خلود الزغيرصفحات سورية

النظام السوري: سلطة الأيديولوجية ونكران الشعب


خلود الزغير

في أحد مطاعم باريس كنا ثلاثةُ سوريين نتبادلُ الطعام وأسباب الثورة ومآلاتها مع الشباب التوانسة والمصريين الذين أنجزوا المرحلة الإنقلابية من ثورتهم على الاستبداد وبدأوا الآن مرحلة البناء السياسي للدولة.

بعد ساعاتٍ من التحليل السياسي والاجتماعي والفلسفي لبنيةِ النظام والمجتمعِ السوري وسؤالٍ وجّه لنا أعادنا لنقطةِ البداية من الحديث: نحن لا نفهم كيف بعد كل هذه المجازر والإعتقالات والتعذيب لا يزال هناك موالون للنظام في سورية؟ ماذا فعل النظام السوري بالشعب غير ما فعله مبارك وبن علي ليبقى لديه حتى الآن من يدافع عنه ويغني ويرقص له؟

حينها كان من الصعب علينا، نحن السوريين، إعادة الكلام بذات الخطاب التحليلي الأول للوعي وبنية النظام وسلطة المعرفة وسلطة الأيديولوجية التي مارسها النظام لأكثر من أربعين عاماً وبنفس اللغة السياسية والفلسفية التي بدأنا بها النقاش. لذلك خرج من أحدنا بشكل عفوي، كما يقال، نشيد الطلائع: ‘للبعث يا طلائع.. للنصر يا طلائع…’ وختمناه بالصيحة الطلائعية طبعاً : ‘تشرينُ أقبل..الخ’، ومن ثم غنينا لهم نشـــيد الشبيبة(لنرفع الجبين للأبد..شبيبة لحافظ الأسد..ونرخص الدماء في موطن الفداء ونمتثل عقيدة الرفيق حافظ الأسد وننتمي لكبرياء حافظ الأسد’، وأغنية: ‘حماكَ الله يا أسدُ سلمتَ وتسلمُ البلد وتسلمُ أمّةٌ فخرت بأنك فخرُ من تلدُ’ وباقة من الأغاني ‘الوطنية’ كما يقال لنختتم السهرة بترديد الشعار الصباحي مكررين هتاف ‘قائدنا إلى الأبد: الأمين حافظ الأسد’ ثلاث مرات كما كنا نفعل كل صباح لأثني عشر عاماً في المدرسة.

عندها حاول الأشقاء العرب الذين كانوا للتو يشكون ويــــبكون من الدكتاتورية السابقة لديهم التغلب على دهشتهم مما سمعوا وقالوا لنا نحــــن الآن متفاجئون من السوريين الذين ينزلون ضد النظام وليس العكس كيف تخلص هؤلاء المتظاهرون من عمليات غسل الدماغ الممارسة ضدهم كل هذه السنين؟

حقيقةً إن ما فعله النظام السوري زيادةً على إفقار مبارك للشعب المصري وقمعه، وزيادةً على تسلط واستبداد واحتكارات بن علي السياسية والإقتصادية هو امتلاكه لِ’السلطة الأيديولوجية’. تلك التي حُفرت عميقاً في وعي وسلوك الشعب السوري عاموديّاً وأفقيّاً، زمنيّاً ومكانيّاً وعلى كافة قطاعات المعرفة. وعملت أدوات النظام على ترسيخها مستعينة ب’دراساتها’ وتجاربها مع السوفييت والألمان.

فمن قراءة سريعة للمناهج المدرسية، لأغاني الأطفال المدرسية، لأغاني المراهقين المدرسية، للخطاب الجامعي، التلفزيوني، الصحفي، الإذاعي، لخطاب مؤسسة العمل أيّاً تكن وبنظرة للشارع الذي نعبره في أي حارة بسورية سنجد أننا مخترقون محاصرون مصفوعون بشعار’سورية الأسد’ أو ‘ أبدية النظام’. هذا الشعار الذي تم تمريره ضمن خطاب كل هذه المؤسسات وأدواتها. بحيث أنّ هذه الخطابات ومؤسساتها هي بنفس الوقت كانت الأدوات التي مارس بها النظام ‘سلطته الأيديولوجية’. وعبر التاريخ الطويل الذي جمع النظام مع الشعب السوري نستطيع ربما استشفاف النظرة التي رأى بها هذا النظام لشعبه منذ وصوله للسلطة وحتى هذه اللحظة.

باعتقادي حين وصل الفصيل العسكري للبعث بحركته الانقلابية لكرسي الحكم في سورية، قادماً من خارج المؤسسة السياسية المدنية، فإنه تشكّل كنظام سياسي خارجياً وأمني – عسكري داخليّاً، لم يستطع النظر للشعب السوري كمواطنين لأنهم ببساطة لم ولن ينتخبوه، كما أنهم لن يشاركوه لا الدولة ولا مؤسساتها ولا مناصبها. لذلك نظر النظام للشعب السوري كـ’كائنات’ أقل من بشرية موجودة حُكماً على هذه المزرعة يتوجب الاستفادة منها لشرعنة الزعامة والقيادة أوّلاً، ولتضخيم الثروة ثانياً. لكن قبل هذا الاستثمار كان يستوجب تطويعهم وأدلجتهم لضمان ولائهم وصمتهم، من خلال ممارسة ‘سلطته الأيديولوجية’ المتمثلة بِـ(البعث) القائم على الخلطة السحرية آنذاك المكوّنة من الإشتراكية المُكتسِحة العالم أجمع، والقومية العربية العاصفة بقلب ومشاعر كلّ عربيّ. فتقدم النظام – البعثي في شعاراته- كعرّاب لهذه الأفكار واضعاً نفسه في مقدمة الصف العربي المدافع عن قضايا الأمة خارجياً، وممارساً بنفس الوقت أدلجةً منقطعة النظير لهذه ‘الكائنات’ السورية حيث اجتاح عالمها بصوره وشعاراته التي ترفعه لمصاف الآلهة، ومصادراً حياتها من أول دخول لها في المجتمع إلى خروجها من الحياة حيث وضعت الصور حتى في بيوت العزاء لضمان ‘كائنات’ صالحة ومطيعة ومسالمة.

في المرحلة الثانية وبعد أن اطمأنّ النظام من نجاح عملية الأدلجة، بدأ ينظر للشعب ك ‘أشياء’ يمكن توظيفها في مهمات تخدم مصالح داخلية أو خارجية. لذلك كنا نجده بهاتف فقط يطلب مظاهرة مليونية من أجل مسألة ما تخص الرأي العالمي أو لإبراز جماهريته، فنجد خلال ساعات قليلة الملايين نزلوا بلافتات وشعارات لم يقرأوها أو يطلعوا عليها ليهتفوا بحماسة منقطعة النظير ويغنوا ويفدوه بالروح والدم!! إنهم أشياؤه التي يحركها ساعة يشاء. وكلما زار مسؤول صغير أو كبير مبنى أو مؤسسة تُستخدم مجموعة ‘أشياء’ طلابيّة، عماليّة أو فلاحيّة لاستقباله ووداعه في مشهد أكثر ما يؤسس لنخبوية أزلام النظام وشيئيّة الشعب. كما أن النظام بشرعنته للفساد كنمط حياة أصبحت ‘الأشياء’ السورية بالنسبة له وقود عمليات الفساد والرشوة وفي مرحلة لاحقة كبش الفداء لرجالاته. فهي ببساطة ‘أشياء’ ليس أكثر.

أما في المرحلة الأخيرة، وفي العقد الأخير تقريباً وبعدما وصل النظام لمرحلة من الترف النخبوي والنرجسية السياسية، فإنه لم يعد ينظر للشعب السوري ك ‘كائنات’ أو ك ‘أشياء’ بل أصبح هذا الشعب بالنسبة له يساوي ‘العدم’ فهو لا يكترث به ولا يراه أصلاً.

لذلك ما يثير النظام اليوم ويستفزّه ليس تمرّدُ العبد على سيّده، بل تمرد ‘العدم’ على ‘الوجود الأبدي’ وصدمة هذا النظام بوجود آخر لا يكتفي اليوم ببضعة طلبات يرميها له، بل يريد إسقاطه وإعادة إدخاله لمنطق الوجود السياسي من جديد عبر الديمقراطية التي ستسقطه حتماً.

ربما يمكننا فهم استسهال القتل الجماعي والتعذيب المفزع بحق الإنسان-المواطن إذا فهمنا رؤية النظام لشعبه من خلال عدم الاعتراف به كوجود له حقوق، ومن خلال احتقاره لشعبه ودعسه بالأحذية والتشهير به حيّاً أو ميّتاً الذي بدا جليّاً في الاتهامات الموجّهة للمتظاهرين بدءاً من ‘الحثالة’ انتهاءاً ب ‘خونة’ يستحقون القتل والسحق.

يظهر عدم الإكتراث والتجاهل أيضاً في خطوة ‘الإصلاحات’ المزعومة، فكان كمن يقدم هذه ‘الإصلاحات’ بيديه للشعب بينما رأسه وعيناه تنظران باتجاه الغرب لتلقّف نظرة الرضا. فهو يدرك والشعب كذلك، الوزن الشكلي لها- الاصلاحات- على الأرض وأنّها لن تغيّر شيئاً طالما هو وأجهزته الأمنية وحزبه يمسكون بالسلطة والمجتمع، لكن النظام ربما كان يأمل من صدىً لإصلاحاته في الإعلام من مبدأ تسجيل نقطة بحيّز الحركة. ولم تكن زيارات المعلم للعراق وغيره أو قوانين الأحزاب والانتخابات المشروطة ومناوشات جبهة الجولان غير بعض هذه ‘الحركشات’ مع الخارج التي تعكس أخذ الخارج بعين الاعتبار أكثر من الداخل، وتجعلنا نسأل إذا كان المطروح حواراً وطنيّاً شاملاً منذ أشهر فلماذا النظام يبدو مستعداً لحوار الخارج لحل الأزمة أكثر من حوار الداخل الذي يرفض حتى الآن أن يراه؟

هذه العنجهيّة التي يُدير بها النظام الانتفاضة السورية وهذا التعنّت والاستخفاف بالدم والشعب السوري حين نُحيله إلى بنية ووعي وتاريخ هذا النظام، بإمكاننا أن نتصور أنه اليوم يمشي بمنهجية تقوم على الإمعان في الوحشية والإبادة لإجبار السوريين على تخفيض مطلبهم بحقهم بالحرية إلى مطلب الحق بالحياة فقط. و بنفس الوقت هذا النظام الذي لم يعترف بوجود الشعب منذ أربعين عاماً لازال يراهن اليوم عليه ك ‘كائنات’ وك ‘أشياء’ وأحياناً ك ‘عدم’ لكنه لم يستوعب بعد أن الروح السوري عاد يتدفق في جسد الشعب معطياً للنظام درساً في روح الحرية وروح التاريخ الذي لا يتوقف تحت أحذية العسكر.

‘ باحثة في جامعة السوربون الجديدة – باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى