صفحات الثقافة

الكتابة الساخرة –ثلاثة مقالات-

 

مفسدات الكتابة الساخرة/ محمود منير

يتواطأ الإعلام العربي على الترويج لـ”النكتة” وتسميتها بالكتابة الساخرة؛ مقالات تتناثر في صحف عدة وظيفتها الأساسية تحويل هموم القارئ إلى مادة للضحك العابر والمؤقت والخاطف، من خلال تثبيت السائد الاجتماعي بكل أركانه، والتأكيد على أن أزماتنا طارئة ومحدودة التأثير على نحو يؤهل كتّاباً من الدرجة الرابعة لـ”السخرية” منها يومياً.

يلتفت الراصدون للصحافة الساخرة العربية، منذ تأسيسها في أواخر القرن التاسع عشر، إلى أن ملكيتها إبان الاحتلال التركي ثم الإنجليزي والفرنسي، وبدايات عهد الاستقلال تعود إلى مثقفين أو مهتمين بالأدب والثقافة، وسجلت مواقفها في مناهضة الاستعمار والظلم والفساد، وكان حضورها واسعاً وفاعلاً في التغيرات السياسية، رغم أعمارها القصيرة نتيجة الحجب المتكرر، وميلها إلى بساطة اللغة بل الركاكة أحياناً، واستخدامها المحكية.

أوقفت جميع هذه التجارب في الوطن العربي بشكل مفاجئ، تقريباً، ورغم قوْل مريدي السلطة إن هامش الحرية أدى إلى تراجعها، مقابل رأي معارض يعتقد بأن الاستبداد خنق كل فعل احتجاج، إلا أن الواقع المر يشي بعدم قدرتنا على إنتاج كتابة ساخرة توّسع ذلك “الهامش” المزعوم، أو تحقق حريتنا المنشودة.

عودة تدريجية لهذا النوع من الكتابة من خلال استحداث أعمدة يومية ثابتة في عدد من الصحف العربية، وكان لمصر سبق الريادة، ما يضطرنا إلى عقد مقارنة سريعة بين صحافتين ساخرتين؛ الأولى يملكها أناس حالمون بالتغيير وربما نجحوا في تحريك الساكن، والثانية تملكها السلطة، أو منابر محسوبة عليها، ولعلهم برعوا في تنفيس الحال في سبيل تثبيته على ما هو عليه.

خلل في فهم الكتابة الساخرة أصاب كلا التجربتين، مع فارق يصب لصالح الأولى، كذلك، حيث كان موضوع الكتابة يحتل مكانة رئيسة عندهم، وهو رفض الواقع، مع إشارات تبيّن اطلاعهم على موروث عربي؛ الجاحظ ومقامات الهمذاني، وبعض ما أنتجته الصحافة الغربية، والفرنسية منها تحديداً، بينما تصر الأقلام الساخرة –اليوم- على نسخة رديئة تعتمد “الإفيهات” الجاهزة، وتميل إلى إثارة العواطف بتصنيع مفارقات لفظية أو سطحية، وتغلّب الشعبوية على محتواها، في رغبة لاسترضاء قراء هواة، وعدم إغضاب الأنظمة.

لم تتطور صناعة النكتة والتقفيش طوال عقدين أو ثلاثة ماضية، إذ لا يمكننا استعادة عمودٍ ساخرٍ واحدٍ لعشرات الكتاب “الساخرين” مرة ثانية، باستثناء قلة ممن امتهنوا الصحافة، وتركوا إنتاجاً متفاوت المستوى لأسباب متنوعة، لكنهم امتلكوا منظوراً أو رؤية للكتابة، ومن أبرز هؤلاء: جلال عامر في مصر، وزياد الرحباني في لبنان، ومحمد طمليه ومؤنس الرزاز في الأردن.

الأيديولوجيا أفسدت المشهد، أيضاً، ويحضر زياد الرحباني مثالاً على ذلك عكسته كتابات -ربما كرّسها الاسكتش المسرحي أكثر من المقال- شكلت رؤيا وحدساً لوقائع حصلت لاحقاً، أو أن مقاربته الجذرية لتناقضات المجتمع اللبناني تظل جارحة وصادمة كأنها كتبت للتو، مقابل كتابات لا يمكن قراءتها بمعزل عن المناكفات السياسية التي يشتهر بها لبنان.

طمليه والرزاز ليسا بعيدين عن أثر تلك الأيديولوجيا في مقالاتهما، وإن لم تتصدر انحيازاتهما لطرف أو فريق سياسي كتابتهما، لكنهما لم يحافظا على الجودة ذاتها، واستسلما أحياناً لتفسيرات غير ناضجةٍ في محاكمة الأحداث والظواهر الاجتماعية، وكانا أسيرين في لحظات معينة للدفاع عن لحظة مسروقة في حياتهما، لم يتمكن كلاهما من إقناع المتلقي بها رغم انجذابه لهما.

تبدو الأدلجة أقل لدى جلال عامر، الذي تميزت كتابته بتكثيفها والتخلص من فائض إنشاء أو ثرثرة غلبت في كتابات ساخرة مصرية، لتركيزه على المقولة أو الفكرة التي يطرحها، لكن ميوله القومية حددت مقارباته وأولوياته في الكتابة من زاوية الكرامة والسيادة الوطنية إلى حد بعيد.

السياسة بحماسها المرتبط بالظاهر من الأحداث كان قيداً مضافاً للكتّاب الساخرين، وهو ما يشتركون به مع رسامي الكاريكاتير في الصحافة العربية، فلا تزال هاتان الفئتين تنظر إلى منتجهما بوصفه محرّضاً أو محفزاً صباحياً لجموع المهمشين، غير مدركين أن تحريضهم قد يؤدي إلى نتيجة معاكسة، أو يصب في مصلحة أحد الأفرقاء المتحاربين في بلد ما، وإلى أن السخرية أساساً ليست مصممة للهجاء والاستهزاء والاستظراف.

السلطة التي أحيت السخرية تستطيع أن تميتها، عبارة تحيلنا إلى تساؤل حرج عن المقالات الساخرة التي تحتشد بها صحفنا، في وقت يشهد تراجع الأدب الساخر حد الغياب، وهو ما يعيدنا إلى الخلط الذي ساهمت فيه الصحافة والأيديولوجيا في تثبيته بأذهان العامة، فلا سخرية خارج تلك المفارقة التي أسس لها الفلاسفة منذ سقراط، وانتقلت بتأثيرهم إلى الأدب والمسرح، وخلّدت أعمال فولتير وتشيخوف وغوغول ومارك توين وزكريا تامر ومحمد الماغوط ومحمود السعدني وصلاح جاهين.

الساخرون العرب الحقيقون كتبوا للصحافة، وأثرت سلباً على بعض ما نشروه، لكننا نحتفظ لهم إلى اليوم بكتابات ساخرة قد يراكم عليها، أو يُخلق نظير لها إذا ما استطعنا تجاوز سخرية الواقع والأقدار.

العربي الجديد

 

 

جيل الحرب وشرعية السخرية/ علي محمد سليمان

منذ أن دخلت الكارثة السورية نفق اللاعودة، بدأت تنمو في أوساط الناس القابضين على جمر الحياة نزعة ساخرة تجاه لغة النخب المتكلفة والمتعالية على عبثية الواقع ولامعقوليته وسورياليته، وعلى فقدان المعنى في أفق شاسع من الخراب، يكاد في غرائبيته واستحالة فهمه يستعصي على المخيلة.

وعلى الرغم من أن تلك النبرة المتعالية والمتكلّفة لا تزال تحكم خطاب النخب السياسية والثقافية، إلا أن واقع الحال في الشارع السوري، وخصوصاً بين شرائح الشباب يقول إن خطاب النخب أصبح مغترباً ومنفصلاً عن الواقع بشكل لا يقل عبثية وشذوذاً عن العنف المنفلت ذاته.

في هذا السياق، بدأت تتشكل ملامح لغة ساخرة وحساسية تهكمية يمكن تلمّسها في ما يتداوله الشباب على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي ما يكتبونه من نصوص. إنها حساسية تسخر من كل شيء وتتجرأ على الكفر بكل شيء وتنزع القدسية المزيفة عن الشعارات والأوهام التي دمّرت البلاد والتي لا تزال النخب ترطن بها بجدية تثير الشفقة.

لا يمكن للكوميديا أن تكون أكثر قسوة في تعرية الواقع من تفاصيل هذا المشهد السوري الذي يتجلى التراجيدي فيه من خلال أقصى حالات الغروتسكية والتهكمية. مشهد يجتمع فيه المثقفون والسياسيون فوق أنقاض البلاد وبين جثث أهلها ليخوضوا في مؤتمرات لا تنتهي، مبارازات ومعارك كلامية تكاد تتطابق في مخيلة الشباب المتفرجين مع شخصية أوبو لـ ألفريد جاري أو مع مسرحة كوميدية لأسطورة سيزيف الذي أسقطه العذاب السوري على الخشبة عن عرش البطولة التراجيدية، وحوّله إلى مهرج ينحني لتصفيق الجمهور دون أن يعلم لمن كان التصفيق، له أم لصخرته.

تتخلق في هذه البيئة احتمالات ومسارات لنمو شخصية ثقافية جديدة تنهض من الرماد لتنظر إلى كل ما جرى في سورية بحساسية يمنحها الفقدان والخسارة شرعية أن تكون قاسية في محاكمة وقراءة ما فعله السوريون بأنفسهم، شرعية ثقافية سينتزعها في المستقبل القريب جيل الحرب الذي لن يجد أمامه سوى أن ينتج قراءته الخاصة للمشهد الرهيب الذي كان ضحيته.

سينتزع جيل الحرب هذه الشرعية من آبائه عندما يواجههم بالسؤال الذي يتكرر بعد كل حرب والذي طرحه بول قبل قرن في رواية إريك ماريا ريمارك “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”: لماذا؟! وكبطل ريمارك سيمنح الفقدان أطفال سورية في شبابهم الوشيك بعد أن ينقشع الدخان عن هول الخسائر الحرية والجرأة ليقولوا كما فعل بول: “لم يعد لدي ما أخاف منه وسأواجههم بجرأة”.

اعتقد الإغريق في عصر أرستوفانس أن الكوميديا أرقى من التراجيديا. يعود أساس هذا الاعتقاد إلى فكرة مفادها بأن التراجيديا تمثل رؤية الإنسان للعالم التي تعبّر عن خوفه من الألم والموت، بينما تمثل الكوميديا رؤية الآلهة للعالم من الأعلى، حيث تعكس هذه الرؤية مشهد الإنسان في رحلته الأبدية والدائرية المتكررة من المعاناة والأخطاء وعجز الإنسانية عن الخروج من دائرة العبث.

إن تلك الآلهة الإغريقية الكبيرة، العابثة والماجنة تراقبنا نحن البشر فنبدو في المشهد شخصيات كاريكاتيرية قذرة وعنيفة ومضحكة ومكررة. ربما سيرى جيل الحرب سيرة آبائهم من مسافة كهذه عندما تنهض ثقافة الحياة بحثاً عن ضوء جديد خارج السراديب التي صنعها الآباء.

لا بد أن الجيل الجديد سيبتكر أدواته التعبيرية وجمالياته الخاصة، ولا يمكن في خضم التحوّلات العنيفة التكهن بملامح الثقافة التي ستولد بعد الحرب، لكن يبدو أن نزعة السخرية والتهكم ستساهم في إنتاج حساسية تقطع مع الماضي بشكل قد يكون حاداً وقاسياً في البداية إلا أنه سيتطوّر لاحقاً ليكون فعلاً أكثر جذرية من الناحيتين الثقافية والإبداعية.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

المقاومة بالضحك.. ديموقريطس بيننا/ محمد الصالح قارف

خُصّ الضحك منذ العصور القديمة بعناية فلسفية وفكرية، استمرت لغاية القرن العشرين مع ظهور كتاب هنري برغسون الذي يعتبر تتويجاً يليق بهذا السلوك الإنساني الخالص.

وقد افتتح الفيلسوف اليوناني ديموقريطس هذا الاهتمام بالضحك -ضداً على أَسى هيراقليطس ودموعه التراجيدية – بوصفه أداة ناجعة لتفسير أُحجية الحياة ومحاولة جدّية لمقاومة الناموس العبثي الذي تتصف به. وحاول خصومه -من المثاليين خصوصاً- النيل من أسلوبه هذا، لأن ديموقريطس كان من أنصار النزعة المادية.

وإن كان واقع ديموقريطس في ذلك العصر يختلف عن واقع العالم العربي اليوم، فإن بعض مواطني هذا العالم الجريح يحاولون بطريقتهم استحضار الروح الضاحكة لهذا المفكر.

مع تمدّد الحركات المتطرفة وانزوائها المشبوه بأحلام التغيير العربي، انبرى حَمَلَة هذا الحلم المغدور للتصدي لهذا التمدد، الذي تغذى ونَما على هامش الديكتاتوريات القمعية التي تواترت على ربوع الوطن العربي، مستعينين بوسائل متباينة لعلّ من أشدها لفتاً للنظر تلك التي اتخذت من السخرية والضحك وسيلة للمقاومة.

يستخدم هذا الشكل المقاوم الوسائط الجديدة للإعلام، مثل مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب، من أجل إرساء ما يشبه كوميديا سوداء تحاول بطريقتها مساءَلة العبث الذي أصبح السمة الأبرز في يوميات الكثير من المواطنين؛ ورغم ما يشي به فعل الضحك من لاجدوى في نظر البعض بإزاء هذه الأحداث، إلا أنه يكشف في جوهره عن تمثّل لضحك ديموقريطس الذي يعدّ محاججة مجدية لمواقف تفرضها الحياة بتناقضاتها، ويساهم فيها الإنسان بإِشْكَالِه وعنفه في رسم لوحة اللامعقول الأشد قبحاً.

تحاول هذه المقاومة تعرية زيف التطرف، كاشفة بسخرية رمزية عن إسهامه في آلة الدمار مع الأنظمة التي تحسن التشبث بالسلطة أكثر من تشبثها بالحياة؛ وتكشف الصفحات والحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي إضافة إلى فيديوهات كثيرة الطابع الهزلي الذي يحاكي به هؤلاء التطرف بطريقتهم. إذ إن هذه الظاهرة لا تعارضه بالتضاد والمناقضة بل تتماهى مع خطابه وتحاول بسخريتها إضاءة الزوايا المظلمة في هذا الفكر العنيف، مثل تعامله مع قضايا المرأة وحقوق الأقليات التي تختلف معه عقائدياً وعرقياً؛ محاولةً النأي بنفسها عن مواقع المقاومة التقليدية التي تُفضّل الصدمة والخلخلة، والتي أثبتت فشلها بل وتحالفها مع السلطة القمعية في كثير من الأحيان.

وإذ تنبع هذه المقاومة من الداخل، من أناس يصارعون التطرف ويعيشونه كتجربة يومية مريرة، فإنها تكشف عن تبصّر لجوهره وتطرح بوادر حلّ جذري، على مستوى الأفكار أساساً، بعد أن أبان الحلّ الأمني يوماً بعد آخر عن لاجدواه وقِصر يده في مواجهة هذا الورم.

ورغم تعذر مواكبة ظاهرة تعيش على هامش متن مُثقل بالجراح، إلا أن تأملها يكشف أن التغيير ما زال يعد بالبزوغ.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى