صفحات الرأي

كتاب: نـقـد الـعـقـلانـيـة الـعـربـيـة


كرم الحلو

تميّز الفكر العربي المعاصر بمراجعاته النقدية لاشكاليات الامة والدولة والـدين والتراث والحداثة والتأخر التاريخي من اجل بناء رؤية جديدة للعالم تحول العرب من التقابل السلبي الى التفاعل الايجابي مع الذات والآخر، الا ان التفكير العقلاني النقدي الناظم لهذه المراجعات لا يعني وجود تصور موحّد للعقلانية.

من هذا المنطلق يراهن يوسف بن عدي في «قراءات في التجارب الفكرية العربية المعاصرة» «الشبكة العربية للابحاث والنشر 2011»، على رصد طرق اشتغال العقلانية النقدية لدى بعض التجارب الفكرية العربية المعاصرة من خلال نصوص واعمال مفكرين عرب معاصرين ومقاربة التيار العقلاني النقدي في تعبيراته المختلفة.

رصد المؤلف الموقف المعرفي من مسألتي التراث والحداثة في نصوص عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وفهمي جدعان، فذهب الى ان كل ما كتبه العروي ليس الا فصولاً من مؤلف واحد عنوانه «الحداثة». فالحداثة هي بؤرة تفكير هذا المفكر الذي دأب على تحقيق القطيعة المنهجية والنظرية مع التراث كمخزون رومانسي لا بدّ من الخروج من قوقعته والحسم معه اذا أُريد للحاق بحداثة العصر.

على هذا اختار العروي التاريخانية كفلسفة وكمنهج وايديولوجيا لمواجهة الفكر التقليدي المتربع على التراث، والذي ساهم في تعميق موانع التقدم والنهضة العربية. فانبرى الى نقد الايديولوجيات العربية المعاصرة، سلفية وليبرالية وتقنية، اذ كلها نمَّت النزعة الانتقائية والتوفيقية في الفكر العربي، وهي جميعاً تندرج في اطار اشكالية البحث عن الذات من خلال الآخر أي «الغرب»، المحدّد الرئيس لتساؤلاتنا ومشكلاتنا، بينما المفكر العربي الاصلاحي مطالب بالبحث عن امكانات للحلول والاجابات تحوله الى باحث فاعل في التاريخ بدل الانشغال بالبحث عن الحقائق الجاهزة والمطلقة والبقاء في اطار رد الفعل على الغرب.

اما الجابري فيعتبر من المفكرين العرب المعاصرين الذين نادوا بنقد العقل ونظامه المعرفي وتكويناته الايديولوجية والسياسية، معلناً عن انتقال الفكر العربي من سلاح النقد الى نقد السلاح ـ العقل العربي ـ القضية النقدية التي غابت عن ثقافتنا العربية منذ سنوات طويلة. وغني عن البيان ان مشروع نقد العقل العربي الذي اضطلع به الجابري، هو محاولة احداث نقلة نوعية في بنية فكرنا الايديولوجية والذهنية، من العقل الناقد الى نقد العقل بذاته، المنتج للمنتوجات المعرفية والسياسية والاجتماعية، اذ بدون ممارسة هذا النقد سيبقى كل حديث عن النهضة والتقدم والوحدة، حديث اماني واحلام. لكن الجابري لا يتحدث عن نقد العقل العربي الا من داخل التراث نفسه وبوسائله الخاصة وامكاناته الذاتية، ومن خلال عمليتي التملك والتجاوز، بما يمد جسور التواصل مع الحداثة الغربية وافقها الكوني، من دون الانقطاع عن جذور الامة والجماعة والتاريخ العربي.

ويعتبر فهمي جدعان في رأي المؤلف من ابرز الكتاب العرب المعاصرين الذين عملوا على بناء مشروع فكري لنهضة العرب والمسلمين بنقده التجارب الفكرية العربية الحديثة التي يهيمن عليها الطابع الايديولوجي، ودأبوا على تعميق استراتيجيات الوعي والتنوير في حياتنا الفكرية والثقافية، والتوجه الى المستقبل بقدر اعظم من النظام والحكمة والفاعلية والجدوى والاتقان والنزاهة والرؤية الواضحة.

وهكذا اضحى فهمي جدعان من رواد التيار الاسلامي الانساني الحضاري، بعنايته الكبيرة بمشكلات الاسلام التاريخية والحضارية ومحاولة موضعة الاسلام في معرض الحداثة التي اضحت جزءاً من وجودنا. ولعل تلك النزعة الانسانية لدى جدعان، هي الدافع الاساسي في استئناف النظر المفهومي للفكرة الاسلامية والارتقاء بها الى مستوى الحداثة الكونية.

وثمة قراءات تأويلية لمشكلات الفكر العربي والاسلامي تعتمد النقد المنهجي والفكري للاجتماع العربي على جميع الاصعدة الثقافية والسياسية والاقتصادية، عن طريق توظيف مناهج وادوات حديثة تغترف من مرجعيات متنوعة. ولعل مجهودات عبد الاله بلقزيز الفكرية من اهم الحلقات في الكتابة العربية المعاصرة التي ساهمت في ترسيخ مبادئ النقد والمراجعة للتراث العربي والاسلامي بجميع اشكاله الدينية والنهضوية والقومية والماركسية. واكثر ما تمثل ذلك في مراجعة الكاتب لقضايا الوحدة والعروبة والعقلانية والخصوصية والكونية، وفي حضور المنزع النقدي الاصيل في هذه المراجعة، في اطار رؤية منهجية ذات طابع تركيبي جدلي يؤسس تراكماً معرفياً يُخرج الوعي العربي من ثنائياته النهضوية الموروثة. وقد اسهم بلقزيز بمراجعاته للفكر العربي في اعادة بناء مفاهيم الثورة والدولة الوطنية والعلمانية والاسلام والحداثة والعلاقات الشائكة في ما بينها، وكذلك في ابراز نقاط الضعف والقوة في المشاريع العربية الكبرى والحدود الفاصلة بين المعرفي والايديولوجي فيها. كل ذلك من خلال رؤية مفتوحة على الحداثة، من دون مركب نقص تجاه الغرب، وعلى التراث من دون تبجيل.

ومن القراءات التأويلية للفكر العربي قراءة محمد الحداد التي تبحث في نظرية المعرفة بدلاً من المقاربة الايديولوجية التي اسهمت في تغييب دور الفكر النهضوي والاصلاحي العربي في نهضة الامة وتنمية المجتمع. وفي هذا يلتقي الحداد مع الجابري ونصار واومليل وبلقزيز في استثمار التطور الحاصل في المناهج الغربية الحديثة وفي التقليل من الهم الايديولوجي، ما يجعله ينتمي الى التيار العقلاني العربي.

في رأي الحداد ان ازمة الخطاب الاصلاحي العربي تتجلى في ازمة القراءة والتأويل. من هنا جاء طرحه «كيف نقرأ الخطاب العربي المعاصر؟» ليجد الاجابة في اعادة مراجعة التراث النهضوي والاصلاحي مراجعة نقدية تعتمد ادوات التحليل والدراسة من مختلف المرجعيات والخلفيات، وتستفيد مما تحقق من انجازات في مجال اللغويات وتحليل الخطاب. وعليه تشكّل القراءة الجديدة للخطاب الاصلاحي في فكر الحداد اسهاماً في ترسيخ دعائم الفكر التاريخي في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة.

وكذلك تندرج كتابات ومؤلفات رضوان السيد في اطار المراجعات النقدية التي تستلهم المناهج الحديثة في قراءة النصوص، وقد اسهم توظيفها من قبل الكاتب في مقاربة الثقافة العربية الاسلامية مقاربة اكاديمية وعلمية تنأى بها عن الغلو الايديولوجي، بما يدرجها في نطاق التأسيس لمفاهيم الامة والمجتمع والدولة والجماعة، من اجل رؤية منفتحة للعالم تستغرق علاقتنا بالدين والغرب والتاريخ العربي.

على اساس هذا النقد المنهجي قرأ السيد المشاريع الفلسفية والثقافية العربية الراهنة، فوصف كتابات الجابري بالتبسيطية والتصنيفية، واعتبر رؤية حسن حنفي الى الفكر العربي مفتقدةً الدقة المعرفية والتاريخية، ورأى ان لا علاقة لتخطيطات محمد اركون الفكرية بالدراسة الجدية والعميقة للنص القرآني. وامتد النقد المنهجي لديه ليشمل فكر الاستشراق، والفكر الاسلامي الراهن الذي قدم في رأيه فكراً هدمياً وكان حرباً على الثقافة.

نرى اخيراً ان الكتاب وان كان قد قدم تصوراً شاملاً للمشاريع النقدية العقلانية في الفكر العربي المعاصر بمختلف اتجاهاتها، مجدداً البحث في ازمة الفكر الاصلاحي العربي، واهمية الانفتاح في هذا السياق على المناهج الحديثة، الا اننا نأخذ على المؤلف:

أ ـ المبالغة في التكرار والاستعادة وقصور الضبط المنهجي، ما حول الكتاب الى عرض للافكار والاجتهادات تكاد تتلاشى معه الرؤية الايديولوجية الناظمة للمؤلف.

ب ـ كثير من موضوعات الكتاب بل اكثرها أُشبع درساً ومراجعة، ولم يقدم المؤلف في هذا المجال، اضافة ذات شأن الى الفكر النقدي العقلاني العربي الراهن، بل بقي مع بعض التحفّظ دونه، او دون بعضه على الاقل ما يتطلب في رأينا اعادة نظر في المشاريع التأليفية العربية وتجنب التسرع باللجوء الى العرض السلبي للافكار الذي لا يساعد على بناء فكر نقدي عربي اصيل.

يوسف بن عدي، «قراءات في التجارب الفكرية العربية المعاصرة»، الشبكة العربية للابحاث والنشر، 2011، 264 صفحة.

كاتب وأكاديمي ـ لبنان

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى