ابراهيم حميديصفحات مميزة

القطار الأميركي «يندسّ» في سورية والنظام قلِق من محطته الثانية/ ابراهيم حميدي

 

 

 

قطار التحالف الدولي – العربي انطلق. السكة متعرجة. وضوح في المحطة الاولى في العراق. الوضوح ليس نفسه في محطته الثانية في سورية. في غرفة القيادة، لا تطابق بين الاطراف على الوجهة الاخيرة. اميركا اطلقت القطار. منهم من دخله ومنهم من ينتظر. ومنهم من يبدل تبديلاً. الرئيس باراك اوباما شغّل المحركات. ليس اكيداً انه هو من سيطفئها.

العنوان الوحيد المتفق عليه «هزيمة» تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) في العراق وسورية. عدا ذلك، تختلف الاطراف المتحالفة او تتناقض في نظرتها. كان صعباً ان تدخل «ايران الشيعية» علناً في تحالف ضد تنظيم «سنّي متطرف». لكنها فتحت الباب للتحالف كي يتلمس خطواته بإزاحة نوري المالكي وضم السنّة الى «حكومة توافقية» برئاسة حيدر العبادي. دخلت ايران من الباب الخلفي. لم يحصل التحالف على قرار من مجلس الامن. استند الى القرار ٢١٧٠ الخاص بمحاربة «داعش» و «جبهة النصرة». شرعية التدخل جاءت من حكومة حيدر العبادي. من بغداد عبر بوابة طهران وليس البوابة الروسية. طلبت الحكومة العراقية من المجتمع الدولي مساعدتها في «محاربة الارهاب» في العراق وضرب «ملاذاته الآمنة» في اي مكان من دون ذكر سورية بالإسم.

طهران تريد ان يحقق التحالف «اعادة تأهيل» النظام السوري… مثلما نقل اخراج الملف الكيماوي المعادلة من «تغيير النظام» الى قبول بقائه حتى الانتخابات الرئاسية في منتصف العام الحالي. هناك أمل وعمل في طهران وموسكو ودمشق في ان يطوي قتال «داعش» صفحة اضافية في كتاب «استعادة الشرعية». كما تريد طهران شراكة في النظام الاقليمي الجاري صوغه.

عارض آخرون ركوب النظام السوري علناً قطار محاربة الارهاب. اشترط بعض الدول «ألا يكون النظام شريكاً في محاربة الارهاب» للانضمام الى التحالف. بعض الدول يريد ان يكون هدف التحالف في محطته التالية اخراج الرئيس بشار الأسد من الحكم. حصلت دول عربية على ضمانات خطية: النظام ليس شريكاً ولن يُسمح له بملء الفراغ بعد دحر «داعش». وقد تمسكت هذه الدول بضمانات خطية من واشنطن «خشية» ان يغير اوباما رأيه في منتصف الطريق، كما حصل العام الماضي بعد تراجعه عن توجيه ضربات جوية الى «مراكز النظام» بعد مجزرتي غوطتي دمشق. تمسكت ايضاً بإقرار برنامج علني لتدريب المعارضة السورية وإقرار الكونغرس بتخصيص نصف بليون دولار أميركي لهذا الغرض.

الرئيس التركي رجب طيب اردوغان استثمر في التغيير في سورية وخيبه اوباما اكثر من مرة. اختار اردوغان ألا تركب بلاده في القطار قبل ان تعرف سلفاً المحطة النهائية، قبل ان يُجرى الاتفاق على المحطات بطريقة ملزمة لا تراجع فيها. ومعلوم أن أنقرة تريد تعجيل الوصول إلى المحطة الأخيرة: تغيير النظام السوري ورئيسه.

لم تقتنع انقرة بما قيل من ان «قواعد الاشتباك» لدى تحليق مقاتلات التحالف شمال سورية تفرض حظر طيران كأمر واقع. هي تطرح اقامة «منطقة آمنة» تحت غطاء من الحظر الجوي عبر تشغيل صواريخ حلف شمال الاطلسي (ناتو) في جنوب تركيا لتغطية شمال سورية. وتقول: «لا بد من تأسيس منطقة آمنة للاجئين السوريين باعتبار ان الحرب على «داعش» ستضيف مئات الآلاف الى اكثر من مليون ونصف المليون سوري. وهي لم تمانع رؤية «داعش» والاكراد خصومها يتقاتلون على الطرف الآخر من حدودها. وطلبت «حوافز» ومكاسب استراتيجية قبل سماحها بوجود معسكرات لتدريب المعارضة السورية واتخاذ اجراءات اضافية ضد الجهاديين. تبحث انقرة عن التزام غربي من «ناتو» يلجم التحذير الذي تبلغته من طهران بعدم اتخاذ «اي اجراء يعقّد» اوضاع المنطقة. التزام يفعّل تطبيق التزام «الأطلسي» بـ «حماية حدود» الحلف الجنوبية. وما يجري في عين العرب (كوباني) الكردية نموذج لشد الحبل الاقليمي – الدولي.

الخطة تزحف… وتتسلل

«Mission Creep»، هو التوصيف الذي يجرى تداوله في الاروقة الديبلوماسية الخلفية لاستراتيجية أوباما. «مهمة اندساسية» تتسلل وتزحف وتتوسع بهدوء وتأنٍ. التحالف يتوسع لجهة الدول الغربية والعربية التي تنضم إليه. الغارات الجوية تتوسع في الرقعة الجغرافية. وتتوسع ايضاً في الاهداف السياسية. وتزحف بهدوء ضمن ألغام الرأي العام المحلي في اميركا والدول الغربية الذي كان رافضاً التدخل في الشرق الاوسط بعد حربي العراق وأفغانستان. الآن، هناك تفويض برلماني لمحاربة «داعش» في العراق. والدعم الشعبي يزداد بعد قطع التنظيم رؤوس رهائن.

مهمة «تندس» وتبحر بين الألغام والاجندات المختلفة او المتصارعة بين الفرقاء المعنيين. تختار اللحظة في التقدم وحدوده او التراجع. ترسل اشارات مطمئنة الى كل طرف. لا تترك له خياراً إلا ان يطمئن، لكنه يبقى قلقاً. استفادت واشنطن من لحظة فارقة في المنطقة. «داعش» عدو جميع الفرقاء. لا بأس في البحث عن تقاطعات. من هنا تولى وزير الخارجية جون كيري مهمة صوغ التحالف وحدوده.

اختارت واشنطن لحظة تغميس النظام السوري والموالين له في الدم بعد انغماسه فيه وحصول شقوق في القاعدة السياسية والطائفية. بعد قطع «داعش» رؤوس ضباطه وجنوده في المواقع العسكرية في الرقة في شمال شرقي البلاد، كانت لحظة خوف وقلق لدى موالين. قدمت المقاتلات الاميركية نفسها على انها المنقذ والحامي من وحش «داعش». وكانت رسالة واشنطن الى النظام عبر بغداد: القصف لن يستهدف مواقع النظام. الضربات تستهدف فقط مواقع «داعش» في شمال شرقي البلاد. لكن، ممنوع اعتراض اي مقاتلة للتحالف. أغلقوا الرادارات. أوقفوا مضادات الجو. لن تتسامح واشنطن مع اي استفزاز. ايضاً، ممنوع ملء الفراغ الذي يمكن ان يتركه تقهقر «داعش» في الزاوية التركية – العراقية – السورية.

تناقضت تصريحات المسؤولين السوريين بين «ترحيب» بأي قتال لـ «داعش» من اي جهة، و «أي جهد دولي لمحاربة الارهاب»، ثم التلويح بـ «الرد على اي عدوان» قبل اعتبار أن الغارات «تسير في الاتجاه الصحيح». القطار يسير في الاتجاه الصحيح. أكيد؟

ارتاح مسؤولو النظام موقتاً الى هذه المعادلة. بعدما كان الخطاب معلقاً بعباءة «السيادة»، بات الحديث عن «تنسيق» بين دمشق والاميركيين. الرد على «اي عدوان» فقط يتعلق حالياً في حال تدخُّل اردوغان «العثماني». غير ذلك، فإن الوكالة السورية للأنباء الرسمية (سانا) باتت تسبق بيانات القيادة الوسطى في الجيش الاميركي في الاعلان عن الضربات التي تقوم بها مقاتلات التحالف ضد «داعش» في سورية. بيانات تتعامل مع غارات الجيش الاميركي بسرعة لم يعهدها السوريون المعارضون في التعامل مع غارات طائراتهم. ولم يعرفها الموالون في بث أخبار آبائهم وأبنائهم ليلة ذبحهم في الرقة. اما الآن، فكأن الجانب السوري الرسمي موجود في غرفة عمليات التحالف.

سارع مسؤولون إلى عقد لقاءات وندوات للموالين لشرح طريقة الانتقال من التعامل مع واشنطن على انها رأس الحربة في «المؤامرة الكونية» الى انها «المنقذ»… ومن اعتبار بعض اطراف التحالف «جزءاً لا يتجزأ من المؤامرة» الى غض الطرف عن وجود مقاتلاتهم في الأجواء السورية. ووفق تعميم من حزب «البعث» الحاكم الى اعضائه: كان «الخيار بين ما هو سيئ وما هو اقل سوءاً». لكن سورية «لا يمكن ان تكون بضاعة في سوق النخاسة السياسية الدولية»، مع تأكيد أن «اي تحركات» (مباركة الغارات الاميركية على سورية) تكون سورية طرفاً فيها مبنية على «الموافقة السورية وعلى السيادة حتى لو كان القبول يأتي في اطار الضرورات القصوى».

نار قلقة

تحت الجهد الكبير الجاري لطمأنة النفس، نار قلقة من هذه الخطة «الاندساسية» الاميركية. قلق من التزامها الطويل في السنوات. قلق من التأني في الضربات. بضع غارات يومية. قلق من كونها ليست «ضربات مكثفة ساحقة» تنفَّذ خلال ايام. قلق من وصفة سياسية تطبخ على نار هادئة لها علاقة بنظام اقليمي جديد في الشرق الاوسط وسورية. قلق من فشل هذه الاستراتيجية في «تحجيم» التنظيم. قلق من المراجعة التي يجريها الأن القادة العسكريون للتحالف في واشنطن.

المعلن في هذه الاستراتيجية، انها ترمي الى «تحجيم» التنظيم في العراق وسورية. في العراق، تطلّب الأمر التخلي عن المالكي وإدخال السنّة في الحكومة ودعم البيشمركة الكردية. وثمة تنسيق عملياتي بين القوات العراقية والكردية وطائرات التحالف. في سورية، يتطلب الأمر تدريب نحو ١٥ ألف مقاتل سوري خلال ثلاث سنوات لـ «ملء الفراغ». ثلاث سنوات تنقل الملف من «المتردد» اوباما المأخوذ بالوضع الداخلي والمنسحب من الشرق الاوسط الى رئيس جديد في البيت الابيض. في غضون ذلك، تقوم طائرات التحالف بالاستطلاع والقصف والتمدد في عملياتها في الشريط الحدودي السوري – التركي. غالباً ما تبدأ الدول رحلة الوصول الى الأجواء السورية من البوابة العراقية. تبدأ من طلعات استطلاع في شمال العراق ثم «التسلل» الى المشاركة بغارات: استطلاع، مقاتلات، مروحيات. لا قوات برّية بعد.

قلق النظام من المرحلة الثانية وما بعدها. عندما ينتهي التحالف من ضرب المواقع الرئيسة لـ «داعش»، وعندما تفشل الضربات في «تحجيم» هذا التنظيم، وتصل واشنطن إلى اقتناع بأن لا بد من البدء بالحل السياسي لمحاربة الارهاب، فلا بد من تسريع القطار على سكّته.

أميركا في التزام لسنوات. انخراط او تورط لسنوات. وزير الدفاع السابق ليون بانيتا تحدث عن ثلاثين سنة. تحالف من نوع جديد، اهدافه مطاطة، غاراته متأنية. الضربات كانت تضرب في شمال شرقي البلاد فيما كان «داعش» يضرب الأكراد في ريف حلب شمال سورية. ايضاً، كانت قوات النظام تقاتل المعارضة في حلب. طائراته كانت تقصف في شمال غربي البلاد. درعا في جنوب البلاد، لا تزال خارج التغطية.

«لا يخامرني شك في المحطة الاخيرة التي سيصل اليها قطار التحالف في سورية»، قال مسؤول غربي. اضاف: «الحل سياسي مستنيراً بالنموذج العراقي». يقولون انهم متفقون مع واشنطن على الوجهة الاخيرة للقطار. حكومة تمثيلية توافقية تضمن مشاركة كل المكونات الطائفية والعرقية. لا مشكلة في الهدف النهائي. «المشكلة» عند بعض المسؤولين وحلفاء واشنطن، في بطء العملية في سورية ومدتها الطويلة. يسعون الى «تسريع العملية» و «توسيعها». المشكلة ايضاً، ان كثيراً من الامور التي كانت دول غربية في السنوات الثلاث ونصف السنة الماضية، على ثقة بها و «أيامها المعدودة»، كانت هناك آمال غير مدعومة بأعمال توازي ما يقوم به لاعبون آخرون في الاقليم يرون فيها «معركة بقاء».

يراهن بعض الدول المتحالفة مع واشنطن على ان الاميركيين سينخرطون اكثر فأكثر. هذه المرحلة وزارة الدفاع الاميركية منخرطة علناً. الكونغرس اقر العملية ودعم المعارضة. لم تعد سرية وعرضة للانسحاب والتردد.

أجندات المتحالفين متناقضة. أولوياتهم غير متطابقة. غموض المراحل التالية في مهمة التحالف دفع شهية الاطراف لتدوير زوايا الاهداف ودفع آخرين الى الحذر. وثمة اسئلة كثيرة لا تزال من دون أجوبة: ماذا يحصل لو ان القوات النظامية قصفت عناصر من «المعارضة المعتدلة» بعد عودتها من برنامج تدريب اميركي في آخر السنة؟ ماذا يحصل لو ان الجانب السوري اسقط طائرة اميركية او للتحالف؟ لو ان القوات الحكومية «ملأت الفراغ» بعد تقهقر «داعش»؟ لو ان المتحالفين اكتشفوا ان الطيران السوري ضاعف غاراته في الأيام الأخيرة؟ اذا حاصرت القوات النظامية حلب شمالاً؟ ماذا يفعل اعضاء التحالف اذا سحبت حكومة حيدر العبادي الطلب الذي قدمه لمساعدة العراق في قتال «داعش» في العراق وضرب «ملاذاته الآمنة»؟ ماذا يحصل عندما تكتشف الدول الحليفة ان قرارها «رهينة» في يد طهران؟ اين المناطق الواقعة بين درعا ودمشق في جنوب سورية من كل ذلك؟ وماذا عن «جبهة» الجولان وإسرائيل؟

* صحافي سوري من أسرة «الحياة»

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى