صفحات المستقبل

خلصت”..اطول فعل ماضٍ..لا يمضي

لما الخضراء – كمال جمال بك

قبعاتٌ عسكريَّة مدقوقة فوق الرؤوس, وأصابع لا تهدأ فوق الزناد .. رصاصٌ يخطُّ الطريق عمداً نحو الصدور, ونزيف دم سوري لايمتلك رفاهية التوقف في فسحة لالتقاط النفس .. ” طواقم صحافية ” ترافق الدبابات, تُثبِّتُ لحظة ” انتصار كبير” على أكوام لحم مهروس, محللون بأطقم رسمية يحتلون الشاشات, وربطات أعناق تتدلى بطول الألسن – لا بحثاً عن حوار ضائع-  إنما عن فتاوى سياسية للقتل .. وفي المشهد خليط من أشكال سوريالية تمتزج في دائرة مغلقة , فيصير العسكري صحافيا , والصحافي محللا سياسيا , والمحلل السياسي يستحيل عسكريا.

ووسط دوامة لعبة طرابيش تقفز من رأس إلى رأس بلا نظام , كانت الصورة معبَّأة بالكامل لمعركة لا ينقصها , إلا امتلاء طربوش ” الفلسفة والتنظير” , لحشوه برأس ” مفكر استراتيجي كبير” ..

وفي زحمة المارين بين دوي الكلمات العابرة , سقط طربوش المفكر العربي الاستراتيجي على رأس أحدهم , فأعمت بصيرتَه فرحتُه باللقب الكبير, أو تشوشت رؤيته بفعل مقاس طربوش جاء واسعا على الرأس , فهبط حتى أغرق الأذنين بعد العينين.. حينها , عاجل جمهوره فنطق -عن هوى الأفرع الأمنية – بأول نبوءاته السياسية .. ” خلصت ” ..

في ذلك الوقت , كانت شوارع المدن السورية كعادتها , تعج بسيارات خاصة ملونة , وسيارات أجرة صفراء , وحافلات نقل عامة , فصرنا نرى سيارات من نوع جديد , من ماركة ” خلصت ” , تعبر الأزقة بضجيج مقصود , لا لشيئ إلا لتعرض ” الفعل الماضي ذاك “, مكتوبا فوق هياكلها بالأحمر أو بالأسود العريض, وتزج البضاعة الجديدة في العيون والأنوف والحلوق , كأنما تريد بيعها قسرا للشارع السوري .

وعلى الرغم من أن بضاعة ” خلصت ” لم تجد لها زبائن , إلا في دكاكين اتباع النظام ومريديه , إلا أن هؤلاء أنفسهم – الذين اشتروها فرحين بها – وجدوها بعد الاستخدام,  بلا فاعلية أو جدوى , فصاروا في جلساتهم الخاصة يرجمون مطلقها بعبارات غاضبة, رغم أنه ما كان منتجها, بقدر ما كان الوكيل الحصري لتسويقها عبر شاشاتهم , بعدما تم تصنيعها في الفروع الأمنية.

بعد ذاك أجمع جمهور ” المفكِّر” قبل خصومه بأنه – بعد فشله الذريع في النبوءة –  لم يعد يمتلك , لا حقّا بطربوش مفكر استراتيجي سقط عن رأسه سريعا, ولا فرصة لنيل شرف القدرة على استشراف الأحداث وقراءة المستقبل السياسي والعسكري … أما الانجاز الذي غفل عنه هؤلاء , فهو أن ” المفكر” -على فشله السياسي- , حقق في علوم اللغة العربية انجازا , ما سبقه إليه لا علماء اللغة ولا فقهاؤها, حين مكّن فعلا ثلاثيا ماضيا قصيرا , من الاستدامة عسكريا بعد الشد والمد والمط مذ ذاك حتى اليوم, ليصير فعل ” خلصت ” أطول فعل ماض “لايمضي ”  في معجم قمع ثورات الربيع العربي.

لكن الفشل الاستراتيجي الذي مني به ذاك الفعل الماضي بكليَّته الشمولية , ظل يفرِّخ أفعالا عسكرية صغيرة , يستنسخها النظام ليدحرجها على قياس بطولات جيشه … ففي أزقة درعا ” خلصت ” .. وعلى خرائب بابا عمرو ” خلصت ” .. وفي حلب وريفها, ما هي إلا أيام ” وخلصت ” …. ومن بعد ذاك انقضى عام ..

 وجرياً على هدي الفعل الذي ظل مطلوبا ومشتهى الطعم في حلق النظام, حرص قادة الجيش الجرار, على اعلان فعل الانتصار, كبيرا في القصير, يوم الخامس من حزيران, في مفارقة سوريالية جديدة , زاد في فضحها طلب “النظام المقاوم” من ” أعدائه الصهاينة ” , وقبول أولئك -في التاريخ ذاته – الالتفاف بدبابات الجيش السوري في المنطقة منزوعة السلاح, لتطويق” الإرهابيين” المدعومين إسرائيليا وأمريكيا !!.

وعلى مدار أيام الثورة – السلميَّة ومن بعدها المسلَّحة – أبدى النظام اصرارا على تحويل عبارة “خلصت ” إلى لافتة ما زال يدقها – وإن مُخرّقة – بمسامير من عظام الضحايا, فوق العيون, ليبتلع الشعب الثائر جرعات هزيمة متكررة , عند مدخل كل مدينة يمر فيها جيش وميليشيات النظام ..

وفوق مركب ” الانتصار على القصير”- يعلوه مهترئا شراع ” الفعل الطويل” وقد رتقت ثقوبه آلة حزب الله العسكرية -, أبحر الإعلام الرسمي ومحازبوه في رحلة جديدة لتمجيد قوة جيش ” لا يقهر”, وقد سدّوا الحواس الخمس عن عبارة استهجان أطلقها مفكر عربي حقيقي – ظل يستحق اللقب باسم ثورات الشعوب لا ألقاب الحكَّام- حيث أعاد الدكتور عزمي بشارة تصويب البوصلة نحو سمتها : ( بدل تمجيد الشعب السوري البطل , لأنه خرج ضد نظام قوي , وتحمَّل كل أنواع القتل, بتنا نسمع عمَّن تفاجأ, بأن النظام بطائراته ودباباته ومدافعه قوي!!!… الشعب السوري الذي صمد في وجه هذا القتل, هو العظيم وهو القوي)..

ما زال فعل ” خلصت ” يتردد في الأجواء السياسية والعسكرية مدوياً , ومن بين ثقوب غربال شعار ” الختام ” السلطوي المزيف, ما زال الناس يرون : أن درعا ومن بعدها بابا عمرو “ما خلصت “, ويدركون بكل الحواس التي صقلتها الثورة , أن القصير لن تكون استثناء لما اختبروه من اصرار على الثورة فوق كامل التراب السوري .. فالحمقى وحدهم لا يدركون أن السوريين كسروا فعلا ماضياً ما زال النظام يتاجر به, بقوة فعل حاضر , لشعب هتف منذ مطلع ثورته ” يا درعا حنَّا معاكي للموت ” وما زال يرفع فعله هذا ليقصّر مفهوم الأبد في حياة الطغاة ..

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى