صفحات الرأي

الغرب في الثورات العربية… بعيون شرقية


حسن عبّاس

لم تكن علاقتنا بالغرب يوماً عقلانية، أقلّه من ناحيتنا نحن كشرقيين أو كشعوب تمرّ علاقتنا معه بكثير من المتاهات نضيع فيها، أو حتى يضيّعنا الغرب فيها. ليس غريباً أن تعود هذه العلاقة إلى الواجهة مع بدء انتفاضات بعض الشعوب العربية على حكّامها، مَن كان يعتبرهم الشرقيون رعايا مصالح الدول الغربية، في ربوعنا.

الغرب الذي نتوجّه إليه أو نحاكمه هو أقرب ما يكون غرباً متخيَّلاً لا وجود له إلا في مكنوناتنا نحن كشرقيين، تماماً كما يتوجه الغرب إلى شرق هو مَن اختلق صورته في ذهنه، وتماماً كما تكون كل أفكارنا عن الأشياء أفكاراً مختلقة، ترتكز على بعض الأمور التي يحلو لنا أن نسمّيها واقعية لكننا نعود ونضيّع صلتها بواقع الأشياء في لعنة التأطير الساعي إلى وضع حدود للأفكار، حدود نخطّها بعقل ديني بحيث لا يمكننا أن نجمع الجميل والقبيح في مفهوم واحد، كما لا يمكننا أن نضع جنباً إلى جنب في الكيان الواحد النافع والضار، أو ما يجب أن نتجنّبه وما يجب أن نسعى إليه.

الغرب صنعناه، كمفهوم، في بداية القرن الماضي، من أجل مؤازرتنا. يمم البعض شطر الغرب الألماني وآخرون شطر الغرب البريطاني وثالثون شطر الغرب الفرنسي. لكننا عدنا وخفنا لأنه يمكنه أن يتمرّد على رغباتنا، فوصمناه بالمسخ وأحللنا عليه لعناتنا ووزر أحلامنا التي لا تجد منفذاً لها إلى التحقق.

الغرب في توقنا إليه هو غرب نريد منه أن يحصر نفسه في ثلّة من الأفكار والسلوكيات، لا لشيء إلا لأننا قررنا أن نسبغها عليه! إن تخطّاها، وهذا من طبيعة الأمور لأن أي شيء لا يمكنه أن يكون عصفوراً في قفص توهماتنا، لعنّاه، وإن أتت بعض أفكاره وتصرّفاته متوافقة مع ما أسقطناه عليه، هللنا له وحاولنا بزّ من تتعارض مصالحنا معه من إخواننا في أوطاننا أو في شرقنا بحليفنا الغرب الذي نكذب في علاقتنا به حتى عندما نعتبره حليفنا.

الغرب… حليفنا التكتيكي

ليس ما هو أسهل من توضيح الفرضيات التي وضعناها في السابق من هذا النص، من خلال خلاصات علقت في أذهاننا، في الذاكرة القريبة للأحداث في منطقة الشرق الأوسط.

في العراق، في الفترة السابقة مباشرة على حرب تحريره من طاغيته صدّام حسين، كانت معظم القوى السياسية العراقية، ومعها مؤيدوها وأتباعها، تحتار في انتقاء الكلام الذي يعبّر عن عمق توافقها مع الغرب ومع المُثل الغربية، وفي مقدمها التزامه الديموقراطية والتداول السلمي للسلطة. استمر الوضع على ما هو عليه طالما استمر الغرب المجسّد في العراق بتحالف دولي ترأسه الولايات المتحدة الأميركية، مسيطراً على أواليات الوصول إلى السلطة. ثم فجأةً اختلف الوضع كلياً وانكفأ مديح الغرب في خطاب التيارات السياسية العراقية، وانكفأ بشكل أكبر في نظرة العامة إلى الغرب حتى في أوساط الفئات التي لا تزال تمحض تأييدها للتيارات السياسية المقرّبة منه.

في سوريا المفارقة نفسها بادية على مستوى خطاب النظام السوري الذي يتطرق إلى العلاقة بالغرب. كيف ذلك؟ النظام السوري الآن، وفي غمرة المأزق الذي يحياه، وقبله بفترة لا بأس بها، يُصدر خطاباً معادياً لكثير من المصطلحات التي تحيل تواضعاً، بحسب منطق مصطلحاته التي يستخدمها، على الغرب. أحياناً يشير إلى بعض الدول الغربية بالإسم، وأحياناً يفضّل الإشارة إليها تلميحاً. النظام السوري أزال كلامياً القارة الأوروبية عن خريطة اليابسة في أعنف اعتراضاته على العلاقة التي تجمعه بالغرب! لكن النظام السوري كان ولا يزال يرفض الدخول في مفاوضات سلام مع اسرائيل إن لم توفّر الولايات المتحدة الأميركية رعاية جدّية لهذه المفاوضات. هكذا. الغرب الذي يرفضه النظام السوري هو نفسه الغرب الذي لا يمكن النظام تصوّر مفاوضات تتم بغير رعايته المباشرة!

التناقضات نفسها تكتنف علاقة المنتفضين السوريين بالغرب. رأينا عيّنة من هؤلاء المنتفضين ترشّ الورد على سيارات السفير الأميركي في سوريا، ورأينا بعض المتحمسين من “قيادات” الانتفاضة السورية يدعون الغرب للتدخل عسكرياً من أجل وضع حدّ لسياسات النظام السوري التسلطي الدموية. كل هذا رأيناه، وقريباً سنرى ما لم يظهر إلى الآن. فلننتظر سقوط النظام السوري القريب. سنرى الحمويين الذين هللوا لزيارة السفير فورد يتظاهرون ضد الغرب، أكان الغرب سيتجسّد في كاريكاتور في صحيفة في دولة قائمة على جنبات الغرب أم كان متمثلاً في غارة تُشنّ على بعض معاقل “طالبان”.

كما في سوريا كذلك في ليبيا. كل الرايات التي رُفعت في بنغازي ترحيباً بحلف شمال الأطلسي وبالولايات المتحدة وفرنسا وايطاليا وغيرها، سترتفع مكانها بعد وقت ليس بطويل رايات تنافح عن الإسلام العظيم والمسلمين الشرفاء الذين يتعرضون لعدوان الغرب.

القوة المحضة المستحضرة

لفهم علاقة الشرقيين الملتبسة مع الغرب، التي يتجلى أحد أوجهها في الامتعاض منه، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، ويتجلى وجهها الآخر في اقتناع راسخ، يظهر في بعض السياقات ويستتر في أخرى، مفاده عدم إمكان تصوّر السياسة وبشكل خاص الدولية منها من دون التوافق مع الغرب، ولا سيما واشنطن، لا بد من طرح فرضيات قادرة على جمع هذه التناقضات التي تكتنف علاقتنا بهذا الغرب.

الغرب يُستحضر في الشرق على مستويين: المستوى الأول، مرذول عموماً، هو مستوى القيم الغربية التي يرفضها الشرقيون، وسنعود في الآتي إلى هذه النقطة. أما المستوى الأهم والقادر على تفسير التناقضات التي أشرنا إليها فهو المستوى الذي يُستحضر الغرب فيه كقوة محضة، كقوة ترجح فريقاً على آخر. هنا نتحدث عن فرقاء في الدولة نفسها، أو كحدّ أبعد في دولتين متجاورتين أثناء اندلاع بعض النزاعات الدولية. وإن كان كلا المستويين متداخلين فسنقتصر في حديثنا على مستوى الفرقاء المتنازعين داخل حدود دولة ما.

عادةً ما يَستحضر الغرب إلى سياسات الدول الشرق أوسطية “الداخلية” الفريق الأضعف ضمن توازنات القوى في هذه الدولة. هكذا كان الأمر في العراق وبعده في ليبيا وهكذا هو الآن في سوريا. ولكن ما إن تتغيّر التوازنات الداخلية داخل الدولة المعنيّة حتى يتخلّى الفريق المتغلّب، بالدعم الغربي، عن وزن الغرب، مفضلاً الإنفراد في صنع السياسات، وخصوصاً تلك التي تُصاغ على أساس مُثل وتتعلق بطريقة تسلم مقاليد الحكم وإدارة السلطة داخلياً. في هذه المرحلة تعود رطانة الغرب المختلف بقيمه عن الشرق إلى الواجهة، ويعود الحديث الممجوج، وهو صحيح، عن الغرب الذي يكيل بمكيالين… على رغم أن الإسلام، رافد الثقافة العربية والإسلامية الأساسي، يدعو كل بشري إلى النظر في مكاييله الخاصة وموازينه الخاصة لأنها هي التي تخفّ وهي التي تثقل، وبموجب هذه الموازين يكون الحساب في يوم الحساب.

السبب الأساسي في هذا الاستحضار يعود إلى غياب المناعة الوطنية داخل الدول الشرق أوسطية المتشكلة حديثاً كدول وطنية (دول قومية)، وإلى الانقسامات الوطنية الحادة داخل هذه الدول وخصوصاً تلك التي تتنوّع مجتمعاتها قومياً و/أو دينياً ومذهبياً و/أو قبلياً. أما السبب الأساسي في عدم إنشاء علاقات وطيدة وثابتة مع الغرب فيعود إلى ربحية الاستثمار في مهاجمة الغرب، التي تدفع بالأطراف الأضعف في تحالف سلطوي ناشئ بدعم غربي إلى المزايدة على حلفائهم في موضوع العداء مع الغرب وقيمه وسياساته الدولية من أجل توسيع قواعدها الانتخابية في مجتمعات اعتادت القدح بالغرب، فارضةً بسلوكها المستجدّ توازنات جديدة على الأرض تعيد خلط أوراق العلاقة به وبدوله.

طبعاً، الأمر ليس بهذه البساطة الملخصة في الفرضية التي وضعناها، فأحياناً يكون للدول الغربية حلفاء ضمن الفريق السلطوي وليس كلّ هذا الفريق، وسيقول قائل إن الغرب لا يُستدعى بل يتدخل من تلقاء نفسه بحثاً عن مصالحه، وللإجابة عن ذلك نقول: طبعاً الغرب يبحث عن مصالحه، لكن انقساماتنا الوطنية هي سبب استحضار الغرب، فلم تشنّ أيّ دولة غربية حرباً على دولة عربية موحّدة في الزمن المعاصر.

الغرب حدّ الشيء

في معجم “مقاييس اللغة” نقرأ: “الغَرْب حَدُّ الشّيء. يقال: هذا غَرْبُ السَّيف”. وفي معجم “لسان العرب” نقرأ: “الغَرْبُ حَدُّ كلِّ شيء، وغَرْبُ كلِّ شيءٍ حَدُّه؛ وكذلك غُرابه”. وفي “لسان العرب” أيضاً نقلاً عن ابن سيده أن “الغَرْبُ خِلافُ الشَّرْق، وهو المَغْرِبُ”، وعن الأُمَوِيُّ أن أصل الكلمة “فيما نُرَى من الغَرْبِ، وهو البُعْد”.

الغرب هو إذاً، في ثقافتنا العربية، حدّنا. في علاقتنا بالغرب شيء من الكره الناتج من توق إلى الغربنة. وفيه أيضاً ثقافة تعتبر أن كل ما أنجزه الغرب في حضارته الحديثة لا يعدو كونه سرقة منّا تمّت في زمن الاستعمار، وعليه، ليس علينا اللحاق بالغرب بل انتظار أن يعيد السارق إلينا ما كان قد غنمه!

التدخّل الغربي الذي نقبل به، يكون قسطاً استرجعناه من سرقته الكبرى! فلا منّة له علينا! في رأينا، ليس للغرب أن تكون له خطط ومصالح (ما نسمّيه إمعاناً في مجّ العبارات “أجندات”). عليه أن يكون هلامياً نشكّله كما نريد وحينما نريد! لعلّ في ذلك (برغم أنه صحيح فلكل دولة منظمة بطريقة عقلانية إدراك لمصالحها وخطط لتحقيقها) اتهاماً نخفي خلفه عدم قدرتنا على التخطيط وعدم قدرتنا على التمييز بين ما يفيدنا وما لا يفيدنا.

شرقنا ليس كلّه شرقاً. فيه من الشرق “خلاف الغرب” (والشرق مفهوم غربي يصوّرنا على صورة ما) وفيه من الغرب “البعيد” (ونفهم نحن الغرب كشرقيين). وشرقنا ليس كلّه سحراً شرقياً يجذب الرحّالة الغربيين، فشرقنا ايضاً هو التسلّط والانتقام والدموية وعدم تقبل الاختلاف… والكيل بمكيالين لا بل بمكاييل من كلّ الأحجام والأشكال. الشرق هو عدم احترام التحالفات، هو حضارة لم تشهد في تاريخها تحالفات إلا بمعنى التحالفات الهادفة إلى حماية الثغور، حتى لو وصل حماة الثغور إلى قلب حاضرة الخلافة. يتساءل الأميركيون منذ عملية 11 ايلول الإرهابية: لماذا يكرهوننا؟ لماذا لا نتساءل نحن: لماذا نكره أنفسنا؟!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى