صفحات المستقبل

استرداد حورية


لو كانت السيارة تطير لطار بها شادي! إلا إنها كانت لا تعلو عن الأرض بالرغم من السرعة التي يقودها بها.

فجأةً، ومن دون سابق انذار ظهر إلى منظور شادي رجل ملتحي، حاول تفاديه إلا أنّ زاوية السيارة اليسارية أصرّت على اصابته فحلّق الرجل قليلاً، وظنّ شادي أنّ الرجل ربما قد صادف عصفور وروار أثناء تحليقه ولم يعرف سبب هذا الشعور، إلا أنّ سقوطه على ظهره بشدة شلّ ظنونه وخرج من السيارة مسرعاً ليحمل الرجل ويسعفه إلى المشفى.

أصبح جل اهتمام شادي هو رعاية الرجل الذي يدعى عمار، كان عمار رجلاً متديناً، وقد طلب كتباً دينيةً فور استيقاظه فجلب له شادي بعضها إلا أنّ عمار أصيب بانتكاسة عندما رأى أن شادي قد نزل واشترى كتباً دينية كيفما اتفق، بل اتفق أنّ بعضها لم يكن لطائفته فغضب وعاتب شادي: أنا أحبك وقد أحرجني كثر عنايتك بي بهذا الشكل، حتّى أخوتي لم يأتوا لزيارتي والعناية بي مثلك، إلا أنّ شراءك لكتب لا تمت لفكري بصلة دليل قلة تديّن منك!

نظر شادي إلى الكتب الدينية وكانت كلها ذات الزخرفة الجميلة، وكلها مجلدات فخمة.. كُتب عليها الكثير من الرموز الدينية العليا، فاستغرب هذا الكلام، وأمسك الكتب واحداً تلو الآخر ليرى أين يكمن الاختلاف بينهم فلم يجد أي اختلاف، فقال وقد ضاق صدره: أين قلّة التديّن؟ كلّ كتاب سعره ألف ليرة وأكثر، وجميعها جميلة وتحوي الكثير من النصوص وكنت أستغرب سابقاً كيف يمضي المتدينون ليالهم الطويلة إلا أنني بعد هذه التجربة المريرة قد اكتسبت معرفةً لا متناهية حول هذا الموضوع!

لم يعجب الكلام عمار فأدار رأسه، وطلب من شادي المغادرة فلم يغادر الأخير بل زاد اهتماماً بعمار.

بقي شادي ملازماً لعمار حتّى عاد إلى تمام صحته، وفي أحد الأيام جلب له أموالاً تعويضاً عن الحادث، واعترف بخطئه وسرعة دواليبه، وقد وضح له هذه النقطة الأخيرة بقوله:

يا صديقي عمار، أنا أُسرع هكذا لأننا نعيش عصر السرعة، ولأنني كنت منذ الصغر أحلم بأن أكون سائق فورملا ون إلا أنّ والدي أصرّ على أن أعمل بالتجارة، وهكذا تدمرت أحلامي ولكنني احتفظت بهواية السرعة. طبعاً اصابتك ستغيّر من فكري هذا ولن أسرع بعد الآن على الطرقات الضيقة! هذا وعد شرف من شادي إلى عمار.

بكى عمار تأثراً لتخلي شادي عن هوايته، وقال متأثراً: أنت شخص في غاية الطيبة وقد أذهلتني وجود طيبة كهذه في عالم مثل عالمنا التافه! اسمع يا حبيبي يا شادي أنت شخص غير متديّن وهذا حقك إلا عليّ كمتديّن أن أوفيك حقك برعايتك لي وتعاملك الأخوي هذا وزيارتك لي المستمرة للاطمئنان على حالتي حتى بعد شفائي، سأهديك أفضل هدية ستتلقاها في حياتك وآخرتك!

تعجب شادي من ماهية هدية ستكون علامة فارقة في حياته وبعدها ايضاً، فقال: لا أريد منك شيء بالعكس أنا مدين لك بعدم رفع دعوى ضدي وسجني بسبب تهوري وحلمي بأن أكون مايكل شوماخر سوريا. أنت شخص تستحق المحبة والرعاية مع أنني لا أفهم حتّى الآن سبب اعتراضك على كتب الدين التي اشتريتها، وأعدك بأن أهديك كمية أخرى أفخم منها في القريب العاجل!

اعترض عمار بشدة: رجاءً لا تجلب لي كتب لأنك أخطأت خطأ مريعاً المرّة السابقة بشرائك لبعض الكتب لغير طائفة!

لم يفهم شادي فسأل: أليست كتباً لذات الدين؟

استعاذ عمار بالله من كل شيطان موجود في الكيلومتر مربع حولهم، ثم قال بهدوء: يا أخي أنت شاب ضال وأنا سأكون رحيماً لأنّ الله نفسه رحيم بنا فكيف بنا نحن العباد؟

لم يفهم شادي ماذا يعني هذا الكلام، لكنه استنتج أن عمار ينوي أن يهديه شيء غالٍ جداً بالنسبة له، وبالفعل قال عمار بوجل وبصوت رخيم كأنه صادر من كهف قديم:

سأهديك يا أخي أعز ما لنا نحن المتدينون! لقد أشفقت على حالتك الايمانية وقد قررت اهداءك حورية من حورياتي الثلاثة!

فرح شادي جداً بهذا الكلام، وسأل بمرح: أين هي الصبية الآن يا معلم عمار؟ والله أنت لست هيّن أبداً كما تبدو لنا! ثلاثة صبايا تلهو معهن؟ أنت رجل كبير بالفعل، ثم أخذ يضحك فرحاً باكتشاف هذه الميزة الرائعة لدى صديقه عمار.

ابتلع عمار ريقه، ولم يعرف لماذا لا يمكن أن يفهم شادي عليه، فوضح الأمر: يا أخي يا شادي يا حبيب قلبي، أنا لديّ ثلاثة حوريات في الجنة وليس ثلاثة صبايا من اللواتي تظن! إنهن فاجرات وأنا كما تراني ليس لي اتجاه في هذا الطريق الفاسق.

حكّ شادي رأسه، وسأل بتهكم خفيف: كيف عرفت أنّ لديك ثلاثة حوريات في الجنة يا صديقي؟ هذا أمر من الصعب التكهن به فقد يكونوا أكثر من ذلك، وقد يكونوا أقل! من يدري؟

أكد عمار مبتسماً: لا.. لا.. الأمر مؤكد فقد منحهم لي رجل الدين العظيم عطاني البلهطاني.. لدي ثلاثة وأحببت أن أهديك واحدةً لأنك أثبتت طيبة ورقة قلب قل نظيرها في عالمنا المادي، وأدعي لله أن أراك ذات يوم متديناً متعظاً.

لم يبدو على شادي التأثر المطلوب بالموقف إلا أنّه شعر بأنّ صديقه يعطيه شيء عظيم ولا يمكن مقارنته بشيء في الوجود لذا عصر نفسه وأنزل دمعة حارقة تدحرجت مذهولةً على خد شادي.

احتضنه عمار بشدة، وبارك له هذه الهدية التي استحقها بمحبته وطيبته، وتمنى له أوقاتاً كلها متعة وسعادة معها بعد الموت.

عاد شادي وابتلع زجاجة ويسكي بسرعة لينسى هذا الموقف العجيب، وعندما بدأ رأسه بالارتجاج لوحده من دون عوامل خارجية فتح النافذة، وشاهد جارتهم تشرب الأركيلة لوحدها، فغمزها فابتسمت، أشار لها برقم موبايله بأصابعه رقماً رقماً، فضحكت واتصلت.

رد عليها وضبابة كحولية تغلف كلامه: أعرف أنك الحورية التي وعدني بها عمار!

ضحكت من قلبها وقالت: هل لديك أحد في المنزل؟

نظر حواليه، وقال: لا أعرف، لم يسبق لي أن أجبت عن أي سؤال قبل أن أتأكد!

تعجبت جارتهم، وسألت: أنا أعرف أنك تسكن لوحدك في الشقة منذ فترة طويلة! هل لديك أحد ما تريد إخفاءه؟

قال، وقد لعن الكحول: لا.. لا.. ولكن هذه الايام صعبة وقد يجد المرء لصاً في بيته من دون أن يخبره سابقاً بأنّه يسرقه، أو قد ينام أحدنا القيلولة ويستيقظ متزوجاً، ولديه زوجة وأولاد..

فصلت بوجهه، فشعر بحزن فقرر الاستيقاظ من الكحول بمشاهدة الأخبار أو سماع موسيقى الاشتباكات القريبة، إلا أن جرس الباب دُق، ففتح الباب ليجدها هناك وقد غيّرت البنطلون، فرحب بها: أهلين يا حورية.. تفضلي!

قالت الصبية: اسمي سلمى من أين جلبت لي هذا الاسم حورية؟

لكنها عندما شاهدت زجاجة الويسكي أجابت لوحدها: حبيبي أنت تعيش أجواء الجنة كل يوم على ما يبدو!

أكد شادي: لا والله، أنا شاب بعيد كلياً عن أجوائها إلا أن صديقي الحبيب عمار أصرّ على أن أعيش شبابي مع حورية!

ضحكت، وقالت: المرّة القادمة اجلب صديقك الظريف هذا وسآتي بصديقتي.

وضح لها: لن يأتي فلديه حالياً اثنتين من الحوريات، طبعاً هو شخص عظيم كان لديه ثلاثة وأهداني واحدة واكتفى باثنتين، أنت لا تعرفين صديقي كم هو شخص متواضع ورائع، لقد دعسته بحكمة فلم يمت وشاءت الأقدار أن يكون خير صديق وناصح لي.

قهقهت الصبية، وقالت لشادي: حسنا اطلب معه أن يجلب حوريتيه معه في المرة القادمة، ما المانع من سهرة جميلة مع أركيلة وكحول؟ ولكن أخبرني أنت هل تود أن أرتدي فستاناً أبيضاً أم أحمراً وقتها؟

قرّب شادي فوهة الزجاجة إلى عينه وكأنه سيدخلها بها، وأجاب: ارتدي شيئاً يناسب المتدينين فصديقي متدين نوعاً ما وقد تحرجه الفساتين الحمراء.

دُهشت الجارة وسألت: متدين ولديه حوريتين؟ هذا أمر غريب تماماً، إنه على ما يبدو يحاول التوفيق بين الدنيا والآخرة بتوازن مدهش.

واستنتج شادي: لديه شغف بالتوازنات الغريبة!

في تلك الأثناء كان عمار في زيارة لرجل الدين عطاني البلهطاني الذي سأله عن سرّ غيابه الطويل، فحكى له كل شيء وكيف أنّ شادي ذلك الشاب الرائع قد كان له أخاً ومحباً، وأنّه لم يسبق له أن عرف شخصاً بهذه الأوصاف.

قال رجل الدين: إنّه يستحق كل الخير، وعليك أن تكافئه على هذا السلوك لكي يستمر عليه في ما تبقى له من حياة فانية.

فرح عمار، وقال بفخر: هذا ما دعاني يا سيدنا إلى إهدائه حورية من الحوريات الثلاثة اللواتي خصصتهن لي في الجنة!

شحب لون عطاني البلهطاني واكفهر وجهه، وكاد ينطق بالموت خنقاً، واستطاع التلعثم بأعجوبة: هل تقول أنّك منحته حورية من حورياتك الثلاثة؟

قال عمار والخوف يداهم قلبه: نعم نعم يا سيدنا..

صرخ عطاني البلهطاني بغضب وحنق: هل أنت مجنون أم ماذا؟ ويحك.. كيف تعطيه حورية؟ لقد أنعم الله عليك بثلاث حوريات فكيف تتخلى عن واحدة بهذا الشكل الغبي؟

عرف عمار أنّه قد ارتكب خطأ فظيعاً وأنّ الصداقة مهما بلغت من مكانة لا تبرر إهداء أحدهم حورية لا مثيل لجمالها وبياضها ولحمها الطري في أي مكان وزمان.

قال باكياً: ماذا أفعل يا سيدنا؟

بصرامة قال رجل الدين عطاني البلهطاني: أسرع يا أجدب واستعد حوريتك بأي ثمن ولو كلفك ذلك كل ما تملك من مال.. لماذا أراك هنا حتّى هذه اللحظة.. هيا يا مخبول طرّ أسرع من نفاثة وافعل المستحيل لاستعادتها. لم أرَ رجلاً بسذاجتك في حياتي! من يتخلى عن حورية من حورياته لأحدهم مهما بلغ الأحدهم من مرتبة!

ركض عمار إلى تكسي وأعطاه ألف ليرة طالباً منه أن يتجاوز اشارات المرور، فأخذ السائق يفتل في الشوارع الفرعية مما زاد في زمن التوصيلة لكنه وصل إلى شقة شادي، ركض على الدرج لاهثاً ودق الباب بهلع.

فتحت له سلمى، فظنها زوجة صديقه فأخفى عينيه بقبضتيه لكي لا ينظر إلى زوجة صديقه التي لا ترتدي إلا القليل، وطلب منها شادي، جاء شادي وقبّله بسعادة: تفضل صديقي الغالي عمار،

هذه جارتنا سلمى وقد أتت للاطمئنان على صحتي!

قال عمار محاولاً أن يقفز مباشرة إلى الموضوع، إلا أنّه لم يستطع تجنب السؤال: هل أتت من دون محرم..

قلبت سلمى على ظهرها من الضحك ظنا منها أنّه رجل نكتة، وعبّرت عن ذلك بقولها: يا الله ما أظرف صديقك يا شادي.

شعر شادي بالفخر وقال: لم ترِ شيئا من ظرافته وخفة دمه!

قفز عمار على شادي شبه متسولاً: أرجوك يا شادي.. يا أخي أن تعيد لي حوريتي التي أهديتك اياها..

أغمي على سلمى من فرط الضحك، لأنها لم ترَ في حياتها شخصاً يحب إضحاك الإناث بهذا الشكل من قبل.

قال شادي وقد ظن أنّ صديقه يقصد بالحورية جارتهم سملى: لا أستطيع يا صديقي فقد تعبت كثيراً للحصول عليها!

صاح عمار بيأس شديد: هل كنت اذاً تستغلني لانتشال حورية من حورياتي وأنا أظنك أخاً وصديقاً وفياً؟ آآه كم أنا أبله آآآه.

فكر شادي: ولكنها قد لا تحبك! أنا جلبتها بغمزة واحدة، أما أنت فقد جعتلها تصاب بإغماء عنيف بسبب ظرافتك وبشاشتك!

قال عمار: عن ماذا تتكلم يا أخي شادي؟

شادي: عن سلمى جارتنا التي جاءت كما قلت لك للاطمئنان على صحتي ليس إلا، فأنا في وعكة صغيرة جداً ولو كانت وعكة كبيرة لاتصلت بك أنت ولا أحد غيرك لأننا أكثر من أصدقاء.

عمار: يا شادي أنا أقصد الحورية التي أهديتك اياها ذلك اليوم! اسمع كم تريد ثمن استعادتها؟ هذا حقك ولا تحرج في طلب أي مبلغ، فحقك أن يكون لديك حورية لا مثيل لها من جميع الأوصاف الكاملة، ثم أخذ لمحة مشبعة من لحم سيقان سلمى.

قال شادي بدون اكتراث: حسناً، كم يمنك أن تدفع؟ أنت صديقي الرائع ولا أريد أن أسبب لك مشاكل مادية بسبب حورية!

كاد عمار يتسلق السقف من الفرحة والغبطة إذ أنّ شادي أبله أكثر منه فسارع إلى عرض مبلغ ثلاثمائة ألف متسائلاً إن كان يكفي المبلغ؟

همهم شادي، وهو غير مصدق لما يحصل: حسناً فليكن.. أنت صديقي أولاً وأخيراً والحورية كانت باسمك وعليها أن تعود إليه في المستقبل.

قبّله عمار بين عيونه، فأبعده شادي طالباً منه أن يرحل مبرراً الأمر بأن لا تظن جارته سلمى بأنهم شواذ فلا تطمئن على صحته بعد اليوم.

خرج عمار سعيداً منتشياً، وأسرع شادي إلى إيقاظ سلمى التي قامت لوحدها مبتسمةً بتهكم بالغ، وقالت: اسمع يا شادي.. أنا شريكتك بهذه الحيلة، وأريد مائة ألف فوراً! وقد رأيتني كيف انبطحت بحيث يرى أجزاء من جسدي بحيث لا يستطيع مقاومة دفع أي مبلغ مقابل الحورية، ثم يا معتوه! لماذا لم تأخذ منه مليون ليرة؟

قال شادي مبرراً: إنّه صديقي! ألا تعرفين ماذا تعني كلمة صديق؟

قالت ساخرةً: سأعرف بعد أن تعطيني مئة ألف.

قال مفكراً: هذا منطقي تماماً، دعسته بثلاثمائة ألف وغمزتك بمائة ألف! هذا عادل يا صديقتي الغالية.

ضحكت قائلة: الآن فقط عرفت ماذا تعني الصداقة يا حبيبي يا شادي!

http://kenanphoenix.wordpress.com/2012/10/03/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D8%AD%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى