صفحات العالم

دونالد ترمب وفن “التغريد” المُبْهم/ جوزيف س. ناي، الابن

 

 

اعتاد منتقدو الرئيس دونالد ترمب التقليل من شأن مهاراته في مجال الاتصال السياسي، وربما يرجع هذا إلى أنه مختلف إلى حد بعيد عن سابقيه مثل فرانكلين روزفلت ورونالد ريغان. فقد عُرِفَ كل من فرانكلين روزفلت ورونالد ريغان بقدرتهما الفائقة على الاتصال.

وبرغم أن قطاعات واسعة من السكان الأميركيين يكرهون فرانكلين روزفلت ورونالد ريغان فإنهما قد خاطبا الشعب الأميركي ككل واحد وسعيا للاحتكام لجموع الناس. أما ترمب، فعلى العكس، احتكم في المقام الأول إلى الأقلية التي انتخبته، وبدا خطاب تنصيبه كخطاب انتخابي، وبعد توليه لمنصبه أفضت سلسلة التصريحات المضللة التي أطلقها والأوامر التنفيذية الاستفزازية التي أصدرها إلى تقويض مصداقيته في أعين جموع الناس، وتعزيزها داخل قواعده.

تعلم ترمب مهارات الاتصال في عالم تلفزيون الواقع، حيث يجري الترفيه عن الجمهور وزيادة نسبة المشاهدة عبر التصريحات المشينة الاستفزازية. واستخدم ترمب هذه الطريقة أثناء الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري للاستحواذ على اهتمام الناخبين في ميدان انتخابي ضم 17 مرشحا. ووفقا لتقدير مصدر واحد، تلقى ترمب ما يعادل اثنين مليار دولار أميركي من الإعلانات التلفزيونية المجانية، ليبتلع بذلك مائة مليون دولار أميركي جمعها منافسه الجمهوري جيب بوش للإنفاق على إعلاناته المدفوعة الثمن خلال حملته الانتخابية.

وبعد فوزه بترشيح الحزب الجمهوري، توقع الكثيرون أن يتابع ترمب المسار التقليدي بالانتقال إلى الوسط خلال الانتخابات العامة. ولكن مرة ثانية تحدى التوقعات ورَكَّز على حملة شعبوية بين شرائح من السكان فقدت وظائفها في خضم المنافسة العالمية، و/أو تشعر بالاستياء من التغييرات الثقافية التي جرت طوال العقود القليلة المنصرمة. وكان هذا الخطاب الشعبوي مُعَدَّا بفعالية، وهكذا فاز ترمب في المجمع الانتخابي رغم خسارته للتصويت الشعبي لقرابة ثلاثة ملايين صوت، ولكنه لن يكون رئيسا بالنسبة لمائة ألف صوت في الولايات الثلاثة المعروفة بمنطقة “حزام الصدأ.”

وأخذا لهذا بعين الاعتبار، توقع الكثير من المراقبين أن يقوم ترمب بعد توليه مهام منصبه بتوجيه رسائله إلى الوسط السياسي. بيد أن ترمب أربك كبار الخبراء مرة ثانية باستمراره في استهداف ومخاطبة قاعدته الانتخابية. ويتكهن البعض أنه يرمي إلى بناء حزب شعبوي جديد من ناخبين من الطبقة العاملة (ممن أُطْلِق عليهم في السابق وصف ديمقراطيي ريغان) والجمهوريين من حزب الشاي.

وبرهن ترمب أيضا على طبيعته غير التقليدية في اختياره لأدوات الاتصال؛ فالتكنولوجيات الحديثة توفر فرصا جديدة. ولقد استخدم فرانكلين روزفلت “دردشات الموقد” (الدردشات البيتية التي كان يمكن أجراؤها مع المنازل بينما الناس ملتفة حول الموقد) الشائعة والمجربة بعناية والتي أصبحت ممكنة بفضل البث الإذاعي. بينما كان ريغان أستاذ الخطاب المكتوب المعالج دراميا على شاشات التلفزيون.

وقد جعل طاقم العاملين بالبيت الأبيض خطاب الإدارة يركز على القضايا ذات الأولوية في اليوم أو الأسبوع. أما ترمب فاستخدم موقع تويتر، بالإضافة لبراعته في استخدام التلفزيون الكابل، قافزا على رؤوس طاقم العمل والصحافة دافعا جدول أعمال حملته الانتخابية للأمام.

وما أثار دهشة العديد من المراقبين أن ترمب اتبع نفس الممارسات في البيت الأبيض. لم يكن استخدام موقع تويتر جديدا على البيت الأبيض ــ فقد كان لأوباما حساب يديره موظفون أكفاء- بيد أن انخراط ترمب شخصيا في هذه العملية أثار تساؤلات حول كيفية إدارة الأهوال السياسية من البيت الأبيض والتعبير عن قضايا سياسية شائكة (مثل قضية الأسلحة النووية) في 140 حرفا حددها موقع تويتر كأقصى مساحة للكتابة. ولكن كأداة للتواصل مع قواعده والاحتفاظ بالاهتمام منصبا على شخصه، سمح له استخدام تويتر في الحكم بالقفز فوق أعناق أعضاء الكونغرس والصحافة.

يتغير الاتصال السياسي بمرور الوقت، وهناك أساليب عديدة للتواصل بفعالية. ولقد توفرت لدى قدامى الإغريق مدارس للخطابة لصقل مهاراتهم في الخطابة بالبرلمان. وترك شيشرون بصمات قوية في مجلس الشيوخ الروماني بعد دراسته لفن الخطابة. ولم يكن وودرو ويلسون في طفولته طالبا موهوبا، إلا أنه نجح في تعليم نفسه فن الخطابة لأنه اعتبره ضروريا للقيادة. وعادة ما ينسب وينستون تشرشل نجاحه إلى إتقانه اللغة الإنجليزية، بينما استفاد مارتن لوثر كينغ الابن من نشأته في قلب تقاليد الكنيسة الأفريقية الأميركية الثرية بإيقاعات الكلمات المنطوقة.

وقد يكون اكتساب هذه المهارات سهلا بالنسبة للبعض وأقل سهولة بالنسبة للبعض الآخر. وحين عقد ماريو كومو الحاكم السابق لنيويورك مقارنة بين بل كلينتون وهيلاري كلينتون قال: “إنها ميثودية أكثر (نسبة للكنيسة الميثودية البروتستانتينية) بينما هو أكثر مسرحية.”

بيد أن أشكال الاتصال السياسي الفعال لا تقتصر على الخطابة والبلاغة، فالإشارات غير اللفظية تعد عنصرا مهما بنفس القدر. ولم يكن حتى بعض القادة الملهمين من أعظم الخطباء، والدليل على ذلك المهاتما غاندي. بيد أن رمزية ملابس الفلاحين البسيطة التي كان يرتديها ونمط حياتهم التي عاشها كانت أعلى صوتا من الكلمات. وإذا قارننا هذه الصور بصور غاندي الشاب القلق المرتدي ملابس المحامي البريطاني الوقور، لأدركنا كيف فهم غاندي معنى التواصل الرمزي.

وهو ما فعله ترمب، بطريقته الخاصة، بالنظر إلى قبعة البيسبول الحمراء التي كان يعتمرها أثناء حملته الانتخابية مع شعار “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، بالإضافة إلى تثبيته لفكرة الولاء للعلامة التجارية حين كان رجل أعمال، واستخدامه لتويتر.

بيد أن القيادات بحاجة -بالإضافة إلى التواصل مع الجماهير عن بعد باستخدام الخطابة والرموز- للتسلح بالقدرة على التواصل وجها لوجه أو في مجموعات صغيرة. وفي بعض الحالات يعد هذا الاتصال عن قرب أكثر أهمية من الخطابة. ومن الصعب الجمع بين المهارة التنظيمية والقدرة على جذب وإدارة حكومة فعالة من ناحية، والحكم باستخدام موقع تويتر من ناحية أخرى. وكان هاري ترومان خطيبا متواضع المواهب، ولكنه تمكن من تعويض افتقاره لموهبة الخطيب العام بجذب مجموعة رائعة من المستشارين وبالإدارة القديرة لهم.

وتقديم القدوة الصحيحة هو شكل آخر بالغ الأهمية من أشكال الاتصال بالنسبة للقيادات، فحين توقع لي هسين لونغ رئيس وزراء سنغافورا رد فعل شعبي متشكك إزاء رفع رواتب موظفي الحكومة عام 2007 أعلن تخليه عن زيادة راتبه. وفيما يتعلق بالرموز المرتبطة بتضارب المصالح، لم يُتقن ترمب بعد فن الاتصال السياسي.

لقد أثبت ترمب، حتى الآن، أنه قادر على التواصل السياسي الفعال أكثر مما توقع منتقدوه. بيد أن أحد الأسئلة الكبرى التي تواجه رئاسة ترمب هي: ما إذا كان قادرا على تحقيق نجاح على المدى البعيد بأسلوبه غير التقليدي هذا.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2017

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى