مراجعات كتب

كتاب ميشال سو ودومينيك بارتيليمي يترجمه جان جبور:لقاء الحضارات وصدام النخب في الإسلام

 

 

قصي الحسين

البحث في التراث الجغرافي العربي، يحتل اليوم أولوية بارزة في الدراسات والبحوث الغربية الحديثة والمعاصرة، نظراً لاعتباره حلقة أساسية في تطور الحضارة العالمية من جهة، وتطور منظور الحضارة العربية من جهة أخرى، خصوصاً على صعيد علم الجغرافيا المديني فيها. وسأقدم على ذلك شاهدين اثنين غربي وعربي.

1- ذهب المستشرق كراتشكوفسكي إلى القول: «لا يقتصر محيط التراث الجغرافي العربي على البلاد العربية وحدها، بل يمدّنا بمعلومات من الدرجة الأولى عن جميع البلاد التي بلغها العرب أو تلك التي تجمعت لديهم معلومات عنها، بالصورة المتنوعة ذاتها التي وصفوا بها بلاد الإسلام. وقد يحدث أحياناً أن تمثل المادة الجغرافية العربية، إما المصدر الوحيد أو المصدر الأهم، لتاريخ حقبة معينة، لبلد من البلدان». وهو يقول أيضاً في مكان آخر: يجب الاعتراف بأهمية التراث الجغرافي العربي وبأهميته العلمية القصوى والتنوع الكبير في فنونه وأنماطه. ففيه «تقابلنا الرسائل العلمية في الفلك والرياضيات، كما تقابلنا الرسائل العلمية التي وضعت من أجل عمال الدواوين».

2- أما الشيخ نديم الجسر مفتي طرابلس، فيروي قائلاً: عندما زرت «آثار بابل» لاحظت أن أرض المداخل للأبنية الأثرية، فيها بقع وأقسام تلوح عليها سيماء التجديد. فسألت الأستاذ المكلف بدلالة السواح على الآثار، وهو ذو ثقافة عالية، عن السبب في ذلك، فقال: «هذه بقع وأقسام خربتها العوامل الطبيعية، فأرادت إدارة الآثار أن تجددها، بما يقرب من البلاط القديم». ولما رآني ألح في أن يدلني على أقسام البلاط القديم، وأساله: هل أنا الآن أطأ بقدمي البلاط نفسه الذي كان يطأه أهل بابل منذ أربعة آلاف سنة؟ قال لي وهو يبتسم: «هذا هو السؤال نفسه الذي سمعته من سائح أميركي عجوز، طرحه عليّ وعيناه مغرورقتان بالدموع».

وبحق نقول، إنها هي هي، تلك النشوة العجيبة التي تعتري الذين قرأوا تواريخ الآثار القديمة ورأوا صورها أو قرأوا عنها بادئ ذي بدء. خصوصاً إذا أتيح لهم تالياً، أن يشاهدوا آثارها بأعينهم وقدر لهم أن يطأوا أرضها بأقدامهم. إنها إذاً، لمزيج من الدهشة، والعبرة والرهبة، والسرور، والكآبة، واللذة، ولاسيما إذا كانت تلك الآثار هي آثار قدماء العرب والمسلمين الذين طواهم الدهر، بعد أن تركوا بصماتهم القوية على مشاهد الحياة العربية والغربية قديماً وحديثاً على حدّ سواء، وهم يتوقعون اليوم تحريك تاريخهم الحضاري الساكن منذ ذاك.

يمهد هذا الكلام لمقاربة المنهج الأكاديمي الذي اتبعه كل من الباحثين الفرنسيين ميشال سو ودومينيك بارتيليمي لكتاب: «الإسلام ولقاء الحضارات في القرون الوسطى» وقام بنقله إلى العربية مشكوراً، الدكتور جان جبور. وهو الكتاب الذي أعده اختصاصيو القرون الوسطى في جامعة «السوربون باريس» (مؤرخون واختصاصيون في تاريخ الفن)، والذين يدرسون في «السوربون أبو ظبي». يبدو لنا أنه يسعى للمساهمة في التفكير، وفي المشاركة في الاختبارات التي تجري حالياً في الإمارات العربية المتحدة من أجل لقاء ثقافات العالم، في الوقت الحاضر وفي المستقبل.

يتطرق الكتاب مثلاً، إلى الصدمات والتبادلات الأولى خلال الفتح الإسلامي، وفي القرون التي تلته مباشرة: 1- لجهة الغرب مع عالم الإفرنج، وبصورة خاصة مع العالم البيزنطي. 2- ولجهة الشرق حيث واجهت النخب العربية المقاتلة النخب الصينية والتركية. وحيث نشأ حوار ثقافي حقيقي مع الهند. وحيث وصلت ربما، بعض منتجات منطقة الخليج إلى اليابان.

كذلك يبحث الكتاب بمختلف المواجهات التي حصلت في القرون الوسطى المتوسطة، مثل الحروب الصليبية، والتي لم تمنع ضراوتها المحاربين المتخاصمين، كما يذكر البحاثة، من أن يتبادلوا التقدير والاحترام. إذ يبدو لنا من خلال بحوث الكتاب المتنوعة، إقرار مؤلفيها الغربيين اليوم، أن نخباً من المسلمين يقدرون الشرف لدى نخب الغرب الافرنج، فيما راح الفرسان الإفرنج ينساقون إلى أحلامهم الشرقية من خلال تعاونهم مع النخب العربية. وهم يقرون إلى جانب ذلك بأنه قد قامت، على الرغم من هذه المواجهات بين المسلمين والإفرنج، تبادلات ثقافية يعد هؤلاء الباحثون في هذا الكتاب ببحثها، وأنها ستشكل المشروع المقبل لهذا الفريق البحثي، للإجابة عن الأسئلة التي تدور اليوم في الأذهان: 1- ما هي المعلومات المتكونة عن الإسلام في الغرب؟ 2- ماذا يعرف الغرب عن العلوم العربية؟. 3- أي دور لعبه تجار البندقية، وسائر المدن الغربية المتوسطية، في التعرف إلى العرب والمسلمين في الشرق؟.

من حق «ميشال سو» أن يرى أن إسلام القرون الوسطى يمدّ مدينة أبو ظبي بطاقة مشهودة، حيث جعل منها ملتقى الحضارات وهي كانت قديماً عند العرب والمسلمين، سوق التجارات (ص 9) كذلك من حق «بيار توبار» أن يتلمس فضل الإسلام على الغرب في القرون الوسطى وحتى اليوم (ص 23). وقد شكل كتاب «شمس العرب تسطع على الغرب» الحديقة الخلفية لأطروحاته المتنوعة على هذا الصعيد، إلى جانب كتب أخرى عربية وأجنبية ذهبت هذا المذهب في البحث والتحري عن عناصرها المكونة.

غير أن الاشكالية الأكثر بروزاً في هذا الكتاب، هي في التطرق إلى الفتح الإسلامي بوقوعاته وتأثيراته المتناقضة: الصدامات الدموية والمبادلات التجارية والعلمية خلال ثلاثة قرون ابتداءً من القرن السابع وحتى نهاية القرن العاشر، بحيث بدا «ميشال سو» متلمساً لتواصل العلاقات التي انتظمت بأشكال مختلفة، بين كل من شارلمان ملك فرنسا والخليفة العباسي هارون الرشيد. إذ وجد فيها اللقاءات الأولى المؤسسة بين عالمين نقيضين: العالم الإسلامي والغرب المسيحي. (ص 41).

كذلك بدا محمد طاهر المنصوري متتبعاً لكل تفاصيل المبادلات الأولى التي قامت بين بيزنطية والشرق الإسلامي، على الرغم من حروب الفتوح في آسيا وإفريقيا وجزر البحر المتوسط، والعبور إلى الأندلس (ص 43). فهو يقول: «بالرغم من حال الحرب المقنعة بين بيزنطية والعرب ومن المواجهات الدامية والمدمرة، ومن الفروقات الظاهرة في الثقافة والدين والتقاليد، لم تتوقف أبداً المبادلات بين المسلمين والبيزنطيين، حتى وإن أدت مفاعيل الحرب أحياناً إلى تباطؤ وتيرتها وتقليص حجمها. وقد شملت هذه المبادلات مختلف المنتجات، وطالت العديد من المجالات تبعاً لطبيعة العلاقات بين الفضاءين» (ص 45)

ويستكمل الباحث والأكاديمي الياباني «شو-ايشي ساتو» وجوه المبادلات البحرية بين العرب (الشرق الأدنى) وبين الشرق الأقصى (الصين والهند واليابان) (ص 83)، وذلك من خلال دراسة خزينة كنوز «شوسو-إن» التي أودعتها الأسرة الإمبراطورية في «تودائي-جي» والتي تعود إلى العام 756م، حيث وجد فيها عدداً من الأغراض المقدمة كهدايا وهي سورية وفارسية وعراقية وفلسطينية ويقول أيضاً: كان التجار والملاحون والبحارة المسلمون، لا يجهلون في ذلك الوقت الثراء والسحر الذي تقدمه اليابان لهم كما جاء في وصف ابن خرداذبة (المسالك والممالك) وأنه كان بإمكان البعثات اليابانية، أن تجاور في الموانئ الصينية والكورية تجاراً وبحارة مسلمين» (ص 91).

يراجع أيضاً «إديث بارلييه- رينو» إشكالية حوار الثقافات من منظور قديم، وجده لدى «البيروني» في كتاب «الهند». فهو يرى أن جميع الثقافات يوجد بينها وبين جميع النظم الدينية بعض المعطيات الأساسية المشتركة. وكان البيروني يتوجه إلى المسلمين المثقفين في البنجاب والسند وأفغانستان، حيث يعيش الهندوس. وهذا ما جعله يطلق حواراً لن يتوقف بين الإسلام والهند بالرغم من الصدامات وسوء الفهم لدى بعض النخب. وقد بدا البيروني من خلال ذلك أنه شديد التفحص لنظرة الآخر. وهو يذكر أن التسامح الديني لدى الهندوس كان يترافق مع حذر شديد، ولو أنّه بدأ متسامحاً في حواره الثقافي مع العرب والمسلمين.

في مقابل ذلك، تفاعل صدام النخب الحربية العربية والصينية والتركية في آسيا الوسطى في منتصف القرن الثامن الميلادي كما يرى «فلورا بلانشون». إذ تسبب دخول القائد العربي قتيبة بن مسلم إلى مدينة «كاشغر» العام 714م، بمواجهة مباشرة مع القوات الصينية. ويرى أن معركة «العطش» التي وقعت العام 724م والتي خسرها العرب ما بين فرغانة وسمرقند، لم يكن لها أثر كوارثي على الوجود العربي. غير أنها شكّلت تحولاً في صورة الجيوش الإسلامية التي لا تقهر» (ص 74). ويشير الباحث إلى أن التقدم العربي الذي حقق أهدافه الاستراتيجية في السيطرة على طريق الحرير البري، كان قد توقف لدى انتقال السلطة إلى العباسيين، ولم تتمكن الجيوش العربية من دخول الصين. وبدل ذلك توسعت العلاقات البحرية العربية مع الصين، وغدا مرفأ «كانتون» المنطقة المتميزة لاحتكاك العرب بالصينيين» (ص 81). ويشهد على ذلك عدد المسلمين الصينيين/»هوي» المقيمين في المناطق الغربية من بلاد الصين اليوم.

وطرحت الحروب الصليبية مواجهات مبكرة بين العرب والغرب ابتداءً من القرن العاشر، حيث برزت الإمبراطورية البيزنطية في مواجهة القوى الإسلامية الكبرى في بغداد ومعها طرحت إشكالية كبرى. وقد ناقش «جان-كلود شاينيه» و»آن-ماري إده» و»دومينيك بارتيليمي» إشكالية هذه الحروب وخلفياتها الدينية والتجارية والتوسعية. إذ عرفت الإمبراطورية البيزنطية في القرن العاشر استنهاضاً لقواها بعد المحن التي واجهتها في القرنين السابع والثامن. وعادت قيليقية وسورية الشمالية لتدخل تحت السيطرة البيزنطية. ثم كانت حروب «الافرنج» الذين فرضوا سيطرتهم على جزء من بلاد الشام، والتي اتسمت بالمواجهات والحروب والأعمال الوحشية» (ص 137). ورغم ذلك، فإن الأعمال الوحشية التي تولدت عن المعارك بين المسلمين والصليبيين، لم تنجم عن تعارض ايديولوجيات أو عن صدام حضارات أو عن مفهوم مختلف للقيم، بقدر ما نجمت عن الرغبة في احتلال ممتلكات وأراضٍ أو الدفاع عنها. وربما عن تعطش للقوة أو رغبة في السيطرة والأخذ بالثأر (ص 153) كما يقول الباحثون. إذ إن الأمراء الأتراك والعرب في القرن الثاني عشر، تعاملوا مع الافرنج من خلال تحالفات دبلوماسية وثقافية واقتصادية وأيضاً عسكرية، وجدوا فيها نصيراً لهم (ص 173).

وفي البحث عن تأثير العرب الثقافي والعلمي والفكري، على الحضارة الغربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، اجتهد «ايف ساسييه» و»جاك فيرجيه» و»اليزابيت كروزيه-بافان» في مناقشة مسائل عديدة تتعلق بما أسموه «ديون الغرب» تجاه العرب، وذلك من خلال التعرف إلى الإسلام وأثره في مكونات الفكر الغربي، ومن خلال العلوم العربية التي راجت في الغرب في القرون الوسطى (ص 197). ومن خلال الرحلات التجارية التي كان يقوم بها تجار جنوى والبندقية، ومرسيليا إلى شواطئ سوريا ومصر وفلسطين والمغرب العربي (ص 209). وهذا ما جعل «دومينيك بارتيليمي» يتحدث بإسهاب عمّا اسماه التقاء الحضارات وتعاونها لأجل رقي الشعوب، وليس صدامها وتدمير ذخائرها الإنسانية، الماثلة عادة في الثقافة والآداب والعلوم، كما يرى هانتنغتون. (ص 237)

فلا يجب التقليل إذاً، من أهمية اللقاءات بين الشرق المسلم والغرب المسيحي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. فالتجار والدبلوماسيون نسجوا علاقات مصلحية، وكذلك تطورت معرفة الإسلام في الغرب بعض الشيء. وفي عز الحروب الصليبية وحروب الجوار بين إقطاعات الافرنج والاقطاعات التركية العربية في سوريا وفلسطين، ساد نوع من الاحترام المتبادل بين المقاتلين النبلاء الذين كانوا يتواجهون في المعارك. وقد انعكس ذلك في كتب التاريخ والسير عند العرب والفرنجة والبيزنطيين.

ويطرح الباحثون في هذا الكتاب الأثير إشكالية هي غاية في الأهمية، بنيت على المعطيات المعرفية التي حصلوها من خلال مراجعاتهم أو توصلوا اليها من خلال نقاشاتهم تتمثل في كيفية أن يكون المرء مواطناً عالمياً في وسط القرون الوسطى. وكيف كان يتقرب من الخصم ويتعرف عليه دون أن يبدو الأمر كخيانة، ودون أن يتنكر الشخص لثقافته الخاصة وهم يتساءلون، ما إذا كانت أبو ظبي قادرة على تعويض نقص الدور والأداء اليوم فتكون الجسر بين الشرق العربي والغرب المسيحي كما يرغب الحالمون العالميون.

أستاذ في الجامعة اللبنانية الإسلام ولقاء الحضارات في القرون الوسطى ميشال سو ـ دومينيك بارتيلمي ترجمة د. جان جبور المكتبة الشرقية، بيروت 2014 طـ1 240 ص تقريبا

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى