صفحات الثقافة

تنويعات على حق الالتزام بالصمت آن كارسون تتأمل الترجمة

 

الصمت مهمٌ مثله مثل الكلمات في ممارسة ودراسة الترجمة. ربما يبدو هذا وكأنه كليشيه. (أظن أنه كليشيه. ربما نستطيع العودة إلى الكليشيه.) هناك نوعان من الصمت الذي يزعج المترجم: الصمت المادي والصمت المجرد. تصادف الصمت المادي عندما تنظر إلى، لنقل، قصيدة لسافو مكتوبة على ورق البردي منذ ألفي سنة تمزقتْ في منتصفها. نصف القصيدة حيز فارغ. ويمكن للمترجم/ة أن يدل أو حتى يتدارك هذا النقص في النص بعدة طرق – بفراغات أو بأقواس أو بحدس نصي – وله الحق في ذلك لأن سافو لم تتعمد أن تترك ذلك الجزء من القصيدة صامتاً.

الصمت المجرد يحدث داخل الكلمات نفسها. وتوقعه أصعب من أن يمكن تحديده. ويعرف كل مترجم الحالة حيث لا يمكن ترجمة لغة ما إلى لغة أخرى. خذ كلمة cliché ،cliché مأخوذة من الفرنسية، تصريف الزمن الماضي من فعل clicher، مصطلح يتعلق بالطباعة “لصناعة صفيحة طباعية من سطح طباعة نافر. “وقد أخذت إلى الانكليزية دونما تغيير، لكون استعمال الكلمات الفرنسية يجعل متكلمي الانكليزية يشعرون بأنهم أكثر ذكاءً من ناحية ومن ناحية أخرى لأن الكلمة لها أصول مقلدة (من المفترض أنها تقليد لصوت قالب الطابعة وهو يضرب المعدن) وهذا ما يجعلها غير قابلة للترجمة. الانكليزية لها أصوات مختلفة. الانكليزية تصمت. هذا النوع من القرارات اللغوية هو ببساطة قدر من الغربة، اعتراف بحقيقة أن اللغات ليست علماً من العلوم الأخرى، أنت لا تستطيع أن تطابقها كلمة وكلمة. لكن الآن ماذا لو اكتشفت ضمن هذا العلم، اكتشفت واحدة عميقة – كلمة ليست معدة لتكون مترجمة. الكلمة التي تكتفي بنفسها. هنا كمثال.

في الكتاب الخامس من الأوديسة عندما كان أوديسيوس على وشك مواجهة ساحرة تدعى كيرك تعمل على تحويل الرجال إلى خنازير، قدم له الإله هرمز عشبة دوائية ليستعملها في مواجهة سحرها:

هكذا تكلم هرمز معطياً إياه الدواء

بسحبه من الأرض وأراه طبيعته

عند الجذر كان أسود لكن مثل الحليب كانت الزهرة.

مولي هذا ما دعاه به الإله. ومن الصعب جداً على الرجال الفانين التنقيب عنه. لكن الآلهة تستطيع أن تفعل مثل هذه الأشياء.

مولي واحد من ظهورات عديدة في قصائد هوميروس التي يدعوها “لغة الآلهة”. هناك حفنة من الناس أو الأشياء في الملاحم لديها هذا النوع من الأسماء المزدوجة. يروق للغويين أن يرووا في هذه الكلمات آثار بعض الطبقات القديمة من الهندو – أوروبية المحفوظة في كتابات هوميروس الإغريقية.

بأية حال ربما، عندما يستشهد هوميروس عادة بلغة الآلهة يخبرك بالترجمة البائدة أيضاً. هنا لم يفعل. هو يريد هذه الكلمة لتصمت. هنا يوجد أربعة أحرف من الأبجدية، تستطيع لفظها لكن لا تستطيع تعريفها، تملكها، أو الاستفادة منهم.

لا تستطيع البحث عن هذه العشبة على جانب الطريق أو عبر موقع غوغل لتجد المكان الذي يبيع بعضاً منها. العشبة مقدسة، المعرفة ملك للآلهة، الكلمة تكتفي بنفسها. تقريباً كما لو أنك أهديت بورتريه لشخص ما – ليس شخصاً مشهوراً لكن شخصاً ما يمكنك التعرف إليه اذا ما أعملت تفكيرك – وأنت تنظر عن قرب ترى، في المكان حيث يفترض أنه الوجه، بقعة من الطلاء الأبيض. رش هوميروس طلاءً أبيض ليس على وجوه آلهته لكن على كلمتهم. ماذا تخفي هذه الكلمة؟ لن نعرف أبداً. لكن هذه اللطخة على قماش اللوحة ستفيد بتذكيرنا بشيء هام حول هذه الكائنات المحيرة، آلهة الملاحم، اللائي ليسوا دائماً أكبر، أقوى، أذكى، ألطف أو أفضل شكلاً من البشر، الذين هم في الواقع كليشيهات مجسمة عنهم من الرأس حتى القدمين، ومع ذلك استطاعوا أن يفوزوا بصفة تفوقوا فيها – الخلود. هم يعرفون كيف لا يموتون. ومن يستطيع القول سوى أن الأحرف الأربعة غير القابلة للترجمة لمولي ربما تكون المكان حيث تم إخفاء تلك المعرفة.

هناك شيء ما فتان بشكل مثير في عدم قابلية الترجمة، حول كلمة تمضي صامتة في النقل. أريد أن أتحرى بعض الأمثلة عن هذا السحر، عند أكثر حالاته إثارة، من المحاكمة وإدانة جان دارك.

تاريخ جان دارك، خاصة السجل التاريخي لمحاكمتها، واحد مفعم بالترجمة عند كل مستوى. تم أسرها في معركة بتاريخ 23 أيار عام 1430. دامت محاكمتها من كانون الثاني إلى أيار من عام 1431 واستلزمت تحقيقاً قضائياً، ستة مستجوبين عامين، تسعة مستجوبين خاصين، تبرئة، ردّ، إعادة المحاكمة، والإدانة. كان موتها حرقاً بتاريخ 30 أيار عام 1431. آلاف الكلمات بين أخذ وردّ بين جان ومحاكميها استغرقت أشهراً من الاستجواب، يتوفر لنا العديد منها ببعض الصيغ. لكن جان نفسها كانت أمية. تكلمت الفرنسية الوسطى في محاكمتها، كانت محاضرها قد نسخت من قبل كاتب وترجمت لاحقاً إلى اللاتينية من قبل أحد قضاتها. لم تتضمن هذه العملية تحويل إجابات جان المباشرة إلى الخطاب غير المباشر واصطلاحاتها الفرنسية إلى اللاتينية المستعملة في النظام القضائي فقط لكن أيضاً التزييف المتعمد لبعض أجوبتها بطريقة تؤدي إلى تبرير إدانتها (هذا كان قد كشف في إعادة محاكمتها بعد 25 سنة بعد موتها)* برغم ذلك هناك العديد من الطبقات من المسافات الرسمية التي تفصلنا عما قالته جان وهي فقط مؤثرات ثانوية بالنسبة للمسافة الأصلية الكبيرة التي تفصل جان نفسها عن جُمَلها.

أتت كل إرشادات جان، العسكرية والأخلاقية، من مصدر دعته “الأصوات”. كل الاتهام في محاكمتها كان مجتمعاً في هذا السؤال، طبيعة الأصوات. بدأت بسماعها عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها. تكلمت إليها من الخارج، مسيطرة على حياتها وموتها، انتصاراتها العسكرية وسياساتها الثورية، طريقتها في الملبس ومعتقداتها الهرطوقية. عاد قضاة جان خلال المحاكمة مرات ومرات إلى هذه النقطة المحيرة: ألحوا على معرفة قصة الأصوات. أرادوا منها تسميتها، تشخيصها ووصفها بطرق تمكنهم من الفهم، بعواطف وتعابير دقيقة سهلة الإدراك، في رواية تقليدية قابلة لدحض تقليدي. وجسدوا هذه الرغبة بالعديد من الطرق، أسئلة بعد أسئلة. حثوها وحضوها وطوقوها بها. ازدرت جان مسار التحقيق وأغلقته طالما تسنى لها ذلك. ذلك أنه بدا لها، أن الأصوات ليس لها قصة. كانت خبرة حقيقية كبيرة وواقعية مترسخة فيها كنوع من الفكرة المجردة – هذا ما أشارت إليه مرة فرجينيا ولف وسمته “هذا ضغط كبير على الأعصاب قبل أن يفعل أي شيء”** أرادت جان أن تنقل الصدمة على الأعصاب بدون ترجمتها إلى قالب لاهوتي (cliché). غضبها ضد الكليشيه هو ما قادني إليها. العبقرية في غضبها. كلنا نشعر بذلك الغضب عند أحد المستويات، في بعض الأحيان. الجواب العبقري عليه كارثة.

لقد قلت إن الجواب كارثة لأني أؤمن بأن الكليشيه هي سؤال. نحن نلوذ بالكليشيه لأنها أسهل من محاولة صنع شيء ما جديد. المتضمن فيها هو السؤال، ألا نعلم بالفعل ما نفكر به حول هذا؟ ألا نملك صيغة نستعملها من أجل هذا؟ ألا أستطيع إرسال بطاقة تهنئة جاهزة أو لصقها في صورة مهما كانت بدلاً من محاولة الإتيان برسم أصلي؟ اختارت جان خلال الأشهر الخمسة من محاكمتها بإصرار مصطلح صوت أو بعض مرات نصيحة أو مرة عزاء لتصف الكيفية التي هداها الله بها. هي لم تدّع من تلقاء نفسها بأن الأصوات تملك أجساداً، وجوهاً، أسماءً، رائحة، حرارة أو مزاجاً، ولا أنها دخلت الغرفة من الباب، ولا أنها شعرت بالسوء حينما غادرت الأصوات الغرفة. أضافت أخيراً هذه التفاصيل تحت الإلحاح العنيد من مستجوبيها. لكن أثر رواية القصة عليها كان بغيضا بشكل واضح ورشت طلاءً أبيض عليه حيث استطاعت، معطية إياهم إجابات مثل:

. . . لقد سألتم هذا من قبل. اذهب وانظر إلى السجل.

. . . تجاوزه إلى السؤال التالي، اعفني.

. . . عرفت ذلك جيداً بما يكفي مرة لكن نسيت.

. . . هذا لا يتعلق بسير عمليتك.

. . . اسألني السبت المقبل.

وفي أحد الأيام عندما كان القضاة يضغطون عليها لتحدد فيما إذا كانت الأصوات أفراداً أم جماعات، بكل روعة قالت: “الضوء يأتي باسم الصوت”.

الضوء يأتي باسم الصوت هي جملة تقف بنفسها. مكونها بسيط برغم أنه يبقى غريباً، لا نستطيع امتلاكه. مثل مولي هوميروس غير القابلة للترجمة تبدو بأنها آتية من مكان ما آخر وتجلب معها نفحة من الخلود. نحن نعلم هذا في حالة جان التي تحولت لتكون نفحة احتراقها هي.

*فرانسوازميلتزر، عن الخوف من النار

** فرجينيا وولف، إلى المنارة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى