صفحات العالم

المعادلة السورية: هذا الموت يبقى «أقلّ كلفة»!


عبدالوهاب بدرخان *

الحقيقة القاسية والمحزنة هي ان الحصيلة الدموية اليومية في سورية باتت عنوان الوجود، للشعب طالما أنه يقدم القرابين وصولاً الى «جمعة الخلاص» كتلك التي أقامها الليبيون احتفاء بانتصار ثورتهم، وللنظام الذي بات يخشى زواله اذا توقف عن القتل والتنكيل. في ليبيا قدّرت الكلفة البشرية لاسقاط النظام بخمسين ألف انسان. في سورية كان ولا يزال ممضّاً أن تسمع من يقول أن هذا الموت يبقى «أقلّ كلفة» من المذلّة، فالشعب الذي خبر جيداً هذا النظام أدرك من تلقائه أن التضحيات التي يقدمها اليوم أقلّ بكثير مما يتوقعه لو أوقف التظاهر وأخلى الشوارع.

حين انطلق الاحتجاج السلمي الأعزل في ليبيا لم يكن في ظنّ أحد أن المسألة تتعلق مسبقاً وتلقائياً بتدخل عسكري خارجي. ولو قدّر له أن يكون روسياً، مثلاً، وليس أطلسياً، لوجد الشكر والعرفان نفسيهما لأن الهدف كان اسقاط الطاغية ولو بهذا الثمن، بل حتى بهذا الثمن. اذاً لو تُرك الأمر لعناية القذافي وأفلت له العنان لكان كفيلاً بمحق وابادة مدن الشرق بكاملها. هذا لا يعني أن «الناتو» لا يكيل بمكيالين (فهو يرفض التدخل لحماية الشعب الفلسطيني ضد ارهاب حليفه الاسرائيلي) أو أنه رسول محبة يستحق التمجيد والاعجاب بإنسانيته الطافحة، فلا أحد يجهل أن المسألة مسألة نفوذ وصراع على المصالح، لكن هناك شعباً يريد أن يعرف أخيراً كيف تكون الحياة الطبيعية ويريد أن يستعيد كرامته من نزوات القذافي وأنجاله.

لا يزال الشعب السوري يرفض التدخل الخارجي، مبدئياً وعملياً، على رغم ظهور لافتات مستغيثة، للمرة الأولى بعد انتصار الثورة الليبية، تطلب حماية خارجية. فـ «الرسالة الواضحة» التي قالت موسكو إن مبعوثها نقلها الى القيادة السورية كان بإمكانها أن تكون أقل «وضوحاً» في دعمها «اللاحل» الأمني الدموي الذي ينهجه النظام. فكما أن أحداً لم يعد يصدّق الرواية الرسمية عن «العصابات المسلحة»، ولا الثرثرة عن الاصلاح والحوار أو الاعلان عن قوانين مستصلحة، كذلك لم يصدّق أحد «المصادر الروسية المطلعة» التي قالت إن الجانب السوري تبلّغ ضرورة «التهدئة» بـ «أسرع وقت»، وحُذّر من «احتمال تطور الموقف في مجلس الأمن نحو اتخاذ قرارات حازمة». لم يتوقف القتل بغية «التهدئة»، أما التحذير الكاذب فظهر في «فيتو» روسي – صيني مسبق ضد أي عقوبات دولية تفرض على سورية، فضلاً عن اعتراضهما المشترك على حظر الاتحاد الاوروبي استيراد النفط السوري. لم يجد المجتمع الدولي سبيلاً آخر لإظهار الدعم للانتفاضة الشعبية في سورية، ولعل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف محقّ بقوله: «ان العقوبات نادراً ما تؤدي الى حلول»، لكنه لم يوضح اذا كان دعم روسيا للنظام في ممارساته الدموية سيؤدي الى أي حل.

في مؤتمر باريس كان بين «أصدقاء ليبيا» من لم يتمكنوا بعد من التعرف الى ما كسبوه فعلاً لكن انتصارهم بإزاحة النظام السابق كان بادياً على الوجوه وفي لغة الأجساد. وكان هناك أيضاً من لم يحصوا خسائرهم بعد لكن ظهورهم الخجول وصيغ بياناتهم نمّا عن شعور مبطن بالهزيمة. لم يكن الرهان على القذافي صائباً، ولم يكن الروس والصينيون في حاجة الى من يشرح لهم أن الأمر حُسم يوم انتفض الشعب الليبي، ومن العجب ألا تكون لديهم ديبلوماسية عملية قادرة على التعامل مع أزمات مركبة كهذه، أقله لحماية مصالحهم على الأرض. اذ أن الجمود في مربع «هذا النظام ولا أحد سواه» ليس خياراً.

لم يكفِ الدرس العراقي لروسيا، ويبدو أنها لم تستوعب دلالات الحدث الليبي، لأن مقاربتها للأزمة السورية تشي بأنها مجرد معاندة، والمعاندة لا تشكل سياسة، لكنها قد تعني مساومة تريد موسكو استدراجها. بديهي أن رفضها، مع بكين، التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة، مقبول مبدئياً، إلا أنه يرمي عملياً الى استباق أي أزمات مماثلة في دولتيهما أو حيثما تحصل انتفاضات شعبية في الدول الواقعة تحت نفوذيهما. كان الأحرى بهما، ولا يزال، قبول التغيير لا تسفيهه، وابداء أقصى الاهتمام بالشعوب وحقوقها وسلامة ابنائها، خصوصاً أن ممانعتهما لم ولن تقلب مسار الأحداث حتى لو عرقلته بعض الشيء. بل لعل التأخير يفاقم المواجهة ويقودها الى مآلات ليس من شأنها أن تحقق أي مصلحة لروسيا أو للصين، اذا كانتا تعتقدان ان موقفيهما الحاليين ضد الشعب السوري يضمن تلك المصالح.

عندما قال الرئيس الفرنسي أن الرئيس السوري «تسبب بأضرار لا يمكن اصلاحها» لم يقصد الارتكابات الأمنية فحسب، بل بالأخص تجاهله مطامح مشروعة لمعارضيه وحتى هواجس مؤيديه الذين باتوا يخشون تهوّرات النظام ويشعرون بأنهم أيضاً ضحيتها المقبلة بسبب تصاعد الاستقطاب الطائفي. ومن بين الأضرار ذاك المسار الاصلاحي الذي تواصل دمشق الحديث عنه كأنه لا يزال قائماً، وقد مضى عليه زمن وهو خارج التداول، والواقع أنه ولد ميتاً وراح يتلاشى حتى فقد قوة الدفع التي تمكنه من تغيير مجرى الأحداث. في البداية أوحى النظام بأنه يحاول استباق المطالب، وحينئذ دعته القوى الخارجية الى «قيادة الاصلاح» لكنه تمترس وراء مفهومه الضيّق للاصلاح بأنه مجرد اعادة صياغة تجميلية هنا أو ترقيعية هناك للسلطة ذاتها. وبعدما وجد أنه لا يقوى على التنازلات الحقيقية الواجبة فضل المراهنة على العنف وعلى الوقت. الأرجح أنه فقد البوصلة الآن، اذ مضى وقت طويل لم يطرح فيه أي جديد.

كانت لهجة المبعوث الروسي مريحة في جوهرها، هبطت على النظام كـ «عيدية» رمضانية كان في أمسّ الحاجة اليها، لكنه يعرف أن الروس أو الصينيين ليست لديهم سياسة للمنطقة، وبالتالي يمكن أن يبيعوه متى لاحت لهم المصلحة المناسبة فهم لا يتمسكون به من أجل ممانعته أو ما تمثله سورية في الشرق الاوسط. ولا شك في أن الحظر الاوروبي لاستيراد النفط السوري بدد المفاعيل الايجابية للموقف الروسي، وأعاد النظام الى مربع الارتباك. لذا وافق على استقبال الامين العام للجامعة العربية مع علمه أن نبيل العربي يريد أن يبلغه موقف العرب الذي سبق أن اعتبره «كأنه لم يصدر». وهكذا أصبح التخبّط في ادارة الأزمة بيّناً مع الخارج كما مع الداخل كما في الدائرة القيادية الضيّقة. وهذا لا يعدّ صموداً أو صدّاً للـ «المؤامرة» وانما له اسم واحد: الفشل. ومن يفشل يتحمّل المسؤولية والتبعات.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى