ومشاعر مشتركة للوحدة الوطنية بين مختلف مكوّنات المجتمع لكي لا تؤثر الفروقات الدينية والطائفية أو العرقية في حال وجودها أو استمرارها في إضعاف حركات مقاومة النظام وإفشال المقاومة الشعبية؛ رابعاً , وهو العامل الأهم فيما لو توفرت جميع الشروط أعلاه, موقف الجيش أو القوات المسلحة من التمرد الشعبي المدني بحيث إنه إذا كان داعماً للحركات الشعبية, أو على الأقل وقف موقفاً حيادياً منها, فثمة فرصة أكبر لنجاح الثورة, بينما إذا ما تبنّى الجيش موقف النظام الحاكم, فسوف ينزل خسائر جمّة في صفوف المتظاهرين, وسوف ينعكس ذلك مباشرة على نتائج الانتفاضات.
إن تطبيق هذه العوامل والمعايير الأربعة يساعدنا على فهم النتائج المختلفة للربيع العربي حتى الآن, فبينما سجلت كل من تونس ومصر نتائج إيجابية لثوراتها, لم ينعكس الوضع كذلك على ليبيا, والبحرين, واليمن, وسورية, وعمان.
أولاً: تونس: نموذج إجتمعت فيه كافة العوامل الأربعة
اجتمعت العناصر الأربعة أعلاه في تونس, حيث إن قيام البائع المتجول محمد بوعزيزي بإضرام النار في نفسه أشعل نار الثورة في التونسيين جميعاً, وحملهم على كسر حاجز الخوف. من الناحية الديموغرافية, فإن المجتمع التونسي مجتمع متجانس بحيث إن كل أبناء المجتمع تقريباً هم مسلمون, ينتمون إلى المذهب المالكي, والطبقة الوسطى تشكل حوالى 50 بالمئة من عدد السكان. وقد شارك في الثورة كافة مكونات المجتمع بما فيه من متعلمين ونقابيين وشباب وغيرهم. كما بدأت الانتفاضات سلمية, واستمرت كذلك, رغم تعرضها لبعض المحاولات القمعية على يد النظام. أما الجيش التونسي فلم يكن يتمتع بتجهيزات عسكرية كبيرة وبقي على حياد طوال فترة الثورة. وبالتالي, يمكن القول إن العوامل الأربعة التي سبق ذكرها اجتمعت في تونس لتسهيل الثورة وإسقاط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي, وحملته على اللجوء السياسي إلى العربية السعودية.
من ناحية أخرى, وإلى جانب دور تلك العوامل في إنجاح الثورة في تونس, فإن توفرها سهّل في الواقع العملية الانتقالية لمرحلة ما بعد إسقاط النظام؛ بحيث جرى انتخاب المجلس التأسيسي وفقاً لانتخابات ديمقراطية حرّة بتاريخ 23 تشرين الأول – أكتوبر 2011, وتم تشكيل حكومة ائتلاف وطني وانتخاب رئيس جمهورية مؤقّت للمرحلة الانتقالية. وذلك أن المجلس التأسيسي سيقوم بصياغة مسودة دستور جديد يخضع للاستفتاء الشعبي وإجراء انتخابات برلمانية جديدة في تونس خلال سنة. وهكذا, عادت سيادة القانون والنظام في تونس إلى حدّ كبير, ولا تزال الثورة تفي بوعودها من ناحية احترام حقوق الإنسان وتعزيز الممارسات الديمقراطية. ويمكن القول إذاً, إن تونس استطاعت أن تقدّم نموذجاً يُحتذى به بدءاً من ثورتها الناجحة ووصولاً إلى الفترة الانتقالية التي تلتها من حيث إحلال ديمقراطية حقة حتى الآن. أما التحدي الأول الذي يواجه المرحلة الآنية في تونس فهو يتعلق بالجانب الاقتصادي, حيث إن الظروف والمشاكل التي تعرضت لها تونس تستوجب حلولاً طويلة الأمد, في حين أن الأوضاع الاقتصادية الراهنة في تونس تحتاج حلولاً سريعة ودعماً اقتصادياً ومالياً من الأنظمة العربية والمجتمع الدولي, الأمر الذي يحتاج إلى بعض الوقت لتحقيقه.
ثانياً: مصر: نموذج اجتمعت فيه كافة العوامل الأربعة
وإنما على نطاق أوسع وأكثر تعقيداً
في مصر, كانت ثورة تونس هي من شجّع المصريين على ‘كسر حاجز خوفهم’. أما الاختلافات الدينية والطائفية فلم تكن ذات أهمية, كما لم تكن ضمن الخلافات السياسية في تاريخ مصر الحديث والمعاصر, وبالتالي شارك المسلمون والمسيحيون على حد سواء في الانتفاضة في ساحة التحرير ومنذ بدايتها. وتماماً كما النموذج التونسي, بقيت الحركات التظاهرية ذات طابع سلمي, رغم الممارسات العدائية للقوات الأمنية التابعة للرئيس المخلوع. كما بقي الجيش المصري على حياد في بادئ الأمر, ورفض قمع المتظاهرين بالقوة قبل أن يبدّل موقفه في مرحلة لاحقة وينضم إلى طرف المتظاهرين سياسياً. إن التقاء هذه العناصر ساهم في إسقاط نظام الرئيس السابق حسني مبارك في خلال 17 يوماً فحسب. وعلى الرغم من حجم البلاد وعدد سكانها, استطاعت ‘أم الدنيا’, أكبر الدول العربية ديموغرافياً, إحداث تغييرات جذرية, الأمر الذي يستحق الثناء. فإذا كانت تونس قد قدمت لنا نموذجاً ناجحاً لالتقاء العناصر الأربعة المسببة للتغيير فإن تجربة مصر أثبتته لنا على نطاق أوسع.
خلال الفترة الانتقالية لمصر, قامت انتخابات حرّة ديمقراطية لمجلس الشعب ومجلس الشورى, وهما المسؤولان عن انتخاب لجنة مؤلفة من 100 عضو في المستقبل القريب لصياغة دستور جديد للبلاد. وتمهيداً لقيام الانتخابات الرئاسية في شهر أيار – مايو 2012, تمّت دعوة المرشحين لتقديم طلباتهم, حيث من المفترض أن يقوم حينها المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتسليم زمام السلطة إلى كلٍّ من الرئيس المنتخب وإلى مجلسَي الشعب والشورى.
وعلى الرغم من أن المرحلة الانتقالية في مصر لم تكن سهلة, بسبب الحجم الجغرافي والديمغرافي لمصر, إلى جانب أسباب أخرى, فإنه يبدو أن العقبات والعوائق التي تعرضت لها البلاد آخذة بالضمور والتلاشي, ومن المتوقع أن تنجح الثورة في تخطي تحديات المرحلة الحالية. ولكن في الوقت الحالي, ثمة ثلاثة تحديات على الأقل قد تعترض مسار تشكل الحكومة المصرية القادمة في نهاية المرحلة الانتقالية في حزيران – يونيو 2012, وهي: (1) حزب النور السلفي المتشدّد الذي حاز على نسبة 20 بالمئة من مقاعد مجلس الشعب؛ (2) مصير المعاهدة المصرية الإسرائيلية؛ (3) ومشكلة الظروف الاقتصادية المصرية الصعبة والحاجة إلى معالجات سريعة لا يبدو أنها متوفرة أو ستتوفر بسهولة. بالطبع في الوقت الحالي, لا نزال نترقب إلى أي مدى سوف ينجح النظام الجديد في حل هذه المعضلات, أو ما هي الإستراتيجيات التي سوف يتبعها من أجل ذلك؟ وكيف ستقوم الحكومة الجديدة بتقليص أو حسم دور الجيش المصري في الحياة السياسية, أو في إعادة النظر وتصحيح موضوع الامتيازات الاقتصادية وغيرها من الفوائد والمنح التي كان يتمتع بها ضباط الجيش أثناء حكم مبارك.
ثالثاً: اليمن: ثلاثة عوامل من أصل أربعة وصفقة فاوستية؟
نجحت الجماهير في اليمن في كسر حاجز الخوف عندما بدأت الاحتجاجات في التشكل في عدد من المدن الرئيسية أولاً في كانون الثاني – يناير 2011, قبل أن تنتقل الاحتجاجات إلى العاصمة صنعاء, حيث عدد قليل من اليمنيين يؤيدون الرئيس علي عبد الله صالح. وعلى الرغم من لجوء النظام للعنف في قمعه للمظاهرات, وقتله 3 متظاهرين في إحداها, اتّصفت المظاهرات بالطبيعة السلمية, وتضمّنت شعارات مختلفة, منها ‘جمعة الغضب’ في 18 شباط – فبراير في تعز وصنعاء وعدن, و’جمعة اللاعودة’ في 11 آذار – مارس 2011 على سبيل المثال. ولكن الوضع انفجر في العاصمة صنعاء عندما أطلقت القوات الحكومية النار على المتظاهرين في 18 آذار – مارس مسفرة عن مقتل 52 شخصاً, الأمر الذي حثّ عدداً من أعضاء القوات المسلحة إلى الانضمام إلى صفوف المتظاهرين. وعلى الرغم من ذلك, بقي الجيش بشكل عام تابعاً لنظام علي عبد الله صالح, خاصة وهو قائد الجيش إلى جانب أولاده وأقربائه باستثناء أحد الفصائل الذي انشقّ عنه.
وقد حاول مجلس التعاون الخليجي الاتفاق مع الرئيس السابق للقيام بنقل السلطة بشكل سلمي, وقدّم مبادرة لهذا الغرض, ولكن صالحاً رفض توقيع الاتفاق في 23 أيار – مايو, الأمر الذي جعل أحد مؤيديه الرئيسيين, شيخ صادق الأحمر, ينقلب ضدّه في 3 حزيران – يونيو, كما تعرض الرئيس صالح إلى إصابة بالغة جراء انفجار وقع في قصره ونقل على إثرها إلى العربية السعودية لتلقي العلاج. وأخيراً لدى عودته, وافق الرئيس اليمني على توقيع اتفاق مجلس تعاون دول الخليج في 23 كانون الثاني – يناير 2012 الذي يقضي بتسليم السلطة لنائب الرئيس, عبد ربه منصور الهادي, مقابل حصوله, وأولاده وأقربائه وجميع من عمل معه خلال 33 عاماً من رئاسته, على حصانة من الملاحقة القانونية أو القضائية. لذا أقر البرلمان اليمني مشروع قانون يمنح الرئيس السابق حصانة كاملة من الملاحقة بناء على الاتفاق الموقّع, على الرغم من ردود فعل واسعة للشعب اليمني اعتراضاً على هذا القانون. وفي 21 شباط – فبراير 2012, بعد فوز الهادي بنسبة 99.8 بالمئة من أصوات الناخبين, كونه المرشح التوافقي الوحيد للرئاسة, تسلم مقاليد الرئاسة اليمنية لمدة سنتين فقط, تليها انتخابات برلمانية, ثم الانتخابات الرئاسية الحرّة.
لذا نرى أن حالة اليمن مختلفة عن مثيلاتها, وتغيير النظام الذي حصل فيها, إذا أمكن اعتباره كذلك, لا يخلو من الالتباس والريبة. من ناحية أخرى, لم تجتمع إلا ثلاثة عوامل من أصل أربعة في حالة اليمن, وبالتالي فإن غياب عنصر دعم الجيش للثورة لعب دوراً حاسماً, وحال دون تحقيق هدف الثورة في إسقاط النظام. كما كان موقف الولايات المتحدة الأمريكية والعربية السعودية من الثورة بالغ الأهمية, فكلاهما لم يكن يريد فوزاً صريحاً لقوى المعارضة على النظام, الأمر الذي يمكن أن يحمل إحراجاً للأنظمة الخليجية نفسها, وهو يسلط الضوء على السبب الذي أرغم في نهاية المطاف, حركة المعارضة الرئيسية ‘اللقاء المشترك’ على الموافقة على تسوية مبادرة مجلس التعاون الخليجي.
رابعاً: ليبيا: سفك دماء وتوفر عامل واحد من أصل أربعة
على عكس تونس ومصر, فإن الربيع العربي أدى إلى مجموعة النتائج الدموية المختلفة كلياً عن سابقاتها من التجارب في حالة ليبيا. حيث يمكن القول إن معظم الشعب الليبي من المسلمين الذين ينتمون إلى المذهب المالكي كما في تونس, باستثناء أقلية من الأمازيغيين التابعين للمذهب الإباضي, ولكن المجتمع مع ذلك لم يكن متماسكاً لوجود انشقاقات واختلافات قبلية وعشائرية ومناطقية, على الرغم من قيام تحالفات قبلية على مر التاريخ خففت من وطأة هذه الفروقات إلى حد ما. وفي شباط – فبراير 2011, كسر الليبيون في بنغازي حاجز الخوف, ثم تبعهم أبناء بعض المدن الرئيسية الأخرى؛ ولكن في المرحلة الأولى من الثورة, غاب عامل الإجماع والتوافق الوطني النسبي على إطاحة النظام, وذلك لوجود عدد كبير من المجموعات القبلية الموالية والمؤيدة لنظام القذافي كقبيلة ورفلة وترهونة والأصابعة والصيعان, بالإضافة إلى قبيلة القذاذفة في العاصمة طرابلس, ومدينة سرت وغيرها من المناطق الأخرى.
وكذلك على خلاف ظروف الثورة في تونس ومصر, سريعاً ما أصبحت الانتفاضة في ليبيا عنيفة, وشرسة, لقيام القذافي بتوزيع عناصر مسلحة من الليبيين المؤيدين لنظامه يعملون وفقاً ‘لإستراتيجية’ ثورة مضادة. من جانب آخر, كان عدم التوازن ملحوظاً بين الإمكانيات العسكرية لقوات المعارضة وتلك التابعة للنظام؛ وفي تحليل نهائي لواقع النزاع في ليبيا, أثبتت قوات الجيش عن انقسام داخلي, حيث قام العديد من عناصره بالانسحاب من النزاع وتخلفوا عن خدمتهم للجيش, باستثناء كتائب القذافي التي لم يتخلف أحد من عناصرها, ودافعت عن القذافي ونظامه. كما شهد الجيش انشقاقات لعناصر رفيعة المستوى في الجيش الليبي كانشقاق اللواء عبد الفتاح يونس. ومع مرور الوقت ازدادت أعداد كتائب الجيش المنضمة إلى القوات المعارضة للنظام. والجدير بالذكر, أن القوات الجوية الليبية النظامية بقيت معطلة نسبياً لرفض الطيارين الحربيين تنفيذ مهام ضدّ الثوار, ممّا ألزم القذافي اللجوء إلى استدعاء طيارين أجانب والاعتماد على قواته الخاصة. وبالتالي لا يمكن القول إن عامل عدم تدخل الجيش أو القوات المسلحة بشكل عام, وهو العامل الرابع في هذا المقال, متوفر في الحالة الليبية, وذلك لخوض أعداد كبيرة من القوات المسلحة في اشتباكات ميدانية بين موالٍ للنظام ومعارضٍ له((2)).
ولكن تدخل قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) وبما وفّرته للانتفاضة من مستشارين عسكريين وإمكانات لوجستية وفرضها منطقة حظر جوي أرسى التوازن بشكل حاسم وغيّر الواقع الميداني مباشرة لصالح الثوار, الأمر الذي أدى إلى إطاحة النظام. حيث يمكن القول ببساطة إن مصادقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على القرار الرقم 1973 في 17 آذار – مارس 2011, الناجم عن دعوة مجلس التعاون الخليجي في 7 آذار – مارس, بالإضافة إلى دعوة الجامعة العربية في 12 آذار, الناجمة بدورها عن الائتلاف لحماية الشعب الليبي (مبادرة أطلقتها قطر, والإمارات العربية المتحدة, والأردن) فتح الباب أمام ذلك التدخل. إن القيام بغارات جوية وعمليات عسكرية مستمرة وواسعة النطاق من قبل قوات الناتو أدى إلى إلحاق خسائر بشرية كبيرة((3)). لذا فإن غياب العوامل الأربعة بالتزامن مع بعضها البعض التي أنجحت الثورة في تونس ومصر, لم تتوفر في ليبيا, رغم ‘كسر حاجز الخوف’, وهو أحد العوامل الأربعة التي تم تحليلها في هذه المقالة, وبالتالي انعكس غيابها على الحالة الفوضوية التي تشهدها ليبيا اليوم((4)).
في الوقت الحالي, لا يزال المجلس الوطني الانتقالي الليبي, الذي أسسته المعارضة الليبية كحكومة انتقالية مؤقتة والذي أعلن عن الوثيقة الدستورية في آب – اغسطس 2011, بالكاد يمسك بزمام السلطة في البلاد, بينما يقوم مجلس الوزراء المنتخب من قبل المجلس الانتقالي بتصريف الأعمال اليومية, وهو مسؤول أيضاً عن الوضع الأمني في ليبيا. من جهة أخرى, سوف يتم انتخاب مجلس وطني جديد في حزيران – يونيو 2012 وستوكل إليه مهمة صياغة دستور جديد لليبيا. ونظراً إلى كثرة الأطراف المحلية والخارجية التي شاركت في إسقاط نظام القذافي, ولاختلاف تجاربهم وأهدافهم, لن يكون من السهل إخضاعهم أو جمعهم تحت راية سلطة مركزية واحدة في المستقبل. ولكن ما يمكنه تيسير المرحلة الانتقالية الليبية أو تسهيل إدارتها يكمن في توفر فوائض النقد الأجنبي بما يعادل 140 إلى 160 مليار دولار أمريكي. في كل الأحوال, يكمن مستقبل البلاد في ضرورة إرساء قاعدة من التلاحم والتماسك الوطنييَن لتحقيق الوحدة بين مختلف القبائل والعشائر الليبية أو في تمكن التحالفات القبلية والتيارات الدينية (كالتيار السلفي على سبيل المثال) وكذلك الأقليات الإثنية (كالتواريغ والأمازيغ) من إثبات رغبتها في تخطّي اختلافاتها في سبيل مشروع الدولة الهش والجديد. وكما أن موضوع الجيش لعب دوراً هاماً في التأثير في نتائج الثورة, فإنه سينعكس كذلك على المرحلة الانتقالية في ليبيا حيث لا يزال غير واضح عمّا إذا كانت مختلف الميليشيات المسلحة ستنجح في الاندماج والانضمام تحت راية جيش وطني واحد فحسب.
خامساً: البحرين: تجربة طائفية في دول الخليج
وعاملَين من أصل أربعة عوامل واستقرار مؤقت
في البحرين, قام أغلبية المواطنين البحرينيين الفقراء من الطائفة الشيعية, وغير الممثلين سياسياً تمثيلاً حقيقياً, والذين يعدّون مواطنين من الدرجة الثانية, بالتوجه إلى دوّار اللؤلؤة احتجاجاً على النظام ذي الأغلبية السنية, وعلى الظلم الذي يتعرضون له منذ عقود طويلة, في حين أن مشاركة المواطنين من الطائفة السنية كانت شبه معدومة, في تلك الانتفاضة. وبعد أن نجح المتظاهرون في قطع الطريق المؤدية إلى وسط المدينة, التي تشكل المركز التجاري الحيوي, والاقتراب من حي ‘الرفاعي’, حيث تقع قصور عائلة آل خليفة الحاكمة, أطلق عناصر الأمن النار على المتظاهرين. وفي بادئ الأمر, اقتصرت مطالب المتظاهرين على طلب إحداث إصلاحات سياسية في البلاد, بما فيها الانتقال إلى نظام ملكي دستوري. ولكن بعد أن شهد المتظاهرون تلك المشاهد الدموية التي تم عرضها مباشرة على التلفاز, تحول الكثير منهم نحو الدعوة إلى إسقاط النظام الشعار الذي استخدم بكثافة في الربيع العربي. ولذا, رغم نجاح المتظاهرين البحرينيين في كسر حاجز الخوف, لم تكن المشاركة في المظاهرات على نطاق واسع شمل الطوائف الأخرى, كما لم يكن هناك توافق تام حول طبيعة المطالب التي يدعون إليها. ولكن الجدير بالذكر هو أنه عندما هدد الوضع بالخروج عن السيطرة قامت العربية السعودية في إرسال قوات ‘درع الجزيرة’ إلى البحرين في 16 آذار – مارس 2011 بذريعة حماية العائلة الملكية. ومع دخول قوات ‘درع الجزيرة’, اكتسب الوضع في البحرين بعداً جديداً كلياً؛ أولاً لوجود جيش غير مؤلف من البحرينيين, وثانياً كون هذا الجيش منحازاً حتماً لصالح النظام الحاكم. على إثرها, دعا ولي عهد البحرين الأمير سلمان بن حمد بن عيسى آل خليفة إلى البدء بحوار وطني. ورغم سكون المظاهرات وخمودها, إلا أن الوضع في البلاد لم يهدأ كلياً ولا يزال يشهد اضطرابات متفرقة. وحتى يومنا هذا, لم تستطع الانتفاضة في البحرين إحداث تغييرات ملموسة جديرة بالأهمية, علماً أن العوامل الأربعة التي تزامنت في تونس ومصر, لم تجتمع أو تتحقق في التجربة البحرينية((5)). وتجدر الإشارة إلى أن البحرين, البلد الصغير جغرافياً, والفقير نسبياً, من حيث احتياطي النفط والعائدات النفطية, قد حصل أيضاً, إلى جانب اليمن وعمان, على مساعدات مالية من العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة منحة بقيمة 20 مليار دولار مدفوعة على مدى عشرة أعوام وعلى ما يبدو أن القصد من ورائها إسترضاء الشعب البحريني((6)).
وقد تشكّلت مؤخراً في البحرين لجنة مستقلة لتقصي الحقائق, مؤلفة من مئة بحريني برئاسة علي فخرو, وزير الصحة والتعليم السابق, للتوسط بين النظام الملكي والمعارضة البحرينية. وحتى اليوم لم تحرز هذه الوساطة أي تطورات جديرة بالذكر. ويبدو على الأغلب, أن الأحداث الأخيرة في العربية السعودية التي قدمت الأمير نايف بن عبد العزيز, وزير الداخلية الحالي, كمرشح أقوى لولاية العرش ستزيد الوضع تعقيداً وتصعب التوصل إلى تسوية في البحرين. علماً أنه كلما تأجل إيجاد حل للأزمة البحرينية ازداد الوضع سوءاً وازدادت كلفته. وبينما يمكن اللجوء حالياً, ومؤقتاً إلى تسوية مماثلة لتلك المقترحة في اليمن وإنما موجهة نحو إقامة نظام ملكي دستوري إلا أنه من المستبعد أن تكون هذه المبادرة كافية في المستقبل, خاصة بعد الأخذ بعين الاعتبار التطورات السياسية في العربية السعودية. إذاً سيبقى الاستقرار الحالي غير مستقر في دولة البحرين الصغيرة طالما استمرت المظالم الاجتماعية والسياسية والفروقات والتباينات الاقتصادية مع وجود بعد طائفي للأزمة.
سادساً: سورية: عامل واحد من أصل أربعة عوامل,
و’اللعبة’ الأخطر على الإطلاق
تشكّل سورية حالة استثنائية, حيث إنه لأسباب مختلفة عن ظروف ليبيا, لم تتوفر في سورية العناصر الرئيسية الكفيلة بنجاح ثورة ذات طبيعة سلمية؛ إذ بدأت المظاهرات بالتشكل في سورية بعد أن نجح الشعب التونسي والمصري في كسر حاجز الخوف وإسقاط أنظمته المستبدة. وعلى الرغم من أن المظاهرات في سورية بدأت سلمية في الفترة الأولى, إلا أنها سرعان ما تحولت إلى مظاهرات عنيفة كردّ فعل لاستراتيجيات القبضة الحديدية المستخدمة من طرف النظام السوري. والجدير بالذكر أن الشعب السوري منقسم دينياً وطائفياً وعرقياً, ولم يشارك بالتالي معظم أبنائه في المظاهرات, كأبناء مدينة دمشق وحلب على سبيل المثال, متّخذين موقفاً موالياً, أو سلبياً, لنظام الرئيس بشار الأسد, ولأسباب مختلفة. وإلى جانب مدن أخرى, شهدت العديد من الاحتجاجات الرئيسية كمدينة حمص وحماه وجوارها من دير الزور وإدلب والزبداني, وكانت مدينة حماه قد شهدت عام 1982 هجمات شرسة من قبل الرئيس السوري السابق حافظ الأسد ضد عناصر إسلامية من جماعات الإخوان المسلمين في سورية الذين كانوا قد شنّوا هجمات على القوات الحكومية السورية حينذاك. كما يساهم في الانتفاضة المسلحة عناصر منشقة من الجيش السوري, لا يزال محدود العدد ويسمّى ‘الجيش السوري الحر’ ويُعتقد أنه هناك أكثر من ‘جيش سوري حرّ’ واحد كما هناك عناصر من السلفيين والإخوان المسلمين المسلحين الذين يعتقد أنهم مموّلون من أطراف عربية. وتجدر الإشارة كذلك إلى أنه ثمة ادّعاءات أمريكية رسمية على وجود عناصر فاعلة تابعة لجماعة القاعدة, ومن المحتمل كذلك أن تكون قوات مرتزقة أجنبية تشارك في العمليات العسكرية المسلحة ضد القوات التابعة للنظام السوري. من ناحية أخرى, لم يشهد الجيش السوري وقوات الأمن السورية, اللَذين لم يتوانا عن استعمال قدراتهما المسلحة المدمرة ضد المعارضة, العديد من المنشقين عن الجيش بل بقيت المؤسسة العسكرية مخلصة للنظام.
لم يتمكّن أيٌّ من الطرفَين, حتى اليوم, من حسم المعركة لصالحه في سورية, ولكن يبدو أن ميزان القوى لا يزال يرجح لصالح نظام الرئيس بشار الأسد. وفي كل الأحوال, فمع أن مجموعات من الشعب استطاعت ‘كسر حاجز الخوف’ ونزلت إلى الشارع في مواجهة قوات النظام, إلا أن بقاء الجيش السوري موالياً للنظام, بالإضافة إلى انقسام الشعب السوري بين مؤيد للنظام وسلبي ومعادٍ له أي غياب المعايير الثلاثة الأخرى التي تطرقنا إليها سابقاً حالَ دون نجاح الثورة السورية حتى اليوم, أو على الأقلّ لم تتمكّن محاولة التغيير من منع إلحاق العديد من الخسائر البشرية والمادية في كِلاَ الطرفين((7)).
إن الأزمة التي تشهدها سورية اليوم تشكّل الطريق المسدود الذي وصلت إليه الحال بين قوى النظام والمعارضة السورية المسلحة التي ليست موحّدة, وبالتالي لا تمتلك برنامجاً مستقبلياً موحّداً كذلك, ولا بديلاً واضحاً يمكن أن يقنع الكثير من السوريين بالانضمام إليها. وبينما تدعم تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي (خاصة قطر والعربية السعودية) والولايات المتحدة الأمريكية, بالإضافة إلى بعض الدول الأوروبية كفرنسا, الانتفاضة السورية معنوياً ومادياً في بعض الأحيان, فإن إيران والاتحاد الروسي والصين تقف بالمقابل وراء النظام السوري, كما يقدم لبنان والعراق دعماً نسبياً له. وعلى الرغم من دعم الجامعة العربية ومجلس الأمن الدولي, فقد فشلت كافة المحاولات الإقليمية والدولية لخلع الرئيس بشار الأسد أو الضغط عليه للتنحي عن الرئاسة. وخلافاً لحالة ليبيا, فمن المستبعد الذهاب إلى حل عسكري للأزمة يتضمن تدخلاً عسكرياً خارجياً. أما النظام فيبقى مقاوماً لما يتعرض له, وقد لجأ إلى إستراتيجية مواجهة تجمع بين وعود تنفيذ إصلاحات سياسية وتشديد الإستراتيجيات الأمنية لقمع الانتفاضة؛ بحيث إنه إستجابة للبعد السياسي للأزمة, قام الرئيس بتفصيل نموذج دستوري جديد ‘على مقاسه’ وقيامه باستفتاء شعبي حوله في 26 شباط – فبراير 2012 وكان قد سبقه مشروع قانون انتخابي جديد, وقانون إعلام, وآخر للأحزاب الذي يتيح, نظرياً, التعددية السياسية. فإذاً, على الصعيد النظري, يمكن القول إن هذه الإصلاحات السياسية حققت بعض المطالب التي دعت إليها الانتفاضة, ولكنها في الواقع أحادية تماماً, ولم تمر بمراحل الحوار أو المفاوضات مع الطرف الآخر. والجدير بالذكر, أيضاً, أن الإصلاحات السياسية المعتمدة, على الأقل نظرياً, ألغت دور حزب البعث السوري الذي كان مسيطراً بالكامل على الحياة السياسية في سورية منذ 1963, وأدخلت نظام التعددية الحزبية, بالإضافة إلى دعمها لبعض الحقوق الديمقراطية الأساسية الأخرى. وبحسب القناة السورية الرسمية, فقد تمت المصادقة على مشروع الدستور الجديد بعد خضوعه لاستفتاء شعبي في 26 شباط – فبراير 2012, بمشاركة 57 بالمئة من الأصوات, وبتأيد 89 بالمئة من الناخبين, مقابل اعتراض 10 بالمئة فقط. وكما كان متوقعاً ندّدت الأطراف الغربية, الميّالة إلى تنحية الرئيس بشار من منصبه, بمشروع الدستور ونتائج الاستفتاء الشعبي عليه, من دون تقديم أسباب أو اعتبارات سديدة حول انعكاس هذه المبادرات إيجابياً أو سلبياً في الاستجابة لمطالب المعارضة؛ حيث اعتبرتها هيلاري كلينتون وزيرة خارجية الولايات المتحدة ‘مثيرة للسخرية’, بينما دعاها غيدو فيسترفيله وزير خارجية ألمانيا بـ ‘المهزلة’ واعتبر ‘عمليات التصويت صورية'((8)). ولا بدّ من الاعتراف في كل الأحوال أنه لولا الانتفاضة السورية لما عمد النظام إلى تقديم هذه الإصلاحات لشعبه, بغضّ النظر عن جدّيتها.
ولكن في الوقت ذاته, طبق النظام الحل الأمني بقوة قبضة حديدية حتى بدأت القوات المعارضة الإقليمية, كقطر والعربية السعودية, بالدعوة صراحة إلى تسليح المعارضة السورية, التي كان بعضها يملك السلاح أصلاً. الأمر الذي دفع بعض عناصر المعارضة, من أمثال ميشال كيلو وآخرين في هيئة التنسيق, إلى التنبيه حول خطر استخدام المعارضة للسلاح من ناحية إضعاف الموقف المعنوي والسياسي لمطالبها المشروعة, ولجهة إمكانية تذرع النظام بالرد الشرس على قوات المعارضة في حال تم تسليحها, ثم الإفلات من العقاب. ورغم التدابير العسكرية الباطشة التي استخدامها النظام لاستعادة حي باب عمرو في حمص, إلا أنه لن يتوانى عن اتخاذ تدابير أكثر شراسة لقمع المظاهرات. علماً أن الوضع الداخلي للأزمة السورية, على الأرض, لا يطابق, أحياناً كثيرة, الصورة التي تبثها لنا وسائل الإعلام الرئيسية المعروفة عالمياً وعربياً.
من جانب آخر, فقد تعرّضت سورية للعديد من الضربات الموجعة جرّاء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها أولاً من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي, ثم من قبل الجامعة العربية؛ حيث قطعت الأخيرة في 27 تشرين الثاني – نوفمبر 2011 عملياً جميع العلاقات التجارية السورية مع البلدان العربية جراء ممانعة النظام السوري الذي بدأ من الموافقة على استقبال بعثة من المراقبين العرب, ولكنها أذعنت في وقت لاحق لاقتراح الجامعة العربية. لكن ما ساهم في إضعاف التأثير القوي للعقوبات الاقتصادية في سورية, ولو بشكل متواضع, يعود إلى سهولة اختراق الحدود التي تفصل سورية عن العراق ومن خلاله أيضاً المساعدة الإيرانية وعن لبنان؛ علماً أنه بحسب ما أفادته السلطات اللبنانية فقد تمّ تهريب أسلحة مموّلة من الخليج إلى المعارضة السورية عبر الحدود اللبنانية كذلك((9)).
ومن المستبعد للأزمة السورية أن تنتهي وفقاً لنموذج تونس ومصر, إلا أن التسوية اليمنية قد تكون أقرب إلى التحقق, مع إجراء بعض التعديلات عليها, ومع الأخذ بعين الاعتبار مسألة بالغة الأهمية هي أنه من غير الممكن, في أي حال مقترح, إقالة أو تنحّي الرئيس الحالي بشار الأسد عن منصبه. فإذاً لربما الحل الأمثل في هذه الظروف يقضي بإيجاد طرف ثالث, يحظى بثقة طرفَي النزاع وموافقتهما, ولكن يشترط لنجاحه انسحاب الأطراف الإقليمية والدولية من دعمها للمعارضة السورية الخارجية, ولما يسمى بالجيش السوري الحر, وبعض القوى المسلّحة من السلفيين والإخوان, المناهضة للنظام السوري. وتجدر الإشارة في هذا الخصوص إلى أن دعم القوى الإقليمية والدولية للمعارضة السورية لم يكن له ذلك التأثير القوي في سير الانتفاضة السورية, وإنما لعب دوره الأكبر في جعل بعض العناصر والظروف تعمل لصالح لاعبين إقليميين ودوليين, سواء عن قصد أو غير ذلك, للاستفادة من الأزمة في المنطقة. ولكن بصرف النظر عن نتائج الانتفاضة السورية, يبدو واضحاً أن صورة النظام وهيبته قد اهتزت إثر الأزمة الحالية. وأيّاً كانت المعادلة التي ستخرج بها سورية من ظروفها الحالية فإن النظام الحالي قد خسر الكثير من مكانته وهيبته, ولن يتمكن من لعب دوره الإقليمي أو الدولي الذي كان يلعبه في الأربعة عقود المنصرمة.
سابعاً: المغرب وعُمان والأردن: ديناميات مختلفة,
وتدابير ذكية وإصلاحات سريعة, وبدايات مجهضة؟
1 المغرب: تحول سلمي نحو نظام ملكي دستوري؟
على ضوء الأحداث والتطورات في تونس ومصر وليبيا, بالإضافة إلى نزول أعداد غفيرة من الشعب المغربي في تظاهرات سلمية, قام الملك محمد السادس في المغرب, حيث النظام ملكي مطلق, بالمبادرة الحكيمة نحو إنشاء لجنة مؤلفة من شخصيات وفعاليات مغربية محترمة وجديرة بالثقة لاقتراح تعديلات دستورية تضع المغرب في اتجاه التحول نحو نظام ملكي دستوري. وبالفعل, قدمت اللجنة مسودة مشروع دستور جديد, واقترحت فيه تعديلات طرحت لاحقاً لاستفتاء شعبي وحازت موافقة الأغلبية العظمى للشعب. وعلى إثره, تم إجراء انتخابات نزيهة فاز فيها الحزب الحائز على أكثرية المقاعد برئاسة مجلس الوزراء, كما تم تشكيل حكومة ائتلافية تتكون من خمسة أحزاب لضمان قاعدة عريضة داخل مجلس النواب الجديد.
وعلى الرغم من أن المعادلة الدستورية الجديدة تشكل مزيجاً غريباً يستجيب لمختلف أطراف الحياة السياسية المغربية الحية منذ الاستقلال, إلا انها لاتزال بعيدة عن تحقيق نظام دستوري ملكي, مع أنها أخذت العديد من الخطوات بهذا الاتجاه, حيث إنه لا يزال بحوزة الملك العديد من السلطات إلى جانب لقب ‘أمير المؤمنين’. ولكن في نهاية المطاف وباتخاذ تدابير سريعة ومدروسة, نجح الملك محمد السادس في تهدئة مطالب الشعب المغربي بشكل عام. ولذلك لم يكن من الممكن توفّر العوامل الأربعة التي تم تناولها في هذا المقال على حالة المغرب, ولعل السبب يعود إلى التركيبة السياسية والبيئة الخاصة بالمغرب((10)).
2 عمان: السلطان قابوس لا يزال يتفادى التحديات بعد كل هذه السنوات
لقد حكم السلطان قابوس السلطنة العمانية منذ أن انقلب على والده وخلعه عن منصبه ليستلم سدّة الحكم في 23 تموز – يوليو 1970, وهو يعمل منذ ذلك الحين على تفادي تغيير النظام جذرياً, مع إصلاحات تدريجية محسوبة ومنضبطة نسبياً بالمعايير الخليجية؛ ففي عام 1973, على سبيل المثال, لجأ السلطان قابوس إلى طلب يد العون والمساعدة العسكرية من شاه إيران الذي أرسل إليه نخبة من الفرق الإيرانية والطيارات المروحية, وبدعم من القوات البريطانية الخاصة SAS ) وأطراف أخرى((11)), لقمع ثورة ظفار الدموية التي كانت قد طالت. وعلى الرغم من قيام انتفاضة سلمية في عُمان عام 2011, إلا أن السلطان قابوس سرعان ما قرأ الإشارات وتداركها قبل تطورها, وبالتالي استطاع استباق الأحداث التي وقعت في أنظمة عربية أخرى عن طريق اتباع عدد من التدابير الذكية. حيث أذعن أولاً لمطالب المتظاهرين الرئيسية, ثم أقال بعض العناصر من الحكومة, وانتهى بإجراء عدد من التعديلات الدستورية, وهي تدابير أخمدت نار الانتفاضة بدون أن تعني عدم اتّقادها في المستقبل.
3 الأردن: القضية الفلسطينية ومسألة تطبيق العوامل الأربعة على الحالة الأردنية
من ناحيتها, شهدت الأردن العديد من المظاهرات المتفرقة والمتكررة على مرّ السنين, الأمر الكفيل بالدلالة على أن الشعب الأردني قد كسر حاجز الخوف وهو دوماً مستعد لكسره. ولكن المجتمع الأردني غير متماسك نظراً إلى كون العديد من أبنائه هم من أصل فلسطيني ممّن تمّ تجنيسهم, مقابل الأردنيين الأصليين ذوي الأصول البدوية القبلية الذين عادة ما يكونون موالين للنظام الملكي الحاكم. هذا وقد زاد انقسام الفريقين بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967, حتى شهدت الأردن صراعات بين الجيش الأردني والفلسطينيين أثناء أحداث ‘أيلول الأسود’ عام 1970. من ناحية أخرى, أشار أحمد عبيدات, رئيس الوزراء السابق, مؤخراً أنه حتى الأردنيون الأصليون قد ضاقوا ذرعاً من استفحال الفساد في الأردن, ولم يعد جميعهم على حد سواء يدعم الملك عبد الله من دون تحفظ, خاصة وأن أحد مظاهر الفساد تتمثل ببيع الموارد الأساسية الاستراتيجية بأسعار زهيدة إلى بعض الجهات الخارجية. ثم أنه في الواقع, كان قد تم طرح قضية ‘الجنسية’ الفلسطينية الأردنية, واقتراح قيام ‘ملكية دستورية’ في الأردن, في دستور عام 1952, وهما مذ ذاك الوقت موضوعان على ‘جدول الأعمال’, ولو نظرياً على الأقل, ولكن على مستوى التطبيق, لم يتحقق سوى القليل, خاصة بسبب غياب آليات عمل محددة, واضحة وصريحة((12)).
لقد دعم الأردنيون إلى حدّ كبير انتفاضات الربيع العربي منذ نشأتها الأولى في تونس. وبالفعل, كسر الأردنيون حاجز الخوف, ونزل المواطنون إلى الشارع في مظاهرات سلمية, ولكنهم على عكس المتظاهرين في الدول المجاورة, هتفوا قائلين: ‘الشعب يريد إصلاح النظام’ بدلاً من إسقاطه. وبالتالي, تحرك الملك عبد الله لتعديل الدستور, ولكن تعديلاته لم تمس جوهر النظام, على عكس التعديلات الدستورية التي أدخلت في المغرب, بل ولاتزال هذه التعديلات مجهولة المصير, وما من خطة واضحة حول كيفية تنفيذها. وكما كان متوقعاً, بقي الجيش, الذي يعد عالماً بذاته في الأردن والذي يشكل جهة صرف لمبالغ طائلة غير مبررة, داعماً للنظام الحاكم.
استجابة للربيع العربي شهدت الانتفاضات نشأة قوة جديدة شبابية على الساحة السياسية الأردنية التي عرفت فيما بعد باسم ‘الجبهة الوطنية للإصلاح’ والمؤلفة من شخصيات مستقلّة, بالإضافة إلى أحزاب معارضة من إسلاميين وقوميين عرب ويساريين, ولكن المشكلة تكمن في أنه ما من ضمان لتماسك أو استمرارية هذا الائتلاف, كما يقول عبيدات. علاوة على ذلك, فإن الدرجة المطلوبة لقيام تماسك اجتماعي أو وطني في الأردن إما لم تكن متوفرة في الأفق, أو على الأقل لم تكن ملموسة مقارنة بدول أخرى, وقد يكون السبب من وراء ذلك يعود إلى الديناميات الديموغرافية التي لطالما سادت في الأردن إلى حد ما, حيث يمكن القول إن الأردن لا تزال امتداداً ‘للقضية الفلسطينية’. وبغياب بيانات ميدانية, تجريبية صادقة, يمكن القول إن نسبة عالية من الشعب الأردني لا يزال يدعم الملكية الهاشمية؛ بمعنى أنه بالنسبة إليهم قد تكون استجابة النظام الحالي لمطالب سياسية متواضعة نسبياً وإيلائه عناية أكبر بمحاربة الفساد قد تشكل تدابير كفيلة ببقاء النظام الحاكم في الأردن, الأمر الذي يحول دون تبني مطالب جذرية أخرى, تدور حول فلك الربيع العربي الذي تقلصت أهميته في الأردن في الآونة الأخيرة. وأخيراً, ينبغي الإشارة إلى أن مجاورة الأردن لاسرائيل جغرافياً تلعب دوراً حاسماً في إمكانية سماح الولايات المتحدة الأمريكية, أو حتى إسرائيل نفسها, بقيام انتفاضات قد تأخذ منحىً خطراً, وذلك في حال نزول عدد غفير من الناس في مواجهة النظام أصلاً, الأمر المستبعد في الأردن.
* الدول العربية الأخرى
لا تزال نتائج وتبعات الربيع العربي غير واضحة تماماً في عدد من البلدان العربية الأخرى, كالجزائر والسودان وموريتانيا والعربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة ولبنان على سبيل المثال, لكونها شديدة التأثر بعواقب وتأثيرات تظاهرات الربيع العربي الحاصل في البلدان العربية الأخرى. خاصة وأن في بعض هذه البلدان جالية كبيرة من الأقلية الشيعية, كالعربية السعودية والكويت, بينما تعتبر دول أخرى كموريتانيا أكثر تماسكاً وتجانساً, على الصعيد الديني أو الطائفي على الأقل. ومن ناحية أخرى, فإن السرعة التي تشكلت فيها الثورات قبل انتشارها عبر الحدود, بالإضافة إلى نتائجها التي عكست في الواقع رسالة إلى جميع أنحاء الوطن العربي؛ أن التغيير ممكن من الداخل وأنه في متناول الأيدي, ويوحي أنه ثمة المزيد من الأحداث التي يمكن لها أن تتشكل في المستقبل. ولكن في المقابل, قد تلجأ بعض الأنظمة العربية إلى اتخاذ تدابير للحؤول دون قيام الانتفاضات من خلال اتخاذ تدابير مالية معينة وإجراء تنازلات سياسية ثانوية أو توزيع إعانات مالية, وهي الاجراءات الكفيلة بتنفيس الضغظ المحتقن أو حتى بشراء صمت الشعوب كما فعلت بعض أنظمة الخليج الغنية في الواقع. ومع ذلك, يرى البعض أن هذه الإصلاحات المؤقتة ليست سوى جرعات مسكنة لعاصفة الربيع العربي وأن المسألة مسألة وقت قبل أن تعود رياح التغيير لاكتساح هذه الأنظمة التي لا تزال آمنة نسبياً منه.
ثامناً: قضية دور الإعلام في الربيع العربي
من المفيد التذكير بأن العديد من ثورات العصر المعاصر نجحت من دون استخدام الفضائيات أو وسائل الإعلام الاجتماعي كثورتي أندونيسيا وإيران على سبيل المثال. ولكي يكتمل هذا المقال ينبغي التطرق, ولو باختصار أو بشكل مقتضب, إلى آثار الإعلام في الربيع العربي والدور الأساسي الذي لعبه في الإسهام بنجاح أو فشل بعض الثورات والانتفاضات؛ حيث كان دور وسائل الإعلام الاجتماعي كالـ ‘فيس بوك’ والـ ‘تويتر’ (Facebook, Twitter) في تقديم المساعدة والدعم اللوجيستي للثورات إلى جانب دورها في التعبئة الشعبية التي قد تكون قنوات الأخبار الفضائية كالجزيرة والعربية (بدرجة أقل) لعبت الدور الأهم فيه ما عدا في البحرين حيث لعبت في الواقع وسائل الإعلام الخارجي كالمحطات الإيرانية ووسائل الإعلام الروسي دورها في مسار الأحداث. ومع ذلك, لا يمكن البت بأن لوسائل الإعلام الفضائي دوراً حاسماً في مجرى أحداث جميع الثورات من دون استثناء, خاصة على ضوء الأحداث في سورية اليوم. ولكن بغضّ النظر عن مسألة فائدة وسائل الإعلام أو قيمتها الإستراتيجية الدقيقة في تعبئة وتقرير مصير الانتفاضات, لابد من الإقرار أن التغطية المباشرة للأحداث, وبثها عبر شباكات الإنترنت أو على التلفاز, بالإضافة إلى مشاهد الفيديو التي تلتقط عبر الهواتف النقالة ساهمت في نقل مختلف خطابات الثورات وشعارتها إلى المجتمع الدولي, كما نجحت في جذب جمهور واسع من المشاهدين في كافة أنحاء العالم إلى قلب الثورات.
تاسعاً: دور اللاعبين العرب, والإقليميين والدوليينفي الربيع العربي
وأخيراً, ينبغي تسليط الضوء على مواقف اللاعبين العرب, والإقليميين والدوليين تجاه الربيع العربي؛ حيث فضحت هذه الثورات والأحداث العربية, على المستوى العربي والدولي, المعايير المزدوجة الفادحة التي تقوم عليها مواقف ومصالح مختلف الأطراف الغربية والعربية. فبشكل عام, لم تكن مواقف الأنظمة العربية مبنية على مبادئ قيمية ومعايير ثابتة وغير متناقضة؛ ففي حالة ثورتَي تونس ومصر, بقيت سورية والجزائر والمغرب, بالإضافة إلى بلدان مجلس التعاون الخليجي, باستثناء قطر حيث المقرّ الرئيسي لقناة ‘الجزيرة’, صامتة تجاه تلك الأحداث. أما الموقف القطري فجاء داعماً للثورة في تونس ومصر, وبذلت بالتالي الجزيرة تغطية إعلامية حصرية ذات تأثير كبير في مجرى الأحداث فيهما, ولكن قطر نفسها وفضائية ‘الجزيرة’ تعاملت بشكل مختلف مع انتفاضة البحرين وعُمان, كما لم تسمح بإمكانية انتقال عدوى الثورة أو أحد أشكالها إلى أراضيها.
من جهتها, اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية صراحة أنها تفاجأت بهذه الثورات, كما جاء على لسان الأكاديميين والمفكرين الأجانب ومختلف المؤسسات الفكرية التحليلية((13)), وهكذا ترددت الحكومات الغربية بدعم الثورة في تونس ومصر في البداية, ولكن حين اتّضحت معالم نجاحها تغييرت مواقفها تباعاً.
وبالعودة إلى مواقف الأنظمة العربية, يمكن الملاحظة أنه بعد نجاح ثورتَي تونس ومصر, خرجت دول مجلس التعاون الخليجي ومعظم الأنظمة العربية الأخرى عن صمتها, خاصة في دعمهم للثورة الليبية للإطاحة بنظام القذافي, باستثناء سورية والجزائر والمغرب. وفي هذا الإطار, تقدمت الجامعة العربية, بتوصية من مجلس التعاون الخليجي, بدعوة إلى مجلس الأمن في الأمم المتحدة طالبة التدخل العسكري لحلف شمال الاطلسي ‘ناتو’ في ليبيا, وإقامة منطقة حظر جوي من أجل حماية الشعب الليبي وإسقاط النظام. وهكذا ومن خلال الناتو, شاركت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية عسكرياً في خلع القذافي وإبادة الموالين لنظامه, مع الإشارة إلى أن تركيا لم تدعم الانتفاضة الليبية في البدء لما يربطها من علاقات اقتصادية ومصالح جمّة مع نظام القذافي, ولكن سرعان ما غيّرت موقفها وتحولت إلى دعم الناتو. وبالمقابل, وعلى الرغم من التدابير العسكرية الصارمة التي اتخذها نظام علي عبد الله صالح لقمع الثورة في حالة اليمن, بقيت الجامعة العربية وكذلك القوى الغربية صامتة تماماً, فيما قدم مجلس التعاون الخليجي بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية مبادرة تسوية معدة خصيصاً لحفظ ماء وجه الرئيس اليمني وللحؤول دون قلب ميزان القوى فجأة في اليمن, وخاصة لاحتمال تأثير ما يحدث فيها على بقية الخليج والخوف من قيام حرب أهلية هناك. وفي حالة البحرين وعمان والأردن, بقيت دول مجلس التعاون الخليجي داعمة بالكامل للنظام الحاكم بينما حافظت الجامعة العربية على صمتها وذهبت القوى الغربية إلى التنديد الخجول بالأحداث والعنف المستخدم هناك. أما العربية السعودية فقد سارعت إلى إرسال قوات ‘درع الجزيرة’ للحؤول دون تأزم الأوضاع في البحرين وتهديدها للمملكة السعودية. في المقابل, سارعت الجامعة العربية ودول مجلس التعاون الخليجي, وخاصة قطر والعربية السعودية, في دعوتها ودعمها للعقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام السوري, بينما ذهب الغرب, وتركيا على الرغم من العلاقات الثنائية التي تربطها بسورية خاصة في السنوات القليلة الماضية نحو معارضة النظام السوري بكافة الوسائل الممكنة لخلع الرئيس بشار الأسد, فيما بقيت روسيا والصين وإيران داعمة له. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الانقسام الذي حصل بين اللاعبين الدوليين؛ بحيث نجد فريقاً مؤلفاً من روسيا والصين وإيران مقابل فريق آخر يضم الغرب ومعظم الأنظمة العربية الأخرى, وخاصة فيما يعني قضيتَي ليبيا وسورية, إنما يعود إلى عوامل وأسباب خارجية غير مرتبطة مباشرة بالربيع العربي وحده.
وللاستفاضة بموضوع تأثير مواقف الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأوروبية, بالإضافة إلى الأمم المتحدة, في الربيع العربي لا بدّ من إجراء دراسة تحليلية خارج إطار هذه المقالة المتواضعة. ومع ذلك, ينبغي التذكير بأن الدعم الخارجي والمباشر للشعوب المنتفضة لا يشكل أحد العوامل الضرورية لنجاح الثورة, وخير دليل على ذلك ثورتا تونس ومصر اللتان حدثتا من دون دعم خارجي, ولكن التدخل المباشر لتحالف الناتو في ليبيا, بناء على القرار 1973 لمجلس الأمم المتحدة, لعب دوراً حاسماً في تعطيل قوات القذافي العسكرية مما أطاح بالنظام.
ورغم عدم لجوء اللاعبين الدوليين والعرب, بخاصة دول مجلس التعاون الخليجي, إلى التدخل العسكري في سورية, إلا أنهم لم يتوانوا عن فرض أقصى الضغوط على النظام السوري بشتى السُبل والوسائل من دون التمكن بعد من إسقاط نظام بشار الأسد, وهو الأمر الدال على أن الدعم الخارجي أو غيابه لا يشكل بالضرورة ‘شرطاً أساسياً’ لنجاح أو فشل ثورات الربيع العربي, وبالتالي ثمة عناصر أخرى وظروف موضوعية تلعب دورها في كل دولة على حِدة, إلى جانب دور القوى الداخلية والإقليمية والدولية. وأما بالنسبة إلى المستقبل, وإلى احتمال تأثير الظروف التي يعيشها الوطن العربي اليوم في أنظمة الخليج بخاصة, فإن وجود قواعد عسكرية أمريكية مستترة في الخليج يحول دون احتمال حصول تغيير سياسي جذري هناك, على الأقل نظرياً وفي المستقبل القريب.
وفي كل الأحوال يبقى واضحاً أن المجتمع الدولي, كما هو حال العديد من الأنظمة العربية, يطبّق المعايير المزدوجة, وبالتالي لا يمكن اعتبار مواقفه تجاه الربيع العربي مبنية على مبادئ قيمية ومعايير ثابتة وغير متناقضة حتى ولو كانت الحالات والظروف مماثلة لبعضها البعض, الأمر الواضح في الاختلاف بين خطاب المجتمع الدولي وأفعاله على أرض الواقع. وكذلك أضحى جلياً مع مرور الوقت أن المشهد الدولي لم يعد تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية أو القوى الغربية الأخرى, وأن موقف القوى الدولية, بخاصة روسيا والصين, يوحي بأن النظام العالمي الأحادي القوة الذي قام بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق, قد أمسى شيئاً من الماضي.
خاتمة
ما من مجال للشك بأن الربيع العربي ونتائجه المستقبلية واحتمال استمراره سوف يبقى موضع اهتمام ودراسة وتحليل لأعوام عديدة مقبلة. وما من حق أحد أن يدّعي فهم جميع الدروس التي يمكن استخلاصها منه أو أن يقترح أنه استطاع استنباط نظرية مطلقة, أو بلورة نوذج تحليلي شامل متكامل في دراسته له. وبناء على الدراسة المستخلصة من التجربة السورية, لا يمكن اعتبار عامل التدخل العربي والخارجي والدولي, أو العامل الإعلامي في التأثير في الثورة له دور حاسم وحتمي في إنجاحها أو فشلها. ولكنني أقترح في هذا المقال وجود مجموعة مؤلفة من أربعة عوامل تلعب دوراً حاسماً في إنجاح الثورات متى ما اجتمعت سوياً, وفي الوقت ذاته, وهي على الشكل التالي: كسر ‘حاجز الخوف’؛ التظاهر بشكل سلمي؛ وجود حد أدنى من التماسك الاجتماعي ومشاعر الوحدة الوطنية؛ بالإضافة إلى مسألة موقف القوات المسلحة (الجيش) من الانتفاضات الشعبية.
يدعم التحليل الوارد في هذا المقال الفرضية المذكورة في مقدمة الورقة, وأرجو أن أكون قد سلّطت الضوء على الديناميات والتطورات المستقبلية المحتملة حيث تشكلت الثورات, خاصة وأن العوامل الأربعة متى اجتمعت يمكن استخدامها كأدوات تحليلية مفيدة وكمعايير تفسر نتائج مختلف الانتفاضات العربية ونجاحها النسبي, بالإضافة إلى طرحها لسيناريوهات وتطورات ممكنة للمراحل الانتقالية المقبلة, وما يمكن أن يتشكل من انتفاضات أخرى في المستقبل.
القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى