صفحات الرأي

المجتمع المدني العربي وصناعة الثورة


د. السيد ولد أباه

كتب كثيرة ظهرت خلال الآونة الأخيرة تشكك في تلقائية الثورات العربية الجديدة، وتبين بالأدلة والبراهين أنها دبرت من وراء المحيط الأطلسي بعقول أميركية ونفذت من خلال مراكز متخصصة ووسائل تواصل تقنية مصممة للغرض ذاته.

لست من أنصار هذا الرأي الذي يتقاسمه المحبطون من عملية التحول الديمقراطي الناشئة عن مسار التحول وأنصار “جبهة الممانعة” الناقمين على انتقال الموجة الثورية إلى سوريا.

ومع ذلك من العبث إنكار حقيقة البيئة الحاضنة دولياً للربيع العربي، مع الجزم بأن الثورات العربية لم تكن حصيلة مخططات أميركية، ولا تجسيداً لاستراتيجيات “المحافظين الجدد” أو مبدأ الفوضى الخلاقة الذي تحدثت عنه إدارة بوش الابن.

فكل المؤشرات تدل على أن الأحداث الحاسمة التي عرفها العالم العربي في السنة المنصرمة فاجأت الولايات المتحدة حكومة ومراكز رأي ومؤسسات بحث ومعلومات.

بيد أن ما فات جل متابعي الشأن الداخلي العربي هو رصد حركية “المجتمع المدني” العربي، الذي عرف في السنوات الأخيرة انتعاشاً ملموساً وحيوية متزايدة، وقد كان له الدور المحوري في تهيئة الأرضية الملائمة للثورات الأخيرة.

وليس من همنا الدخول في نقاشات نظرية عقيمة حول دلالة مفهوم “المجتمع المدني” الذي يستخدم على نطاق واسع دون مجهود فكري أو تحليلي. فالمفهوم كما هو معروف من المصطلحات التأسيسية المرجعية في الفلسفة السياسية الحديثة، وقد تبلور في سياقين نظريين متتالين:

أولهما: فلسفات “الحق الطبيعي”، التي بلورت أطروحة الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية التعاقدية، وكرست فكرة المواطنة كذاتية قانونية ضمن مجتمع منظم تحكمه دولة ذات سيادة مطلقة (جون لوك وهوبز وروسو..).

ثانيهما: الفلسفات والنظريات الاجتماعية المعاصرة التي واكبت فكرياً المعادلة المجتمعية المنبثقة عن نظام تقسيم العمل في العصر الصناعي وما نتج عنه من تركيبة طبقية وتمايز بين هذه التركيبة المعبرة عن مبدأ الحرية الذاتية وحضور الدولة ككل جماعي(هيجل وماركس وماكس فيبر…).

ومن الجلي أن الفكر الاجتماعي والسياسي العربي قد استخدم مقولة المجتمع المدني وفق دلالات مغايرة، تمحورت حول سجلات ثلاثة: مطلب “الدولة المدنية” مقابل الدولة الدينية، مواجهة الدولة الكليانية الشمولية بالدفاع عن فضاءات حرية ضمن أطر غير حكومية (روابط المواطنة وحقوق الإنسان…)، الوحدات والبنيات الاقتصادية والتنموية المنفصلة عن الحقل الاقتصادي الخاضع لهيمنة ورقابة الدولة.

إن ما نستنتجه من هذا التوصيف هو أن مقولة “المجتمع المدني” تلبي في السياق العربي حاجة مزدوجة: الالتفاف على الحقوق السياسية المقيدة، وسد الثغرات الناتجة عن عجز الدولة تأمين وظائفها الرعوية والإدماجية.

وقد حدثت في السنوات الأخيرة مستجدات أربعة لم تنل الاهتمام المستحق في الدراسات الاجتماعية:

– تشكل فضاء عالمي واسع لحركية المجتمع المدني أصبح البيئة الحاضنة والداعمة للتشكيلات الأهلية المحلية، مما سمح لها بتطوير خطابها وأدوات اشتغالها وتدعيم مواردها المالية والتنظيمية. وقد أسهمت المؤسسات التنموية الدولية في توطيد هذا الاتجاه ضمن منظورها الجديد للتنمية البشرية المستدامة التي تدخل فيها حقوق الإنسان والحريات العامة والحقوق الثقافية.

– بروز أنماط جديدة من التعبئة الاحتجاجية بخطاب أيديولوجي يختزن قوة دفع فعالة، بعد أن كثر الحديث في السنوات، التي تلت نهاية الحرب الباردة عن “نهاية الإيديولوجيات”. وقد شكلت أدبيات المناهضة للعولمة وتيارات الدفاع عن البيئة المظلة الإيديولوجية الناظمة لهذه الحركية الاحتجاجية الجديدة، التي من أبرز تجلياتها منتديات “بورتو اليجرو” التي تواكب سنوياً اجتماعات نادي دافوس، في الوقت الذي وجدت هذه الأفكار آذاناً صاغية لدى القيادات السياسية الجديدة الحاكمة ديمقراطياً في بلدان أميركا اللاتينية.

– اضطلاع المجتمع المدني بأدوار سياسية متزايدة في البلدان التي تعثرت فيها عملية التناوب السلمي على السلطة. وقد تبلور هذا الاتجاه في جورجيا وصربيا، وسمح من خلال التعبئة اليومية الكثيفة والسلمية، والاستخدام الناجع للرموز الثقافية والدعم الدولي إلى تحييد المؤسسة العسكرية والانتصار على القمع والقضاء على الأنظمة المستبدة. وتفيد المعلومات المتداولة أن العديد من الشباب العربي الذي قاد الانتفاضات الأخيرة شارك في دورات تدريبية على هذا النمط من المقاومة السلمية والتعبئة الحاشدة، بيد أنه من الخلف إرجاع الحركية الاحتجاجية العربية إلى أثر وتأثير تلك المبادرات الجزئية المحدودة.

– توفر البيئة التقنية التواصلية الكفيلة بكسر احتكار الدولة للمعلومة إنتاجاً وانتقالاً. ولا شك أن العديد من المؤسسات والفضاءات الأميركية الرسمية والأهلية (بما فيها جوجل وفيسبوك) قد انتبهت إلى أهمية هذه الأدوات الاجتماعية في إحداث التغيير السياسي المأمول في البلدان العربية، لكن الأمر يتعلق بظاهرة كونية شاملة، لم يكن العرب ليشذوا عن استحقاقاتها ومآلاتها.

لا يتعلق الأمر إذن بمجتمع مدني بالمفهوم الأوروبي الحديث، أي بالطبقات الاجتماعية والبنيات البيروقراطية التي قادت الثورات الثلاث الكبرى:التقنية والصناعية والسياسية، وإنما بشبكات مرنة وغير منظمة، غير قابلة للتصنيف ضمن خريطة طبقية محددة، أو جسم سياسي منظم.

كان الفيلسوف الألماني “هيجل” الذي هو أهم وأول من بلور فكرياً مفهوم “المجتمع المدني” يرى أن الدولة الليبرالية الحديثة، هي التي تؤلف بين تناقضات المجتمع المدني باحتضانها وتجاوزها داخل فكرة كلية مطلقة. والمشكل الذي يواجه اليوم الديمقراطيات العربية الوليدة. هو غياب مثل هذا المجتمع المدني بالمفهوم الهيجلي، في الوقت الذي نشهد استفاقة خطرة للهياكل العصبية والطائفية، التي تحتل موقع الوسيط بين المواطن الفرد والدولة الكلية الذي يؤديه المجتمع المدني في الدولة الحديثة.

وما تدل عليه شواهد الحال في الديمقراطيات الوليدة، هو تكاثر التنظيمات السياسية من كل الاتجاهات والميول إلى حد تجاوز المعقول (أكثر من مائة حزب في تونس وحدها)، مما يقلص الحاجة إلى الأدوار السياسية المقنعة لتشكيلات المجتمع المدني.

بيد أن صعود الأحزاب الإسلامية، وانحسار التشكيلات السياسية الأخرى قد يفضي إلى تحول الصراع الفكري والايديولوجي إلى ساحة العمل الأهلي لتحقيق التوازن المختل بالموازين الانتخابية.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى