صفحات الثقافة

القصص.. صناعة أم إيحاء؟/ أمير تاج السر*

 

 

منذ عدة أشهر طلب مني ناشر مبتدئ أن أكتب له قصة ملحمية، منتزعة من التاريخ العربي القديم، وأن أجعلها عنيفة بقدر المستطاع، ومليئة بالخيل والسيوف والدم، وأن أزرع فيها بذورا صالحة لنمو التطرف الذي نرى نتائجه الآن، في طول الوطن العربي وعرضه.

وقال هذا الناشر إنه يثق بأنني سأقوم بإنجاز المشروع الذي يعول عليه كثيرا، في وقت قياسي.

بغضّ النظر عن المغزى التجاري لذلك الطلب، وأنه يأتي في وقت كثر فيه الذبح والسلخ، والتكفير والتخوين، واندلاع الفتن هنا وهناك، ولا بد من أعمال روائية تستقطب كل ذلك وتعيد صياغته، أو ترصف أسبابه في أعمال تعود به إلى جذور بعيدة؛ فإنني رفضت عرضت الناشر.

دكان الأفكار

كان يمكن أن أكتب مثل هذا العمل لو أنها فكرتي التي تضغطني لأكتبها وتستولي على يومي كله من أجل أن أعمل عليها، وقد كتبت من قبل نصوصا مشابهة لمثل هذه الفكرة، مثل ما كتبته في توترات القبطي عام 2009، فقد كانت مبادرتي لا مبادرة ناشر ينتظر أن يربح من عمل قسري بكل تأكيد.

لقد تحدثت من قبل عن مفهوم الكتابة كما أتصوره، في عدة مناسبات، وأذكر موضوع دكان الأفكار الذي افتتحه شخص ما، في مكان افتراضي، وعرض عليّ أن يبيعني أفكارا تصلح للكتابة بمبالغ زهيدة، وأرسل لي بالفعل نموذجا لفكرة عن رواية، تدور أحداثها على سطح القمر، وأبطالها رواد فضاء ضائعون، لكنني لم أقتنع، ولم أشتر من دكان الأفكار أي  خاطرة، وأعرف أن غيري من الكتّاب الملتزمين بالكتابة، والساعين لرقيها باستمرار لن يشتروا أيضا، وستظل أفكار صاحب الدكان، مخزنة في الافتراض، حتى تنتهي صلاحيتها وتذبل، بينما يكتب الناس ما يأتيهم من أفكار دون الاعتماد على أحد.

لطالما اعتقدت -من ناحية أخرى- بأن قصدية الكتابة لا تصنع أعمالا جيدة، بالرغم من أنها طريقة متبعة لدى كثير من الكتاب المحترفين، في جميع أنحاء العالم، وينتهجها أيضا كتاب هذا الزمن ممن أرادوا الكتابة، حتى قبل أن يقرؤوا حرفا لمن سبقوهم.

قصدية الكتابة تعني استعراض عدد من الأفكار الموجودة سلفا في الواقع المعيش، واختيار إحداها، ووضع تخطيط تفصيلي لما سيحدث في البداية والوسط والنهاية، ومن هم الشخوص الذين سيملؤون المجتمع النصي؟ وفي أي مدينة سيعيشون؟ وماذا سيفعلون حين يلتقون بعضهم؟

وهكذا يظل الكاتب أياما، يكتب صفحات مطولة عن نص سيكتبه، وحين يبدأ الكتابة، يظل ملتزما بما خططه من دون أي مفاجأة دخيلة تمنحه المتعة شخصيا، وتنزح بتلك المتعة إلى قرائه.

فكرة حرة

أنا أفضل الطريقة المفاجئة، الطريقة التي لا تطارد الأفكار، وإنما تجعل فخ الصيد مشرعا، إن حامت أفكار ما حوله، تماما كمصيدة الطيور، أو الشرك الذي يشرعه الصيادون، ويحرسونه.

وحين تأتي الفكرة فعلا، تظل حرة في أن تنمو أو تضمحل، أن تبقى أو تفر مرة أخرى. لا تخطيط بالورقة والقلم، ولا إلحاح في التشبث بالأفكار مهما عظمت، والنص بعدها يمضي هو الآخر حرا، ينحت طريقه، ويأتي بمفاجآته في أي صفحة يشاء.

من قراءاتي، أعتقد شخصيا أن أعمالا كثيرة وعظيمة جاءت بهذه الطريقة، وحقيقة لا أعرف ظروف كتابتها، لكن تدفقها وسيرها في عدة طرق مختلفة، ودخول شخصيات وخروج شخصيات أخرى يجعلني أجزم بأنها لم تأت من مطاردة وسجن للأفكار، ولكن من استجابة الأفكار ومنحها ما تخبئه لكاتب النص.

من الأعمال التي غالبا لا تكتب بقصدية، وإنما عفوا، تلك الأعمال المعاصرة، أي التي تدور حوادثها في زمن حياة الكاتب.

هنا يوجد مجتمع مفتوح، يوجد كاتب يقيم في بيت ما، في حي ما، يوجد جيران وشوارع وأزقة، وأسواق، ويوجد وطن يضخ المعاناة أو السعادة، ولا يكون الكاتب بحاجة للي عنق الأفكار المتطايرة وإرغامها على منحه نصا.

ولطالما أحسست بالصدق في مثل هذه الأعمال، خاصة في كتابات السجون والتعذيب، وما أنتجه البعض من حصاد ثورات الربيع العربي، وليس كل ما أنتج بالطبع، لأن هناك ما لا أستطيع اعتباره نصوصا قصصية على الإطلاق.

سخاء التاريخ

بالنسبة للتاريخ وأفكاره، فتلك مادة أخرى، وليس كل كتاب الرواية يستطيعون اصطياد التاريخ ومفاوضته، من أجل أن يمنحهم نصا إبداعيا، فغالبا ما يتم اعتماد الوثائق الحقيقية والحوادث التي حدثت بالفعل، وتأتي المحصلة نصا تاريخيا عاديا، تجده بكل سهولة، عند مؤرخ جاد، وسيكون أفضل في الأمانة العلمية من نص كتبه روائي.

ما سيجعل التاريخ سخيا يجزل العطاء لمن يسأله، هو أن تزرع وقائع شبيهة بوقائع فترة محددة من التاريخ، بشخوصها وحيواتهم كاملة، ومنها تتم محاسبة التاريخ، أو تكريمه، وحتى لو كانت ثمة وثائق حقيقية، فلن تكون عثرة في سبيل الخيال أن يتفقد الوقائع ويدعمها.

ولا أظن أن الشخصيات التي وردت سيرها مثلا في رواية “قلم النجار” للإسباني مانويل ريفاس -باعتبارها من ضحايا الحرب الأهلية هناك وناضلت لتموت- حقيقية، بالرغم من أن الحرب حقيقية بالطبع، لكن عظمة النص تجعل الأمر واقعيا جدا.

وهناك نصوص كثيرة في الأدب اللاتيني الأميركي، تناولت رؤساء ومناضلين ومشانق وثورات، مثل رواية “ساعي بريد نيرودا”، عن الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، تناولت شخصيته وحياته، ورغم ذلك كان الخيال فيها مستعرا وكانت من أجمل الروايات التي يمكن أن تُقرأ.

في النهاية، ستظل الكتابة القصصية والروائية حاملة أسرارها الخاصة وخصائصها عند كل كاتب، فمن أراد الكتابة بعفوية فسيجد أفكارا تقف معه وتسانده، ومن أرادها بقصدية، فسيجد أفكارا يقمعها ويجبرها على مساندته في نص ربما ينجح، وربما لا.

* كاتب وروائي سوداني

الجزيرة نت

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى