صفحات الرأيياسين الحاج صالح

السلطان الحديث: المنابع السياسية والاجتماعية للطائفية في سوريا/ ياسين الحاج صالح

 

 

القسم الأول

الحلقة الأولى من سلسلة من ثلاثة نصوص تحاول بلورة مفهوم الدولة السلطانية المحدثة ومقاربة الطائفية بوصفها أحد أوجه النظام السوري على ثلاثية البيعة والفتنة والأبد.

تقول نظرية شائعة جداً عن الطائفية أن جذرها يتمثل في وجود «طوائف» في مجتمع ما، وأن الطوائف ليست شيئاً آخر غير الجماعات الدينية والمذهبية المختلفة المكونة لهذا المجتمع، والعلاقة الطبيعية بينها هي الخصومة وعدم الثقة، وربما الحرب. لكن هذه النظرية لا تقول لنا لماذا لا تكون المجتمعات كلها، وليس بينها ما يخلو من تعدد ديني ومذهبي، عرضة للتوترات الطائفية في كل حين. أسميها نظرية عامية في الطائفية لأنها نظرية الانطباع الأول الذي لا يعيد النظر في نفسه، ولا يتفحص مضمونه. نقد المعرفة الأولى أو الانطباع الأول هو ما يمكن أن ينتج معرفة موثوقة أكثر. ما سأحاول قوله هنا أن الطوائف ذاتها بناءات اجتماعية صنعية، تصنع في شروط سياسية بعينها، هي التي سيجري تقصيها هنا.

من جهة أخرى، ليست الطائفية انعكاساً لبنى اجتماعية متأخرة، أو تعبيراً عن وعي متأخر، كما تقول نظرية أخرى، يفترض أنها تقدمية. سندافع في هذه المقالة عن فكرة أن الطائفية من خطط السياسة وأدوات الحكم في الحاضر، وليست استمراراً لشيء قديم فشل في أن يموت. منبع حياة القديم هو سياسات الحاضر وتنظيماته وعلاقات السلطة فيه، ولا تعيش موروثات الماضي إلا بقدر ما تبث الحياة فيها بنى الحاضر، وتتمفصل مع أوضاع راهنة.

وليست الطائفية أيضاً من ظواهر الوعي وأمراضه كالوهم والهوى والأيديولوجيا، وإن ظهرت في شكل أيديولوجيا وكانت منبعاً للأهواء والأوهام، ولا هي من ظواهر الهوية والانتماء وأمراضهما كالتعصب، وإن ظهرت الطوائف كهويات حاصرة واستبعادية؛ إنها من ظواهر السلطة والامتياز الاجتماعي، وتتجسد في أوضاع سياسية وتنظيمات اجتماعية، وتتشكل في ممارسات وأفعال قد تبلغ القتل، لكنها تقوم على التمييز في كل حال، وتعبر عن نفسها وتُثبِّت نفسها في خطابات وعقائد عامة.

يلتزم هذا التناول حدود الإطار السوري الذي يبدو لي ملائماً جداً للنظر في الطائفية، ليس بالرغم مما تحاط به من تكتم وتحريم محروس بالعنف و«الثقافة»، بل بفضله. التفكير في الطائفية في سوريا لا بد له أن يكون تفكيرا بما وراء السطح من ظواهر سياسية واجتماعية، وما وراء الخطابات المجاهر بها من ممارسات وأوضاع فعلية. إنه تفكير في المجتمع والدولة والسياسة في سوريا خلال عقود الدولة الأسدية. وفي العنف والثقافة أيضا.

وعبر التفكير في المجتمع والدولة والسياسة، يعمل هذا التناول المخصص لتقصي الجذور الاجتماعية والسياسية للطائفية في سوريا، على بلورة نموذج اجتماعي سياسي أوسع، اسميه الدولة السلطانية المحدثة. الطائفية ليست الحقيقة الأخيرة للسياسة والمجتمع، إنها وجه بين وجوه أخرى للدولة السلطانية المحدثة التي تقوم على «البيعة» (أي التبعية) و«الفتنة» (أي الحرب الطائفية) و«الأبد» (أي السلالة والوراثة).

النظام الجديد وتناقضاته

نقطة الارتكاز الزمنية المختارة في التحليل هي السنوات التأسيسية لحكم حافظ الأسد بعد عام 1970. ليس أن مشكلات عامة تتصل بوضع الجماعات الاعتقادية في الدولة والفضاء العام لم تكن موجودة قبلها، لكن هذه بداية اصطلاحية وإجرائية من جهة، يسوغها واقعياً، من جهة أخرى، أن السير العام للشؤون الاجتماعية والسياسية والثقافية بين الاستقلال عام 1946 وانقلاب 1970 كان باتجاه توسع الحقل السياسي الوطني، ومشاركة أوسع لسوريين مختلفي المنابت في الحياة العامة، وعلمنة أوسع للتفكير والحياة العامة أيضا، ووزن متراجع للطائفية في الدولة. ما كان الحكم البعثي، والأسدي ذاته، ممكنين لولا ذلك.

على أن التطور الوطني كان يحمل تناقضات كبيرة في الزمن ما قبل البعثي، وكذلك في سنوات الحكم البعثي السابقة لحافظ الأسد. في الحقبة الأولى كان لدينا تناقض مركب بين تشكل الدولة الوطنية المستقلة بسكان متنوعين متزايدين (أقل من 4 ملايين وقت الاستقلال عام 1946) وبين نخبة حكم ضيقة، تنحدر من أسر أعيان مدينية ظهرت في عقود الحكم العثماني الأخيرة، أو من عسكريين كان بعضهم قبل حين في جيش الانتداب الفرنسي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، كان لدينا أجهزة إسلامية سنية تستأثر بـ«سلطة تعريف الإسلام»، و«تحكم» دينياً، إن جاز التعبير، غير السنيين من المسلمين. ليس لهذه السلطة سيادة، ولا نفاذ لها إلى وسائل العنف، لكن لها ولاية شبه عامة، لا تقتصر على سنيين لم يُسألوا الرأي في قبول ولايتها الدينية، وإنما تتجاوزهم إلى علويين ودروز واسماعيليين وشيعة لا يدينون بالعقيدة السنية. وهذا في غياب أطر قانونية ومؤسسية تتعامل مع السوريين كأفراد، يقررون لأنفسهم في مجال التعليم الديني والأحوال الشخصية.

وفي الزمن البعثي لم تتجاسر النخبة الجديدة ضعيفة الشرعية على معالجة التناقض الأخير، المتصل بوضع «الدين العام»، أو الهيمنة السنية في مجال التعليم الديني وقوانين الأحوال الشخصية والاحتفالات الدينية العامة، لكنها عالجت التناقض الأول المتصل بتحكم نخبة تقليدية بحكم الدولة الوطنية الناشئة. وبالفعل قاد الإصلاح الزراعي وتأميم الشركات الكبيرة والبنوك الخاصة، والتوسع في التعليم، إلى توسيع القاعدة الاجتماعية للحياة الوطنية مع انضمام ريفيين وفلاحين إلى مؤسسات الدولة الحديثة، التعليمية والعسكرية والبيروقراطية، والحزبية. غير أن سياسة النخبة الجديدة لم تتأخر عن توليد تناقض آخر بين هذه القاعدة المتسعة وبين ضيق الإطار السياسي الذي فرض قسراً على البلد، وتمثل في حكم الحزب الواحد، بل الفرد الواحد، عملياً.

في زمن حافظ الأسد (1970- 2000) توقف توسع القاعدة الاجتماعية للحياة الوطنية بفعل تفاقم الطابع التسلطي للنظام، والتشكل التدريجي لبرجوازية جديدة، يتوسط قطاع أول منها بين مركز السلطة والجمهور العام (سأسميها البرجوازية المحلية أو الأعيان الجدد)، ويمتلك قطاع ثانٍ أهم موارد البلد وقطاعات الاقتصاد المجزية (أسميها لاحقا البرجوازية المركزية). وعبر عقود حكم حافظ الثلاث، تراكبت تناقضات جديدة أو متجددة في هياكل الدولة الوطينة السورية. أولها، التناقض بين هياكل سياسية ضيقة وسكان تزايدوا من 6 ملايين عام 1970 إلى 9 ملايين تقريبا عام 1980، ونحو 18 مليون عام 2000، ووجدت نسبة عالية منهم خارج الحياة الوطنية اقتصادياً (42% يعيشون من الاقتصاد غير المنظم في مطلع القرن) وسياسياً.

وثانيها، أن دولة الأسد لم تقارب وضع «الدين العام»، أعني الهيمنة السنية في مجالات التعليم والأحوال الشخصية والاحتفالات الدينية العامة. بالعكس، وجدت مناسباً لها أن لا تمس بهذه الأوضاع لحماية انفرادها التام بالسلطة السياسية.

وفي المقام الثالث، أعاد نظام حافظ الأسد إنتاج التناقض الطبقي السابق للحكم البعثي عبر بنيانه التسلطي، الذي طور سمات شمولية وفاشية تدريجيا. وفي عهد بشار احتد هذا التناقض بين البرجوازية بجناحيها، المحلية والمركزية، وبين شرائح مفقرة ومهمشة من السوريين بفعل هيمنة نموذج ليبرالي جديد للتنمية، وتفكك الأجهزة الشعبوية المورثة عن الأزمنة الباكرة من الحكم البعثي والأسدي. ويتصل التناقض الأبرز ومنبع العنف المتكرر في سوريا بالتعارض بين هذا الطابع بالغ الضيق لنخبة السلطة وبين سيطرتها على الدولة العامة.

لكن لنعد، إلى البداية الاصطلاحية، عام 1970 الذي استولى فيه حافظ على السلطة بانقلاب عسكري.

تأمين النظام

كان ظاهراً منذ وقت مبكر من حكم الرجل أنه يؤسس لبقاء طويل الأمد في السلطة. من مواليد 1930، كان حافظ الأسد فتى في التاسعة عشر حين بدأت الانقلابات العسكرية عام 1949 في سوريا المستقلة قبل ثلاث سنوات، وشاباً ينضج في عقد الخمسينات النشط والمضطرب سياسياً، الذي تعاقبت فيه انقلابات عسكرية وأوضاع سياسية تعددية وأكثر انفتاحاً، ثم ضابطا وشريكاً مؤسساً في خماسي اللجنة العسكرية البعثية السرية في مصر أيام الوحدة السوية المصرية (1958-1961)، قبل أن يشارك عسكريين بعثيين وناصريين في الانقلاب البعثي عام 1963، ويكون شريكاً أساسياً في انقلاب 1966، ثم بطل انقلاب 1970 وسجّان رفاقه السابقين. سجن صلاح جديد، أمين عام حزب البعث 23 عاماً حتى موته، ورئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي 22 عاماً، ولم يفرج عنه حتى كان مؤكداً أنه سيموت خلال شهور بالسرطان.

خلال تلك السنوات العشرين التالية للاستقلال كانت الفكرة المهيمنة هي القومية العربية في صيغة «ليبرالية»، ثم في صيغة «اشتراكية»، ولكلتيهما نظرة سلبية إلى الطائفية، وإن يكن السجل الواقعي مختلطاً ومشوباً. على أن انقسامات جهوية هي التي كانت الأبرز حضوراً على مستوى النخبة العليا قبل الزمن البعثي والأسدي، وشكت أكثر مناطق البلد من الإهمال لحساب المدينتين الكبريين، دمشق وحلب، وبدرجة أقل حمص وحماه. كانت الأرياف مهملة، والمدن الأصغر كذلك. ومنهما، الأرياف والمدن الأصغر، ظهر الكادر العسكري لحزب البعث، واتسعت قاعدته الاجتماعية.

الدرس الذي يرجح أن الرجل استخلصه من التجربة هو أن الحفاظ على الحكم في سوريا أهم من الوصول إليه. ومعلوم أنه فعل كل شيء كي يحتفظ بالحكم «إلى الأبد»، على ما كان مفروضاً على طلبة المدارس وجنود القوات المسلحة الهتاف كل صباح في العقدين الأخيرين من حكمه.

كل شيء فعلاً، من الأغاني التي تهتف باسمه إلى المجازر، مروراً بتماثيل لا تحصى له و«المظاهرات الشعبية العفوية» والسجون. وبالاعتماد على الطائفية دوماً.

أول شيء بنى أجهزة أمنية قاسية ومرهوبة الجانب، ورأّس عليها ذوي قرباه وموثوقيه من العلويين، مع أولوية بينهم لأبناء عشيرته (ثم عشيرة زوجته) على ما يظهر حنا بطاطو، وأولوية أخرى ضمن العشيرة لأسرته. المبدأ الذي ثابر عليه طوال سنوات حكمه هو أن أمن النظام وركائز استمراره ينبغي أن تكون بيد من يأمن لهم من أهل القرابة والثقة، الأمر الذي يقتضي بطبيعة الحال تمييز هؤلاء على غيرهم على مستوى الكليات العسكرية والتطوع في الجيش وإشغال المناصب الأعلى أو مواقع التحكم الفعلي في أجهزة القوة. ومن المفهوم لبيئة مفقرة ومحتقرة طوال قرون من الحكم السلطاني أن تبادر إلى التطوع في الجيش والأجهزة الأمنية إن كان الباب مفتوحاً، حتى لو لم يكن هناك تمييز لصالحها. كان علويون أخذوا يتجهون إلى الجيش منذ أيام الانتداب الفرنسي بوفرة تتقاطع في تفسيرها الحاجة إلى عمل ودخل، مع تشجيع فرنسي، ومع انكفاء سوريا السنية المدينية عموما عن الجيش (بفعل تفضيل التجارة والمهن العلمية من جهة، والنفور من جيش أجنبي من جهة ثانية). لكن التمييز لصالح علويين في هذه الأجهزة كان موجوداً منذ اللحظة الأولى من طرف الدولة الأسدية.

وبالمثل، بنى حافظ تشكيلات عسكرية وظيفتها أمنية، مثل سرايا الدفاع والحرس الجمهوري والقوات الخاصة، ورأّس عليها المقربين أيضاً، أخوه رفعت قائدا للسرايا، وعلى الحرس شقيق زوجته عدنان مخلوف، وعلى القوات الخاصة علي حيدر. وفي الوقت نفسه قيّد الجيش النظامي بأن جعل كل تشكيل عسكري مكون من قائد للتشكيل ومسؤول حزبي ومسؤول أمني، مع تحاص طائفي للمناصب غالبا، بحيث يتعذر على أي تشكيل أن يتصرف بصورة موحدة، ومع أولوية غالبة للمسؤول الأمني. حافظ أسد هو الحاكم العسكري لسوريا الذي أضعف دور الجيش المستقل في السياسة إلى أقصى حد، وجعل منه أداة للقمع الداخلي والإقليمي بكل معنى الكلمة. والملاحظة اللافتة أن نزع الصفة السياسية الفاعلة للجيش السوري سار يدا بيد مع انطواء صفحة الحرب بين سوريا وإسرائيل (1973- 1974). بعدها مباشرة تقريبا (1976) انفتحت صفحة الحرب ضد فلسطينيين ولبنانيين في لبنان، ثم ضد سوريين في سوريا. لقد تحول الجيش من جيش وطني مفرط التسييس إلى جيش نظام منزوع السياسة، أو أداة منفعلة للسياسة، وعملياً حرس بريتوري للطغيان. والنقطة المهمة هنا أن وصف نظام حافظ، ثم ابنه بشار، بالعسكري غير صحيح. الصحيح، مؤقتاً، وصفه بالنظام الأمني أو المتمركز حول الوظيفة الأمنية، والقائم على أجهزة المخابرات وقت السلم، وعلى وحدات عسكرية ذات وظيفة أمنية وقت الحرب.

الأجهزة الأمنية ترتبط مباشرة بالرئيس حصراً، وليس بأية سلطة مدنية، وليس لها أن تقيم صلات مستقلة فيما بينها أيضاً. الرئيس هو القائد الأعلى لأجهزة أمنية متنافسة، وهو وحده من تلتقي عنده المعلومات القادمة من هذه الأجهزة، والذي يطلع على الصورة الأكثر كمالاً لأي وضع بعينه. قادة الأجهزة أنفسهم يحوزون معلومات أقل شمولاً، أما عموم السوريين فهم موضوع المعلومات الأساسي.

قام النظام السياسي ككل على الولاء للرئيس الذي جمع بين يديه رئاسة الدولة وقيادة الجيش والقوات المسلحة والأمانة العامة لحزب البعث الحاكم. لكن أكثر من هذه المناصب الرسمية، بات الرجل رمز سوريا ومركز الحياة العامة في البلد. وهو أرفع شأناً بما لا يقاس من حزب البعث ومن الحكومة ومن الجيش، ومن المثقفين ومن الشعب، ومن المدن، ومن كل شيء. وصار يوصف بأنه عبقري وحكيم وعظيم، و«سيد الوطن» و«بطل الحرب والسلام» و«القائد الرمز» و«فخر الأمة». وهو المعلم الأول والطبيب الأول والمهندس الأول والمحامي الأول…، ترفع صوره في كل مكان، وتنصب له التماثيل في كل مكان أيضاً. ولعل الغرض من هذا التعظيم الذي شكل وظيفة ثابتة لكل مؤسسات السلطة يتعدى إقناع الناس بعبقريته وحكمه وبقائه الأبدي إلى إرعابهم وشل فكرة الاعتراض في نفوسهم. ويبدو أن عموم السوريين أدركوا أن نظاما على هذه الدرجة من تمجيد ذاته مستعد لفعل كل شيء كي يبقى في السلطة.

كان الولاء للرئيس ومديحه الذي لا يعرف حدوداً للمبالغة، ورفع اللافتات الممجدة له، مشروعاً للكسب الخاص أيضاً، شيئاً يتوسله أشخاص وأسر وجماعات لتخويف غيرهم ونيل أفضليات على حسابهم من جهة، ولتحقيق مصالح خاصة عند جهات عامة، محلية أو مركزية، من جهة أخرى.

لكن المغزى الفعلي لذلك هو أن في البلد شخصاً حراً وحيداً (بما يصادق على القول العنصري لهيغل عن «الشرق»)، أي أن هناك سياسياً وحيداً وصانعاً وحيداً للسياسة هو حافظ الأسد. لا أحزاب سياسية، لا سجال سياسي، لا نقاشات سياسية في البرلمان أو الصحف أو الجامعة، لا رأي حراً، ولا اجتماعاً طوعياً مستقلاً، ولا احتجاجات علنية أو تجسيداً عاماً لكلمة لا. السوريون جميعا غير الحر الوحيد عبيد، أو موتى سياسياً.

لكنهم كانوا يقاومون طوال الوقت، وبصور مختلفة.

الأسدية: دولة خاصة وطائفة عامة

لكن ماذا تعني هذه السياسة الخاصة بوضع علويين تفضيلياً في تلك المواقع العسكرية والأمنية؟ ماذا يعني أن أناساً، بدلالة منحدرهم المذهبي الخاص، يشغلون مواقع مفصلية في الدولة، مؤسسة الحكم العام؟ إنه يعني تعميم فئة خاصة من المجتمع، إضفاء صفة عامة عليها، ما يستحق أن يسمى الطائفة العامة التي تشغل موقعاً ممتازاً في الدولة. لا حاجة إلى القول إنه لم يتح لجميع العلويين أو لأكثريتهم إشغال هذا الموقع، لكن علويين شغلوه أكثر من غيرهم بما لا يقاس. أتكلم على طائفة سياسية عامة بغرض التمثيل المفهومي لهذا الوضع التمييزي لمصلحة علويين، دون أن يقتضي ذلك أن العلويين أحرار سياسياً، أو أنهم حاكمون بما هم كذلك. ليسوا كذلك. وينبغي أن يفهم هذه الكلام على نحو ما يفهم الكلام عن طائفة دينية عامة هي السنيين، يجري تعميم عقيدتها تعليمياً وتشريعياً ورمزياً. لا يعود هذا بنفع على جميع السنيين ولا على أكثريتهم، لكنه يسجل امتيازاً بنيوياً لسنيين في هذه المجالات.

وغير وضع الطائفة العامة، وكثمن لها، يعني التمييز لمصلحة علويين في أجهزة الدولة الارتكازية تخصيص «الجمهورية»، أو نزع الصفة العامة للدولة، وإنتاج الدولة الخاصة. «سوريا الأسد» هي الاسم الذي يكثف وضع الدولة الخاصة. وهو يضمر أن الدولة السورية ملك لرئيسها، الأمر الذي مهد في مطلع القرن الجاري لتوريث الحكم بعد موت الرئيس المؤسس.

حجر الارتكاز في خصخصة الدولة هو تطييف الوظيفة الأمنية التي هي العمق غير الظاهر للدولة الخاصة، أو «الدولة الباطنة»، موطن السلطة الحقيقية في البلد.

وأكثر ما يكشف تطييف الوظيفة الأمنية والطابع العدواني للأجهزة القائمة بها هو ظاهرة الشبيحة، مجموعات خاصة غير منظمة، تلتف حول رؤساء لها من بيت الأسد أو أسر علوية أخرى نافذة، و«تُشبّح» على «الدولة الظاهرة» التي سأتكلم عليها لاحقاً، وعلى عموم السكان. الظاهرة قديمة، تعود إلى ما بعد الانتداب السوري على لبنان عام 1976، ازدهرت في الثمانينات، وبلغت أوجها أثناء الثورة. فمنذ بدايتها، قام الشبيحة بحماس بدور أمني عام دون أن تكون لهم أي صفة عامة، الأمر الذي يحيل بوضوح إلى وضع الطائفة العامة والدولة الخاصة، وإلى ارتباطهم الوثيق بما أسميه الدولة الباطنة (سيجري الكلام عليها بعد قليل أيضاً). ومعلوم أنه جرت في أواخر عام 2012 مأسسة الشبيحة، بإشراف إيراني، في إطار ما يسمى «قوات الدفاع الوطني» التي تشارك النظام حربه ضد بيئات الثورة السورية. وعلى هذا النحو، تحول الشبيحة إلى قوة قمعية منظمة، وهذا وقت كانت الأجهزة الأمنية الرسمية تظهر كقوى تشبيح وإجرام منفتلة منذ أيام الثورة الأولى، قبل أن يتكشف في الشهر الأول من عام 2014 أنها قتلت 11 الف سوري تحت التعذيب خلال 29 شهرا، من بداية الثورة حتى آب 2013، ما يجعلها فعلياً مصانع موت بالجملة.

لكن ما الذي دفع النظام إلى الاعتماد على الثقة «الطبيعية» لذوي قرباه الأهليين، بدلاً من العمل على تطوير ثقة وطنية، وهو الذي يعتنق عقيدة قومية عربية؟ شيئان: أولا، التكوين المتواضع لنخبة الحكم الجديد، وضمور البعد القيمي في شخصية حافظ الأسد، مقابل نزعة كلبية (سينيكال) قوية. كان يعتقد أن معظم الناس لا يتطلعون إلى غير الكفاية المادية، وأن قلة منهم معارضون في كل حال، وسجن المزة موجود لمثل هؤلاء. كان يسهل أيضا فساد الجميع حوله كي يضعهم في موقع الإدانة ويقوض قدرتهم على لعب دور سياسي مستقل، ويحقد على من يتعذر إفسادهم. ويتصل بذلك، ثانيا، مبدأ «اقتصادي»: الثقة الوطنية صنعية، تقتضي استثماراً أقوى في المواطنة والمساواة الحقوقية والسياسية، وتخلياً عن شهوة الحكم الأبدي. «الثقة الطبيعية» منجم، متاح استثماره بقليل من الجهد، ويعود بـ«ريع» من الولاء القوي يكفي لحماية نظامه. أما الثقة الوطنية العامة فهي صناعة، تتطلب مستثمرين أبعد نظراً، وعوائدها أبطأ ظهوراً.

سهل للنظام الاستناد إلى أهل ثقته أن العلويين عانوا فعلاً من هامشية مديدة، لم يبدأ عمومهم بالخروج منها إلا مع الانتداب الفرنسي، وتطورت في أوساطهم سردية مظلومية فعالة، تكلمت بلغة قومية جهيرة (القومية العربية، والقومية السورية) حتى سبعينات القرن العشرين، وبقدر ما بلغة الشيوعية في ثمانينات القرن.

والتقاء السلطة القائمة على الولاء الشخصي، لا على قواعد قانونية مطردة ومؤسسات مستقلة، مع تطييف الركائز الأمنية والعسكرية للنظام، اقترن دوماً بإتاحة تماهٍ متفاوت للسوريين في الدولة، بحيث يشعر بعضهم أنه مرتاح وفي بيته، بينما يشعر آخرون بالغربة والإحباط. ولتفاوت التماهي هذا فاعلية انقسامية، هي ما صُمِّم مفهوما الوطنية والوحدة الوطنية لاحتوائها. يحتكر النظام تعريف الوطينة بصورة موجهة نحو كبت تسرب التماهي المتفاوت إلى سطح الحياة العامة، ومنع أي نقاش حول منابعه السياسية والاجتماعية. الوحدة الوطنية في سوريا تعني التكتم التام على الطائفية والممارسات المرتبطة بها، وتجريم من يتكلمون في الأمر بذريعة «إثارة النعرات الطائفية». هذا لا يحمي مماسات النظام الطائفية فقط، وإنما يقلب الواقع لتكون إضاءة التمييز والاعتراض عليه هي الفعل الطائفي.

وكان لافتاً قبل الثورة السورية تطوع مثقفين لحراسة هذا التابو، والوطنية المؤسسة عليها وتوجيه الاتهام بالطائفية لأدباء ومثقفين يعملون على كسر التحريم الطائفي. يكمل هؤلاء عملياً دور الأجهزة الأيديولوجية التي تعمم مفهوم الوطنية التمييزي المتكتم على الطائفية، ودور الأجهزة الأمنية القامعة لمن ينتهك التحريم. لن أتوسع هنا في سيرة حراس المحرم هؤلاء، بأمل تناول مستقل له. لكن هذا الكفاح الحامي للتابو يدل على أن وقائع الطائفية، والأدوار السياسية والأمنية الحارسة لها، والثقافة والتصورات المنتجة لتمويهها وحجبها، ولمحاصرة منتهكي التابو، هذه كلها وقائع دينامية وصراعية، لا تكف عن إنتاج مفاهيم وخطابات وممارسات تحمي أوضاع الامتياز الاجتماعي والسياسي المرتكز على الطائفية. الكفاح من أجل الامتياز مستمر مثل الكفاح ضد التمييز.

ارتبطت إعادة إنتاج النظام لنفسه منذ نشوئه بإعاة إنتاج الانقسامات الطائفية، وتراجع الوزن السياسي للرابطة السورية العامة. صار السوريون مع مرور الزمن سوريين أقل، ومنسوبين إلى جماعاتهم الأهلية أكثر. هذا لم يحصل عفو الخاطر، بل هو نتاج سياسة تمييز منهجية محصنة بقمع تتولى القيام به الأجهزة الأكثر طائفية في البلد. الطائفية أداة حكم فعالة، ليس لأن النظام يعتمد عليها في أمنه وبقائه، ولكن كذلك لأنها تتيح تفريق صفوف المحكومين، واتجاه العلاقات فيما بينهم إلى التباعد لا إلى التقارب، والخوف من بعضهم لا الثقة ببعضهم. يعزز من ذلك أن العلاقة بين الأجهزة الأمنية وعموم السوريين تعتمد على العنف الجسدي والإذلال، وتحاكي في الواقع العلاقة التي تقيمها قوات الاحتلال الإسرائيلية مع الفلسطينيين، أو العلاقة الاستعمارية عموماً. الطابع الشخصي للعنف والإذلال ينتج الروابط العضوية وينتج عنها في آن. المعنّفون المهانون يندفعون إلى التكوم على رابطتهم القرابية التماساً للحماية، كما يتكوم شخص يهاجمه من لا قبل له بهم على نفسه لحماية عضويته. ويمتنع أن يطور المعنّفون نظم تفكير وقيم عمل أوسع أفقاً من الجماعة الأهلية. بالمقابل، يبدو أن الارتباط بين الانتقام كشكل للعنف مرتبط بالإذلال وبين الروابط الأهلية أقوى من أن يكون عارضاً. عنف العشيرة إذلالي وتحقيري، لأن الكرامة محمولة هنا على جماعة العشيرة لا على الفرد. وقريب من ذلك عنف الطوائف. مكانة طائفتنا أو كرامتها وشرفها لا تصان دون الرد على عنف طائفتهم بأقوى منه، وحفر الرد في ذاكرتهم، وفي وقائع تروى. موقع النساء مهم من هذا الباب في سجل عنف تشكيلات بطريريكية مثل العشائر والطوائف.

مفهوم العدالة المرتبط بالقانون والدولة الحديثة يراهن على الفصل بين العقاب والإذلال (لكن ليس في العلاقة مع دول أخرى، أو خصوصاً «حضارات» أخرى)، وعلى أن يكون العقاب فردياً ومجرداً، لا يطال التكامل الجسدي والمعنوي للشخص المعاقب. في سوريا لم تتطور العدالة يوماً لتقارب هذا المثال، لكنها سجلت انحطاطاً كلياً في العهد الأسدي نحو الإذلال والتعذيب العقاب الجماعي، وصولاً إلى المذابح وحصار المناطق. وهذا مرتبط بصورة وثيقة مع تقويض مبدأ الدولة والعدالة القانونية، ومع اعتماد الطائفية أداة حكم أساسية. تميل أجهزة النظام بصورة متواترة إلى التفكير في أن خصوم النظام يخاصمونه لأسباب طائفية حصرا. ويجد المرء نفسه أمام الأجهزة الأكثر طائفية في البلد مدعواً إلى إثبات وطنيته ولا طائفيته!

وهناك ما يشبه ذلك تماماً بخصوص الحراس الثقافيين للتابو الطائفي: يميلون إلى إرجاع كل معارضة جذرية للنظام إلى أسباب طائفية حصراً. وهو، بالمناسبة، ما يناسب الإسلاميين، والسلفيين منهم بخاصة.

مجمل هذه الملاحظات ضروري كي نبقي في بالنا أن الطائفية علاقة قوة بقدر كبير، ليست تعبيراً سياسياً عن المجتمع أو الدين أو الثقافة، ولا هي مجرد إطار للمحسوبيات وقضاء الحاجات، كما سيظهر لاحقا. حين نتكلم على الطائفية نتكلم على كراهية وعلى إكراه، وعلى تمييز وعدم ثقة، على امتياز اجتماعي وسياسي، وعلى حرب وعلى خداع. هذه التداعيات المعلومة للمفهوم تؤشر على كم يمكنه عبر السنين والعقود أن يصير خزاناً للقتل والجريمة والمذابح، وحروب لا تنتهي.

في المحصلة، ارتبط صعود الطائفية وانتشارها بتعميم غير مبرر وطنياً لجماعة خاصة، وهو ما اقترن طول الوقت أيضا بصعود العنف وتحكيمه في الحياة العامة، ومعه التعذيب والكراهية. لا على مستوى المقدار، ولا على مستوى النوع، عرفت سوريا هذا العنف الهائل الممتزج بالكراهية منذ وقت مبكر من الحكم الأسدي. لقد جرى توسل تعميم العلويين استراتيجية للسيطرة السياسية الدائمة، للامتلاك الدائم للدولة العامة، ثم للبلد نفسه، من قبل حافظ الأسد وأركان حكمه. وشكل وضع الطائفة العامة والدولة الخاصة وجهان للنظام الذي أسسه الرجل وبنى هياكله، قبل أن يورثه لابنه بشار. الوراثة ليست شيئا طرأ على النظام من خارجه، إنها وجه أساس للنظام السلطاني المحدث الذي تشكل الطائفية والتماهي الطائفي المتفاوت أداة حكم له، والذي يثابر على تصنيع العصبية المناسبة لاستمراره «إلى الأبد». الحكم السلطاني أبدي تعريفاً، ووراثي تعريفاً. الطائفية من لوازم التأبيد والوراثة.

الأسدية: دولة ظاهرة ودولة باطنة

تمايزت منذ وقت باكر من حكم بطل هذه القصة، حافظ الأسد، دولتان في سوريا: دولة ظاهرة، عامة ولا طائفية، لكن لا سلطة حقيقية لها؛ ودولة باطنة، خاصة وطائفية، وحائزة على سلطة القرار فيما يخص المصائر البشرية والعلاقات بين السكان وتحريك الموارد العامة، فضلاً عن العلاقات الإقليمية والدولية. تتكون الدولة الظاهرة من الحكومة والإدارة والجيش العام والتعليم والمؤسسات العامة و«مجلس الشعب» والقضاء والمحاكم، إنها عالم الموظفين التنفيذيين الذين لا سلطة لهم، ولا حرية. فيما تتكون الدولة الباطنة من الرئيس (والأسرة الأسدية اليوم) ومن الأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية ذات الوظيفة الأمنية، واليوم من أثرياء السلطة الكبار، وأبرزهم رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد. محروسة بالخوف، الدولة الباطنة ليست مرئية من قبل عموم السوريين، ولا نفاذ لهم إلى آليات القرار فيها. أركان الدولة الباطنة الأمنيون يصفون أنفسهم بأنهم أبناء النظام، أو النظام ذاته، فيما كبار الدولة الظاهرة مجرد موظفين. الفرق بين الكبير والصغير في الدولة الظاهرة أصغر من الفرق بين كبير في الدولة الباطنة وكبير في الدولة الظاهرة. أو، بعبارة أخرى، ليس هناك إلا صغار في الدولة الظاهرة. الكبار موجودون في الدولة الباطنة.

ولوضع الدولة الباطنة أثره على العلويين الذين يشغلون موقع الطائفة السياسية العامة، ويتمثل في توثيق ارتباطهم بالدولة الأسدية. في الأصل ليس لدى العلويين مؤسسة دينية قوية، لكن هذه المؤسسة الضعيفة أُضعفت أكثر في ظل حافظ الأسد، فلم يعد هناك تحقق عام للعلويين غير «دولة» صارت باطراد مناط هويتهم الجامعة. مرّ ذلك بمسار من قمع أية تعبيرات سياسة مستقلة بين العلويين أنفسهم أو استتباعها: «الشباطيون» الذين كانوا بعثيين أصلب أيديولوجياً من بعثيي حافظ الأسد اعتقلوا وأضعفوا، ولم يفرج عن رمزهم، صلاح جديد، إلا ميتا في عام 1993. ونال «حزب العمل الشيوعي»، وكانت نسبة تمثيل العلويين فيه عالية، مصيراً مماثلا في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته. ولا يبعد أن اختطاف وتغييب عبد العزيز الخير في أيلول 2012 يندرج ضمن المنطق نفسه: ضرب إمكانية ظهور أي تعبير علوي مستقل عن النظام.

لكن هذا الوضع مرّ أساساً عبر التمييز الفعلي لمصلحة العلويين في أجهزة الدولة الارتكازية، الأمن بخاصة، ثم الإعلام والجهاز الدبلوماسي.

والمهم، في هذا السياق، أن الطائفية ليست من الممارسات والأوضاع التي تجري على مستوى الدولة الظاهرة. على هذا المستوى ثمة ضرب من العمومية السورية، اسمه الأيديولوجي هو «الوحدة الوطنية»، ويراعى فيه غالبا ضرب من التوازن الطائفي التقريبي على مستوى توزيع المناصب. وحين يرفض مثقفون أو ناشطون سوريون وصف النظام بالطائفي، فإنهم يتركون لعالم الدولة الظاهرة السوري العام أن يخدعهم (هذا حين لا يكونون حراساً للتابو الطائفي). بيد أن هذا يرد كلامهم إلى أيديولوجيا تبريرية، تخفق في الكشف عن منابع التسلط والاستتباع الحقيقية في المجتمع. الطائفية هي مبدأ تماسك الدولة الباطنة، ونهجها غير المعلن في التعامل مع السكان. وليس مفهوماً أن لا يجري تناول صريح لهذا الواقع الذي هو منبع للتزييف والمراوغة والتكاذب في الحياة السورية العامة، فوق كونه منبعا للكراهية والعنف والمذابح.

من أجل تمثيل رمزي لحقيقة العلاقة بين الدولة الظاهرة والدولة الباطنة، يفيد الالتفات إلى رزنامة الأيام الوطنية ومكانة أيام الدولة الأسدية أو الدولة الباطنة بالمقارنة مع أيام البلد والدولة الظاهرة. العيد الأكبر منذ عام 1970 هو ذكرى «الحركة التصحيحية المباركة التي قادها السيد الرئيس حافظ الأسد» في 16 تشرين الثاني، تتكرس خلاله وسائل الإعلام المختلفة أياما لتمجيد المناسبة وصاحبها، ويحيّيها معلمو المدارس في صفوفهم، وتعم اللافتات بصور «القائد الرمز» في الشوراع والساحات وأمام مقرات المؤسسات الرسمية وعلى أبوابها. يليها ذكرى انقلاب 8 آذار الذي استولى فيه عسكريو حزب البعث على الحكم عام 1963، فيما انزوى ما يفترض أنه العيد الوطني الجامع، يوم جلاء القوات الفرنسية من سورية، 17 نيسان، إلى مكانة ثانوية.

جرت على هذا النحو إعادة هيكلة الذاكرة الوطنية بحيث يشغل حافظ الأسد الموقع المؤسس الذي لا يدانى. أما الزمن قبل الأسدي فقد جرى التكتم عليه بصورة تامة، ولا يذكر إلا بصورة طقسية بوصفه زمنا لـ«الإقطاع والبرجوازية».

«سوريا الأسد»

بعد أن كانت سنوات حكم حزب البعث السبعة السابقة لانقلاب حافظ الأسد شهدت تأميمات صناعية وتجارية وإصلاحاً زراعياً وتوسعاً للخدمات الاجتماعية، توقف هذا النهج في عهد حافظ الأسد، وإن لم يتراجع عن شيء مما تحقق. وبدأ بإرخاء القيود السياسية والإدارية المفروضة على النشاط الاقتصادي للبرجوازية السورية التقليدية.

ومنذ السنوات الباكرة من حكمه، وخاصة بعد حرب 1973 ضد إسرائيل وتدفق أموال خليجية على الدولة الأسدية الفتية، بدأت تتشكل طبقة مثرية من داخل الحكم البعثي، تعتمد في دخلها على احتكار أدوات الإكراه العامة، وعبر شراكات إجبارية مع ما بقي من البرجوازية التقليدية. كانت هذه تلقت ضربات كبيرة أيام الوحدة مع مصر، وكذلك في السنوات السابقة من الحكم البعثي، فانحدرت إلى موقع تابع، وفقدت أية تطلعات سياسية مستقلة.

وفي المجمل، أخذ مستوى العدالة الاجتماعية يتراجع تدريجيا، وصار الموقع في السلطة العمومية يضمن أفضلية اقتصادية اجتماعية لأصحابه. كان رفعت الأسد، شقيق حافظ، وقائد التشكيل الأقوى المولج بحماية النظام حتى عام 1984، تجسيداً لتلاقي السلطة والثروة، ولمبدأ الشراكات الإجبارية مع برجوازيين دمشقيين أقدم، وجنى ثروته من هذه الشراكات، ومن النهب المباشر وتجارة الآثار، ومن حيازة ميناء خاص به، لم يُغلق حتى جرى إبعاده بفعل تطلعه إلى الحلول محل أخيه المريض وقتها، 1984. ثم مما أعطاه أخوه من أموال اقترضت من ليبيا على ذمة مصطفى طلاس مقابل إخلاء موقعه في السلطة.

على أن رفعت الذي طرد كشخص ترسخ كبرنامج ونهج. فأجهزة الأمن والتشكيلات العسكرية الأمنية التي خرجت لتوها منتصرة من مواجهة احتجاجات اجتماعية وسياسية نشطة، ومن صراع مسلح مع الإسلاميين، أعطيت خلاله ضوءا أخضر للتفظيع بالمهزومين، أعمارهم وممتلكاتهم وروابطهم الاجتماعية، هذه الأجهزة والتشكيلات كان لا بد من تمييز رؤسائها بعطايا وامتيازات مباشرة أو غير مباشرة، ومنها شراكات إجبارية مع وجهاء محليين: ملاك أراضي في منطقة الجزيرة، صناعيين وتجار في حلب ودمشق ومدن أخرى، فضلا عن وكالات الشركات الأجنبية… وكل على مقياسه: الكبار يشاركون الكبار والصغار يشاركون الصغار، أو تفتح لهم علاقة القوة التي بين النظام، ومكونه الطائفي بخاصة، وعموم السكان باب الابتزاز والرشوة. منطق السيطرة الأمنية الذي وضع البلد عملياً تحت الاحتلال، ووضع أدوات الاحتلال الأمنية في الموقع الأقوى للتحكم بالتفاعلات الاجتماعية، ومنها المبادلات الاقتصادية، وجعل منهم شريحة السادة التي تحظى بالثروة لكونها تملك السلطة. رفعت هو «الاسم التجاري» لبرنامج جني الثورة بالسلطة. رحل المسمى إلى أوربا، كعبة «البرجوازية المركزية»، مع ملياراته بعد صراعه مع أخيه على السلطة، لكن الاسم بقى، وصار نهجاً عاماً.

وعدا ما يقال عن أن ميزانية الجيش تستهلك نسبة عالية من الميزانية السورية، والأرجح أن أكثرها يذهب إلى الأجهزة والتشكيلات ذات الوظائف الأمنية، فإن معظم دخل كبار رجال هذه الأجهزة ومتوسطيها وصغارها يأتي من ابتزاز قطاعات واسعة من السكان، وتحويل الدخل لمصلحة هذه الانكشارية الأمنية المرهوبة. وهذا ما يسوغ الكلام على استعمار داخلي، أو على علاقة استعمارية شكلت إطاراً لاستيلاء المفارز الأسدية المسلحة، الموزعة في كل أرجاء البلد، على موارد خاصة وعامة بالقوة، وتشكلت بالمحصلة طبقة جديدة، عمادها كبار رجال الدولة الباطنة من مقربي الأسرة الأسدية وموثوقيها وشركائها. كان تجريد المجتمع من السلاح والقدرة على الدفاع عن نفسه هو ما يسمى «الأمن»، وهو مساحة تقاطع مفهوم الدولة الفيبرية مع حكم الطغمة التي تحكم بأسلوب استعماري. هو أيضا منبع اتهام كل مقاومة مسلحة بالإرهاب، وفق المنهج الاستعماري المجرب، وأقربه إلينا منهج إسرائيل.

ما سبق يكفي لإعطاء فكرة عن حال العدالة الاجتماعية، أما العدالة القانونية فسقطت سقوطا حراً. كانت الأجهزة الأمنية تقوم بوظائف قضائية، تعتقل وتعذب وتحبس، دون أن تُساءل. ولم يحدث لمرة واحدة في عقود الحكم الأسدي أن تعرض مسؤول أمني للمساءلة بسبب جرائمه بحق العموم، ومنها قتل واستيلاء على ملكيات على نطاق واسع.

كان هناك أيضا قضاء عسكري وقضاء أمني استثنائي يُقدّم أمامهما مدنيون. أما القضاء العادي فسجل تدهورا مطِّردا ونخره الفساد والتخريب الحزبي والأمني.

حال العدالة السياسة كان أسوأ بعد. السجون امتلأت بعشرات ألوف المعارضين السياسيين، من الشيوعيين إلى الإسلاميين، مروراً ببعثيين وناصريين ومواطنين أفرادا تعرضوا لوشاية حقيقية أو كيدية. وجميع هؤلاء تعرضوا للتعذيب (عدا من استدركتهم واسطات مؤثرة) والإهانة. وقضى بعضهم تحت التعذيب، وقضى كثيرون منهم سنوات طويلة في السجون، وأعدم ألوف الإسلاميين في سجن تدمر الذي ظل نزلاؤه يتعرضون لتعذيب عشوائي يومي حتى نهاية القرن العشرين، ودُفن المقتولون في مقابر جماعية غير معلومة حتى اليوم. وكانت مقتلة حماه 1982 نقطة النهاية، لا في الصراع مع الإسلاميين، بل في أية حقوق سياسية لعموم السوريين.

باختصار، لم تعد هناك أية عدالة في سوريا، ولم يكن هناك مرجع من أي نوع يستطيع أن يحتمي به أو يشكو إليه المستضعفون من عدوان آل السلطان وأعوانهم.

وبقدر ما تمركز النظام بإفراط حول وظيفة السلطة على الناس، أخذ كل شيء آخر يتراجع: التعليم، الاقتصاد، الإدارة، الثقافة، الجيش…، وبقدر ما صارت السلطة متمركزة حول شخص الرئيس، صار الولاء له قيمة القيم، وتطورت وظيفة إنتاج للولاء عابرة للمؤسسات العامة، بما فيها البيروقراطية والمدارس والجامعات والنقابات والشركات الحكومية، فضلا عن الجيش طبعا، وعن المنظمات الشعبية وحزب البعث. والولاء وظيفة وثيقة الارتباط بوظيفة أمنية لهذه المؤسسات نفسها: مراقبة كادرها، وكتابة التقارير الأمنية بمن يُشك بولائهم، والمشاركة المباشرة في عمليات القمع عند اللزوم. «التقارير» هي مواد مكتوبة ترفع للأجهزة الأمنية من مخبرين محترفين أو متطوعين، تتضمن معلومات عن أن هذا أو ذاك من الناس، بحضور فلان وعلان، قال كذا أو فعل كذا أو امتنع عن فعل كذا، حين كان يجب عليه القيام به. تعمم هذا الوباء منذ السبعينات تحت تأثير الخوف والطمع، الخوف من أنه إن لم تكتب أنت تقريراً بواقعة شهدتها، قد يكتب غيرك، ويذكر أنك كنت شاهداً على الواقعة، وقد تتعرض لعقاب شديد لكتمانك الأمر؛ والطمع بفرص للترقي والمكافأة على الإخلاص في الولاء. كان الولاء ممزوجا بالخوف دوماً، وبالمكسب الشخصي على حساب الغير دوماً.

وكان ذلك تدريباً وطنياً عاماً على الخيانة. تلك الوشايات الأمنية هي بالفعل مدارس للخسة والغدر والدناءة، فوق كونها مصانع للرعب والقتل. ومن هذا الباب سيكون تدميرها ومحاكمة أربابها واجب وطني وإنساني لا يعلى عليه.

الوظيفة الأمنية المعممة، ينبغي أن يكون ذلك واضحاً، أوسع بما لا يقاس من أجهزة الأمن-الخوف، والتطلع الملازم للدولة الأسدية كان أن يغدو الشعب كله مخبرين، أي خونة. وينبغي الإقرار أن نسبة نجاح برنامج تفخيخ المجتمع هذا لم تكن متواضعة. ولا أعتقد إلا أن التفجر المتسلسل الجاري للمجتمع السوري شاهد على نجاح تفخيخ المجتمع والمستقبل.

ما كان يسمى «المسيرات الشعبية العفوية» في «المناسبات الوطنية والقومية» (ذكرى «الحركة التصحيحية»، أي انقلاب حافظ الأسد عام 1970، وذكرى «ثورة 8 آذار المجيدة»، أي الانقلاب البعثي الأول 1963…) هي بمثابة اختبارات لوظيفة تلك المؤسسات في إنتاج مركب الولاء/ الخوف، وكان يجبر طلاب المدراس والموظفون الحكوميون وعمال قطاع الدولة على المشاركة فيها، والهتاف بحياة القائد. ليس أنه لا شيء عفوياً في هذه المسيرات فقط، وإنما هي فعل اغتصاب علني، واستعراض أمام المجتمع لطقس خضوعه لحاكمه. كانت المسيرات تبث مراراً وتكراراً عبر التلفزيون، وتوصف بالمليونية. ومحصلتها عبر السنين فصل عموم السكان عن الفضاء العام وإعلان الملكية السلطانية له.

الاختبار الثاني للولاء هو الاستفتاء على حافظ الأسد رئيسا كل سبع سنوات، وهو طقس صار يطلق عليه تعبير «تجديد البيعة» منذ عام 1985، ثلاث سنوات بعد مذبحة حماه 1982، ووقت كان هناك عشرات الألوف من علمانيين وإسلاميين في سجون النظام. والبيعة تعبير إسلامي قديم، يعني إشهار الناس ولاءهم للخليفة، وهي تجري مرة واحدة في عمر الخليفة، وقت تنصيبه. وتتضمن عنصر إكراه كبير من جهة، وتضميناً بأن من لا يبايع خارج على «إجماع الأمة» من جهة ثانية، وإقرار لتبعية العموم للخليفة، تبعية كان يحد منها في تلك الأزمنة محدودية حضور السلطة أو، استناداً إلى عبدالله العروي، «التخارج» بين الدولة السلطانية والعامة المحكومة، واستقلال الجماعات بشؤونها وأعرافها عموماً. الجديد في النظام الأسدي هو أن «البيعة» تتجدد كل سبع سنوات (وهي ضريبة شكلية للانتخابات الدورية في الدول الديمقراطية)، وبدل وفود «أهل الحل والعقد» تشد على يد السلطان الجديد علامة على المبايعة والولاء في الزمن القديم، صار مفروضاً على الناس إيداع أصواتهم الموافقة في صناديق استفتاء، مع مزيج من صفة كرنفالية وعلنية للتصويت، ومن مراقبة أمنية، بما يحول دون أن يتجاسر أحد على التصويت بلا. والأرجح أن حافظ أراد من تعميم مفهوم «البيعة» نيل شرعية إسلامية، تكفل له تبعية السكان، وضمان «إجماع» مضاد لـ«الشقاق» و«الفتنة» عليه، بما يقصي الاعتراض على نظامه إلى حيز الخيانة أو «الكفر»، وبما يضمن له أن يكون خليفة أو سلطاناً على السوريين «إلى الأبد».

وبعد حماه 1982 صارت المبايعة تجري بالدم: ينخز الموالون المتحمسون إبهامهم بدبوس، ويبصمون على ورقة الاستفتاء، ويضطر غيرهم إلى مجاراتهم خوفا من الشك في قلة ولائهم. في تلك السنوات صارت ترفع برقيات ولاء بالدم لحافظ الأسد، يعلن كاتبوها استعدادهم لافتداء «عظيم هذه الأمة»، «القائد المفدى»، بأرواحهم ودمائهم، وولاءهم «المطلق» له. في هذه السنوات ذاتها، وبعد أن كان قتل نحو 30 ألفا، صار يطلق على حافظ لقب «الأب القائد» (كان لقبه «ابن الشعب البار» في السنوات اللاحقة لانقلاب 1970)، وهو ما يشير إلى توقع أن ينال هذا الأب طاعة جميع الأبناء من جهة، وإلى تقدم البطريريكية، علاقات وثقافة من جهة ثانية.

عبر «البيعة» و«الأبوة»، صارت الدولة الأسدية مضخة لعلاقات الاستتباع والنكوص الاجتماعي، لا يفوق فعلها أي عامل آخر. كان الأبناء العاقون يعاقبون بقسوة رهيبة، يقتلون أو يسجنون سنوات طوالا، وينكر وجودهم. «الأب القائد» نال فوق 99% في مرات الاستفتاء الخمسة على «تجديد البيعة» له. أما ابنه «قائد مسيرة الحزب والشعب»، و«حبيب الملايين» فنال في المرتين فوق 97%. وفي المرة الثالثة، حزيران 2014، وبعد أن كان قد قتل فوق 150 ألف من محكوميه، فاز بأصوات 88% منهم في أول انتخابات «تعددية»، شاركه المنافسة فيها اثنان من كومبارس نظامه.

الأب المؤسس ووريثه يشغلان الموقع الأول في الدولة الظاهرة والدولة الباطنة معاً.

القسم الثاني

هذا القسم الثاني من ثلاثية «السلطان الحديث» يتناول بالتحليل الطوائف كشبكات محسوبية، تنتظم حول «أعيان جدد»، في إطار الاجتماع السلطاني المحدّث، المحروس بوظيفة قمعية إذلالية.

قضاء الحاجات ونظام القيم

في الثمانينات، صار السلطان، كشخص وكنظام، أهم شيء في البلد. حافظ الأسد هو عاصمة سوريا، مجدها وفخرها، كما كان يُقال فعلاً. التبعية الشخصية لهذا الإقطاعي الكبير، وليس المواطنة، ولا العلاقات القانونية المجردة، هي نمط العلاقة الذي تُنتجه وتُعمّمه وتَحرسه «الدولة» بينها وبين عموم السكان. كان الولاء لحافظ هو المفتاح العام لكل باب مغلق، والقيم العليا هي أولاً السلطة، ويتنافس المال والقرابة على الموقع الثاني، أما العمل، والمعرفة، والكفاءة، والثقافة، فوزنها العام منحدر ومتراجع. كيف يقضي الناس حاجاتهم المتنامية في مثل هذه الأوضاع؟ الحاجات كلها سياسية في كل مجتمع حديث، تمرّ عبر الدولة وأجهزتها وقواعدها وعلاقاتها الدولية. فكيف تُلبّى الحاجات في «سوريا الأسد»؟

أولاً بأن يكون أصحاب الحاجات هم السلطة أو مقرّبين منها. هذا فعال جداً، لكنه متاح لقليلين. لا يمكن للجميع أن يكونوا ضباط مخابرات نافذي الكلمة أو ضباط جيش مقررين، أو وزراء مقرّبين، أو مسؤولين بعثيين كباراً. هذه المواقع محكومة بشرط الندرة بفعل الطابع الهرمي والمغلق للنظام. النظام واسع من حيث الرقابة والإشراف على كل ما يجري في المجتمع، ويُسخّر موارد ثمينة لهذا الغرض، لكنه ضيّق من حيث قضاء الحاجات وتوفير الواسطة.

ثانياً بالمال. يدفع صاحب الحاجة رشوة لأصحاب النفوذ من أجل تأمين وظيفة أو الحصول على جواز سفر أو تسهيل معاملة عالقة في جهاز حكومي ما، أو السماح ببناء غرفة إضافية على سطح المسكن لابن يتزوج، أو حفر بئر ارتوازي، أو السماح بالغناء باللغة الأرمنية في حفل زفاف أرمني لا يُسمح فيه بغير خمس أغاني باللغة الأم للعروسَين، أو الغناء بالكردية الممنوع بتاتاً، أو فتح دكّان لبيع الفلافل، أو محلّ للحلاقة، أو الحصول على هاتف أرضي… وهذه أمثلة واقعية جداً، وليس فيها ذرة مبالغة.

لكن غالب أهل الحاجات محتاجون إلى المال أصلاً، وهم يجدون أنفسهم في وضع مكشوف، بلا حماية قانونية، وبلا رعاية اجتماعية. يعبّرون عن ذلك بلغة بسيطة: هذا ظلم! الظلم هو الافتقار إلى المال وفقدان الواسطة معاً: الفقر والانكشاف الاجتماعي. هناك قادرون على الرشوة، وهؤلاء أمورهم تسير وحاجاتهم تُقضى بقدر ما يملكون من مال. وعبر قضاء الحاجات بالمال، يتشكل نظام لتحويل الثروات لمصلحة مالكي السلطة النافذين على حساب عموم أهل الحاجات.

وسيلة قضاء الحاجات الثالثة هي القرابة: يتوسّط لك أخوك الضابط أو ابن عمك البعثي المهم أو ابن خال والدتك الوزير… أو رجل الدين البارز (السنّي أو المسيحي أو الدرزي…) الذي يريد «النظام» أن يقدم له «أفضالاً» مقابل ولائه، أو شيخ عشيرة مهم يقابل تسهيلات «النظام» بولائه الشخصي وولاء محاسيبه في العشيرة. تتفاوت المراتب اللازمة للواسطة بتفاوت الحاجات وأوزان طالبي الحاجات. طلب الحصول على هاتف أرضي قد يؤمّنه استثناء من وزير المواصلات، يتوسّط فيه عضو في الحزب الشيوعي التابع الذي غالباً كان الوزير منه (هكذا حصلتُ شخصياً على استثناء لنقل هاتفي الأرضي من الرقة إلى دمشق عام 2001، توسّطت لمصلحتي صديقة من الحزب المذكور). أما الإفراج عن معتقل سياسي فيلزمه «واسطة ثقيلة جداً» (أُفرج عن رفيقنا الشيعي الوحيد بعد عام ونصف من الاعتقال عام 1982، إثر نجاح والده بمقابلة حافظ الأسد، وقد كان الوالد من حزب تابع للنظام في الجبهة الوطنية التقدمية). ورَفعُ منع السفر عن كاتب أو ناشط حقوقي أو معتقل سابق يلزمه واسطة من ضابط مهم في المخابرات. الوزراء لا يتجاسرون على التدخل في هذه القضايا «السياسية» و«الأمنية».

هناك طبعاً من يرفضون الاستعانة بواسطة. هؤلاء لا تُقضى حاجاتهم بكل بساطة. كنتُ بلا واسطة، ومرتين، في 2004 و2007، رُفض طلبي الحصول على جواز سفر من قبل «فرع شؤون الضباط» في دمشق، الجهة التي أُحلت إليها عند منعي من السفر إلى لبنان في 2004.

ومن المفهوم أن السلطة والمال والقرابة كمفاتيح للحاجات والخيرات، تشغل المواقع العليا في سلم القيم على نحو يُترجِم البنية الاجتماعي: أهل السلطة فوق، يتلوهم أهل المال والقرابة، وفي القاع من لا مال لهم ولا قرابة. هؤلاء خارج النظام، لا يُرَون ولا يُسمَعون. أما قيم العمل والمعرفة والكفاءة والثقافة فلا تفتح باباً مغلقاً، ولا تعود بخير على الغير، وليس بين مسهّلي قضاء الحاجات مثقفون أو علماء أو قادة أحزاب سياسة مستقلّة أو معارضة. هؤلاء، وبدرجة تتناسب مع استقلالهم السياسي والفكري، موقعهم خارج شبكات المحسوبية التي تربط طالبي الحاجات بمن يتوسطون لهم عند مراكز السلطة المحلية والمركزية. الواقع أنهم مهمّشون، بل مطرودون خارج نظام المحسوبية العام، لا يتوسط لهم أحد ولا يملكون التوسط لأحد. وهم يعيشون عموماً في هوامش خاصة، لا تأثير لهم على سير الأوضاع العامة في البلد. بهذا تكون المحسوبية آلية لخنق المعارضين والمستقلين، تُضاف إلى آلية القمع المباشر، والإفساد.

والواقع أنه لا يكاد يوجد موقع مستقل فعلاً: هناك موالون، وبالأصح تابعون؛ وهناك معارضون يتعرضون للقمع؛ لكن ليس هناك مستقلون، ولا حتى بين المثقفين المعروفين. الأمر ممتنع بنيوياً، وإن يكن ممكناً أيديولوجياً، وفي سنوات حافظ لم يستطع مثقف واحد التعبير عن استقلاله علانية في الفضاء العام. هذا في حين التعبير عن الاستقلال وتحمّل تبعاته هو الاستقلال عينه.

ولا يقع خارج آلية الاستتباع والإفساد مثقفون لم يستعصيْ عليهم يوماً «تدبير أنفسهم»، بخاصة التغلب على منع السفر عن طريق شبكات ضباط المخابرات، لكن مقابل التضحية باستقلالهم. كان من بين ضبّاط المخابرات من يصادقون المثقفين، ويتبادلون الولائم والأفكار. لا يقع خارجها أيضا صنف من «معارضين» أليفين، يحتفظون بأرقام هواتف ضباط المخابرات المهمّين (يعرضها هؤلاء على الناشطين والمعارضين والكتّاب حين يستدعونهم لأمر ما)، فيقومون بأدوار وساطة بين «طوائفهم» الحزبية وبين أجهزة المخابرات (التي لا يتعاطى النظام معهم إلا عن طريقها).

بحكم دور هؤلاء «المعارضين» كوسطاء، واندراجهم في نظام المحسوبية، وعلاقتهم الزبونية مع ضابط المخابرات، هم عملياً جزء من النظام، خلافاً لما يجاهر به خطابهم. هنا أيضا نجد البنية المزدوجة ظاهر/باطن: فكما تتوارى الدولة الباطنة الطائفية وراء الدولة الظاهرة العامة، يتوارى الموقع التابع عند هذا الجناح المسود من «الأعيان الجدد» وراء خطاب معارض شكلي. وهذا الواقع يُلقي ضوءاً لا بأس به على انقسامات المعارضة السورية، القديمة منها والجديدة.

القصد أن علاقات التبعية كانت تشمل قبل الثورة قطاعات من المعارضة، هي القطاعات الأقل تمرّداً على النظام. ومثلما فرّق لينين قبل الثورة البلشفية <معارضة صاحب الجلالة> عن <المعارضة لصاحب الجلالة>، يتعين التمييز في سوريا بين <معارضة سيادته> و<المعارضة لسيادته>.

دوائر القرابة أوسع من دائرة المال، وكلاهما أوسع من دائرة السلطة. لكن دوائر القرابة ليست واسعة جداً رغم كل شي. وهي فوق ذلك لا تتوزع في المجتمع على نحو متكافئ. هناك مثلاً ضبّاط مخابرات وجيش ورجال سلطة نافذون في الوسط العلوي (10- 12% من السكان) أكثر من غيره. الواقعة لا جدال فيها، ولها أثر اجتماعي أكيد. كثافة شبكة المحسوبية العلوية هي مصدر ديناميكي للانفعالات الطائفية، لأنها، حين تتساوى الأوضاع الاقتصادية، توفّر تسهيلات وخدمات لا تُتاح لمكافئين من جماعات أخرى، من بيئات الأرخبيل السني بصورة خاصة. سبق القول إن «الظلم» هو الفقر إلى المال وإلى الواسطة على خلفية من انعدام العدالة القانونية. تَوفّر الواسطة في البيئة العلوية يعدّل جزئياً من قلة المال، وتالياً من حدّة الظلم.

ليس معلوماً بالضبط كم تبلغ نسبة ضباط المخابرات والجيش العلويين من مجموع الضباط، لكنها أعلى بأضعاف من نسبتهم في السكان، ونفوذ الواحد منهم أقوى من غيره حين تتساوى الرتب. هذه واقعة معروفة بدورها في سوريا، وتحيل إلى تسلسل مواقع وأوامر باطن لا يتعارض مع التسلسل الظاهر فقط، بل هو مصدر لتقويضه، وتقويض الدولة العامة معه.

وهناك مطارنة ورجال مال يحرص النظام على تأليف قلوبهم في الوسط المسيحي (نحو 5% من السكان – قبل الثورة)، وهم يتوسّطون لأصحاب الحاجات من جماعتهم. ويبذل النظام عناية خاصة بالمسيحيين من باب توسيع قاعدته الاجتماعية، ولتعزيز شرعيته «الدولية»، أو الغربية في الواقع، بالظهور حامياً للأقليات والمسيحيين.

وهناك «شيوخ عقل» وأصحاب نفوذ سياسي أو أمني في الوسط الدرزي (3% من السوريين)، يتوسطون بدورهم لقضاء حاجات قاصديهم من جماعتهم.

هناك في الوسط السنّي أيضاً رجال مال ونافذون ورجال دين وشيوخ عشائر يتوسطون لذوي قرباهم. غير أن نسبة النافذين هنا، بين نحو 70% من السكان، أقل من أن توفر واسطات كافية لطالبي حاجات كثيرين. لكن في البيئات السنية بيئات فرعية، تتمتع بشبكة محسوبية كثيفة نسبياً، منها بخاصة الشبكة الشامية المكونة أساساً من أصحاب مال ورجال ودين (أحيل إلى مقالتي: «جماعة ما تبقى: السنيون السوريون والسياسة»، 2012)، وتتكون حولها «الطائفة الشامية». الحرمان الواسع والتمييزي من الواسطة في بيئات سنّيّة غير مدينية، مع اتساع نسبة الفقراء فيها («الظلم») يضيء واقع أن التعبئة السياسية في الوسط السنّي العربي تأخذ شكلاً إسلامياً.

 

وفي الوسط الكردي أيضاً (8- 10%) هناك كذلك نافذون، قلّة بدورهم، ولا يغطون بشبكة الوساطة الجمهور الكردي العام. وهذا منبع أساسي لمستوى التعبئة السياسية العالي في الوسط الكردي – ولأخذه طابعاً قومياً.

هذا الواقع يشرح حقيقة أن سرديات المظلومية الأقوى في سوريا اليوم هي السردية الكردية من جهة، والسردية السنّيّة من جهة ثانية. في الوسط العلوي سردية التفوق أقوى حضوراً اليوم من سردية المظلومية، وهي تنسب نفسها إلى «الحداثة» و«العلمانية» بخاصة.

وخلاصة هذه الفقرة أن الجماعات الدينية والمذهبية، بفعل النظام السطاني، تحوز مقادير متفاوتة من الرأسمال الاجتماعي المستقل عن الرأسمال المادّي بقدر كبير، والذي يسهّل لأفرادها تسيير شؤونهم أو بعضِها. الطائفية هي مسألة تفاوت في الرأسمال الاجتماعي مرتبط بالبنية التمييزية للنظام السياسي. في «الواسطة»، في القبول في تشكيلات عسكرية وأمنية، أو في الإيفاد الخارجي، في تجنب أسوأ الإهانات وأسوأ العقاب أو القتل، لديك فرصة أكبر حين تنحدر من جماعة أو جماعات مخصوصة من فرصة شخص يعادلك في الرأسمال المادي. هذه هي الطائفية، وهذا الوضع المسكوت عنه بقدر كبير هو ما يجب وضعه في البال عند الكلام على الأوضاع الطبقية والتفاوتات الاجتماعية في سوريا.

وزارة الأوقاف

صناعة القرابات

من المفيد التذكير هنا بثلاث نقاط مهمة.

الأولى أنه لا تكاد تكون ثمة طرق عامة وروتينية لتلبية الحاجات. الإدارة فاسدة وكفاءتها تدنّت باطراد، مع احتلال الولاء أولوية عليا في اختيار الموظفين. ولا يحتاج الناس إلى واسطات كي يُستثنَوا من قوانين عامة، بل كي يقضوا مصالحهم المشروعة دون تعطيل و«مطمطة». والقضاء مثل الإدارة عاطل وفاسد وبطيء الإجراءات. التلبية الروتينية للحاجات، في المحصلة، هي الاستثناء، وليست القاعدة. هذا واقع متصاعد منذ سبعينات القرن العشرين، وجهه الآخر هو ما سبق ذكره من تمركز الحياة العامة حول السلطان.

وتتمثل النقطة الثانية في أن المال يقوم بوظائف المحسوبية نفسها، لكنه محكوم أيضاً بمبدأ الندرة، والكفاية منه ليست متاحة إلا لقلة. شرط كفاية المال هو ألا يكف عن الازدياد، وهو ما يقتضي انتزاعه من آخرين، وحماية هذا الانتزاع. وهذا «نادر»، متاح لقليلين فقط.

النقطة الثالثة أن المرء يبحث عن واسطة بين ذوي قرباه، وليس بين الأباعد. وهؤلاء الأخيرون على كل حال لن يُلبّوا طلبه، لأن في الواسطة حَرَجاً وحساباً وتبادل منافع في الغالب. فلماذا أتوسط لمصلحة من لا أعرف، وقد «أُخَجَّل»، ولا يستجاب لوساطتي؟ وسيتعيّن عليّ فوق ذلك ردّ «الجميل» بمثله أو بأحسن منه يوماً، وهذا غير مضمون، فما العمل؟ الاستعانة بالأقارب وحدهم والتوسط للأقارب وحدهم. النظام نفسه مصمّم على استنكار تدخل غرباء لمصلحة غرباء: ما دخلك أنت حتى تتوسّط له؟ الأرمني الذي قد يُعتقَل أو يُستدعى إلى جهاز أمني، ربما يقال له: أنت أرمني، لماذا تهتم بشؤون غيرك؟ أو يقال لمسيحي: لماذا تعمل في السياسة؟ نحن نحميكم من «المتعصّبين»، ولولانا لقتلوكم! أو يقال لدرزي: إن أهل مدينة حماه يكرهونكم، ويريدون القضاء عليكم! (هذه خلاصة كلام سمعته من معنيّين أو قرأته في نصوص لهم). محصّلة ذلك دفع الناس إلى الانكفاء نحو مجتمعاتهم الأضيق، وبعيداً عن المجموع السوري العام الذي لا يشكّل إطاراً جامعا للثقة. هذا بالطبع يُضعِف الروابط التطوعية والصُنعيّة، «المجتمع المدني»، بقدر ما يشجّع تلاحم روابط القربى، «المجتمع الأهلي». وأولاً قرابة الدم، أي الأسرة والعشيرة؛ ثم القرابة المعنوية، أي من هم من جماعتي الدينية أو المذهبية. فإذا كانت هذه الجماعة صغيرة شكّلت شبكة محسوبية موحدة متماسكة، وتقلّ فرصة أن تشكل شبكة متماسة كلما كبرت.

«المجتمع الأهلي» وحده هو ما تشكله الدولة السلطانية، وليس بحال «مجتمع الدولة المكون من أفراد» (على ما يظنّ عزيز العظمة) ولا مجتمع الروابط الطوعية المستقلة، أو «المجتمع المدني». الواقع أن مجتمع الدولة السلطانية هو بالضبط لاغيْ للأفراد، وأن هؤلاء لم يظهروا قط في سوريا إلا عبر الاعتراض عليها ومقاومتها – مقاومات وَجَدَ نفسَه داعية «الدولة» ومجتمعها «المكوّن من أفراد» في موقع الخصومة لها على الدوام.

وليس مجتمع الدولة السلطانية المحدثة الأهلي «مجتمعا تقليدياً» بحال، مكوناً من عشائر وأحياء وجماعات اعتقادية، في علاقة «تخارج» بالدولة السلطانية؛ إنه مجتمع مصنّع كإطار لعلاقات استتباع، علاقته بالدولة السلطانية المحدّثة علاقة تداخل واعتماد متبادل وترابط وجودي. التخارج هنا هو نصيب العلاقات بين الجماعات الأهلية، وليس بين هذه الجماعات والحكم السلطاني. وحدهم المعارضون للحكم السلطاني كانوا يكسرون خطوط الفصل، لكنهم كانوا محاصرين بالسلطانية وأجهزتها وأيديولوجيّيها، المأجورين منهم والمتطوّعين.

عالم الواسطة هو عالم مجزّأ، مكوّن من جماعات منكفئة عن غيرها ومنغقلة على نفسها. وليس وارداً في إطاره أن يتوسط أرمني لعربي سنّي مثلاً عند النظام، أو سنّي عربي لكردي مسلم أو إيزيدي، أو درزي لشيعي، أو فلسطيني لشركسي. عالم الواسطة هو عالم قرابات تدير ظهرها لبعضها. وتحرس تخارجها وإدارة الظهر لبعضها الأجهزة السلطانية.

وهو ما يلقى التعزيز من حقيقة أن انبناء نظام الواسطة أو المحسوبية على لجوء المرء إلى أهل القُرَب يتسبب في انشداد الأفراد إلى رابطة القرابة، دموية كانت أم معنوية. فهي إطار الوساطة الضروري لالتماس الحاجات وتلبيتها. على هذا النحو، تكتسب الأسرة والعشيرة، والطائفة، وظائف عامة، وتقوم بدور منظمات سياسية تلبّي حاجات المحتاجين منها. بل يُحتمل أن ارتفاع قيمة القرابة مع الزمن يحوّل روابط اعتقادية عارضة، تماسكها ضعيف، إلى ما يقارب إثنيات أكثر تماسكاً، تشكل أُطُراً للارتباط بمركز السلطة وبتنظيم حصول منسوبيها على منافع خاصة وعامة.

المؤدى العام لتقوية أثر القرابة هو، مرة أخرى، أن الدولة الأسدية مِضخّة لعلاقات التبعية والروابط العضوية، ومهندس نكوص اجتماعي كبير إلى الوراء، معاكس للمسار العام لتاريخ سوريا منذ ظهور كيانها الحديث في نهاية الحرب العالمية الأولى.

العلاقة الطائفية

كأطر قرابة فعلية أو مصنّعة، الطوائف شبكات محسوبية مغلقة، تتكثف حول نافذين فيها، يقومون بالواسطة بين عموم الناس في جماعاتهم من أصحاب الحاجات وبين جهات السلطة المحلية والمركزية. هذا يُذكِّر بنظام الأعيان الذي كان قائماً في زمن التنظيمات في العقود الأخيرة من الحكم العثماني، حين كان وجهاء نافذون في جماعاتهم المحلية أو الدينية أو القرابية يقومون بالوساطة بين هذه الجماعات ومركز الولاية، أو المركز العثماني العام. دَرَسَ أكثر من مؤرخ باحث هذا النظام، مثل ألبرت حوراني وفيليب خوري.

الطوائف هي الأجسام الوسيطة المتكوّنة حول وسطاء أو أعيان جدد، وتربط قطاعات السكان بمراكز السلطة العامة. وبمجموعها، تشكل هذه الأجسام «المجتمع الأهلي» المتخارجَ المكوّنات، والمتخارج أيضاً عن الدولة السلطانية التقليدية التي تستتبع الجماعات من خارجها وفوقها، أو من رؤوسها.

ويُبيح الدور الوسيط للطوائف، بين أشياء أخرى، وصف الدولة الأسدية بأنها دولة سلطانية محدّثة، تقوم على هذه الأجسام الوسيطة، وعلى «البيعة» والولاء، وعلى توريث السلطة و«الأبد» (وهو مناقض لمنطق الدولة الوطنية التعاقدي والدستوري)، وعلى مصادرة السياسة وسحق الاحتجاجات الاجتماعية بالعنف، وعلى الطابع الانتقامي المفعم بالكراهية لعنف الدولة، وعلى نشر أيديولوجيا تحرّم الاحتجاج الاجتماعي باسم الخوف من الحرب الأهلية أو الفتنة، وعلى «المَكرُمات» و«العطايا» في العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وما يُضمره ذلك من امتلاك الحاكم للبلد، ومن اعتبار المواد العامة ممتلكات خاصة له. توريث الحكم في السلالة الأسدية هو أخطر ما أصاب الجمهورية السورية منذ الاستقلال، وما كان له أن يتمّ لولا أن الأب قَتَلَ عشرات الألوف في ثمانينات القرن العشرين، واعتقل وعذّب وحَبَسَ عشرات الألوف، ونجح في بناء «دولة» قائمة على التبعية.

ما أريد الخلوص إليه هو أن الطوائف تتشكل حول علاقة تبعية تجمع بين ثلاثة أطراف في بنية اجتماعية هرمية:

في الأسفل حشد واسع، يشمل جميع السكان من أصحاب حاجات ليس متاحاً لهم العيش خارج الدولة أو بعيداً عنها، والدولة لا توفّر لهم آليات عامة لتلبية حاجاتهم المشروعة؛

وتحت القمة حشد ضيق من الأعيان والوجهاء الجدد من ضبّاط ورجال دين ورجال مال وشيوخ عشائر وبعثيين كبار ورجال حكومة، وهؤلاء يحوزون نفوذاً وسلطة تمكنهم من قضاء حاجات من هم أدنى منهم أو التوسط لهم عند من هم أعلى، ويحصلون على تسهيلات وامتيازات متنوعة مقابل ولائهم للأعلى: تسهيلات مالية، خدمات خاصة لهم ولأبنائهم في مجال السكن أو البزنس، فرص أكبر للإيفاد إلى الخارج في البعثات الدبلوماسية أو للتعليم (وقطاع الإيفاد الخارجي هو الأكثر تطييفاً في سوريا بعد المخابرات والجيش)، وكالات شركات أجنبية ومصارف؛

وفي الأعلى، في القمة، مجموعة أضيق كثيراً كانت تتمثل بحافظ الأسد شخصياً في أيامه، واليوم بالأسرة الأسدية وكبار رجال الأمن والمال. القلة تُحاسِب ولا تُحاسَب، ليست مسؤولة أمام أحد.

وينبغي تصور بنيات هرمية فرعية ضمن البنية الهرمية الكلية من أجل تمثيل البنية الاجتماعية للدولة السلطانية المحدثة. فعلى مستوى كل منطقة في البلد، وكل شريحة اجتماعية، تظهر هذه البنية ذاتها، المحتاجون الكثيرون والوسطاء الأقل عدداُ والمركز الفرعي، لتلبية الحاجات على مستوى المنطقة أو الشريحة. الشرائح الأعلى حاجاتها أعلى بالطبع، وواسطاتها يلزم أن تكون نافذة أكثر. أما الشرائح الأدنى فيقع أكثرها خارج عالم المحسوبيات، لا واسطة لهم، ولا تلبى حاجاتهم. هذه نقطة أساسية: النظام القائم على الواسطة يحرم شرائح واسعة من السكان من الواسطة.

ويقتضي النظام أن يكون اختلاطُ الجماعات محدوداً، ومستوى الثقة بينها متدنّياً. التخارج الذي هو سمة العلاقة بين الدول السلطانية التقليدية ومحكوميها، يتحول في السلطانية المحدثة إلى تخارج المكونات الأهلية عن بعضها، مع تداخلها مع هياكل الحكم السلطاني. لسنا هنا أبداً حيال استقلال بنيوي للدولة عن المجتمع حسب دوغما عزيز العظمة العابدة للدولة، بل حيال علاقة تداخل غير متكافئة، عبرت عنها فوق بمفاهيم مثل التماهي المتفاوت ووضع الطائفة السياسية العامة.

وينقسم الأعيان الجدد إلى فئتين: فئة أهلية مكونة من رجال دين أو شيوخ عشائر أو رجال مال كبار؛ وفئة رسمية مكونة من ضباط وحكوميين وبعثيين كبار. الواسطة داخلية حصراً بخصوص المكون الأهلي: يتوسط الحسيب لمحاسيب من جماعته، الجهوية و/أو العشائرية و/أو الطائفية، لكن حزب البعث شكّل إطاراً للواسطة في سنوات حافظ الأسد، وأتاح قدراً متراجعاً من اختلاط، قد يكون تلاشى تماماً مع قدوم بشار.

زمن بشار: نيولبرالية وتدهور الشعبوية البعثية

سجّلت الممارسات الطائفية حضوراً علنياً متزايداً في سنوات بشار أكثر من أبيه، بفعل تدهور أجهزة التعبئة الاجتماعية البعثية، ’حزب البعث‘ نفسه و«المنظمات الشعبية»، مثل ’اتحاد شبيبة الثورة‘ التابع لـ’حزب البعث‘، وكان يستوعب أعداداً كبيرة من الشباب، و’الاتحاد الوطني لطلبة سوريا‘، المنظمة الوحيدة المتاحة لطلاب الجامعات، وكذلك اتحادي ’العمال‘ و’الفلاحين‘، ونقابات المهن العلمية التي أُعيد بناءها عام 1981 بعد أن أخذت مجالسها مواقف معارضة للنظام وطرحت مطالب ديمقراطية في بيانات للعموم في العام الذي سبق (1980). كانت هذه المنظمات مترهّلة، لكنها منتشرة في عموم البلد، وتقوم بدور وساطة اجتماعية بين قطاعات واسعة من السكان وبين مراكز السلطة. تدهورت هذه المنظمات في سنوات «التحديثي» بشار الذي اعتمد على البرجوازية التابعة (سأتكلم على تكوينها لاحقاً) والتي أخذت في النشوء في كنف والده، واعتمد صيغة ليبرالية جديدة من تحرير الاقتصاد، وفي عهده سجّلت الثروة حضوراً متقدماً في سلّم القيم العامة أكثر من أبيه.

جدير بالإشارة أن تراجع البعث ومنظماته في عهد بشار هو الموجة الثانية من التراجع. الموجة الأولى أطلقها والده منذ بدايات حكمه لحساب أجهزة المخابرات والدولة الباطنة، وإن يكن احتفظ بتلك المنظمات كأدوات للرقابة والضبط الاجتماعي، وللوساطة. في عهد الابن، أُزيحت الأجسام البعثية مرة ثانية لمصلحة البرجوازية الجديدة ومنظماتها مثل ’الأمانة السورية للتنمية‘. كان حزب البعث جثة هامدة من قبل، ولم «يكشّ أو ينشّ» حين ألغيت المادة الدستورية التي تُقيله من «قيادة الدولة والمجتمع» عام 2012. لم يكن في القيادة يوماً. كان شاهد زور على نفسه وعلى السوريين.

ومن العوامل المعزّزة لصعود الطائفية في زمن الابن واقعة التوريث نفسها، كتأسيس لسلالة وكارتِسَام لدستور باطن يقضي بأن الحكم وراثي في البلد، وأن بشار كوريث لأبيه لا يمكن أن يكون رئيساً دستورياً منتخباً، وأن واجبه كوريث هو أن يورّث الحكم لابنه من بعده.

وعرضت عوامل معززة أيضاً، منها انتشار مناخ ثقافوي و«حضاروي» عالمي، طائفي في الواقع، يرتبط هو ذاته بهزيمة الشيوعية وأيديولوجيات العمل والمساواة والتحرر الاجتماعي والوطني، وصعود الليبرالية الجديدة والتعددية الثقافية، وأيديولوجيات الهوية والاختلاف، وما بعد الحداثة. وهو مناخ رَكَنَ إليه أكثر المثقفين السوريين بدءاً من تسعينات القرن العشرين، مَن تمسّك منهم ببلاغة يسارية شكلية أو مَن تخلى عنها. نحن في زمن ما بعد 11 أيلول الذي وضع «الإسلام»، والإسلام السنّي أكثر من غيره، في موضع الشرير العالمي. في زمن الاحتلال الأميركي للعراق وصعود الشيعية السياسية والهيمنة الإيرانية وظهور ’القاعدة‘ والجهادية السنية في العراق، ولعب أجهزة نظام بشار بها ومعها.

ومع تراجع وظائف الدولة الاجتماعية (وليس سلطتها القمعية) وصعود دور الثروة بفعل لبرلة الاقتصاد، صعدت القرابة والطائفية أيضاً، وبرزت أشكال شديدة من الحرمان (37% من السوريين تحت خطر الفقر الأعلى، 2$ في اليوم عام 2007، و11% تحت خطر الفقر الأدنى، 1$ في اليوم عام 2004)، وتراجع أجهزة التعبئة الشعبوية كما سبق القول، وهذا مع استمرار الإفقار السياسي المفرط للمجتمع السوري، أعني منع السوريين من التعبير عن أنفسهم وحاجاتهم في الفضاء العام من جهة، ومنعهم من التجمع والتنظيم المستقل من جهة ثانية. غير كونها شبكات محسوبية موجهة نحو قضاء حاجات محتاجين، أضحت الطوائف حدوداً للفقر السياسي، تضامنات اجتماعية تكفل «الثقة» و«الأمان» بين قطاعات من السكان، وامتلاك كلام جامع، وتنجح في وظيفتها أكثر كلما كانت أصغر. يبدو النظام مصمّماً بحيث يجزّئ المجموعات الأكبر، وتستفيد منه أعظمياً المجموعات الأصغر والأكثر تماسكاً.

في البيئات السنّية السورية كان الدين المُمَارَس هو حد الفقر السياسي، أعني تجمعات المصلين في المساجد والنص الديني المقدّس والمأثورات الكلامية الدينية. ولالتقاء الدين بالسياسة على هذا النحو فاعلية تطييفية بديهية، وإن كانت قطاعية وغير شاملة. تنوّع البيئات السنية من جهة، والرقابة المتشددة على النشاط السنّي العام من جهة ثانية، كانا يَحُولان دون مستوى أعلى من التشكل الطائفي السني.

فاعلية الطوائف، أيا تكن كثافة شبكة المحسوبية الخاصة بها، ليست مضمونة، أقل حتى من «المنظمات الشعبية». الآلة الطائفية ليست مصمّمة لقضاء حاجات عموم المحتاجين، بل لتبعية العموم لقمة السلطة أولاً، ولنفوذ الأعيان الجدد ثانياً. ويحصل أن تفشل الواسطة. الأعيان ليسوا كلهم بالقوة نفسها، وليسوا نافذين إلى مراكز سلطة قوية بالدرجة نفسها. ولا تُتاح الواسطة لنسبة متزايدة من السكان المحرومين أيضاً من المال. الأشد فقراً لا واسطة لهم ولا سند. هذا أحد مكامن توترات النظام. أكثر من هم تحت لا تُلبى حاجاتهم، ولا يصلون إلى «مفاتيح» قادرة على تلبية الحاجات، وهذا مصدر للنقمة والتمرد.

مصدر للثورة أيضاً. تفجرت الثورة السورية بفعل التقاء فشل مُزمِن للنظام كانت مفاعليه مقموعة بفعل الدرع الأمني للنظام مع مثال إيجابي ناجح من تونس ومصر أعطى الانطباع بإمكانية التغلب على أجهزة الحراسة السلطانية.

شارك في الثورة بصورة أساسية قطاعان: «مجتمع العمل» الذي يريد عدالة قانونية وعلاقات مواطنة و«حرية»، ثم القطاعات المفقرة، المحرومة من العدالة الاجتماعية والقانونية، والتي لا «ظهْر» لها ولا «فيتامين واو». انضم لهما متأخرين عموماً بعض «الأعيان» الفرعيين الأضعف، ممن لم تكن دوائر نفوذهم تتجاوز الدولة الظاهرة، أو مواقع محدودة التأثير فيها.

مثلاً كان رياض حجاب، رئيس الوزراء لبعض الوقت عام 2012، يشغل نظرياً الموقع الثاني في «الدولة» بعد بشار الأسد. لكن ضابط مخابرات عالي الرتبة مثل جميل حسن (رئيس جهاز الأمن الجوي، أكثر الأجهزة وحشية في سوريا أثناء الثورة) يشغل موقعاً مفتاحياً في الدولة أهم منه بكثير. حسن «ابن النظام»، وهو يأمر أكثر مما يتوسط، فيما الأول يستطيع بالكاد التوسط في أشياء محدودة الأهمية مثل تعيين موظف. لكن حتى قوائم فصل الموظفين كانت تأتيه من المخابرات. نحتاج أن ننظر في «ما وراء الدولة» من دولة ظاهرة ودولة باطنة حتى نستطيع فهم هذا الواقع.

وإنما بفعل الوزن الأدنى لرجال الدولة الظاهرة، من وزراء وموظفين وضباط جيش عام (خارج وحدات النخبة ذات الوظائف الأمنية)، رأينا انشقاقات متعددة في مراتبها أثناء الثورة السورية، فيما لم تعرض أية انشقاقات على الدولة الباطنة – المركب السياسي الأمني المالي الذي يملك سوريا ويحكمها.

على المستوى الرمزي جرى تحديث السلطانية المحدثة في عهد بشار قبل الثورة وتخفيف مظاهرها العسكرية. مثلاً لم تعد المسيرات الشعبية العفوية باللباس الموحد، بل بلباس مدني أو بقمصان «كوول» (cool)؛ والمنصّة الرئيسية التي تُنصب قبل يوم أو يومين، يقف عليها كبار مسؤولي الدولة الظاهرة والحزب في المنطقة، وتمر أمامها مسيرات المدارس والدوائر والنقابات، حلّ محلها التجمع في ساحات أو شوارع كبرى. وبدل صور حافظ المتجهمة، ومنها أشرطة قماشية تتكرر عليها الصورة نفسها عشرين مرة مثلاً، وبعد شعارات «قومية» و«اشتراكية» ولافتات تحيّي القائد تُعَدّ خصوصاً للمناسبة ولها ميزانية خاصة من الميزانية المجملة لكل مؤسسة، ظهرت صور بشار المبتسمة مصنوعة من مواد أثمن، وقد تمتد على كامل جانب بناء متعدد الطبقات، وعليها كلمات بالعامية مثل: منحبك! أو: السوريون أدرى ببشارهم! وجرت خصخصة حب القائد، بعد أن كان شأناً لـ’حزب البعث‘ والنقابات و’اتحاد شبيبة الثورة‘ والمدارس، دخلت استعراضات الحب بقوة مؤسسات اقتصادية وشركات خاصة ورجال أعمال. ودخلت ’الأمانة السورية للتنمية‘ برئاسة أسماء الأخرس، زوجة بشار، السوق الرمزية، وحلت بقدر كبير محل منظمات ’حزب البعث‘ الشعبية.

لم نغادر السلطانية بحال، بالعكس ترسخت وتطعمت بأذواق الطبقة المُثرِية الجديدة، المكونة من أبناء ضباط ووزراء وبعثيين كبار. كان الآباء أبناء فلاحين غالباً، أو وجهاء صغار، منحدرين من الريف وبلداته المتوسطة، حسب حنّا بطاطو.

وحدات الحكم السلطاني

الملاحظة المهمة من الوجهة النظرية والعملية هي أن العلاقة الطائفية تشتغل في هرم اجتماعي قاعدته الفقيرة واسعة جداً، في مواقع أعلى منه وجهاء وأعيان جدد يتوسطون لبعض شاغلي قاعدة الهرم عند محتلي القمة. أريد من ذلك القول أن العلاقة الطائفية، التي تربط عمودياً نافِذِين أو أعياناً مع جمهور عام تحت، ومركز قرار فوق، لا تجري في عالم مستقل، أو خارج العلاقات الطبقية الأفقية. فالأعيان والوجهاء الجدد يشغلون موقع «الطبقة الوسطى» في هذا الاجتماع السلطاني المحدث، وعلاقتهم فيما بينهم أوسع وأكثف من علاقات التحت الذي يحرسون انقسامه. ويشغل عموم أصحاب الحاجات موقع العامة المنقسمة على نفسها، التي تتراجع تفاعلاتها الداخلية، فيما يشغل القمة السلطان الحديث، حافظ، ثم اليوم بشار والأسرة. وإذا استقر الأمر لبشار فلا ريب أنه سيورّث المنصب لابنه، واسمه حافظ أيضاً. «الدستور» العميق للحكم السلطاني هو التوريث. وهو لا يقع في عالم بعيد عن عالم العلاقة الطائفية الثلاثية (سلطان، أعيان، عامة)؛ إنهما وجهان للحكم السلطان المحدّث.

والخلاصة أن الطوائف هي وحدات سياسية للحكم السلطاني المحدّث عبر كونها ممرات إجبارية لقضاء حاجات عامة السكان. النظام السلطاني لا يقوم دون استتباع السكان وتجريدهم من الأهلية السياسية. والطوائف هي أُطُر الاستتباع الممتازة التي تحرم السكان من السياسة (political agency) وتحوّلهم إلى رعايا وتابعين.

ولذلك فإن الثورة ضد الحكم السلطاني لا تكتمل إن لم تحطم الطوائف كوحدات سياسية، وتحرر السكان من حالة الرعية وروابط الاستتباع.

بالمقابل، يعمل الحكم السلطاني على تحويل الصراعات الاجتماعية إلى فتنة دينية أو صراع طائفي، لترهيب السكان من فوضى تدوم، ووضع نفسه فوق الجميع.

في الأصل، «الفتنة» (وقد استخدم بشار الأسد الكلمة 16 مرة في أول خطاب له بعد الثورة) هي الوجه الآخر للبيعة والحكم السلطاني. الدولة السلطانية في الجوهر إدارة للفتنة، تنوِّمها وتوقظها حسب حاجات بقائها. أو هي احتكار للفتنة، مع تأميمها عندما يقتضيها الحال، على ما جرى أثناء الثورة السورية.

الطائفية والطبقات

عالم الطوائف لا يقع في مجرة بعيدة منفصلة عن عالم الطبقات، وعالم الامتيازات الاجتماعية والسياسية غير العادلة. إنه جزء من هذا العالم، على ما تُظهر صورة الهرم الاجتماعي التي أحلتُ إليها قبل قليل. في أعلى الهرم تتركز سلطة كلية (كممثل للأسرة المالكة الحاكمة، بشار يأمر فيَنال، لا يطلب وساطة لأنه لا أحد فوقه، ولا يخضع لقانون أي كان، غير أن يحمي بقاء الحكم في أسرته)، وثروة هائلة (رامي مخلوف هو خازن مال العائلة الأسدية)، ووحدة تامة. في حوار أجراه معه المرحوم أنتوني شديد في 10 أيار 2011، قال رامي مخلوف: «نحن نؤمن أنه لا استمرارية لنا دون وحدتنا، وكل واحد منا يعرف أننا لا نستطيع الاستمرار دون أن نبقى متحدين». في أسفل الهرم إملاق سياسي واقتصادي، وتفرّق وتخارج وتنازع، وارتياب وعدم ثقة. وفي الوسط قدر أكبر من الثروة والسلطة، ودرجة من التقارب. الأعيان الجدد أكثر تقارباً وتبادلاً للمنافع فيما بينهم، مما يوحي المشهد المنقسم للقاعدة المجتمعية العامة، لكنهم واقعون بدورهم تحت رقابة وإشراف القمة، التي لا تسمح لهم بالتصرف المستقل. الأعيان الجدد هم الشريحة التي تتوحد بتبعيتها لفوق، وتسهر على انقسام تحت. إنهم شريحة بوجهين: وجه عام يُطلّ على المركز السلطاني، ووجه خاص يُطلّ على الجماعات الأهلية. وأقرب منتدى لائتلاف هذه الشريحة هو «مجلس الشعب»، وإن تكن أوسع منه طبعاً، تشمل أيضا الوزراء كلهم والمحافظين ونافذين كباراً، مدنيين وعسكريين.

كي يبقى الأعلى السلطاني موحداً ينبغي أن يكون الأدنى العامي منقسماً ومتنازعاً، وأن يكون الأعيان الجدد أعواناً مِطواعِين مقابل ما يحصلون عليه من امتيازات وتسهيلات. خطط الحكم السلطاني المحدّث تقوم على أن يجري ضرب المحكومين ببعضهم، كي يبقى هو متعالياً فوق الجميع.

وإذ هو قريب من عالم الطبقات، يقع عالم الطوائف بعيداً عن عالم الأديان والمعتقدات. أمام الطائفية، نحن في قلب عالم السياسة والسلطة والثروة والنفوذ، والامتيازات الاجتماعية والحرمانات الاجتماعية. الطائفية ليست أيديولوجيا هوية، إنها أيديولوجيا طبقة، مثلها في ذلك مثل العنصرية كما رآها بنديكت أندرسون. أو لنقل إنه يعاد بناء الهويات وتوجيهها لخدمة علاقات السلطة والامتياز القائمة، وتمويه هذه العلاقات. لا ترتد الطائفية (ولا العنصرية) إلى أيديولوجيا، إنها نظام من الأوضاع والممارسات القائمة على التمييز بين السكان حسب منابتهم الدينية أو المذهبية، وعلى تسمية ووصف مجموعات السكان بصورة تسوغ التمييز لبعضهم أو ضد بعضهم. لكن خصوصية الطائفية كأيديولوجيا تتمثل في أنها مصممة لإخفاء واقع الامتياز والتمييز الاجتماعي وراء التمايز الثقافي الموروث. الطائفية لا تخفي الطوائف، إنها تخفي الطبقات. ولا تخفي التمايزات الثقافية، إنها تخفي الامتيازات الاجتماعية والسياسية.

والطائفية شكل من أشكال العنصرية من حيث أنها نظام تمييزي للتسمية والوصف والتصنيف، وإن كانت لا تعيد امتياز طرف ونقص طرف إلى العرق، بل إلى العقيدة أو الثقافة، لتبدو الأوضاع العامة للجماعات نتاجاً لعقائدها وثقافتها الخاصة، شيئاً مستقلاً عن قضايا السلطة والسياسة والنفاذ إلى مواقع القرار والموارد العامة. الطائفية من صنف «العنصرية التفاضلية» التي تكلم عليها أنطونيو نغري ومايكل هارت في «الإمبراطورية»، عنصرية ثقافية أو حضارية. ولا تقع خارج عالم العنصرية التفاضلية عقيدة «صراع الحضارات» التي لا تعدو كونها صراعاً طائفياً على الصعيد العالمي. لكن الطائفية العالمية، مثل الطائفية المحلية، أوثق صلةً بالطبقة منها بالهوية، وبفضل القيمة منها بالقيم الفاضلة.

ومن هذا الباب تلائم الأيديولوجيا الثقافوية، والحضاروية، لحجب العنصرية حين هي تصور أقدار الجماعات البشرية كانعكاس أمين لهوياتها الثقافية، فلا وقائع الامتياز الاجتماعي والسياسي على الصعيد المحلي مؤثرة، ولا أوضاع السيطرة الدولية قائمة. هناك فقط سوق تنافسية شفافة للهويات، يشغل بعضنا منها موقع الموسرين وبعضنا موقع الخاسرين، وهي (السوق) ليست غير مقياس عادل لاستحقاقاتهم.

وأكثر من الطبقة الاقتصادية بحصر المعنى، تقترن الطائفية في الأمثلة المعروفة في منطقتنا، تفضيلياً، بالسلطة والمكانة والنفوذ، وبما يترتب على الموقع الممتاز في السلطة من امتيازات اجتماعية. وهذا يتصل بحقيقة أن السلطة وامتلاك السلطة وريع السلطة، وليس الإنتاج المادي، هو قاعدة تكون الطبقات ونيل الامتيازات. من يحز السلطة يصعد طبقياً، ومن يوالِها يحظىْ بفرص أكبر في الصعود. الطائفية أداة للسلطة التي هي مصعد طبقي. أو أن الطائفية ترتبط بالطبقة عبر السلطة وفاعليتها في الصعود الاجتماعي.

حقيقة النظام هي السلطة والامتياز المادي، وليس العقيدة أو المذهب أو الجماعة الأهلية. الطائفية ذاتها ليست حقيقة النظام، إنها استراتيجيا للسيطرة السياسية، وأداة حكم واستتباع وحماية للامتيازات والشرائح الممتازة. هذا فوق أنها قوة تقسيم اجتماعي، تحجب وقائع التفاوت السياسي والاجتماعي وراء الهويات والعقائد الدينية.

وهنا في الواقع مفارقة النظام الطائفي. فهو لا يستمر إلا بقدر ما يؤمن تماهياً تفاضلياً به لطائفة أو تحالف طائفي، لكن هدفه هو الامتياز والمكسب الخاص الذي تحظى به القمة أولاً، ثم الأعيان الجدد. يرعى النظام المتماهين به ويميّزهم عن أشباههم من أجل أن يخدموه أفضل. ويستمر عبر تغذية فوارق التماهي، وما يناله قطاع من الواقعين في الأسفل أكثر من قطاع من الواقعين في الأسفل أيضاً. وهو ينجح طالما الحواجز بين الصغار تحت أعلى من الحواجز بين الصغار والكبار فوقهم، الحواجز بين السني والعلوي مثلاً أعلى من الحواجز بين العلوي تحت والوجيه العلوي (الضابط مثلاً أو المدير العام)، والسني تحت والوجيه السني (الوزير مثلاً أو المتموّل أو رجل الدين النافذ). لكن المهم عند نخبة النظام الطائفي هو ما تحوزه هي من سلطة وثروة، وليس حقوق أو كرامة من لا تعتبرهم إلا أدوات لحكمها.

وجها النظام الطائفي

سبقت الإشارة إلى أن الواسطة لا تُتاح لكثيرين، وأنها قد لا تعمل حتى حين تُتاح، وأن النظام ليس مصمماً لتلبية جميع الحاجات، بل هو يلبي حاجات الأقوياء أهل القمة بالتناسب مع قوتهم. ما الذي يُبقي الهرم متماسكاً إذن؟ ما الذي يحول دون تمرد المحرومين من الواسطة والمحبطين؟ ما الذي يشد البنية الهرمية، ويبقي من هم تحت تحت، ومن هم فوق فوق؟ إنه «الأمن»، أو مجمل وظيفة حراسة النظام التي أشرت فوق إلى مركزيتها وطابعها الطائفي الغالب. يتعلق الأمر بوظيفة أساسية، ممأسسة ومتعوب عليها، يُعتمد عليها في إعادة إنتاج نفسه. النظام الأسدي هو استيلاء بالقوة على المجتمع وموارده عن طريق وظيفة قمعية إذلالية متضخمة جداً، مصممة بحيث يبقى النظام «إلى الأبد»، بقدر ما هو نظام للمحسوبية الشاملة وللطوائف كأجسام وسيطة.

سبقت الإشارة أيضاً إلى أن المساحة الأمنية للنظام واسعة جداً، وتؤمن رقابة كلية على المجتمع، هذا بينما مساحته المحاسيبية أضيق، ولا تقع عقد الكثافة في شبكة المحاسيب، أعني الوجهاء أو الأعيان النافذين، في متناول المرء حين يحتاجها. رقابة السلطة من فوق أقوى وأوسع اختراقاً للمجتمع من مداخل النفوذ من تحت. والواقعون تحت الرقابة هم جميع الناس، أما حائزو الواسطة الفعالة فهم بعض الناس. الطائفية درع حماية للسلطنة الأسدية، مكون من «طبقة الحراس» التي تتخلل المجتمع كشبكة كثيفة الانتشار، لا تترك رأس دبوس غير مراقب من العضوية الاجتماعية، وهي من جهة أخرى شبكات محسوبية تكفل انقسام السكان عمودياً، وتستتبع قطاعاتهم الدنيا لمراكز السلطة عبر الأعيان الجدد. العلاقة بين الحراس والشبكات متشابكة، ويشيع أن تكون الواسطة الفعالة ضابط مخابرات أو ما يعادله، لكن الشبكات ضمن طائفية عموماً، بينما الحراسة وظيفة عامة. الأمر ببساطة أن الحرّاس جهاز دولة، بينما الشبكات شرائح اجتماعية يتدخل فيها الأهلي بالحكومي. واليد العليا هي دوماً للدرع الحارس وليس للشبكات الوسيطة المنحصرة في إطاراتها الطائفية الأضيق. النظام أحرص على تخويف الناس منه على تلبية حاجاتهم.

تكفل شبكات المحسوبية الاستتباع العمودي للمحكومين والتخارج الأفقي للجماعات، وعزل اللاطائفيين أو غير التابعين منهم، أو تحويلهم إلى «صعاليك» منكشفين، لا تأثير عاماً لهم. لكن الدرع الأمني هو الذي يحمي النظام ككل، ويبرز في أوقات تحدي الحكم السلطاني وتعرضه لتمردات التابعين.

على أن نظام الدرع والشبكة فشل رغم ذلك في منع تمرد «المظلومين». وهذا رغم أنه ظهر احتياطي قوي للدرع السلطاني تمثل في ظواهر مثل الشبيحة الذين تحولوا من العمل برواتب في مراحل باكرة من الثورة، ثم صار يجري إقطاعهم بعض الأحياء المفتوحة، مثل بابا عمرو وكرم الزيتون في آذار 2012، قبل أن ينتظموا في جيش خاص تحت الإمرة الإيرانية وبرواتب مميزة في نهاية العام نفسه. هنا، بوضوح مَخْبري، تظهر السلطة كأداة مباشرة لنقل الثروة، أو للنهب. ومن نهب تلك الأحياء تشكل في حمص وما حولها ما سماه الشبيحة أنفسهم «سوق السنّة» بعد نحو عام على بداية الثورة، وهو سوق للمنهوبات من بيوت السكان في المناطق المشار إليها. في جمعها بين السوق والسنّة توفّر العبارة نفاذاً عميقاً إلى الظاهرة الطائفية بوصفها علاقة قوة وإكراه، وليست بحال مسألة اعتقادات وهويات موروثة وتعبيرات حرة عنها.

تشتغل الطائفية في إطار تكوين سياسي يسهل لمالكي وسائل القوة أن يتحكموا بمفاصل الثروة أيضاً. ومحصلة الحكم الأسدي خلال نحو جيلين هي تكون برجوازية جديدة تابعة، تتكون من «الأعيان الجدد» الوسطاء، ومن وبرجوازية عليا شريكة في الحكم السلطاني.

وإنما عبر صلتها بالسلطة والامتياز، وبالصراع على السلطة والامتياز، الطائفية ظاهرة استقطابية، تجنح إلى تشكل مجتمع ثنائي القطب، وليس متعدد الأقطاب بتعدد الجماعات الاعتقادية في المجتمع. هذا محقق في سوريا، بصرف النظر عن أي نقاش حول سياسة تحالف الأقليات التي تُنسب إلى حافظ الأسد على المستويين المحلي والإقليمي، والموجهة ضد الأكثرية المسلمة السنية.

النظام الطائفي تعددية ثقافية بلا مركز، مثلما هو حال الـ«ملتيكلتشرلِزم» (multiculturalism) في البلدان الأنـگلوسكسونية، وفي لبنان بصورة ما (أظنه تغيّر اليوم، هناك حافظ أسد جمعي لبناني هو ’حزب الله‘، وهناك طلب مرتفع على الأمن مع ظهور ’جبهة النصرة‘ وداعش وامتداد أذرع لهما في لبنان، وتقبل أوسع للفاشية في قطاعات من المجتمع اللبناني، من ظواهره مثلا تفضيل حزب الله على داعش والعدوانية حيال اللاجئين السوريين)؛ إنه نظام تراتبي قائم على الامتياز، ومتمركز حول السلطة العمومية. وفي صيغته السورية، هو موجه نحو ضمان سلطة أبدية للسلالة الأسدية.

ما أريد قوله، في المحصلة، هو أن الطائفية ليست مجرد آلة اجتماعية لقضاء بعض حاجات منسوبي الطوائف. هذا ربما كان الحال سابقاً في لبنان، وقد أخذتُ تصور الطوائف كشبكات محسوبية من باحث لبناني مرموق، أحمد بيضون. في سوريا يتجاوز الأمر ذلك إلى تطييف المركز السياسي والوظيفة الأمنية، أو ظاهرة «الدولة الباطنة». لبنان دولة سلطانية محدّثة بلا سلطان، إما أن تستكمل نقصها وتقيم عليها سلطاناً، وتطور درعاً أمنياً عاماً، أو تطوي صفحة نظام المحسوبيات الطائفي وتتطور نحو دولة مواطنة ومساواة. ومع تلاحم السلطانيتين: الناقصة، لكن مع فرع أمني كبير هو ’حزب الله‘، والكاملة، لكن مع ثورة ومركب «تخرجات داخلية» (طوائف ومجموعات أهلية وجهوية) مع تدخلات خارجية، يجنح لبنان نحو التسلطن أكثر. لكن وضع لبنان تابع لوضع سوريا، والسلطان السوري ذاته اليوم تابع للمركز الإمبراطوري الإيراني الذي يتبع له أيضاً فرع المخابرات اللبناني. والتفاعل الانشطاري الطائفي المتسلسل لا يزال بعيداً عن الهجوع.

هذا يُحيل إلى وجه إقليمي للطائفية، لن أتناوله هنا. أكتفي بالقول إن المدخل إلى مقاربة هذا الوجه هو السلطان والسيطرة الإقليمية، وليس بحال الجماعات الدينية والمذهبية. تطييف هذه الجماعات من لوازم السيطرة على الدول والمجتمعات، وليست السيطرة من نتائج التطييف.

القسم الثالث

يستأنف هذا القسم الثالث والأخير التفكير في البنية الاجتماعية السلطانية، وينظر في إيديولوجياتها، ويلمح إلى بعض إيديولوجييها، ويختم بنظرة في أسس مقاومتها.

«الأعيان الجدد» و«البرجوازية العليا»

بالتوافق مع ازدواج الدولة (ظاهرة وباطنة)، وازدواج الطائفية (درع أمني وشبكة محسوبية)، هناك منشآن مختلفان لبرجوازية النظام، منشأ مرتبط بوظيفة الوساطة، ومنه تتكون طبقة الأعيان الجدد، ومنشأ مرتبط بالاستيلاء على الموارد العامة ومصادرات الأراضي والقطاعات الأكثر ربحية من الاقتصاد، ومنه تتكون البرجوازية العليا. قد يمكن تسمية الشريحة الأولى بالبرجوازية الظاهرة، وهي متكونة أما عبر الحكومة وإداراتها ومنظماتها الحزبية، أو عبر الطوائف كشبكات محسوبية. وهي عموما برجوازية محلية، يقيم مكونها الأهلي في في البيئات الأهلية قريباً من «رعاياه» الجهويين والدينيين والعشائريين، أما المكون الحكومي والحزبي فليس محلياً بالضرورة، ومن ينهبهم ليسوا «رعاياه» الأهليين حتما، وإن يكن آمراً عليهم لبعض الوقت (محافظ، أمين فرع حزب البعث، مدير منطقة، رئيس شعبة تجنيد…). أما الشريحة الأخرى فجديرة بتسمية البرجوازية الباطنة، وهي مركزية عموماً، ليس من حيث الإقامة التي تكاد تنحصر في دمشق ثم حلب، ولكن من حيث القرب من مركز السلطة، ومن مركز مركز السلطة، أي الأسرة الأسدية والأجهزة الأمنية، ومن حيث أنها جنت ثرواتها بالتشارك مع قمة الدولة السلطانية وعبر الاستيلاء على الموارد الوطنية العامة، الأرض بخاصة. وكانت هذه البرجوازية انتظمت في شركتين كبريين هما «الشام القابضة» و«سورية القابضة»، وقد تأسستا في الوقت نفسه تقريباً (الشام القابضة في أواخر 2005 وسورية القابضة في مطلع 2007)، وكان رامي مخلوف، ابن خال بشار، شريكاً أساسياً في الأولى (يبدو أنه يملك وحده 51% من أسهمها، وأنه المبادر إلى تأسيسها، ويشغل فيها منصب نائب رئيس مجلس الإدارة؛ الرئيس هو نبيل الكزبري). واسمه ليس وارداً في قائمة مؤسسي الثانية (شقيقه إيهاب أحد المؤسسين)، لكن الشركتين تشكلان معاً نادي البرجوازية المركزية شبه المغلق، الذي يشغل رامي موقعاً حاكماً فيه. في بضع السنوات السابقة للثورة شاع تعبير «الرمرمة»، الذي يعني تمليك رامي، ومن ورائه الأسرة الأسدية، القطاعات الأنشط في الاقتصاد السوري، ما يجعل منه الرئيس الاقتصادي لسورية، على نحو مكتوب في توريث بشار حكم البلد. وفي تلك الفترة شاعت نكتة تعبر عن الارتباط الوثيق بين قمة السلطة والبرجوازية المركزية، تقول إن الاقتصاد السوري إما مخالف أو مخلوف، أي أن كل من ليس رامي أو شريكاً له يعتبر مخالفاً، فإما يخضع ويستسلم لشراكة جائرة، أو يجري طرده وسرقته. نجيب ساويرس المصري الذي كان رامي شريكاً له في أوراسكوم، شركة الهاتف الخليوي، مثال معروف. بعد ازدهار سوق الخليوي في سورية مطلع القرن صادر رامي أموال شريكه، وتدبّر أن يُعين على الشركة حارسين قضائيين «محايدين»: شقيقه إيهاب مخلوف (سيكون أحد مؤسسي الشركة السورية القابضة)، ونادر قلعي، مدير أعماله. ويبدو أنه حاول فرض نفسه شريكاً أول في قناة أورينت لمالكها غسان غسان عبود، وينسبُ إليه الأخير قولاً كاشفاً: أنت تملك تلفزيون المشرق، وأنا أملك سورية!

تلزم دون ريب دراسات موثقة لتكوين البرجوازية المركزية وعلاقتها بكل من طبقة الأعيان الجدد ومركز السلطة. لكن يبدو لي أن البرجوازية المركزية متعددة الطوائف، مع وزنٍ مهم لشوام ومسيحيين فيها، وإن يكن الرأس فيها بلا ريب هو رامي مخلوف بحكم قربه السياسي، والصفة السياسية الفاجرة لصفقاته، ومنها صفقة الخليوي، واستيلائه على الأراضي في دمشق، وهذه أشياء لا يتاح مثلها لنبيل الكزبري أو محمد حمشو أو صائب النحاس أو ناجي شاوي 1

أما البرجوازية الظاهرة والمحلية فهي طائفية بقدر كبير، أعني أنها عموما تنهب طوائفها، وإن يكن محتملاً أن القطاع العلوي منها تمكن من نهب أوسع بحكم وضع الطائفة السياسية العامة، ووزنه الأكبر ضمن المكون الرسمي أو الحكومي لهذه الطبقة. من جهتها، البرجوازية المركزية تنهب الموارد العامة، والمجتمع ككل. وهي تنفرد عن البرجوازية الظاهرة باستئثارها بعوائد المبادلات الاقتصادية مع العالم الخارجي ووكالات الشركات الأجنبية ومشاريعها وأرصدتها خارج سورية، في أبو ظبي أو البنوك السويسرية، أو في الجزر العذراء. البرجوازية الظاهرة، بالمقابل، داخلية كلياً.

وقد يمكن القول أن الأعيان الجدد هم الطبقة الوسطى السلطانية بالمعنى الحرفي للتعبير، تربط المركز السلطاني والمراكز السلطانية الفرعية بالسكان بحسب محلاتهم وجماعاتهم الأهلية. وتحصل هذه الطبقة على دخلها دون إكراه مباشر أو بالقليل منه، وإن استندت دوماً إلى علاقة الإكراه الهيكلية التي تقيمها الدولة السلطانية مع عموم المحكومين. لكن نستذكر هنا مجدداً التمييز بين مكونها الأهلي اللاإكراهي، ومكونها الحكومي الذي ترتفع نسبة الإكراه أو القسر السياسي في تحصيل ثرواته. أما البرجوازية الباطنة أو المركزية فهي مكون أساسي للدولة السلطانية، وللإكراه المباشر والمصادرات واحتلال الأراضي دور كبير في ثرواتها، فضلاً عن ما يقارب احتكار المبادلات الاقتصادية الخارجية، بما يسوغ وصفها بالبرجوازية الخارجية أيضاً.

ومثلما يتفوق مكون الطائفية الرسمي، «طبقة الحراس»، على مكونها الاجتماعي، فئة الأعيان الجدد، كذلك يتفوق مكون البرجوازية المركزي أو الباطن على مكونها الظاهر والمحلي. البرجوازية المركزية ليست فئة وسيطة، إنها فئة استيلاء وشريكة في القمة السلطانية.

وبقدر ما إن البرجوازية الظاهرة والداخلية ترتبط بمحلات وجماعات أهلية، وخاصة في مكونها الأهلي، فإن بقاءها غير مرتبط وجودياً بالنظام. أما البرجوازية المركزية فتدين للنظام بكل شيء، ومعركتها إلى جانبه معركة حياة أو موت.

لا ريب في وجود شراكات وتداخلات بين البرجوازيتين، لكن المحددات البنيوية المذكورة تميز بينهما بقدر كاف.

لكن هل من مسوغ لاستخدام مفهوم البرجوازية في تسمية هاتين الشريحتين؟ أي معنى للبرجوازية في إطار سلطاني يقوم على التبعية الشخصية؟ ألا ينبغي الكلام بالأحرى على إقطاعيين، أو على أرستقراطية تابعة، أرستقراطية سلطانية مثلا؟ وبخاصة أن للقسر السياسي، السائل أو الهيكلي، دوراً يفوق في تحصيل ثروتيهما دور الإكراه الاقتصادي المميز للرأسمالية؟

ما يسوغ بقدر ما تفضيل مدرك البرجوازية بخصوص الفئة المركزية هو ارتباطها بالسوق الدولية، الرأسمالية، والصفة التعاقدية المبدئية لمشاريعها التي يغلب عليها الطابع الخدمي (مصارف، اتصالات، وكالات أجنبية، عقارات…). ورغم التقييد السياسي لعموم السوريين إلا أنهم ليسوا أقناناً مشدودين إلى أماكن عملهم. أما فئة الأعيان، وهي الشريحة الدنيا من البرجوازية الجديدة، فهي أقرب في فئتها الفرعية الرسمية (محافظون، أعضاء مجلس شعب، ضباط مخابرات محليون، قادة حزبيون محليون…) إلى إقطاع جديد، وإن دون استقرار الإقطاع المالك للأرض. أما الفئة الفرعية الأهلية: تجار، رجال دين، شيوخ عشائر…، وهي شريحة أدنى ضمن البرجوازية المحلية، وضمن البرجوزية الجديدة ككل، فنصيب القسر في دخلها أقل من غيرها، والمسوغ أقل تالياً لوصفها بالإقطاعية.

ما يسوغ التردد أيضا في وصف هذه الشرائح بالإقطاعية هو أنها ليست طبقة وراثية مستقرة، ولعل فجور نهبها مرتبط بهذه الصفة بالذات. لكن هناك تطوراً أكيداً نحو الوراثية المميزة للإقطاع منذ وراثة بشار لأبيه.

يبقى ضرورياً في كل حال ربط البرجوازية السورية في ظل السلطانية الأسدية بمدركات تميزها عن البرجوازية الكلاسيكية. أتكلم على برجوازية جديدة ليس فقط لتمييز الطبقة التي شكل الزمن الأسدي إطاراً لظهورها بعد البرجوازية القديمة التي حطمها الحكم البعثي، وإنما كذلك للقول إننا حيال تشكل مميز، يضارع في تميزه التشكيل السياسي الأسدي الذي سميته الدولة السلطانية المحدثة.

وبمجموعها تشكل البرجوازية الجديدة والمركز السلطاني ما يمكن تسميته مجتمع السوريين البيض،  المتفوقين طبقياً وحضارياً على عامة سوداء، متخلفة ومتعصبة وظلامية. هذه الأحكام العنصرية تسوغ للبيض احتقار السود، وتعذيبهم، وقتلهم حين يتمردون. إنه عموماً مصدر خطر، إرهابيون، وغير متحضرين دوماً.

البنية السلطانية: ثنائية أم ثلاثية؟

هل يتمايز المجتمع في «سورية الأسد» إلى برجوازية جديدة، داخلية وخارجية، مدينية عموماً، وإلى «مجتمع عمل» وطبقات دنيا مفقرة، ومهمشة مكانياً في أحياء المدن الطرفية والأرياف؟ الواقع أن توزع المقرات الأمنية في المدن السورية، وبنية منطقتي المزة وكفر سوسة في دمشق مثلاً (قسم أمني، وقسم أبراج سكنية ومولات منظمة، وقسم شعبي مدفوع إلى الخلف وغير مرئي)، يوحي بالأحرى بتقسيم ثلاثي: البرجوازية بجناحيها، ثم العامة المقيدة المدفوعة إلى الهوامش، ثم قوة الحراس، المتمايزة عنهما معاً. القوة الأخيرة، ولها صفة طائفية قوية دون أن تكون حصرية، تحمي النظام الذي يحمي البرجوازية ككل، ويبقي العامة تحت الرقابة. وظيفتها الرقابية، كمصدر للمعلومات عن المجتمع، لا تقل أهمية عن وظيفتها في الحماية. بيد أن قوة الحراس في جسمها الأساسي، وليس في قياداتها، ليست من البرجوازية بجناحيها الداخلي والمركزي، ويشيع أن تتذمر منهما، وتعبر عن انفعالات سلبية حيالهما.

لكنها لا تتمرد عليها، وتبقي في صميم تكوينها على ولاء جوهري للنظام، وعلى عداء لخصومه وعموم السكان. وبسهولة استخدمها النظام دوماً هراوة ضد جميع الخصوم، ولم يمر وقت أبداً عرضت فيه القوى الأمنية والعسكرية ذات الوظيفة الأمنية ومراتب الجيش العليا والشرطة انحيازاً لعموم السكان أو شعوراً خاصاً بالارتباط بهم. وكانت الانشقاقات عن مراتبها نادرة جداً بعد الثورة.

ويعبر هذا المكون الثالث في البنية الاجتماعية السورية، قوة الحراس، عن مساحة استقلال الرابط الطائفي عن الوضع الطبقي، أو عن الفاعلية المستقلة للطائفية في الإطار السلطاني للمجتمع السوري المعاصر.

وتتولى القمة السلطانية، في تصوري، دوزنة هذا الهامش. فهي تحظى بولاء الحراس، وتستخدمهم في كل وقت، دون أن تضطر إلى منح عموم المرتبطين بهذه القوة امتيازات اجتماعية مباشرة. لكن فرصة الحصول على واسطة متاحة بقدر أكبر بين الحراس بحكم الصفة العلوية الغالبة لهذا الجهاز. وعدا هذا «الرأسمال الاجتماعي»، فرص النهب متاحة هنا بقدر أكبر: النهب الصغير للصغار والنهب الكبير للكبار.

قوة الحراس هي أداة المركز السلطاني في الضبط الاجتماعي، بما في ذلك ضبط البرجوازية الجديدة نفسها، بخاصة البرجوازية المحلية.

لسيدة الجميلة الأنيقة، الوردة في الصحراء، التي تنتقي ثيابها وأحذيتها من محلات الموضة العالمية كانت شابة قريبة من نخبة العالم الأول المصرفية، وانتقلت لتكون “السيدة الأولى” في “العالم الأول الداخلي” في سورية.

المركز السلطاني

ما يجعل من النظام عضوية حية متناسقة هو المركز السلطاني، حافظ الأسد شخصياً طوال 30 عاما من حكمه، ثم الأسرة الأسدية منذ موته. فإذا كان قوة الحراس هي عينه وأذنه وعضلاته، أو الجهاز العصبي والعضلي للنظام، وكان نظام المحسوبية هو جهازه الهضمي ومصدراً مهماً لموارد زبائنه، فقد كان حافظ هو رأس النظام السلطاني وعقله، وأناه. وهو مقر فاعلية التناسق الخاصة بالدولة السلطانية بين الداخل والخارج، أي هو موقع التوجه و«السياسة».

يستأثر المركز السلطاني بالعلاقات مع الخارج، ويتحكم بحركة موارد النظام الخارجية. وهذا بقدر ما إنه يسيطر على الداخل كما يسيطر شخص على جسده. الداخل هو جسد السلطان وركيزة حكمه.

ولا ينفصل موقعه كحاكم مؤسس ورئيس للدولة عن وضعه كزوج وأب وأخ وخال وعم…، فهو عام وخاص في آن معاً، مجرد وملموس في الوقت نفسه، ويمتنع فك قيمتيه التبادلية والاستعمالية عن بعضهما. إنه مثل سلعة ماركس «مفعم بالتعقيدات الميتافيزيقية والمماحكات اللاهوتية».

وأجد مفهوم السلطان مناسباً للتعبير عن هذا الالتحام الفائق، الموجب للتوريث وبناء سلالة. كلمة سلطان العربية تعبر عن القوة والسلطة والسيادة، وعن الشخص الحائز على القوة والسلطة والسيادة. حافظ عظيم بما هو أب، وهو عظيم كأب بما هو رئيس، وعظيم كإبن بما هو أب ورئيس. وهذه العظمة لها مفعول راجع. في جدارية في مساكن الحرس (تسمى المنطقة أيضا «العرين»، وتقع بين قدسيا ومشروع دمر)، نرى حافظ ينحنى مقبلاً يد أمه التي تحيط برأسها هالة نورانية.

هذا سلطان بدم سلطاني. لا تجريد ممكن فيه، ولا فصل بين هذين الوجهين الذين لا يجتمعان، بالمقابل، في غيره. كشاغلي مناصب عامة وكأشخاص، الآخرون أدنى مرتبة بما لا يقاس. بناء سلالة «مكتوب» في هذا الامتياز الجوهري.

وما ناله الرجل من تعظيم خارق طوال سنوات حكمه وبعدها، وقد كان تعظيمه وضمان التبعية له وظيفة أساسية من وظائف دولته، يتصل بكونه مبدأ تماسك النظام ودينه المقدس. الأسدية دين ودولة، دينها هو دولتها. الكلام على «عبادة الشخصية» ربما لا يفي الأسدية حقها. حافظ مؤسس مقدس في عين الموالين له، وأتباعه الأهليين بخاصة، وليس مجرد حاكم فذ أو رئيس عبقري. هو عبقري وفذ لأنه مبارك، وليس العكس. قد يمكن التكلم هنا أيضاً على وجه ظاهر وعقلاني لحافظ هو ما يحيل إلى العبقرية والفرادة، ووجه باطن فوق عقلاني هو البركة أو القداسة. هذا الوجه مرئي من قبل أتباعه من العلويين فقط. ضريح حافظ في القرداحة يُزار كأثر مقدس. وقبل سنوات وقعت بين يدي صفحة ورق مقوى عليها صور مشايخ علويين منذ تأسيس الجماعة (من نوع ما ترسم عليه أشجار العائلة عند بعض الأسر)، وكان آخرهم حافظ الأسد، موصوفا بعبارات دينية تقديسية.

يجد تكريس الإعلام العام لعبادة حافظ الأسد طوال عقود، ولطالما تحدى هذا التكريس السماجة وتجاوزها، وأثار ذهول السوريين واستهجانهم لفرط استهانته بالعقول، يجد معناه في وظيفته: رفع المركز السلطاني فوق السياسة والمداولة الاجتماعية، أي عملياً تقديس النظام وضمان بقائه. القداسة تدر كثيراً من المال والمجد والنفوذ، السلطان.

وعبر القداسة والولاء للسلطان المقدس صار حافظ، الموقع-الشخص، مبدأ لتقويض علاقة المواطنة ولمفهوم الدولة الوطنية، وقوة تعميم علاقات التراتب والتبعية الشخصية.

موت حافظ دشن زمن السلالة. صارت الأسرة الأسدية تشغل موقع الأب، وهذا ليس لمجرد أن بشار أضعف من أبيه أو أدنى منه في المؤهلات، بل لأن منطق التوريث وبناء السلالة يقضي بذلك. أياً يكن من يتلو حافظ فإنه وريث، ابن بين أبناء وثان بين ثانين، ليس مؤسساً ولا أوّلاً. لا يستطيع بشار أن يُحيِّد الأسرة إلا إذا خرج على منطق التوريث، وصار مؤسِّساً آخر يقطع حكم السلالة، أو يؤسس سلالته الخاصة. بشار أصغر من هذا وذاك. السلطنة لأسرته وليست له. والتمسك به من لوزام تماسك الأسرة السلطانية، والسلطنة ككل، وليس لشخصه. ليس لبشار قيمة استعمالية أو خاصة، له قيمة تبادلية أو عامة فقط. عند الاضطرار يمكن استبداله. ومن المستبعد ألا يقع ذلك يوماً.

إيديولوجيات الطائفية

الطائفية مسألة امتيازات سياسية واجتماعية، وليست مسألة هوية وثقافة ودين، بات هذا الآن واضحاً. ولذلك لا تعالج الطائفية بالمؤتمرات الدينية، كأن يجلس رجال دين مسلمون ومسيحيون مثلاً، أو سنيون وعلويون أو شيعة مثلاً، ويدعون أتباع عقائدهم إلى التسامح والمحبة، ويسكتون على منابع التمييز والامتياز. لا تعالج أيضا بذلك الضرب من العلمانية التسلطية العابدة للدولة، التي لا تهتم بأوضاع التمييز والامتياز الاجتماعية والسياسية، ولا بحقوق وأوضاع الشرائح الأكثر حرماناً، وتحملها في الغالب مسؤولية الأوضاع التي تعاني منها، على ما يفعل بعض إيديولوجيي «العالم الأول الداخلي» في سورية وخارجها.

الطائفية لا تُعالج أيضا بالتكتم عنها على ما يفعل إيديولوجيون آخرون، بذرائع وطنية فوقية مرة، ويسارية فوقية أيضا مرة، أو بالسكوت عن موضع تشكلها السياسي كما يفعل مثقفون وسياسيون موالون، أو بنسبة قيم تقدمية وتغييرية لطوائف ورجعية لطوائف، كما يفعل بعض آخر. ليس هناك طوائف جيدة وأخرى سيئة إلا في العين الطائفية. الطوائف كلها سيئة، وكلها رجعية (هذا ليس قولاً في الجماعات الأهلية، ولا ينال من احترام أي منها)، وكلها مصنوعة سياسياً. لكن الأسوأ والأكثر رجعية هو التنظيم السياسي الذي تتشكل فيه الطوائف كوحدات سياسية أو كأحلاف سياسية: السلطانية المحدثة.

وإنما بفعل الطابع المراوغ لخطاب النظام السلطاني وإيديولوجييه المتنوعين، إيديولوجيي الوطنية و«معاداة الامبريالية» مرة، وإيديولوجية الحداثة ومعاداة الأصولية مرة ثانية، وبفعل احتكار سلطة تعريف الوطنية وتسخيرها لحجب الطائفية الجوهرية للحكم الأسدي، وأكثر من الجميع بفعل حراسة التابو الطائفي بقوة القمع، لم تكد تظهر مقاومة علمانية تحررية للطائفية في سورية. كان مجرد تناول الظاهرة في سنوات ما قبل الثورة مصدر اتهامات بالطائفية من الحراس الإيديولوجيين للدولة الباطنة ومثقفي السلطانية العضويين. وفي عهد بشار، هؤلاء ليسوا بعثيين، وإنما هم ممثلو نظام الامتياز وإيديولوجيو«العالم الأول الداخلي» أو مجتمع «السوريين البيض».

مثل ثنائية الظاهر والباطن على مستوى الدولة، وثنائية الطائفية المحاسيبية والأمنية، وثنائية البرجوازية المحلية والمركزية، يمكن تبين ثنائية على المستوى الثقافي، بين مثقفين حكوميين يرفعون راية «الوحدة الوطنية»، ويحرسون التابو الطائفي بالمنع، وعمليا يكملون دور المخابرات في اتهام منتهكي مفهومها الأسدي بالطائفية، وبين مثقفين «حداثيين» و«حضاريين»، هنتنغتونيين في الواقع، يدافعون عن السلطانية كاستبداد مستنير في وجه «طغيان أكثرية العدد» المحتملة حسب تعبيرات متشابهة من عزيز العظمة وجورج طرابيشي وكمال ديب. هؤلاء هم مثقفو «السوريين البيض»، أو مثقفي زمن بشار، تمييزا عن سابقيهم «اليساريين» من مثقفي زمن حافظ.

ومن الطريف أن الكندي اللبناني الأصل، كمال ديب، يقترح في كتابه أزمة في سورية (بيروت، 2013)، تقاسم السلطة مناصفة بين «الأقليات» والمسلمين السنيين الذين يقول هو إنهم يشكلون 75% من السكان، أي عملياً وفق قاعدة لـ«الأقلي» مثل حظوظ ثلاثة من «الأكثريين»! وهذا بالفعل تجاوز لنظام الديمقراطية التوافقية اللبناني الذي يعترض عليه المؤلف «العلماني». فالنظام  اللبناني مبني، حسب أستاذنا أحمد بيضون، على أن للمسيحي مثل حظ المسلميْن، فقط!

كلمتا إسلام ومسلمين لا تردان قط في سياق إيجابي أو متفهم، في 330 صفحة من كتاب مثقف السلطانية العنصري هذا. تستخدم الكلمتان على نحو مرسل وغير إشكالي، وتردان دوماً وحصراً في سياق سلبي، يحيل إلى الخطر والإرهاب وقطع الرؤوس واضطهاد المسيحيين و«الأقليات» والنساء والمثقفين.

كان ميشال سماحة مأمورا من علي مملوك، وربما بثينة شعبان وبشار، بالقيام بتفجيرات إرهابية في لبنان، في إطار صناعة وتوزيع الفتنة إقليميا. الوزير السابق كان محرجا فقبل نقل المتفجرات في سيارته . .قتل الناس لا يحرج ضميره

وبينما يفترض المرء أن العلماني يدعو حتماً إلى المساواة في الحقوق بين جميع السكان، ربما مع دعم خاص لـ«حقوق الإقليات» بوصفها الفئة الأكثر هشاشة، فإن حقوق الأقليات في السياق السوري موجهة حصراً ضد حقوق الأكثرية الدينية، وليس بحال ضد النظام السلطاني، ومع المطالبة بتناصف السلطة بين الربع والثلاثة أرباع. هل يبقى أي مضمون تحرري للكلام على «حقوق الأقليات» هنا؟ هل المطلوب هو المساواة أم، بالأحرى، الامتياز؟ وما العنصرية، يا ترى، غير أن يكون 1= 3، و25 = 75؟

هذا الفجور العنصري المديد من جهة، وما سبقت الإشارة إليه من «صعلكة» المستقلين وسحق فرص ظهورمعارضة اجتماعية قاعدية من جهة ثانية، أضعف فرص ظهور مقاومة علمانية أمينة للطائفية، ووفر بالمقابل الشروط المناسبة لمواجهة الطائفية بالطائفية. هذا نراه اليوم مجسدا في سلفيين يتطلعون إلى إشغال موقع النخبة السلطانية الأسدية، على أسس إيديولوجية مغايرة. طائفية السلفيين مبدئية ومقاتلة، ويبدو أنها تخاطب قطاعات مفقرة ومحتقرة من الجمهور السني الريفي.

لكن «الإسلام»، في صيغة إخوانية، يمكنه أن يكون قناعاً أيضاً للطائفية، أو بالضبط للامتياز السني وللتمييز لمصلحة السنيين. وبينما ينبغي في كل وقت التمييز بين معاداة طائفية وغير تحررية للإسلام، شائعة جداً في الواقع (داعية المناصفة المذكور للتو مجرد مثال فج)، والعمل على فضح عنصرية دعاتها وإظهار انحيازاتهم السياسية والطبقية، فإنه لا وجه لإعفاء تطلعات الهيمنة السنية من النقد. صعوبة تطييف السنيين، أي توحيدهم في طائفة، لا ينبغي أن تحجب وجود طائفيين سنيين كثيرين، نشطين وعدوانيين، ولا يقتصرون على السلفيين.

لقد تواطأت ضد السوريين أوضاع أشد قسوة: الدولة السلطانية المحدثة القائمة على التبعية، وقد استندت ضمناً إلى سردية مظلومية علوية بداية، وتسوق نفسها اليوم عالمياً بسردية تفوّق حداثية؛ الجهادية السنية المعولمة، التي انتشرت في البلد على أكتاف ثورة حفزتها جزئياً مظلومية سنية، يوجهها جهاديون متنازعون ينالون دعماً خليجياً في اتجاه سردية تسوغ سلطانهم؛ ثم التحالف الأميركي الإسرائيلي الذي أقدّر أنه كان له من وراء الستار دور هائل في إبقاء النظام الأسدي وتكسّر البلد. وقد يكون الدافع وراء ذلك أن هذا النظام يمثل «العالم الأول الداخلي» في سورية، وأنه أظهر فاعلية مؤكدة في تأديب وضرب تمردات العالم الثالث الدخلي. بنية النظام الأسدي تنسخ نظام سيادة إسرائيل في المنطقة (تقتل وتدمر من يقاوم سيادتها) وأميركا على النطاق العالمي. النظام الأسدي في سورية هو إسرائيل في «الشرق الأوسط». وهو موثوق لصفته هذه، وليس لعواطف خاصة حياله.

ويبدو لي أن إسرائيل بالذات تتعرف في قدرته الواسعة على القتل على شيء يوسع هامش حريتها حيال الفلسطينيين والعرب عموما، وفي نوعيات الموت التي يوزعها بسخاء على محكوميه شيئاً تتعرف فيه على نفسها وعلى ذكريات قريبة وبعيدة لها.

مصير السلطنة الأسدية

في مواجهة الاحتجاجات الشعبية في 2011، عملت السلطنة على تعميم الفتنة. تكلمت بثينة شعبان، مستشارة بشار الموتورة والفاجرة في طائفيتها، عن الفتنة وعن إمارات سلفية بعد نحو 10 أيام من الثورة (اشتهرت في وقت لاحق بتصريحها عن ضحايا الغوطة بأنهم أطفال مخطوفون من «الساحل»، وإن نسبت الكلام إلى ما يفترض أن الأهالي في الساحل يقولونه، ثم بردها الرادح على مراسلة سي إن إن الأميركية عن ضحايا التعذيب بعد تقرير «سيزار» مطلع 2014، وقد أظهر أن 11 ألف قتلوا تحت التعذيب بين آذار 2011 وآب 2013: أليس الغرب مسيحيا؟ ألا تهتمون بمصير الراهبات المسيحيات اللاتي اختطفهن الإرهابيون من معلولا؟). بشار نفسه أسهب في الكلام على الفتنة في خطابه الأول بعد الثورة في 30 آذار 2011. ونسب وكلاء النظام الإعلاميون إلى الاحتجاجات منذ وقت مبكر شعاراً أرجح شخصيا أنه من ابتكار ميشال سماحة: العلوية عالتابوت والمسيحية عبيروت! الشعار مصمم بكفاءة بحيث يُظهر الاحتجاجات سنية متطرفة من جهة، ويسوغ تحالفاً طائفياً علوياً مسيحياً من جهة ثانية. وليس مفهوما لماذا لم يُرفع هذا الشعار إلا ضمن مظاهرات شهدتها اللاذقية!

غير استراتيجية تعميم الفتنة، جرت الاستعانة بقوى أجنبية لإنقاذ السلطنة، وذلك على طريقة السلالات الملكية في التاريخ، ومنها سلالات عربية، القديمة منها والمعاصرة (آخرها السلالة الكويتية قبل جيل). المشترك بين النظم السلالية المطلقة أنها مالكة للبلدان التي تحكمها وليس حكومات وطنية. سورية أسدية وليس الأسد سورياً، سورية هي التي عليها أن تجيد الانتساب للأسديين وتتشرف بهم، وليس الأسديون من عليهم إثبات وطنيتهم وخدمة السوريين. وشعارات من نوع: الأسد أو لا أحد! الأسد أو نحرق البلد! الأسد أو بلاها هالبلد! تصدر عن افتراض الملكية: ما قد أخسره أنا سأدمره فلا ينتفع منه أحد!

وما جرى عملياً منذ منتصف 2012 (قد يكون اغتيال خلية الأزمة في 18 تموز 2012 تصفية حساب داخلي لمصلحة صقور السلطنة وراعيهم الإيراني)، هو تسليم قيادة الحرب السلالة الأسدية إلى الإيرانيين، وأتباعهم من لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها. نتذكر أنه حتى ذلك الحين كانت بؤر التظاهر السلمي في تصاعد (أعلى ذروة سجلت في حزيران 2012 بأكثر من 700 بؤرة تظاهر)، أن الطيران الحربي ضد المدن بدأ يُستخدم في تموز، أن قصف الطيران للطوابير أمام أفران الخبز في حلب ومناطقها جرى في آب 2012، أن صواريخ سكود والسلاح الكيماوي بدأت تُستخدم قبل نهاية العام، وأنه قبل نهاية العام نفسه، جرت مأسسة الشبيحة، كميليشيا طائفية ظهيرة في «جيش الدفاع الوطني» الذي يجري تدريب كثير من عناصره في إيران. وكانت سبقت ذلك المجازر الطائفية الأشهر، في بانياس والحولة والقبير وكرم الزيتون، وظهور “سوق السنة”.

وفي وقت مبكر أيضاً، وفي إطار منهج تعميم الفتنة، أطلق النظام سراح سلفيين جهاديين يعرفهم جيداً ويعرف «برنامجهم»، أعني ما هو مبرمجين عليه. كان يلعب بهم ومعهم بين العراق ولبنان منذ سنوات قبل تفجر الثورة. بالمقابل، لا تزال في سجن عدرا طل الملوحي، الفتاة التي لُفّقت لها قضية وحكمت خمس سنوات حين كان عمرها 18 عاما!

وبقدر ما أسهمت السلطنة في نمو هذا الغول، أسهم هو أيضا في تعميم الفتنة، وفي الخندقة الطائفية، وتحطيم قوى المعارضة الديمقراطية العلمانية. تبدو السلفية المحاربة مصممة من أجل سحق المعارضين غير الطائفيين للنظام، ومن أجل تعميم الطائفية، ومنح النظام حقاً غير منقوص في تمثيل العلويين، وعموم غير السنيين العرب. وهي تسجل نجاحا للسلطنة لعلها ما كانت تتوقع أن يبلغ هذا الحد.

في المحصلة، وعبر استتباع السلالة لعموم العلويين، وفتح البلد للسيطرة الإيرانية، وصعود الطائفية السنية المحاربة، قادت السلطنة سورية إلى الدمار، وإن تكن، فيما يبدو، أنقذت بعضاً من ملكها.

مقاومة الطائفية

استناداً إلى مجمل هذه المقاربة، أرى أن سياسة تحررية من الطائفية تتمثل في تحرير الدولة العامة من الملكية الخاصة، العائلية والطائفية. أولاً وأساساً ينبغي أن يستعيد السوريون دولتهم وفي مواجهة الحكم السلطاني المحدث. «سورية لينا وما هي لبيت الأسد!» قال المتظاهرون السوريون في درعا، «مهد الثورة» منذ وقت مبكر. أي أن سورية للسوريين وليست لسلالة مالكة، ولا يجوز لأية جماعة خاصة أن يكون لها نفاذ امتيازي إلى الدولة.

في المقام الثاني، سورية بحاجة إلى نظام فعال للإدارة والعدالة القانونية يضمن قضاء حاجات الناس روتينياً، وبصرف النظر عن قراباتهم وثرواتهم، ونظام للعدالة الاجتماعية يوفر الموارد والخدمات للشرائح الأفقر من المجتمع ويغنيهم عن الحاجة إلى أعيان ووجهاء جدد. ونظام للعدالة السياسية، يقوم على أن السياسة مشاع عام، لا يحق لأحد الانفراد بتملكه. نظام يقوم تحديدا على أن الناس شركاء في ثلاث: الكلام العام، التجمع الطوعي، والاحتجاج السلمي.

الأمر يقتضي تجاوز «العالم الأول الداخلي» ومجتمع السوريين البيض باتجاه تحرري، وليس باتجاهات سياسة الهوية وتجديد شباب العبودية على أسس دينية. وتجربة ما يقارب 4 سنوات تظهر أن مقاومة «العالم الأول الداخلي» تخذل نفسها حين لا تنفتح على سياق الاعتراض على العالم الأول الخارجي وركائزه الإقليمية.

وهذا بدوره يوجب مواجهة التناقض غير المعالج وغير المحلول، المتصل بوضع الدين العام والهيمنة السنية في مجالات التعليم والأحوال الشخصية والاحتفالات الدينية العامة. الطائفية ليست اسماً آخر لهيمنة العلويين حتى تكون الهيمنة السنية اسماً للحل. الطائفية عنصر أساسي في الحكم السلطاني الذي تعمل الجماعات السلفية اليوم على تجديد شبابه وشحذ أنيابه، مع وعد بإحالة غير المسلمين السنيين، وغير السلفيين من المسلمين السنيين، والسلفيين على غير منهج الجماعة السلفية الأقوى، إلى العبودية الفعلية او إلى الإبادة. السلفية المعاصرة ظاهرة شقاقية معادية للعالم، ومولدة للكراهية داخل المجتمع وداخل المجموعة، بل داخل الفرد نفسه، ووجهتها ليست إلا الموت العام. لقد صعدت داعش في تصوري لأن الثورة كتطلّع لامتلاك الحياة والحرية تعثرت ووقعت، وظهرت السلفية لأنه ليس هناك ثوريون اجتماعيون في سورية. قواعد السلفيين الاجتماعية كان يمكنها أن تكون قواعد قوى ثورية تحررية.

المبدأ الإيجابي الأساس في تجاوز السلطانية هو المساواة بين الجماعات الاعتقادية السورية بوصفها جماعات تأسيسية للكيان الوطني. المبدأ الدستوري الأول للجمهورية هو أن السوريين لا ينقسمون إلى أكثريات وأقليات عمودية، وهذا أحسن من النص الدستوري على «حماية الأقليات»، أو على «مناصفة وضمانات» كما يريد كمال ديب. وبينما يبدو هذا متعذراً في ظل الصعود السلفي وتآكل الثورة، فإنه ظاهر منذ الآن أن هذا الصعود مصدر لمشكلات وطنية واجتماعية كبيرة، ويمكن أن تكون مواجهتها فرصة لإصلاح مشكلات قديمة في بنية الكيان السوري. أياً تكن الدروب السياسية إلى مخرج من الوضع الحالي، يبدو أن فرص الخلاص من السلفية المقاتلة، ومنها داعش والنصرة وغيرهما، دون الخلاص من الأسدية، محدودة، ولا تؤسس لأوضاع عادلة. السلطنة الأسدية والسلفية الجهادية وجهان لخراب وطني واحد.

ولعله يلزم أيضا فتح نقاش حول تصور الدولة المركزية الموحدة التي تقولب السكان في قالب موحد، وتعمل على صهرهم وفرض مجانسة قسرية عليهم. قد يبدو نهج الصهر والمجانسة مضاداً للطائفية. لكن يبدو لي أن العكس هو الصحيح. فالمركزة تقوّي الدولة على حساب المجتمع، وتغري بالاستيلاء على الدولة من قبل الطامحين، وانتحال عقيدة وطنية مزعومة تعادي التعبيرات الأهلية من تحت أكثر من الممارسات الطائفية والتمييز الطائفي من فوق. المجانسة والصهر هنا يتحولان إلى إيديولوجية تلفيع وتمويه للتخارج السلطاني. ولا تبقى غير خطوة قصيرة لتوسل الطائفية لحكم هذه الدولة المركزية العزيزة، وحراسة طائفيتها بتجريم النقاش حول الطائفية.

وفي كل حال، المجانسة برنامج قمع وتسلط، وليست برنامجاً تحررياً أو تقدمياً، وهي ليست قيمة عليا إلا لدى عابدي الدولة من التحديثيين القوميين من أمثال عزيز العظمة.

وليست الدولة السلطانية المحدثة في الواقع غير عصرنة محددة للدولة السلطانية التقليدية، عبر تطعيمها بالدولة المركزية الموحّدة من جهة، وبعقيدة المجانسة الاجتماعية والثقافية من جهة أخرى (وليس المساواة القانونية، ولا العدالة الاجتماعية، ولا الحريات العامة).

ما نحتاجه في سورية، في تصوري، هو المزج بين العدالة الاجتماعية والقانونية، وبين النشاط السياسي الجمهوري، وبين درجة أكبر من حكم ديمقراطي محلي. هذا يخاطب مطالب كردية محقة، ويستجيب لحاجات تنموية حيوية، ويحد من الطائفية واحتمالات ظهور طوائف عامة أو طوائف دولة، وكذلك من التوظيف السياسي والفكري والمادي في مركز سلطوي كان تاريخه خلال نصف قرن تاريخ تدميراً للمجتمع واستنزافا للموارد الطبيعية ومذابح وعمليات قتل واسعة النطاق. المشكلة في النموذج وثقافته وهويته أكثر مما هي في تطبيق خاص له. حافظ الأسد نتاج لهذا النموذج الطغياني، وإن مثلت دولته عينة دراكولية منه.

وفي الوقت نفسه ينبغي الاعتراف بالتعدد الديني والمذهبي والإثني للمجتمع السوري وتشجيع التعبيرات الاجتماعية العلنية عنه. ليست المشكلة بحال في تعبير التحت الاجتماعي عن نفسه، بل في التمييز على مستوى الدولة ومؤسسات الحكم. الطائفية وليدة التمييز من فوق، وليست أبداً نتاج تعبيرات المجتمع من تحت عن تمايزه الأهلي. هذه التعبيرات التحتية يلزم بالأحرى تشجيعها، وتسهيل ظهور شخصية البيئات المحلية وامتلاكها لتعبيراتها الثقافية والسياسية المختلفة.

وإذا كان لا مناص من طي صفحة وضع الطائفة السياسية العامة، فلا بد من ضمان حقوق مساوية للعلويين مع غيرهم من السوريين كأفراد وكجماعة. نحتاج إلى التفكير في التحرر من الطائفية والدولة السلطانية كتحرر للعلويين لا كتحرر منهم. السلطنة الأسدية ليست دولة العلويين، وإن تكن استندت إلى أكتافهم وعضلاتهم، ودمائهم أيضا، كي ترتفع فوق رؤوس السوريين جميعاً.

لا مناص من جهة أخرى من طيّ صفحة الطائفة الدينية العامة. العلويون ليسوا سنيين، ولا كذلك الدروز والاسماعيلين والشيعة، حتى يتعلموا المعتقد السني في المدارس، وحتى يمتنعوا عن التعبير العلني عن ثقافاتهم الفرعية الخاصة. وبالمثل، الكرد ليسوا عرباً حتى تُنكر شخصيتهم وتطمس لغتهم ويجري فرض العربية عليهم.

وبعد هذه كله، سيحتاج السوريون إن أسعفهم الحظ في طي السلطنة الأسدية إلى تعلم فضيلتي النسيان والتسامح، نسيان أشياء من تاريخهم المعاصر والتسامح حيال بعضهم. هذا ممكن أن تحقق عدل أساسي وجرى التخلص من مهندسي القتل الرئيسيين، الأسرة الأسدية وكبار طبقة الحرس والبرجوازية المركزية. الموقف السلبي من التسامح مميز للمثقفين العضويين لمجتمع «السوريين البيض» من أمثال أدونيس: ظاهره تجاوز تحرري للتسامح باتجاه المساواة، لكن باطنه مزايدة على المجتمع وتسليم بالأوضاع الراهنة. ثنائية ظاهر/ باطن هنا أيضاً.

يبقى أن أول السياسة التحررية هو أن نطور أدوات تفكير فعالة لفهم مشكلات الطائفية وإطارها الاجتماعي والسياسي العام. حاولتُ هنا تطوير أدوات مفهومية تبدو لي مفيدة، مثل الطائفة العامة، والدولة الخاصة، والدولة الظاهرة، والدولة الباطنة، ومفهوم الدولة السلطانية المحدثة، وتمييز وجهي الطائفية الحرسي والمحاسيبي، وأخيراً التمييز بين شرائح البرجوازية الجديدة. لا غنى عن أدوات جديدة من أجل إطلاق نقاش عام حول الطائفية، لا غنى عنه، بدوره، من أجل ظهور رأي عام متحرر في شأن هذه القضية الحساسة. المجتمع المتفاعل يتكون في النقاش العلني الحي.

يلزم في كل وقت فك أحابيل المخاتلة الطائفية، إن في صيغتها الوطنية التقليدية، أو في صيغتها الحداثية اليوم، أو في صيغتها الإسلامية السياسية المعاصرة (توسل «الإسلام» قناعاً للهيمنة السنية). الطائفية قلما تظهر إلا من وراء حجاب، وتنسب لنفسهما قيماً عليا عصرية أو عريقة، مثل الحداثة أو العلمانية أو التنوير أو الحضارة من جهة، أو قيماً «أصيلة» مثل الإسلام (هكذا دون تخصيص) أو «الأصالة» من جهة ثانية. وليس ما وراء الحجاب غير السلطانية والتمييز العنصري.

هوامش

  1. ↑انظر أسماء أعضاء مجلسي إدارة الشركتين على الرابطين: الأول، الثاني.

 

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى