صفحات الرأي

تفتّت حركات الإسلام الجهاديّ/ حازم صاغية

 

بعد انشقاقات واسعة وتجارب مُرّة عرفتها حركات الإسلام الجهاديّ في بلدان عدّة، عربيّة وإسلاميّة، يقدّم المشهد السوريّ الراهن لوحة هائلة في تفتّتها ما بين مجموعات تتجاوز “جبهة النصرة” و”دولة العراق والشام الإسلاميّة” (داعش) و”جيش” زهران علّوش “الإسلاميّ” هو الآخر. والواقع أنّه بات من الصعب جدّاً إحصاء تلك التنظيمات التي تتوالد في سوريّا في شكل شبه يوميّ، متصارعةً في ما بينها بما يفوق تصارعها مع عدوّها المفترض، أي نظام بشّار الأسد وقوّاته وأجهزته.

وتحمل النظرة البسيطة على دهشة لا تنقطع: إذ كيف تتلازم دعوة كونيّة عابرة للأوطان والمناطق والجماعات كالدين الإسلاميّ، وتفتّت هائل لا يحدّه حدّ يضرب الحركات التي ترفع الإسلام راية وعنواناً إيديولوجيّاً لها؟

لقد سبق للشيوعيّة مثلاً، ولو بحدود أضيق وبتكرار أضعف، أن شكّلت هذا الغطاء الإيديولوجيّ الذي أريد للإسلام أن يشكّله من قبل التنظيمات الجهاديّة.

ففضلاً عن انشطارها وطنيّاً (شيوعيّات سوفييتيّة وصينيّة وكوبيّة والبانيّة الخ…)، كانت تنظيمات شيوعيّة كثيرة تشهد تشقّقات واسعة في داخلها وعلى هوامشها. ولئن كانت الذرائع السياسيّة والإيديولوجيّة المقدّمة هي ما يُرفع سبباً لتلك التشقّقات، إلاّ أنّ معظمها كان يعبّر فعليّاً عن اختلاف الموقع والتمثيل الاجتماعيّين داخل التنظيم الشيوعيّ الواحد.

هذه السمة الثابتة تعاظمت كثيراً مع الحركات الجهاديّة والتكفيريّة الإسلاميّة تحت وطأة عاملين غالباً ما يترافقان معاً: أوّلهما أنّ المجتمعات التي تنمو فيها الحركات المذكورة (الأفغانيّة، العراقيّة، الصوماليّة، اللبنانيّة، الفلسطينيّة، السوريّة الخ…) أشدّ تذرّراً وأقلّ تجانساً في داخلها من أيّة مجتمعات أخرى. ففي بلدان كهذه يتعايش الولاء المعلن واللفظيّ للدين مع ولاءات أقوى عمليّاً، وإن على نحو مكتوم ومداور، للعائلة والعشيرة والإثنيّة والمنطقة… والأمر الثاني أنّ المسار الذي ينتظم نشأة هذه الحركات، كما ينتظم انشقاقاتها، غالباً ما يتقاطع مع انهيار يصيب الدولة المركزيّة في البلد المعنيّ بما يؤدّي إلى توسّع العنف وبلوغه مدى شاملاً تغذّيه الانتشار الكثيف للسلاح وأدوات الموت. وهذا إنّما يقوّي الميل إلى التوكيد الذاتيّ لدى الجماعة المعنيّة كما يزوّده بأدواته المطلوبة في وضع حربيّ.

ومن المزيج الذي يتحصّل عن لقاح التفتّت المجتمعيّ وسطوة التسلّح وشموله، تتحوّل الفئة الجهاديّة إلى ما يشبه حلقة مافياويّة لا يضبط حركتَها ضابط ولا يردعها رادع. إلاّ أنّها أيضاً حلقة جاذبة لأعداد من شبيبة العائلة أو العشيرة أو المنطقة التي تعبّر الحركة عنها، سيّما وأنّ فرص العمل تتضاءل كثيراً بسبب الدمار الاقتصاديّ الذي تكون المواجهات الحربيّة قد أحدثته. ومن أجل بقاء تلك الحركات وضمان تمويلها، يتعاظم تورّطها يوماً بعد يوم في النشاط المافيويّ، خطفاً وسرقةً وتهريباً، فيما يتراجع على نحو متزايد زعمها الإيديولوجيّ ووفاؤها المزعوم للدين وتعاليمه. أمّا القليل الذي يتبقّى من هذا الوفاء، في مناخ من العزلة عن العالم والتعرّض الدائم للقتل والقتال، فلا يعدو كونه تأويلاً بالغ الفقر والتزمّت للدين بأوامره ونواهيه.

والحال أنّ واقعاً كهذا يرتّب نتيجتين متلازمتين: فمن جهة يتأكّد أنّ تلك التنظيمات لا تكتفي بأن تعكس التذرّر الاجتماعيّ الموروث، إذ أنّها أيضاً تفاقمه وتوسّعه. هكذا يتّجه عملها إلى تفكيك ما تبقّى من أنسجة وروابط يفترض أنّها تجمع بين أبناء مجتمع واحد. أمّا من جهة أخرى، فيتأكّد أيضاً أنّ إنشاء سلطة مركزيّة، بما في ذلك سلطتها الموعودة هي نفسها، بات إلى الاستحالة أقرب. فهذه حركات مهمّتها أن تصدّع ما هو قائم من دون أن تستطيع توفير البديل الممكن لإدامة الوحدة في دولة ومجتمع ما.

وفي هذه الغضون فإنّها لا تخدم الإسلام الذي تزعم الانتساب إليه إلاّ بالإساءة إليه وتنفير أعداد متعاظمة من الناس منه.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى