صفحات العالم

التقرير والمقابلة


حسام عيتاني

إذا وُضع تقرير منظمة «هيومان رايتس ووتش» إلى جانب مقابلة الرئيس بشار الأسد التلفزيونية، لأمكن عبر المقارنة، تشخيص بعض من أعمق علل المجتمعات العربية وسياسات الأنظمة التي تحكمها.

من جهة، نرى القمع العاري المجنون الذي تمارسه طغمة مسلحة ضد متظاهرين مدنيين. نقرأ شهادات الحراس والجنود الذين تولوا ضرب المعتقلين وسرقة البيوت في القرى المنتفضة. نسمع قصص الضباط المنشقين الذين لم يستطيعوا سوى تنفيذ أوامر قادتهم بفتح النار وإنهاء الاحتجاجات «بأي طريقة» (وهي العبارة التي استخدمت عنواناً للترجمة العربية للتقرير). نرتعد خوفاً لشهادات الجنود الذين راقبوا الأطباء والممرضات يعذبون المعتقلين المصابين. نندهش لقصة إعدام المجند يوسف برصاص زميله القناص بسبب تعمد المجند إطلاق الرصاص في الهواء وليس على رؤوس المتظاهرين في دوما، محاولاً التهرب من أوامر السفاحين.

لقد تلقى المجندون والضباط، وفق الشهادات، تطمينات رؤسائهم إلى أنهم لن يُحاسبوا لا على تبديد الذخائر ولا على تبديد الأرواح. «أقتل ولك تحياتي»، كان يقول لسان حال الضباط الذين أورد تقرير المنظمة الدولية أسماءهم ورتبهم. 74 مجرم حرب أضيفت أعمالهم التي يندى لها الجبين إلى اللوائح السابقة التي تضم عتاة القتلة في الأجهزة القمعية المختلفة.

في مقابل هذه الصورة الكالحة السواد، يريدنا الرئيس السوري في مقابلته مع شبكة «أي بي سي» تصديق أن «الجهات المختصة» لا تقطع خيطاً إلا بالاستناد إلى مواد القانون والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، رغم إقراره أن سورية «ليست بلداً ديموقراطياً» وأن «أخطاء فردية» ربما تكون قد وقعت أثناء التصدي لـ «العصابات المسلحة». ومع أن القانون السوري الحالي ليس آية في التسامح أو العدالة، قبل وبعد رفع حال الطوارئ، إلا أن المواطن السوري العادي يعلم أين يقع القانون في أولويات الأجهزة المتنفذة.

يريد النظام في دمشق إقناع العالم، قبل مواطنيه، بالتزامه حسن السير والسلوك وأن أكثرية الضحايا وقعوا بنيران المجموعات السلفية المؤتمرة بأوامر الخارج المتآمر. فالنظام الذي اعتاد إلى حدود الإدمان احتقار السوريين والتعامل معهم ككمٍ مهمل، لا يماري في سعيه إلى سحق كل معارضيه جسدياً وسياسياً، لكنه يخشى من ردود فعل الخارج، وهو ذات الخارج الذي يتهمه النظام ليل نهار بالتآمر عليه.

دعونا من التناقضات الساذجة التي يوقع النظام ومستشاروه أنفسهم فيها، ولننظر إلى ما يتجاوز الصورة المزدوجة أو بالأحرى المصابة بالفصام التي يريد الحكم تقديمها إلى الداخل والخارج: القاتل في نظر معارضيه والضحية أمام العالم. يتعين التأكيد أن نظاماً يتبنى لغتين وخطابين، لا يتمتع بثقة كافية بالنفس ناهيك عن انعدام الثقة ببقائه في موقعه إذا تخلى عن توسل القمع والقهر في تعامله مع مواطنيه.

وما من قارئ للتقرير ومشاهد للمقابلة، يستطيع تكذيب الأول والاعتراف بصحة ما ورد في الثانية. ويفتح ذلك أمام الجمهور العربي باباً واسعاً للتساؤل عن صدق سلطاته في كل ما تقول وتعلن واعتبار كذبها ومراوغتها الحقيقة وطمسها والهروب منها، هي الأساليب المعتمدة قاعدةً عند السلطات الحاكمة.

يكفي السلوك هذا، لتصور الحجم الهائل من الأكاذيب التي تنشرها الأنظمة العربية، في سورية وغيرها، منذ عقود طويلة، عن سياساتها وتحالفاتها حتى يطالب السوريون بالتحرر مما باتوا يطلقون عليه، محقين، «الاحتلال الداخلي»، وفق التسمية التي يرددها الرئيس التونسي الجديد المنصف المرزوقي.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى