صفحات الرأي

الصراع من أجل الاعتراف

 


بقلم عاصم بدر الدين

عمل لأيمن بعلبكي. عدا الاختلافات، المهمة بالطبع، في التشكيل الاجتماعي للدول العربية المنهارة أنظمتها أو تلك المهددة بالسقوط، فإن الحديث عن خصائص متشابهة بينها، وتحديداً في ما يتصل بعلاقة المواطن بالسلطة، لا يحتاج إلى بيان. فالأنظمة هذه تحكمها جماعة مستبدة تضع يدها على الاجتماع بكل فواصله. وعليه، يغيَّب الناس، أو الشعب، عن المسرح بالكلية، إذ لا مكان لهم لا على الخشبة ولا في المدرجات.

والحال أن ما يجري اليوم في الدول العربية يعني بكثير من الدقة عودة الشعب إلى المسرح. وإذ يكتشف الشعب نفسه وقدراته، تكتشف السلطات المحلية وجوده بعد سنوات مديدة من التعامي، فتصبح مصلحته منطلق حديثها. على أن هذا التغيير الشكلي، كما بينت التجارب العربية المتتالية، لم يثر في الشعوب غير الهزء كمدخل لتثبيت أحقية المطالب المعلنة. تحولت هذه “الإصلاحات”، أو “التنازلات” كما لا يرغب الإعلام الرسمي تسميتها بغير المواربة، إلى دافع أكثر فاعلية للمضي قدماً. لا يرجع ذلك إلى القيمة الضحلة لهذه الإجراءات الترقيعية فحسب، بل في المقام الأول ردّاً على السلوكيات والإدعاءات والفبركات الرسمية المشوهة لحقيقة المتظاهرين أو في أقل تقدير ما يدعونه عند تعبيرهم عن أنفسهم.

تكفي العودة إلى قاموس الإعلام الرسمي، وشخوصه في غيره من الوسائط، المختص بوصف الذين نزلوا إلى الشارع هاتفين بإسقاط هذه الأنظمة. إذا كانت هذه التعابير تختلف بين تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن وسوريا، فإنها تركن إلى ذهنية واحدة لا ترى في الناس غير متآمرين وعملاء ومندسين وسلفيين و”إخوان” وأجانب (وفلسطينيين ضمناً) وأصحاب أجندات وعشائر ومذاهب ومهلوسين وجرذان وإلى آخره.

إن إصرار الأجهزة السلطوية على نعت المتظاهرين بما ليسوا عليه، بقدر ما يشي بالأزمة أو الرضة التي أحدثها هتاف المواطنين غير المتوقع، فإنه ينسجم في عمق المسألة مع المناهج الأولية للاستبداد، المرتكزة على نفي الناس من السياسة. والحال أن الذين نزلوا الى الشارع هم في تصورهم لذاتهم مواطنون في الدرجة الأولى. ولأنهم كذلك، يطالبون بحقوقهم. وفيما تعمد الأنظمة إلى تحويلهم جماعات أهلية (عشائر ومذاهب وأثنيات) أو فئات عمرية (شبان) أو تنظيمات مسلحة بأهداف خارجية وعصابات وربما كائنات فضائية، وحصر موضوعات مطالبهم بالشق الاقتصادي وحده (تشغيل وأجور)؛ وفيما تتقصد هذه الأنظمة تشويه هوية المتظاهرين، تنزع المواطنة عنهم فتنبذهم من الاجتماع السياسي. ماذا يعني ذلك غير إلغاء مبرر وجودهم وتسويغ الدم المراق؟

لكن على عكس المتوقع، أو المشتهى من السلطات، فإن ذلك يصعّد من مطالب المتظاهرين إلى نهاية ليست في آخر الأمر غير نهاية النظام نفسه. والحال أن هذا السلوك القمعي لا يندرج إلا ضمن أشكال الازدراء المنظمة، التي تؤدي إلى “الصراع من أجل الاعتراف”، كما يرى الفيلسوف الألماني أكسل هونيث، أبرز ممثلي الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت. من دون مبدأ الاعتراف، لا يمكن بحسب الفيلسوف التخفيف من الظلم الاجتماعي والسياسي واللامساواة والأمراض الاجتماعية.

عليه، فإننا نجد بين ما يحدث عندنا وما يعرضه هونيث من أشكال للازدراء، تطابقاً مفارقاً. أول هذه الأشكال: العنف الفيزيائي الذي يحرم فيه المرء من التصرف الحر في جسده، مما يقوض علاقته بذاته ويفقده الإحساس بواقعه الخاص والثقة بالنفس. أما الشكل الثاني فهو المتعلق بأنماط الازدراء “التي تكون فيها الذات ضحية وهذا عندما تجد نفسها على المستوى البنيوي محرومة من بعض الحقوق داخل المجتمع الذي تنتمي إليه”. هذا الحرمان يدفع الفرد إلى الشعور بأنه لا يحظى بمكانة الشريك المتفاعل ذي المسؤولية الأخلاقية. الشكل الأخير مرتبط بالحكم السلبي على القيم الاجتماعية لبعض الأفراد والجماعات.

غني عن البيان أن الأشكال الثلاثة السالفة تشير إلى تعرض ذوات الأفراد للتبخيس والتقليل من “تقديرهم الاجتماعي”.

يشير هونيث في كتابه “صرع من أجل الاعتراف” إلى ثلاثة نماذج معيارية متميزة للاعتراف، تمكّن الأفراد من تحقيق ذواتهم وهويتهم والشعور بقيمتهم ومكانتهم الاجتماعية. أول هذه المعايير هو الحب (أو الاعتراف على المستوى العاطفي) الذي يعرّفه هونيث بأنه “مجموعة العلاقات الأولية الإيروسية والأسرية بالإضافة إلى علاقات الصداقة الموجودة بين الناس” ويجعل الفرد يثق بنفسه غير المنفصلة عن جسده. المعيار الثاني مرتبط بمفهوم الحق والعلاقات القانونية التي تسمح بتعميم وسيط الاعتراف من خلال اتجاهين أساسيين هما: أولاً التعيين (أي تحديد مضامين الحق المادية) وثانياً توسيع مجال الحقوق (أي منح المهمشين والمحرومين حقوقهم). المعيار الثالث هو التضامن الذي يؤمّن بدوره الاعتراف المتبادل بين أفراد المجتمع.

هكذا، يضيف هونيث، من خلال هذه النماذج الثلاثة من الاعتراف، أي الحب والحق والتضامن، يتم تحديد الشروط الشكلية لعلاقات التفاعل التي يضمن فيها الأفراد “كرامتهم” و”تماميتهم”. أعني بالتمامية، إدراك الذات بتأييد الغير لها ضمن شبكة علاقتها العملية مع ذاتها، وقدرتها على المشاركة في عالم المعيش الاجتماعي الذي يمكن أن يتضمن نماذج الاعتراف الثلاثة بصورة ملموسة، بحيث تستطيع أن ترجع إلى نفسها من خلال الكيفيات الايجابية للثقة بالنفس واحترام الذات وتقديرها.

تبنّي هذا المدخل النظري يسمح لنا بتفسير أحوال العرب في أيامنا الراهنة. ذلك أن ما اصطلح على تسميته باللحظة التأسيسية الرمزية الأولى لربيع العرب، أي إشعال الشاب التونسي محمد بوعزيزي النار بجسده، ومن دون تبجيل مريب لقتل الذات -كما شاع بين ظهرانينا-، لا يشي إلا بما وصل إليه “الفرد” في الاجتماع العربي من انغلاق في الأفق نتيجة القهر والمهانة. فالمسألة مرتبطة بالاعتراف بوجود الفرد، الذي يعني الإقرار بحقوقه المادية والمعنوية، بما تنطوي عليه من تحمل للمسؤولية وحفظ للكرامة واحترام الذات. وهذه لا يطالب بها سوى وعي حداثي يقدّر معنى وجوده ودوره ومسؤوليته في اجتماع سياسي مفتوح ومقونن في الآن عينه. وليس قليل الدلالة، ضمن السياق نفسه، أن الكيل أول ما طفح، طفح في تونس.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى