مراجعات كتب

“النظام السياسي لمجتمعات متغيّرة” لصموئيل هانتنغتون: مصادر الحكم الرديء/ أحمد ياسين

 

 

كان الكاتب والباحث الأميركي الراحل، صموئيل هانتنغتون (1927 ـ 2008)، استاذاً للعلوم السياسية في جامعة هارفرد. وهو في كتابه: «النظام السياسي لمجتمعات متغيرة»، يبلور رؤيته السياسية الخاصة، على ضوء قراءته التحليلية النقدية المستفيضة، وذلك من خلال معالجته، العلمية التوثيقية والدقيقة (الموضوعية) «موضوع التغيرات في النظم والمؤسسات السياسية»، عبر تناوله البعدين التكامليين: السياسي والإجتماعي معاً، لهذه النظم والمؤسسات.

وهذا الكتاب الذي أصدرته حديثاً «دار الساقي» في بيروت، في طبعة ثانية، ترجمته إلى العربية سمية فلو عبود، وصدرت طبعته الأولى في العام 1993. وهو بالنسبة إلى مضمونه يعد كتاباً مرجعياً، في الفكر السياسي الحديث، وهو يتميز بأسلوبية جمعه المتقن للشأنين: النظري (القواعدي)، والتطبيقي (الإجرائي)، بحيث يصعب الفصل بينهما عملياً، هنا، لأنهما يكونان ـ معالجاتياً ـ متحداً مفهومياً واحداً، له صفة، ما يمكن تعريفه بـ «العينية» التاريخية، ذات وجهي العملة الواحدة. ذلك ان مركزية تحليلية هذا الكتاب، تنهض على القاعدة الذهبية التالية، هي التي يحددها هانتنغتون في الصفحة 253 بقوله: «إن التفاعل بين النظام السياسي والنظام الإجتماعي، هو تفاعل دينامي وديالكتيكي: ففي البداية، يلعب الثاني، الدور الرئيس في تشكيل الأول، وفيما بعد يلعب الأول، الدور الأكثر أهمية، في احداث الثاني».

ويشير هانتنغتون في الصفحتين 10 و11 إلى أن العنف السياسي ازداد وعلى نحو دراماتيكي، في معظم دول العالم، خلال الخمسينات والستينات، كما ازداد بوضوح عدم الاستقرار السياسي (في تلك الحقبة أيضاً)، وتضاعف العنف وسواه من الأحداث، التي تزعزع الاستقرار، خمس مرات ما بين عام 1955، وعام 1962، عما كان عليه، ما بين عام 1948 وعام 1954 ويؤكد هانتنغتون على أن ذلك كان نتيجة سيطرة الانحلال السياسي على وجه التحديد. فما الذي سبب هذا العنف، وانعدام الاستقرار؟ إن ما يقدمه هذا الكتاب، أولاً، (اي على نحو رئيس)، هو ان ذلك كان، الى حد كبير، نتاج التغير الاجتماعي السريع، والتحريك السريع لفئات جديدة، في مجال السياسة، بالإضافة إلى التطور البطيء، للمؤسسات السياسية.

وعليه فإن «النظام السياسي لمجتمعات متغيرة»، يتألف من ثلاثة أقسام: (قوامها أربعة عشر فصلاً) القسم الأول يتمحور حول: «النظام السياسي والانحلال السياسي»، والقسم الثاني يدور حول: «التغيير السياسي في الأنظمة التقليدية»، والقسم الثالث يتناول ما يسميه هانتنغتون: «البريتورية (وهي التي يعني بها المجتمع المسيّس ونظامه السياسي)، والانحلال السياسي».

يفترض هانتنغتون ان التغيرات التي تحدث في النظم والمؤسسات السياسية، انما تحدث بسبب الاضطرابات الناشئة، داخل النظام السياسي والاجتماعي.

وينتقد هانتنغتون، نظرية التحديث، معللاً ذلك، بأن حجتها القائلة، بأن التغيير والتنمية الاقتصادية، هما العاملان الرئيسان المسؤولان، عن إنشاء أنظمة سياسية مستقرة وديموقراطية، إنما هي حجة متصدعة. ويركز، بدلاً من ذلك، على عوامل أخرى مثل: التحضر، محو الأمية، التبعية الإجتماعية والنمو الاقتصادي. كما يؤكد أن هذه العوامل، ليست مرتبطة إلى حد كبير بالتنمية السياسية؛ بالرغم من أنه يراها مترابطة، لكن متمايزة.

ويقول هانتنغتون: ان النظام نفسه، هو هدف بالغ الأهمية، في البلدان النامية، وينبه إلى وجوب عدم الخلط، بين مسألة وجود أو عدم وجود النظام، وبين مسألة نوع هذا النظام، سواء من حيث طبيعته السياسية، أو من حيث توجهه الاقتصادي.

ويؤكد ان الهوة السياسية ازدادت اتساعاً، بين الأنظمة السياسية المتطورة، والأنظمة السياسية المتخلفة، وبين أنظمة الحكم المدنية والأنظمة الفاسدة. وهذه الهوة السياسية تشبه الهوة الاقتصادية، وهي متصلة بها، لكنها ليست مطابقة لها، على حد قوله، وهو يرى ان الموقع الرئيسي في القرن العشرين للتخلف السياسي، وللتخلف الاقتصادي ايضاً، يميل إلى ان يكون في الدول المعصرنة في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية، مع وجود بعض الاستثناءات. يذكرها، كأمثلة في هذا السياق.

ويقول هانتنغتون: إن مستوى الاجتماع السياسي، الذي يصل اليه المجتمع، يعكس العلاقة بين مؤسساته السياسية والقوى الإجتماعية التي تشكلها. وكلما ازداد المجتمع تعقيداً، وكانت عناصره متغايرة، كان احراز الإجتماع السياسي، والمحافظة عليه، متوقفاً على أعمال المؤسسات السياسية. فمن الناحية العملية، ليس التمييز بين المؤسسة السياسية، والقوة الاجتماعية، واضح المعالم. وتاريخياً ـ وعلى ما يؤكد هانتنغتون ـ إن المؤسسات السياسية نشأت من التفاعل والاختلاف، بين القوى الاجتماعية، ومن التطور التدريجي للإجراءات والوسائل التنظيمية، لحل هذه الخلافات.

ويشير هانتنغتون في حديثه عن المؤسسات السياسية والمصالح العامة، إلى أن للمؤسسات السياسية، أبعاداً أخلاقية، كما أن لها أبعاداً بنيوية. فالمجتمع ذو المؤسسات السياسية الضعيفة، يفتقد القُدرة على كبح الإفراط في الرغبات الشخصية، والأنانية الضيّقة. ومن دون مؤسسات سياسية قوية، لا يمتلك المجتمع الوسائل الكافية، لتحديد ولتحقيق مصالحه المشتركة، والقدرة على إيجاد مؤسسات سياسية هي القدرة على خلق مصالح عامة، والمجتمع الذي يضم تنظيمات حاكمة وإجراءات ذات مستوى عال من المؤسساتية، يكون أكثر قدرة على توضيح مصالحه العامة وتحقيقها. ويؤكد هانتنغتون، هنا، على أن وجود مؤسسات سياسية (كرئاسة الجمهورية أو اللجنة المركزية)، قادرة على بلورة المصالح العامة، هو ما يُميّز، سياسياً، المجتمعات المتطوّرة، عن تلك المتخلّفة، كما أنه يميّز بين التجمعات الاخلاقية والمجتمعات اللاأخلاقية. فالحكم الذي يتدنى مستواه المؤسساتي، لا يكون مجرد حُكم ضعيف، بل هو حكم رديء، ذلك أن الفارق الحاسم برأي هانتنغتون بين مجتمع متطوّر سياسياً، ومجتمع متخلّف، يكمن في عدد وحجم وفعالية تنظيماته. فالدولة الحديثة تتميز عن الدولة التقليدية، أكثر ما تتميّز، بالمدى الموسّع لمشاركة الناس في السياسة، وتأثّرهم بها، عبر وحدات سياسية واسعة النطاق. كما ويوضح الباحث أن من النتائج المهمة للعصرنة، تلك الهوّة التي تُنشئها (العصرنة) بين الريف والمدينة، فهذه الهوة هي بالفعل، ميزة بارزة للمجتمعات التي يحدث فيها تغير اجتماعي واقتصادي وهي مصدر أولي لانعدام الاستقرار السياسي في هذه المجتمعات، وإحدى العقبات المهمة، أمام الاندماج القومي، إن لم تكن هي العقبة الأبرز في طريقه، وكذلك فإن العصرنة تغير طبيعة المدينة، وتغير التوازن ما بين المدينة والريف، حيث تبدأ الطبقة المتوسطة بالظهور في العمل السياسي، مما يجعل المدينة مصدراً للاضطراب، ولمعارضة النظام السياسي والاجتماعي، الذي لا يزال في هذه الحالة خاضعاً لسيطرة الريف، فتتمكن العناصر المدينية، أخيراً، من إثبات وجودها، ومن الإطاحة بالنخبة الريفية الحاكمة وبذلك تكون نهاية النظام السياسي التقليدي. وهذا الاختراق المديني يترافق مع العنف عادة وفي هذه الحالة، يصبح الوضع السياسي على درجة عالية من انعدام الاستقرار. وعلى ما يقرر الكاتب، فإن الأنظمة السياسية، تتمايز بمستويات المؤسساتية السياسية، وبمستويات المشاركة السياسية، فالأنظمة السياسية، ذات المستويات المتدنية من المؤسساتية، والمستويات العالية من المشاركة، تكون فيها القوى الاجتماعية فاعلة بشكل مباشر، في المجال السياسي، باستخدام أساليبها الخاصة ويطلق على هذه الأنظمة السياسية اسم الأنظمة البريتورية. وعلى العكس والتوضيح للكاتب فإن الأنظمة السياسية، التي ترتفع فيها نسبة المؤسساتية مقابل المشاركة، يمكن أن تُدعى بالأنظمة المدنية.

وفي خوضه في مسألة كيفية تحويل المجتمع البريتوري (المجتمع الذي فيه قوى اجتماعية مسيسة، ويتصف بمستوى متدن من المؤسسات السياسية)، إلى مجتمع الشرعية والسلطة؟ أي إلى نظام مدني؟ هنا يلحظ هانتنغتون، مشيراً إلى أنه ربما يكون هناك تعميمان (اثنان) حول تحرك المجتمعات من التفكك البريتوري، إلى النظام المدني: الأول، كلما أخذ هذا التطور مساره في عمليتي العصرنة وتوسيع نطاق المشاركة السياسية، تتدنى الكلفة التي يفرضها على المجتمع. وعلى العكس (فإن) مع ازدياد تعقيد المجتمع، تزداد صعوبة إنشاء مؤسسات سياسية اندماجية فيه. والثاني، في كل مرحلة من مراحل توسيع المشاركة السياسية، تكون فرص العمل السياسي المثمر متاحة أمام فئات اجتماعية مختلفة، وزعماء سياسيين ذوي نزعات مختلفة.

الكتاب: «النظام السياسي لمجتمعات متغيرة»

الكاتب: صموئيل هانتنغتون

ترجمة: سمية فلو عبود

صادر عن «دار الساقي بيروت، في ط. ثانية 2015)

يقع في (308) صفحات من القطع الوسط

نوافذ

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى