صفحات سوريةفلورنس غزلان

النازيون الجدد

 


فلورنس غزلان

جاءني صوته متهدجاً مرتجفاً متعلثماً، مرره لي صديق أعرفه منذ زمن طويل..بعد أن قدمه قائلاً: سأدعك مع شاهد حقيقي عاش بين أيدي” النازييون الجدد في وطنك سوريا”!..ستتعرفين عن كثب كيف يتم الاعتقال، ستتعرفين على وسائل” إقناع الإنسان”!! بأن يعترف بما لم يفعل ولا يقتنع به ، وسائل عجز عنها النازيون…لأن مانشهده اليوم في وطن أحببناه ..لدرجة أن ارتضينا ذل أربعة عقود ونيف ونحن نلتزم الصمت آملين أن يتحرك الدم العربي في شرايينهم!..أن تشبع بطونهم مما نهبت…أن تتوقف عجلة الإرهاب..بعد أن تغير وجه العالم ووجه الخارطة العربية من حولنا..أن يتعظ حكامنا بما مر أمامهم من عِبر..أن يسارعوا إلى فتح عقولهم وقلوبهم لأبناء وطنهم فيُفَّرجوا عنهم كربات عقود عجاف…اعتقدنا أننا نشبه أخوتنا في مصر وتونس..بل تصورنا أننا لو تمكنا من كسر حاجز وخطوط الخوف المحاصرة لعقولنا والتي شلت حركتنا وأغمضت عيوننا على القذى والضيم.. لن يطول الأمر بحكومة أقنعتنا بأنها” الممانعة المقاومة …داعمة القضية الفلسطينية…المستهدفة من العالم الخارجي …المؤجلة لكل إصلاح لارتباطه الوثيق بهذا الموقف العروبي” !! هذا الشاب..هو ابن الثورة… تعرفين مَن يكون، ولد في عصر أنوار الطواريء!!.. من جيل الطلائع والشبيبة واتحاد الطلبة..جيل خلق بعهد الأب وكبر بعهدالابن الأسدي ..تربى بحضن الحزب القائد، وتحت ظلال الأسرة الملكية الأسدية….لكنه في الوقت نفسه تربى في أسرة لاتعرف إلا الصدق والمحبة..ابن العائلة التي لاتغفلين عنها ولا عن نشأتها…

رحت مرحبة وسائلة لأهديء من روع الصوت المضطرب وأمنحه بعض السكينة..مؤكدة على معرفتي التامة بأهله..مَن تكون أمه وأبيه وسميت بعض أقاربه..فندت عنه ضحكة أو ابتسامة مُغتَصبة من حلق جاف ….يحسب السامع أن صاحبه قطع نصف صحراء الربع الخالي..دون أن يعثر على مايمنحه رطوبة الماء وأمانه..فقال..ما سأرويه لك سيدتي هو شهادة حية..شهادة مَن خرج من قبو الموت..شهادة من مات ثم عادت له الحياة..ترددت كثيراً قبل أن أقبل عرض الصديق المشترك”…ع….” ..لخوفي ورعبي الشديد أن يتعرفوا علي..أن يصلوا لأهلي فيسيئون إليهم..وقد تمكنت من الهروب والخروج من الوطن مرغماً..فهل يغادر شاب مثلي حضن أمه الدافيء ولقاءها الحنون ولقمتها اللذيذة ومحيطه..الذي لم ينفصل عنه مذ ولد..إلا مكرهاً..مجبراً؟!!…لأن وجوده أصبح غير آمن لاعليه ولا على أي شخص يعرفه..باختصار” ألقي القبض علي في الاجتياح الأول لدرعا..في الفصل الأول لتمثيلية الرعب..والسلاح التي وضعها أهل النظام ” في المسجد العمري” بدرعا البلد..لا أنكر سيدتي أني واحد من بين آلاف المتظاهرين..ومن الحاليمن بالتغيير والخروج من عباءة الاستبداد إلى فضاء الحرية والديمقراطية..، ولكنك تعرفين أن أهلي بسطاء لم ينتمِ أحدهم لحزب في يوم من الأيام، ولم يمارس أو يدخل أي فرد من أسرتي في مجال السياسة..كما أننا لسنا من المولعين أو الفقهين بعلم الأيديولوجيا ولا معاركها…لكني وصلت لعمرٍومستوى علمي أميز فيه بين الخائب والصائب، بين مايحمل الخير لي ولوطني وأسرتي ومايحمل التفرقة ويعلي من جدران الخوف والتمييز بين الانتماءات والولاءات..وهذا مادفعني ككل الشباب في مديني…أن ألحق بركب التظاهرات..وخاصة بعد ماجرى لأطفال حارتك وأهل منطقتك…فهل أرضى أن يحصل لأخوتي أو لأحد من أهلي ماحصل مع هؤلاء الأطفال؟..هل أنا دون ضمير أو كرامة؟..هببت كما الآخرين ندفع عنا الظلم ونطالب بحلم كل مواطن سوري..لاغاية سياسية عندي ولا هدف ديني أو مذهبي…نعم أنا مؤمن ونشأت في بيت مؤمن يعرف الله ويخاف فيه لومة لائم..لا نأكل مال اليتيم ونراعي في بيعنا وشرائنا ذمتنا وديننا..لا أختلف وأسرتي عن 80 بالمئة من سكان سوريا…لكني لا أسيس ديني ولا ايماني..لأني مقتنع أن وطني ملون المذاهب..ولا أفرض أو أريد أن أفرض مذهبي على أحد..أريد أن أمارس ديني وتجارتي وحياتي بشكلها الطبيعي غير المخنوق والمحسوب الخطوات والمرعوب الخائف يعيش كابوساً متواصلاً من ساعات الصباح الأولى حتى أحلامه ليلاً..أريد لأطفالي مستقبلاً ألا ينتموا لعصر الطواريء..أن يحاكمهم لو أذنبوا قاضي نزيه وعادل.. من هذا المنطلق سيدتي شاركت بالمظاهرات وأقسم لك أن كل من أعرفهم وعرفتهم من خلال التظاهر تنطبق عليهم حالتي…لكن سوء طالعي ربما أوقعني بيد رجال” الأمن المركزي” في معركتهم الأولى التي قتلوا فيها أكبر عدد حينها من الشهداء في تظاهرة جمعة ” الإصرار”..كنت مع من اصطادتهم أيدي” النازية”..اسمحي لي بهذه الكلمة ولو أني أجدها أقل مما رأيته..وذقته على أيديهم..في اعتقالنا استعملوا كل أنواع العنف..ضرب بأعقاب البنادق..جروح وكسور في الأضلاع وكل انحاء الجسم …لكن أشدها كان في الوجه والرأس..استمر النزف من الجروح..لاقدرة لي على منعها .فإن تمكنت من وضع يدي على أحدها اشتد نزف الآخر..أو وجهت لي ضربة جديدة على يدي..وضعوا الطماشات على عيوني…سمعت أحد الجنود يخاطب سيده الضابط:” أتريدني ان أجهز عليه سيدي؟” ..فأجاب السيد: لا دعه …سنعرف كيف نستفيد منه!.

رُميت داخل سيارة .. كثيرين كانوا حولي ، لا أسمع سوى الأنين والآخ ..ويا أمي….وصوت أحد الجنود يصرخ ويضرب بين فينة وأخرى طالباً الصمت… لا أحد يستطيع التحرك أو الهمس أو أن يعرف مايجري حوله..كلنا بين حي وميت..يغيب ويعود..أُنزِلت جراً وركلاً كما تُجَّر جيفة كلب..رموني وحيداً في ” سيلول صغير جداً” ..دعيت مجددا للتحقيق …

ـــ اعترف يابن( ……) إلى أي عصابة سلفية تنتمي؟ “أقسم أن لا ..اقسم أني لا أعرف أحداً ولا معنى لما تقول”..ــ.كم قطعة من السلاح لديك؟….لماذا لاتذهب بنفسك لبيت أهلي وتفتش كل نقطة فيه..مَن يدري ربما فعلتم..هل عثرتم على أكثر من سكين لتقطيع البطاطا أو التفاح؟..نحن أناس بسطاء ياسيدي ..ومسالمين..لانؤذي أحداً..ــ لكنك خائن عميل تؤذي الوطن…تتآمر عليه …تخون وطنك الذي يأويك ويأوي أمثالك ويطعمك أيها التافه ..التابع للقاعدة وابن لادن..كم يدفع لكم مقابل أن تقوموا بكل هذه الاضطرابات؟…

“سيدي كل مافعلته أني تظاهرت..وأنتم لم تقولوا أن هذه جريمة..تظاهرت سلمياً كما قال الرئيس وكما سمح به الرئيس…ــ لاتتفلسف أيها الأحمق ..ثم لاتأتي على ذكر القائد بفمك القذر هذا..إياك أيها ..وأيها… وأيها..ويا…ابن وابن وابن…..ويستمر الضرب والتعذيب بكل وحشية حتى أفقد الوعي كليا..وحين أرفض الانصياع والاعتراف بأني ” سلفي و اعتقلت وأنا أحمل سلاحاً، وألقوا القبض علي وأنا أحاول قتل رجال الأمن”…!!!. غيروا لهجتهم… ــ .إن اعترفت بما نقوله لك..ستخرج فوراً وستكون حراً طليقاً، بل سنكافئك..!!!..وكيف تريد مني ياسيدي أن أعترف بشيء وبذنب لم أقم به ولم أفعله..وأجهل لون واسم وشكل أي نوع من أنواع الأسلحة..ولا كيفية استعمالها..رجوته..ورجوته….فرُميت أرضاً وأشبعوني بالأحذية ركلاً ، أما الشتائم..فتشيب لها النواصي وتذل أمامها أرفع الهامات..ويعجز عن التلفظ بها أعتى القوادين والعاهرات… حين عجزوا عن إخضاعي لاعتراف يريدونه.. تُركت لقدري…بعد وقت لا أدري طال أم قصر..سُحبت كالكلب إلى غرفة فيها سرير يشبه أسرة المرضى وبعض المعدات الطبية، وَجَه..الطبيب….صاحب الثوب الأبيض وبحضور بعض العناصر…حديثه لي:” سترى الآن أحدث طرق التخييط والتقطيب للجروح..وستخضع لأجمل عمليات التجميل لوجهك القبيح…وراح يخيط وجهي وجروح رأسي بإبرة خياطة عادية ودون بنج..يشد ويغرز إبرته في لحمي ..صراخي وألمي لاحدود لهما…كانا على يد هذا ” الطبيب”!! أشد مما ذقته من ضرب وكسور وجروح…لم أعد لوعيي إلا في سيلولي..مددت يدي أتلمس جروحي، فعثرت على مرتفعات ومنخفضات ..بقيت على هذه الحال..يرمون لي ببعض الخبز الجاف والمرق أو الفول…وجبة واحدة لاغير…أنا النحيل الهزيل …قليل الطعام…المدلل عند أمي…التي ترى في الطفل المحتاج لغذائها الدائم ورعايتها…ازدردت ماقدم لي بفم بالكاد يمكنه ان يلوك طعامه… بعد مرور أكثر من أسبوع صدرمرسوم بإطلاق سراح الكثيرين ..كنت بينهم..وصلت بيت أهلي بين الحياة والموت..حرارة مرتفعة ،التهاب، صديد وقيء يعلو كل جرح في جسدي..أما التنفس فكان بالقطارة نتيجة للكسور في أضلاعي، أحضروا لي طبيباً أسعفني وقدم لي بعض مايلزم لأستطيع الوقوف على قدمي ..لكنه أكد لأهلي أن لا امكانية دوائية متوفرة لدينا في درعا لشفائه، وإن أردتم أن يعيش ابنكم..انقلوه لبلد مجاور..وهكذا كان..حملني أحدهم ليلا وغادرت..عولجت حتى شفيت جراحي…ثم غادرت إلى هذه البلد,,حيث أتحدث إليك منه..وهذه هي المرة الأولى ، التي أضطر معها لإعادة شريط آلامي..وإن أفعل..بعد أن حاول صديقنا أقناعي بأن أتحدث بما جرى لي لقناة تلفزيونية…لكني رفضت خشية أن يتعرفوا إلي ..وأن يؤذوا أهلي..ويكفيهم مايجري لهم في درعا الآن، ولا أعلم إن كانوا بين الأحياء أو الأموات…وإن قبلت أن أسرد لك معاناتي..فقط كي تنقلي بمعرفتك ماحصل معي، وأن كل ماسحب من اعترافات لهؤلاء الشباب، الذين يدعي الإعلام السوري وأجهزته الأمنية أنهم ألقوا القبض عليهم متلبسين يحملون الأسلحة، ويطلقون النار على الشعب والجيش!!، ماهي إلا تمثيليات من إعداد وتخطيط أجهزة الأمن السورية، وماهي إلا اعترافات مسحوبة تحت التعذيب والتهديد لهم ولذويهم…أو بالترغيب ومحاولة شرائهم…لكنهم جميعاً ودون استثناء سيكون مصيرهم الإعدام دون أن يرف للقاتل جفناً…فليس من المعقول أن يتركوه شاهداً على الحقيقة.

هذه شهادة حية..وأقسم أني رويتها بالضبط كما سمعتها..لم أضف ، بل ربما أنقصت بعض التفاصيل ،التي أعف عن التلفظ بها..كالألفاظ النابية والشتائم القبيحة وغيرها من الاعتداءات والأساليب القذرة بلغة الوعيد والتهديد..هذا مواطن ابن درعا..خرج من ممر الموت..إلى باب الحياة، كتبت له نجاة يحلم بها شباب اعتقلوهم سحلاً وعنفاً من بيوتهم الآمنة بعد احتلال درعا من نازية الأسد وأجهزته..مايجري بدرعا المجد والتاريخ، درعا الحضارة والشهامة، درعا البريئة من طبخة سلفية أُعدت لها بإحكام في مطابخ المخابرات وأبناء الأسد…بسيناريو”حماة” نجح فيه والدهم وعمهم حقبة الثمانينات من القرن المنصرم ، ويريدون إعادة عرضه متخذين من درعا هذه المرة مسرحاً لبربريتهم وساديتهم،ــ رغم الفارق الكبير والفاضح..بأن أهل درعا لم يحملوا سلاحاً ولاهم بطائفيين، ولم يصدر عنهم هتاف واحد ينم عن طائفية ، وقد شارك بتظاهراتهم..كل تنويعات سكان المحافظة، فتحت الكنيسة لعلاج الجرحى كما فتح المسجد، وسقط المسيحي جريحاً كما سقط المسلم..لكن القرار اتخذ في القمة الأسرية والأمنية..والخطة أعدت لاصطياد أهل درعا ، وتوزيع الأدوار..حسب الهوى التطييفي للنظام، وحسب الهوى السلفي للنظام..

إنما بقي عليه أن يقنع العالم والشعب السوري بصحة روايته..فهل سيفلح؟ رغم التواطؤ والصمت العربي والعالمي المكتفي بالاستنكار والشجب.. رغم حملة التجويع والعطش والنقص في الغذاء والماء والدواء وحليب الأطفال والكهرباء..يدفع ثمنها الشيخ المسن والمرأة والطفل الرضيع،الجريح دون علاج والمقتول دون دفن..كل هذا الموت المستمر..من أجل إخضاع درعا ومن ورائها حوران برمتها..ومن بعدها سوريا..كل هذا الموت…كي تتوقف الحركة وتتوقف أمواج التظاهرات والاحتجاجات…كل الوسائل مشروعة من أجل بقاء النظام!..”.الغاية تبرر الوسيلة” الشعار الذي حمله هتلر لحربه النازيه..إنما حمله ليجعل من بلاده سيدة العالم ..لكن خليفته ..في سوريا..يرفع نفس الشعار ليبرر قتل شعبه من أجل بقاء حكمه، فهل سنتركه ينجح؟ ..هل مازالت ضمائر الكون في عسلها..لايهمها لون الدم السوري ، ولا قيمة لحياة الإنسان السوري…لأنه بلد بلا بترول؟!..أو لأن نظامه يرعى بأمانه حدود إسرائيل ويحميها منذ أربعة عقود؟!، والدليل أنه يخلي حدوده ويسحب منها الجيوش ليدخلها المدن الثائرة على النظام…لأنه متأكد من صداقته مع إسرائيل وتفضيلها لحكمه ورضاها عن أدائه..ويطمئن لها أكثر من شعبه!!.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى