رشا عمرانصفحات الناس

الهوية التي اسمها المكتبة/ رشا عمران

 

 

ربما لحسن حظي أنني نشأت في بيتٍ كانت الكتب فيه تحتل جزءا كبيرا منه، حيث الكتب ليست موضوعةً في المكتبة الضخمة ذات الأرفف الخشبية التي تكاد تسقط من ثقل ما تحمل، فقط، بل هي منتشرةٌ في كل مكانٍ من البيت، في غرف النوم، في غرفة الجلوس، في المطبخ أحيانا، كتب تنتقل في غرف المنزل من دون اعتراضٍ من أحد، كما لو كانت أفرادا من العائلة. ولحسن حظي أيضا أنه لم يكن أحد يعترضُ على قراءتي أي كتاب، لم يكن أحدٌ يتدخل بما أقرأ، أو يوجهني نحو ما يجب قراءته وما لا يجب، خصوصا أن شغفي بالقراءة بدأ في سن مبكرة جدا، إلى حد أنه شتت انتباهي عن الدراسة التي لم أكن بارعةً في هضم مناهجها، كما براعتي في قراءة الكتب وتاريخ صدورها وحفظ أسماء مؤلفيها ومترجميها، والبلدان التي ينتمون لها.

أذكر أن علاقتي مع الكتب كانت بالغة الغرابة. كلما أنهيت قراءة كتابٍ كنت أعيده إلى مكانه، ثم أقف أمام المكتبة، وأنا في حالة ذهول، كنت على الرغم من الصمت العظيم في غرفة المكتبة، أشعر أن الكتب تحادثني، وتستعرض أمامي غواياتها، كنت أحتار أيّ كتابٍ سوف تمتد يدي إليه وتأخذه، كلها مغوية لي. أسحب كتابا ما وأذهب إلى سريري، ثم أكتشف ما هو، شعر أم رواية أم مجموعة قصصية أم دراسة أم سياسة أم في علم الأساطير، وحدها سلسلة المسرح العالمي التي تصدر في الكويت هي ما كنت أبحث عنها عن سابق قصد. كنت مهووسةً بقراءة المسرحيات، دائما أتخيل نفسي بطلة المسرحية التي أقرأها، وأحاول تقمص شخصيتها، وأعيش ساعاتٍ بما يشبه أحلام اليقظة التراجيدية. لم أصبح ممثلة لاحقا، على الرغم من هوسي المراهق بالمسرح، لكنني امتلكت شخصيةً دراميةً مركبةً، تركت أثرا بالغا في حياتي، وكانت صاحبة الدور الأكبر في خيباتي العاطفية المتكررة. أتذكر اليوم غرفة المكتبة في بيت أهلي، ثم سفرها اللاحق من دمشق، حينما قرّر أهلي الانتقال للعيش في طرطوس، بعد مرض والدي، وكسب الدعوى التي رفعها ضد والدي صاحب البيت الذي كنا نسكن فيه، لإخلائه فورا، ثم كيف توزعت المكتبة الكبيرة لاحقا بين طرطوس والملاجة، حيث بيت العائلة الكبير، وكيف شكلت أنا وأختي وابنتي لاحقا مكتباتنا الخاصة، وكيف تحولت كتبنا أيضا إلى مكتبة كبيرة واحدة، موضوعة الآن في علب كرتونية في مكان في دمشق لا أعرفه، ولم يعد من يملكه على قيد الحياة، ولا يوجد أحد من عائلته، أصدقائي، في دمشق أو سورية كلها، بعد أن قرّر مالك البيت الذي كنت أستأجره أيضاً في دمشق أنه يريده، فهو لا يسمح لمن يعارض “السيد الرئيس” أن يسكن في بيته، خصوصا أنني لن أحتاج البيت بعد اليوم، فأنا، كما هو قال وقرّر، لن أعود إلى سورية، حيث لا مكان فيها للخونة أمثالي.

لم تكن المكتبتان في حياتي مجرد جدران ممتلئة، كانتا جزءا من ذاكرتي اليومية التي تتشكل وتتراكم، لتنفتح يوميا على المخفي من العالم والكون، كانتا الستائر التي أفتحها، لأكشف مناطق العتمة في داخلي. وما زلت، أنا الناجية من مرض الحنين، أحتفظ على أصابعي بملمس ورق الكتب القديمة، وبطعمها اللاذع، وأنا أبلل أصبعي بلساني لأقلب الصفحات، وبرائحة الورق القديم المخزن، وبصوت ارتطام الكتب بالأرض، كلما انكسر رف خشبيٌّ من ثقل ما يحمل، لم تكن مكتباتنا مجرد ديكورٍ يخفي جدرانا تحتاج إلى طلاء. كانت واحدةً من تفاصيل حواسنا التي لا تحجبها المسافات، ولا الزمن ولا مآلات الحياة، ولا أي شيء آخر. مكتباتنا هي عزلتنا المختارة، وهي ضجيج الحياة الذي ينجينا من خطر العزلة، وهي موتنا أحيانا، وطاقة الهواء التي تسمح لنا بالتنفس في قبورنا، كي لا نشعر بوطأة الموت. ليست مكتباتنا قطع أثاثٍ في المنزل، هي أفراد من العائلة، نتوارث محبتها والتعلق بها، مثلما نتوارث ذاكرتنا عنها، مكتباتنا هي هوياتنا وشخصياتنا الفردية وثرواتنا الخاصة، مثل اللوحات التي نملكها، لا يحق لأحد الاعتراض على ما نفعله بها، لنحتفظ بخصوصيتها.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى