صفحات الرأيماهر مسعود

بين هاويتين…/ ماهر مسعود

ضمن إطار فكري كلاني وسؤال وجودي مشغول ثقافياً يطرح حازم صاغيّة (مقالته «فرصة (ثقافية) للسوريين، وربما للعرب») إمكانية أن تكون الحالة السورية التي خلقتها الثورة بمثابة فرصة للتحول الثقافي لمجتمعاتنا بعد حلول ما يشبه اليأس السياسي نتيجة الظروف المحلية والإقليمية والدولية المحيطة بالثورة، والمآل غير المشرّف لنتائج التغيير السياسي الحاصل بتدخل ومساعدة خارجية كما في ليبيا والعراق سابقاً.

يتكثف السؤال المطروح كما يأتي: «هل يمكن لليأس من التدخل أن يمهد لانتقال بؤرة التركيز من «السياسي» (إسقاط النظام بمعونة طرف خارجي) إلى «الثقافي» (مسؤولية الشعوب والجماعات عن مصائرها وبلدانها في صيغتها الوطنية الراهنة أو في صيغ أخرى)؟»… «لربما شكل انتقال كهذا، من «السياسي» إلى «الثقافي»، في ما لو أتيحت له الفرصة، ثورة ثانية لن تقل أكلافها عن أكلاف الثورة الأولى».

لكن السؤال لا يقوم في الفراغ بل يرتكز على وصف سابق لواقع الحالة السورية بحيث «يقال هذا وفي الخلفية أن العفن لفّ «السياسي» بفاعليه الرئيسين، أي النظام بعنفه الهمجي المصحوب بالتحلل الميليشوي الذي يوازي تفتت البلد ومناطقه وسلطاته، والثورة التي تكاد الحرب الأهلية والأزمة الإقليمية تبتلعانها فيما يتضخم جيبها الإسلامي التكفيري على حساب جيبها الأقل إسلامية وغير التكفيري؟».

على رغم أهمية السؤال وصحة التوصيف اللذين يطرحهما صاغيّة، إلا أن مزيداً من الفصل والتفصيل في علاقة السياسي بالثقافي هو ما تحتاجه تلك «الفرصة» وذاك السؤال. فرؤية الأمر من زاوية «جدل التعايش» بين السياسي والثقافي حيث إن كلاهما صانع للآخر ومقوّم له تاريخياً، يجعلنا نقول إن النقلة الثقافية المأمولة من صيغة رمي المشاكل على الخارج وطلب الحلول منه في الوقت عينه، نحو صيغة مسؤولية شعوبنا عن «مصائرها وبلدانها»، لا تكمن في نقل بؤرة التركيز من «السياسي» إلى «الثقافي» بقدر ما تحتاج هي ذاتها (أي النقلة) إلى فعل سياسي يقوم على أسس ثقافية جديدة، ويطرح تقويمات جديدة تقطع مع الأصل القيمي الحامل للثقافة والسياسة معاً كما تجلت منذ «حملة نابليون على مصر» حتى يومنا هذا.

وعليه فإن ضرب الأساس الثقافي للسياسة لدينا هو ما ينقل التركيز الاجتماعي والثقافي من البعد الخلاصي للعامل السياسي (الذي يبقى خارجياً حتى لو كان من الداخل)، نحو المسؤولية الذاتية لشعوبنا عن مصائرها، لكن بالضبط عند انتقالها إلى شعوب فاعلة سياسياً، أي انتقالها من شعوب رعيَّة إلى مواطني دولة.

إن ضرب الأساس الثقافي للسياسة هو ما طرقت بابه الثورة السورية من دون أن تدخله وتتمثله كلياً بعد، وهو الرهان الذي تقاومه مجموعة القوى التي تبدأ بالنظام وأتباعه وحماته الإقليميين والدوليين وتنتهي بـ «أصدقاء» الشعب السوري المرعوبين من انتقال الحراك الثوري وثقافة الثورة إلى بلادهم، لا سيما المحيط العربي والإقليمي لسورية.

في مجتمعاتنا كثير من التسييس وقليل من السياسة، ومن الفضائل الأولية للثورة أنها أعادت السياسة الى الشارع بعد تغييبها من قبل السلطة لعقود، ولكن من كبواتها أنها ما زالت مرمية في الشارع من دون أن تتمكن من لمّها ثقافياً في سياسة جديدة، وهذا ما تقف دونه مجموعات القوى المشار إليها أعلاه من دون أن يكون ذلك تبريراً لتقصيرها. لكن ما نراه وجهاً خطيراً من وجوه الدعوة التي يطرحها حازم صاغيّة هو أن التركيز على «الثقافي» بعد «اليأس» من «السياسي» هو استعادة لمقولات النظام قبل الثورة وبعدها من أن أساس المشكلة في ثقافة الشعوب لا في الأس السياسي الحاكم لتلك الشعوب، وهو ما يقتات دينياً وسياسياً على مقولات من مثل «كما تكونون يولّى عليكم»، أو أن شعوبنا «غير صالحة بالجوهر للديموقراطية» أو أنها «تحتاج لربع قرن تجهيز لتصبح مؤهلة للدمقرطة». وكل ذلك سوء فهم وتفاهم يقلب طرح صاغيّة رأساً على عقب ويفرغه من محتواه الثوري ثقافياً.

إن وصف الواقع العفن للثورة والنظام كفاعـــلــين رئيـسيـــن يستلزم طباقاً وصف الواقع العفن للــسياسة الدولية التي تتزعمها، وربما توزع أدوارهـــا، إدارة أوباما بكل انحطاطها الذاتي أولاً والموجه تجاه شعوبنا وثوراته ثانياً، وهنا يحضر السؤال الصعب واقعياً: هل يمكننا صناعة مصائرنا في زمن العولمة بعيداً من مستلزمات العفن الذي يصيب الفاعلين الدوليين، وفي ظل نظام حكم يفتقد لأدنى درجات الوطنية؟ ربما كان اقتراح حازم صاغيّة المطروح على صيغة سؤال «وفرصة ثقافية» هو ما نملكه بأيدينا أمام كل العوامل المحيطة الأخرى بأيدي غيرنا التي تلتف كدائرة شبه مغلقة حول عنق ثورتنا، هذا كثير لكنه ممكن.

* كاتب سوري

الحياة

فرصة (ثقافيّة) للسوريّين، وربّما للعرب؟/ حازم صاغية

لا يبالغ الذين يقولون إنّ عدم التدخّل الأجنبيّ في سوريّة ضاعف موت السوريّين ومحنتهم وتهجيرهم، وأطال أمد المواجهة، كما ضخّم الخطر الناجم عن حركات التكفير القاتلة، فيما مكّن العفن لا من سوريّة فحسب بل من عموم منطقة المشرق العربيّ.

وقد صار واضحاً أنّ احتمالات تدخّل كهذا باتت متزايدة الضعف، وأنّها حتّى لو حصلت الآن فإنّها قد تندرج في خانة «القليل جدّاً والمتأخّر جدّاً». وتوقّعات «متشائمة» كهذه لم تعد تعوزها الأسانيد التي كثر الكلام عنها، من انعزاليّة إدارة باراك أوباما إلى نزعة الانكفاء عن التدخّل لدى الرأي العامّ الغربيّ على عمومه، ومن عجز ثوراتنا عن إغراء الرأي العامّ المذكور وتحريكه إلى ما خلّفته التجارب المُرّة لحربي أفغانستان والعراق في زمن تسوده الأزمة الماليّة والتحوّلات الاقتصاديّة الكبرى.

لكنْ، ومن دون الوقوع في أيّة نزعة رؤيويّة تفترض أنّ الكارثة شرط حتميّ للخلاص، يجوز التساؤل المتحفّظ: هل من الممكن أن توفّر المحنة الراهنة مقدّمةً لتحوّل في الوعي والسلوك تنبثق منه، على المدى البعيد، بل الأبعد، ظروف ملائمة للإقلاع السوريّ؟

بمعنى آخر، هل يمكن لليأس من التدخّل أن يمهّد لانتقال بؤرة التركيز من «السياسيّ» (إسقاط النظام بمعونة طرف خارجيّ) إلى «الثقافيّ» (مسؤوليّة الشعوب والجماعات عن مصائرها وبلدانها في صيغتها الوطنيّة الراهنة أو في صيغ أخرى)؟

يقال هذا وفي الخلفيّة أنّ العفن لفّ «السياسيّ» بفاعليه الرئيسين، أي النظام بعنفه الهمجيّ المصحوب بالتحلّل الميليشيويّ الذي يوازي تفتّت البلد ومناطقه وسلطاته، والثورة التي تكاد الحرب الأهليّة والأزمة الإقليميّة تبتلعانها فيما يتضخّم جيبها الإسلاميّ التكفيريّ على حساب جيبها الأقلّ إسلاميّة وغير التكفيريّ؟ أمّا حدود تأثير الخارج في تعديل هذا التوازن الصفريّ فضئيل وهزيل كما بات واضحاً وضوح الشمس. وهذا إن لم نقل إنّ تدخّلاً بالغ الضبط والمحدوديّة كهذا مرشّح لتزويد العفن بمزيد من موادّ الاشتعال والانتشار ومن طول المدّة.

وفي النهاية، ما العمل أمام الخيارين القاتلين، العسكريّ – الأمنيّ والجهاديّ التكفيريّ في ظلّ امتناع الغرب عن التدخّل؟

ولربّما شكّل انتقال كهذا، من «السياسيّ» إلى «الثقافيّ»، في ما لو أتيحت له الفرصة، ثورة ثانية لن تقلّ أكلافها عن أكلاف الثورة الأولى. وهذا، بطبيعة الحال، ثقيل الوطأة وبالغ الكلفة على السوريّين الذين تحملهم ظروفهم الشديدة الصعوبة على دفع المقابل الباهظ، لا عن تاريخهم فحسب بل أيضاً عن شطر عريض من تاريخ الشعوب العربيّة الأخرى. ذاك أنّ هذا الانتقال ينطوي على قطع مع تاريخ المنطقة البادئ مع حملة نابوليون على مصر والتي وُلدت معها طريقة في النظر إلى الشأن العامّ لا تزال سارية المفعول، إن لم نقل إنّها كانت الأمّ الولاّدة للشأن العامّ ذاته. وهنا تحتلّ المسؤوليّة عن الذات الوطنيّة موقعاً مركزيّاً، خصوصاً أنّ التجربتين السابقتين في إطاحة استبداد الحدّ الأقصى، أي العراقيّة والليبيّة، حيث كان التدخّل الخارجيّ شرطاً شارطاً لنجاحهما، لم تقدّما حتّى الآن أيّ برهان على وجود تلك المسؤوليّة.

فهل من احتمال كهذا، وهل من قدرة على تحمّله بعد كلّ ما تكبّده السوريّون على امتداد السنوات الثلاث الماضية؟ وهل ثمّة طرف يمكن أن يكون الحامل لهذا الاحتمال؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى